ويستمر الصراع

ويستمر الصراع16%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72726 / تحميل: 6394
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

لكن مالكاً أحس بالقتل بعد ذاك، حين رأى ضرار بن الأزور قد جرد سيفه متهيئاً لقتله. قال مالك لخالد، وهو يشير إلى زوجته، قبل أن يطاح برأسه: هذه التي قتلتني يا خالد.

وكانت زوجة مالك: أم نهشل أو أم تميم، من أجمل النساء، وذات أجمل ساقين بين نساء العرب. كان خالد يريدها، يريدها بأي ثمن، وأرخص ثمن هو قتل زوجها مالك.

وقتل مالك، وفي نفس الليلة أو قبل ان يأتي الليل، كانت أم نهشل تقاد إلى خيمة سيف الله الذي لم يمنعه دين ولا مرؤة عن اغتصاب امرأة مفجوعة بزوجها لم يجف دمه ولا دماء قومه بعد. والمغتصب هو القاتل: سيف الله!!.

قال كعب وجسمه يضطرب من هول ما يسمع والألوان تتعاقب على وجهة:

أحق ما تقول؟! إنني لا أصدق. أيفعل خالد بن الوليد كل هذا، ثم يسمونه سيف الله؟! والله لقد كدت أن أظلم هؤلاء المساكين وأنا أسمع عكس هذه يردده المشوهون المزورون من أنصار السلطة. هل تعلم أي خطأ كبير كنت سأقع فيه لولا أن أراك؟! ماذا فعل خليفة المسلمين بالمسلمين؟! لكن قل لي كيف كان موقف عمر بن الخطاب، وهو صاحب أبي بكر والمقرب منه؟ لقد سمعت أن رأيه كان مخالفاً لرأي أبي بكر، وأنه طلب من أبي بكر أن يقيم حدين على خالد: قتل امرىء مسلم، والزنا بامرأته. وسمعت كذلك أن أبا قتادة وعبد الله بن عمر قد شهدا عند أبي بكر ببراءة مالك وصحة إسلامه، وأنه أقام الصلاة هو وقومه. وهما شاهدان على ذلك، وقد أقسما إلا يقاتلا تحت لواء لخالد بن الوليد بعد الذي فعله مع مالك وامرأته.

قال الربيع: هل تصدق إذا قلت لك: إن أبا بكر لم يلتفت إلى ما قاله عمر، ولا إلى ما شهد به عبد الله بن عمر وأبو قتادة. كان هم أبي بکر أن يلتمس العذر لخالد فيما فعل. كل ما كان يشغله هو أن يبرئ خالداً بأنه اجتهد فاخطأ. هل رأيت؟ اجهتد فقتل، واجتهد فزنى، وأخطأ في القتل وفي الزنا. هذا هو رأي خليفة المسلمين في جريمتي خالد. لقد نهى عمر، وأنكر عليه التعرض لخالد. أما أبو قتادة وعبد الله بن عمر فقد أغلظ لهما في الكلام وأمرهما بالعودة إلى جيش خالد، وكانا قد أقسما بألا يحاربا تحت لوائه. هذا كان كل ما يفكر به الخليفة، ولتذهب دماء المسلمين إلى حيث تريد أن تذهب.

٤١

وكان كعب قد سرح بفكره بعيداً، والأحداث تتزاحم أمام ناظريه: مالك وذمة الله والصلاة وأم نهشل ودم يسيل. ثم انتبه ليقول لربيع: لشد ما أحزنني ما سمعت! أيقتل خالد مسلماً بلا حق ويزني بامرأته ويشهد الشهود على ذلك، ويعذره خليفة المسلمين ويعفيه من كل عقوبة ويبقيه في منصبه، ويعتبر كل ذلك مجرد خطأ؟! ماذا لو كان غير خالد فعل بعض ما فعله؟! إذن لتحول الإسلام كله إلى سيف يقطع به أبو بكر رأس الظلم والظالمين. أليس هذا ما كان سيفعله أبو بكر لكي يبدو وكأنه حامي الدين وحارسه والساهر على تنفيذ أحكامه؟! والله إن عجبي من موقف أبي بكر أشد من عجبي من فعل خالد. ثم أضاف بابتسامة ساخرة: أذنب مالك أن تكون امرأته جميلة؟!

أكان على المسلمين، لكي ينجوا من سيف خالد، أن يختاروا زوجاتهم من قبيحات النساء؟!

وهكذا أسقط أول حدين في الإسلام: حد القتل وحد الزنا، وستسقط بعدهما حدود كثيرة.

وكان الربيع بادي التعب حين وصل في الحديث إلى هنا، فقال لكعب: هلا جلسنا يا كعب. لقد أتعبني الوقوف والكلام، وفي أحدهما ما يتعب مثلي. وأخذا مجلساً لهما في زاوية ليست بعيدة.

قال كعب: الآن تستطيع أن تكمل حديثك يا أبا حنظلة. ماذا بعد قتل مالك واغتصاب امرأته؟! أظن عندك كلاماً كثيراً؟!

قال الربيع متابعاً حديثه: ثم لم يكتف خالد بقتل مالك، فأمر بأن يوضع رأسه اثفية للقدر التي يطبخ فيها طعام الجيش المسلم، كأنه أعوزه أن يجد حجراً أو سواه يضعه تحت القدر، فجاء برأس مالك. ماذا سيقول المزورون المبررون لقتل مالك، ورأسه أو رأس أي إنسان، يستعمل کحجر تحت القدر بعدما قتل؟! هل تعلم ما الذي أثار دهشة هؤلاء في مأساة مالك؟ الذي أثار دهشتهم أن النار لم تصل إلى رأسه لکثافة شعره، فبقي سليما لم يحترق، حتى نضج طعام المسلمين!! وليست هذه نكتة، وإن كنا نحتاجها في أيامنا السوداء هذه. إنها تتردد بينهم وفي مجالسهم. جريمة أخرى يضيفها مالك إلى جريمة الردة!!

٤٢

قال كعب ويده تمتد إلي رأسه تتحسس شعره: والله إنها لجريمة!! كان على مالك أن يحلق شعره قبل وصول خالد، ثم أضاف: وماذا عن لغة كنانة ولغة قريش، وعن حراس مالك الكنانيين الذين لم يفهموا قول خالد لهم (دفئوا) أسيركم، ففهموها على أنها (اقتلوا) أسيركم، فبادروا إلى قتل مالك؟ أكانت لغة كنانة تختلف عن لغة قريش؟! أكانت كنانة قبيلة من الصين أو الترك، ونزلت جزيرة العرب قبل مقتل مالك بقليل، فلم يفهموا لغة خالد؟!

قال الربيع: والله ما سمعت هذه الحكاية إلا أسرعت بوضع يدي على فمي حتى لا يسمع ضحکي! والله ما كان القوم أشد استخفافاً بالناس واحتقاراً لعقولهم، منهم، وهم يرددون كلاماً لمجانين، مجانين، مجانين، ثلاثاً! وما كانوا مثيرين للضحك كما كانوا في تبريرهم هذا!. ألست من كنانة يا كعب؟! ألست تفهم لغة العرب كل العرب، لا يعسر عليك شيء من شعرهم ونثرهم، وفيهم القحطاني اليماني الابعد عن كنانة، وفيهم الربعي والقيسي، البعيد عن كنانة، وفيهم التميمي والأسدي، وكلهم أبعد من قريش إلى كنانة؟! ألا تعلم أن كنانة هو أبو قريش واسمه النضر بن كنانة ولقبه قريش؟! فكيف اختلفت لغة الابن عن لغة أبيه حتى أصبحتا لغتين، وأصبح المتكلمون بالواحدة منهما لا يفهمون المتكلمين بالأخرى؟! أليس هذا كلام مجانين؟! مجانين من هذا النوع الذي لا ينفع معه سحر ولا رقية، ولا شيء مما يداوى به الجنون؟! لم يجدوا ما يعتذرون به إلا الجنون، فجنوا.

ثم قل لي: هل تستطيع أن تجد في كل (لغة) كنانة، شعراً أو نثراً أو حديثاً، كلمة اختلفت في معناها عما يقابلها في (لغة) قريش؟! كلمة واحدة فقط؟! بل هل تستطيع أن تجد في كل (لغة) كنانة، شعراً أو نثراً أو حديثاً، (دفئوا) بمعنى (اقتلوا) في غير مقتل مالك بن نويرة  إن استطعت؟!ـ وأمهلك الوقت الذي تريد فسأسلم لك بصحة الرواية.

والله يا كعب، لأنا بمحاولة الاعتذار عن خالد وتبرير قتله لمالك، باختلاف (لغة) كنانة عن (لغة) قريش، أشد حزناً مني على قتل مالك. كنت سأقول: جريمة ارتكبها ابن الوليد، وسكت عنها أبو بكر، وينتهي الأمر. فما أكثر الجرائم في تاريخنا، وما أكثر السكوت عنها!

٤٣

لكن لم يدر في ذهني أبداً أن يصل الجنون بالقوم إلى هذا الحد؟! هذا ليس جنوناً. هذا تعصب بلغ الجنون.

قال كعب وهو يتابع الربيع كلمة كلمة: والله ما أدري يا ابا حنظلة ماذا سيقولون للناس، وماذا سيقول الناس، وهم يكذبون عليهم، ويعرفون أنهم يكذبون!!

قال الربيع: أترى ذلك صعباً وهم يكذبون على الناس الآن، مع وجود القاتل ومكان القتل، ومن شارك فيه، ومن شهده، ومن طالب بالاقتصاص من القاتل، ومن عفا عنه، ونساء وأطفال وآباء وأمهات. ولغة نتكلمها جميعاً ونشترك فيها جميعاً!! أتراهم وهم لا يستحيون منا، ونحن نعرف الحدث بكل تفاصيله، سيستحيون ممن يأتي بعدنا، وهو لم ير الحدث ولم يشهده ولم يعاصره، إنما هو رواية وحديث سينقل إليه كما يريده الحاكمون. سيقرأه في كل ما يقرأ. لن يكون ذلك صعباً يا ابن عمير. إنها قريش!! طالما كادت الإسلام وتلاعبت به.

قال كعب وهو يهز رأسه تأييدا للربيع: صدقت يا أبا حنظلة. إنها قريش. ثم أضاف بعد لحظات سكت فيها الاثنان: ومسيلمة وبنو حنيفة!! ماذا فعلوا؟ لقد كانت مجزرة في اليمامة!! أصحيح أن مسيلمة قد ادعى النبوة؟!

مسيلمة وبنو حنيفة و( الضفدعة بنت الضفدع )

وانطلقت ضحكة عالية من الربيع قبل أن يقول: بم صدقه بنو حنيفة وصدقوا نبوته؟! أبـ ( يا ضفدعة بنت ضفدع. نقي كما تنقين. أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ) أم بـ (الخابزات خبزاً والثاردات ثرداً واللاقمات لقماً... )؟!

أهذا هو كلام الله الذي نزل به الوحي على مسيلمة ليبلغه إلى بني حنيفة وغير بني حنيفة، وهو كل ما نزل به الوحي؟! أيمكن أن يكون هذا كلام الله يحمله الوحي وينزل به على أحد أنبيائه بعد محمد والقرآن؟!

٤٤

أيبلغ الجنون بأنصار الحكم والمدافعين عنه والمبررين لظلمة، أن يتهموا مسيلمة وبني حنيفة بالجنون، كما فعلوا مع مالك، و( لغة ) كنانة و( لغة ) قريش؟!

لقد كان بنو حنيفة أعقل من ذاك. أعقل كثيراً من ذاك. كانوا أهل حاضرة ومتقدمين على باقي العرب من ساكني الصحراء. أكانوا يدفعون ألوف القتلى لكي تبقى ضفدعة مسيلمة تنق، ولتبقى الخابزات تخبز، والثاردات تثرد، واللاقمات تلقم؟! أليس هذا هو القرآن الذي جاء به مسيلمة إلى قومه من بني حنيفة كما يريد أنصار المجرمين القتلة أن نصدق؟! أيمكن أن يؤمن بنو حنيفة أو غير بني حنيفة بمثل هذا الهذيان، والعرب لم يؤمنوا بمحمد وقرآنه العظيم إلا بعد زمن طويل، خاضوا فيه معارك الفكر قبل معارك السيف؟!

لم يرتد بنو حنيفة ولم يخرجوا عن الإسلام كما يصفوه المشوهون المزورون المنافقون، لكنهم اضطروا للدفاع عن أنفسهم وكرامتهم، وكرامة غيرهم من العرب، حين هاجمهم جيش أبي بكر، لنفس الأسباب التي هاجم بها طليحة ومن معه ومالك وبني يربوع.

وسالت دماء، وثكلت نساء وأمهات وآباء، ويتم وشرد أطفال، إرضاء لنزوة حاكم او متهيئ للحكم وطامع فيه.

ما الذي يدعو بني حنيفة إلى الارتداد؟! أدين أفضل من الإسلام جاءهم به مسيلمة فاعتنقوه ورفضوا الإسلام وارتدوا عنه؟!

هذه يا كعب حقيقة ما اتهم به مسيلمة وبنو حنيفة. لقد أبى القوم إلا كذباً عليهم وتشويهاً لموقفهم. لم يستحيوا ولم يتحرجوا.

قال كعب: لو استحيوا وتحرجوا ما ظلموا. ولكن قل لي يا أبا حنظلة، هل صحيح أن سيف الله قد استولى على إحدى نساء بني حنيفة الجميلات، وكان الرجال هناك ما يزالون يقاتلون الرجال، والدماء من الطرفين تغطي أزقة اليمامه وشوارعها؟ يبدو أن سيف الله لا يدخل معركة إلا مقابل امرأة جميلة يحصل عليها. أظنها كانت بنت مجّاعة ابن مرارة من سادات بني حنيفة. لكن كيف ترك زوجها فلم يقتله كما فعل مع مالك؟

٤٥

قال الربيع ضاحكاً: لأنها لأنها لم تكن ذات زوج.

قال كعب وهو يبادله الضحك: أظن الذي كان يريد أن يتزوجها قد حمد الله على أنه لم يفعل، وإلا لأصبح رأسه اثفية لقدر أخرى يطبخ فيها طعام المسلمين، كصاحبه مالك.

قال الربيع وهو يستعجل الكلمات: لقد أوشك موعدي أن يحل، وعلي الإسراع بالذهاب. لا أريد أن يضيع علي موعدي، حديث القتل والظلم، وإن حديثه لا ينتهي عندنا، ليس أكثر منه، أين توجهت ستجد هذا الحديث.

قال كعب: والله يا أبا حنظلة، لقد كشفت عن أسرار ما كان لي أن أعرفها من غيرك. وربما لا يعرفها غيرك، فجزاك الله خير ما يجزي هؤلاء الناطقين بالحق، لا يميلون عنه ولا يتبعون سواه. لكن سؤالاً واحداً، واحداً فقط، أتمنى أن تكمل به حديثك، وسأعفيك من حديث ( المرتدين ) الآخرين.

قال الربيع: ألا يكفيك من حديث القتل ما سمعت حتى الآن؟! والله لن تجد غيره، ولن تسمع غيره.

قال كعب: ولقد قبلت. بالله عليك يا أبا حنظلة إلا ما انتظرت قليلاً: لحظات معدودات تزيل فيها شكاً وتكشف عن حق. ألا يستحق ذلك منك لحظات ما أحسبها ستفوت عليك موعدك، أو إن شئت، سرت معك حتى ينتهي حديثك، فأكون قد كسبت أنا الحديث، وأدركت أنت موعدك دون إبطاء، ماذا تقول؟

( ردّة كِندة )

قال الربيع: والله إنه لرأي. لا يمكن رفضه ولكن عن ردة من تريد أن يكون الحديث؟! قال كعب: ربما كان الحديث عن ردة كندة هو الأسهل عليك الآن وأخذا الطريق.

٤٦

قال الربيع: اسمع يا صاحبي حديث كندة إذن، فقد يكون أغرب من كل ما سبق، وإن كان ماسبق غريباً كله. كان زياد بن لبيد قد تولى زكاة قوم من كندة، هم بنو عمرو بن معاوية. فجاء أحدهم بناقة اسمها شذرة، ليست له بل لأخيه الذي لم تكن عليه زكاة. فقال مالك الناقة: هذه ناقتي، لا ناقة أخي ولا شأن له بها وأعطاها خطأ، ظاناً أنها له. واعترف أخوه بصحة قوله. وأنه أخطأ في إعطائها.

وخيرا زياداً أن يأخذ أية ناقة غيرها. لكن زياداً رفض، إلا تلك الناقة، وأبقاها في مال الزكاة، واتهم الآخوين: مالك الناقة، ومن أعطاها، بالكفر والخروج عن الإسلام!!

وثارت معارك طويلة، وقتلى ودماء وسبي نساء ويتم أطفال؛ لأن أمير جيش أبي بكر أصر إلا ( شذرة ) التي لا زكاة عليها ولا حق فيها.

أرأيت كيف يكون الظلم؟! أرأيت كيف تسيل الدماء رخيصة في أول حكم في الإسلام: بين امرأة تعجب خالداً، وناقة تعجب زياداً، ثم تسمى الخلافة الراشدة والخلفاء الراشدين، وحديثاً طويلاً عن العدل والمساواة.

وأسرع الربيع إلى موعده وهو يلعن لم أسمع من يلعن، لکني عرفته. وانتهى حديث كعب والربيع عن حروب ( الردة ) لكن حديثها لم ينته عند الآخرين. فقد بقي المؤرخون بعد كعب والربيع، مصرين على الحديث عن ردة ومرتدين، وسيف الله ومالك ومسيلمة. وما أظنه سينتهي إلا بأن يصحو هذا الضمير العربي المسلم يوماً، فيصحح اسمها ويعطيها الوصف الذي تستحقه.

لقد كانت حروب الردة من أشد الصفحات سواداً في تأريخ الإسلام الذي لا تعوزه الصفحات السوداء، ضل فيها المسلمون، وما يزالون، حتى اليوم، للأسف، وهذا أخطر ما فيها: اختلقت وقائع، وزورت أسباب، وسوقت أوهام، وبيعت ذمم وضمائر، وبرز ظلم سيمهد لظلم طويل تالٍ. حتى أسماء المرتدين غيروها  فأصبح طلحة طليحة، ومسلمة مسيلمة، تصغيراً لهما وتحقيراً، وليس بين العرب إلا طلحة ومسلمة.

٤٧

هذه حقيقة مالا يزال يسمى حتى اليوم، بحروب الردة: رسالة قريش أو إنذارها للعرب، في أول حكم لها، بالخضوع المطلق لسيادتها وسلطانها... أو الخيار الآخر الذي رأيناه مع ( المرتدين ).

وسأكون سعيداً إن استطاع ما قدم في هذا الفصل، أن يحرك عقل وضمير المثقف العربي والمسلم لإغناء هذه الحقيقة والكشف عنها، فما تزال دماء وقتلى ونساء وأطفال يبحثون عمن ينصفهم ويرد إليهم حقهم.

٤٨

الفصل السابع

الحرب بين الجن والخزرج

سعد بن عباده، وأول اغتيال سياسي في الإسلام

لم يكن قد مر وقت طويل على افتراق كعب بن عمير والربيع بن حنظلة حين طرق كعب الباب على الربيع.

قال الربيع وهو يفتح الباب ويرى كعب: مرحباً بك يا أبا مالك. أرجو أن يكون خيراً ما أعادك. لابد أن أخباراً سارة بلغتك بعد افتراقنا ولم ترد المبيت بها دوني. إني أرى الابتسامة واضحة على شفتيك: قال ذلك وهو يقود كعباً إلى المكان الذي اعتاد الجلوس فيه كلما جاء كعب لزيارة الربيع.

قال كعب بعد أن استقر في مجلسه إلى جانب الربيع والابتسامة تأخذ مساحة أكبر في وجهه: جئتك قبل أن تنام فأنا أعرف مواعيد نومك. لم أشأ أن أنتظر حتى صباح الغد، ولا أدري ما يأتي به صباح الغد.

قال الربيع: صدقت والله. هل تعلم كم أسعدتني بمجيئك. لقد خلت أيامنا هذه من أية أخبار سارة، ولعل فيما تحمل منها ما يبعد الحزن عنا. إني أرى الابتسامة في وجهك، أراها ظاهرة، وقلما أخطأت فراستي. قل يا كعب. هل أعاد الخليفة عمر حقوق الذين قتلوا ظلماً فيما سموه حروب ( الردة ).

قال كعب: لا. ليس بهذا جئت.

قال الربيع: هل اقتص عمر من خالد بن الوليد الذي قتل مالكاً وزنا بامرأته في نفس الليلة التي قتل زوجها فيها.

قال كعب: ولا هذا. لم يكن شيء من هذا، إن عمر كان يلح على أبي بكر بأن يقيم على خالد حدي القتل والزنا، وهما القتل والرجم، حتى ضاق أبو بكر بإلحاح عمر ونهاه أن يعود إلى ذكر خالد.

٤٩

قال الربيع: فهل أعاد لفاطمة بنت النبي محمد حقها الذي حرمها منه أبو بكر بحديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) الذي لم يروه أحد ولم يسمعه أحد سواه من بين جميع الصحابة الذين بلغوا الألوف، ومنهم صاحبا الشأن فاطمة وعلي، مع أن النبي لم يمت بعيداً عن المسلمين، ليس معه إلا أبو بكر وحده فأسره إليه.

قال كعب: لا، وتلك قصة أخرى كان البطل الثاني فيها عمر نفسه. لقد توفيت فاطمة وهي حزينة حزنين: على فقد أبيها، وعلى ما لحقها من ظلم أصحابه بعده.

قال الربيع وقد بدا حزينا وهو يستعرض الماضي القريب: قصة أخرى! نعم قصة أخرى. والله ما ذكرتها إلا أسرعت إلى عيني أمسح الدموع منهما. لم تحرم فاطمة وحدها؟! لم ترث عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر، النبي محمداً، ولا ترث فاطمة؟! هل قال النبي: نحن معاشر الأنبياء لا نورث بناتنا فقط، وعائشة هي بنت الذي سمع الحديث ورواه، وحفصة - بنت صاحبه ومصدقه ومؤيده؟!

قال كعب: تسألني وكأنني الذي أشعلت حروب الردة وأرسلت الجيوش لقتل المسلمين، وشجعت ابن الوليد على قتل مالك والزنا بامرأته، وحرمت بنت النبي ميراثها؟!!

لم لم تسأل خليفتك أبا بكر قبل موته، أو صاحبه وشريكه، خليفتك الآن؟! لم تقاطعني ولا تتركني أكمل؟! والله لقد كدت تنسيني الحديث الذي جئتك من أجله.

قال الربيع: أعترف أني أخطأت. ولكن ما يضحكك إذن، إذا لم يكن شيء مما ذكرت قد تحقق؟! لا الحقوق أعيدت، ولا الظلم رفع، ولا الحد أقيم على من وجب عليه.

قال كعب: حديث آخر. بعيد عن كل ما ذكرت هو الذي جاء بي إليك هذه الليلة، لا أدري لماذا كتمته عني فلم تذكره ولم تشر إليه ولا مرة واحدة، على طول صحبتي لك. لقد كنتم الأبطال في حروب لم يعرفها ولن يعرفها العرب إلا لكم وحدكم، وهو مجد كبير أضفتموه إلى ما لكم من مجد. فما الذي منعك من الحديث عنه أو ذكره على الأقل، فيما تخوض من حديث، وهو يستحق ذلك منك، ويستحق الأكثر.

٥٠

قال الربيع مستغرباً: عماذا تتكلم؟! أية حروب تعني؟! لقد كان يوم بعاث آخر حروبنا مع الأوس. وأنت تعلم أن النصر كان حليف الأوس فيه. والحرب سجال: يوم لك ويوم عليك. هذه حروبنا، مع إخوتنا الأوس دائماً، ولا أذكر أننا دخلنا في حروب مع غيرهم، وهي مشهورة ومعروفة لك ولغيرك.

قال كعب، وما تزال الابتسامة تلازم شفتيه: وتتصنع الجهل أيضاً يا أبا حنظلة؟!

قال الربيع: والله كاد صبري ينفد معك. قل وأرحني أراحك الله. عن أي شيء تتكلّم؟! لقد قلت ما أعرف، لم أكتم شيئاً ولم أخف شيئاً، وليس عندي ما أضيفه.

قال كعب: وهو ينتقي كلماته بهدوء، وينطق بها بهدوء أكثر: حروبكم مع الجن؟! لقد كانت للخزرج حروب طويلة معهم، سقط فيها قتلى وسالت دماء ودمرت الكثير من مساكن الجن وشردوا في الآفاق. كل هذا جرى، وربما أكثر منه، وأنت لم تشر إليه يوماً في أي من أحاديثك. ألست محقاً في عتبي عليك. بل إنني أحفظ  بعض ما قيل من الشعر في تلك الحروب. لقد كان الجن يقولون الشعر باللغة العربية، كما كانوا يقاتلون بالسهم التي يستعملها العرب في قتالهم. أكان الجن عرباً يا أبا حنظلة؟!

ربما من القحطانيين فيشتركون معكم في النسب، أو من العدنانيين فيقتربون من قريش.

قال الربيع وهو يطلق ضحكة كبيرة: هل أصابك شيء في عقلك يا صاحبي فأستدعي لك من يعالجك برقية أو غيرها مما يعالج به أمثالك؟!

قال كعب: لا والله وليس بي شيء مما تظن، ولن تحتاج إلى استدعاء أحد لعلاجي، وأنا جاد فيما أقول كل الجد، ولم أبتدع هذا الحديث ولم أختلقه.

قال الربيع وقد زاد تعجبه وبدا أكثر فضولاً ورغبة في متابعة كعب: من أين جئت بهذا الحديث؟! إني لا أعرف حرباً لنا مع الجن ولم أر أحداً منهم ولم ينقل أحد من شيوخ قبيلتي أنه رأى أحداً منهم. فهل كان كل أولئك يكذبون علي، وأنت الصادق الوحيد؟! هل رأيت الجن فسمعت منهم ما تتحدث به الآن؟! هل تعرف لغة الجن؟! والله لقد أوشكت أن أجن أنا يا كعب مما أسمع من حديثك عن الجن.

٥١

قال كعب: سأختصر لك ما أريد وتريد معرفته. بعد أن تركتك عائداً إلى البيت، لقيت جماعة من قريش، في حلقة لهم فسلمت وجلست. لم يكن لدي ما يعجلني إلى البيت، وكانوا من أصحابي القدماء.

خاضوا في أمور شتى، وخضت معهم. وصل الحديث إلى السقيفة وسعد بن عبادة وموقفه فيها، وأنت تعرف موقفه، فضحك القوم حين جاء اسم سعد. ولما سألتهم عن سبب ضحكهم، قالوا: تذكرنا الجن فضحكنا. ألا تعلم أن الجن هم الذين قتلوه، ثأراً بمن قتل من زعمائهم في حروب طويلة دارت بين الجن والخزرج، وكان قتله مبعث فرح عم صفوفهم في كل مكان، فقد كان سعد سيداً جليلاً مطاعاً في قومه مسموع الكلمة فيهم، وكان الجن يخشونه دائماً، فترصدوه في حوران من سوريا وسددوا له سهمين لم يخطآه، إذ اختار الجن خير رماتهم لقتل سعد. وكان ذلك انتصاراً كبيراً للجن على الخزرج، نظموا فيه الأشعار وتبادلوا التهاني وتعالت الهتافات. ثم أضاف:

هل تريد يا أبا حنظلة أن أنشدك بعض ما قال الجن من شعر في قتل سعد؟

قال الربيع: أعرفه:

( قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده

ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده )

قال كعب: ذلك هو الحديث الذي جئت أسأل عنه. لم كتمته يا أبا حنظلة طول هذا الوقت. أليس من حقي أن أعتب عليك في كتمانه عني؟!

قال الربيع وهو يعالج ضحكة لم يرد أن تنفجر، والناس نيام: وهل صدقت ما قال أصحابك؟! كنت أظنك غير ذاك يا أبا زهير. هل تريد أن تعرف من قتل سعداً؟ ستعرف من قتل سعداً إذا عرفت ما جرى في السقيفة.

قال كعب، والدهشة تكاد تقيمه من مكانه: أتعني ...؟!

وقبل أن ينطق كعب بالاسم، كان الربيع يومي برأسه: نعم، إنه هو.

٥٢

الفصل الثامن

قريش الحاکمة الشورى عثمان

أبو ذر وعمار وعبد الله بن مسعود

صرخ أحد المتجمهرين في السوق الكبير للمدينة، وهو يسمع أسماء المرشحين للخلافة: ما بالهم كلهم من قريش؟! أليس في المسلمين الآخرين من يصلح للخلافة غير هؤلاء الستة القرشيين؟! ألم يجد عمر من يضيفه إليهم أو يرشحه مكان بعضهم فحصرها في قريش وحدها، وكأنها هي الإسلام؟! منذ متى أصبحت قريش ولية أمور المسلمين وراعية الإسلام؟!

قال آخر: والله إني لحائر فيما فعله عمر. إن كان أراد خير المسلمين فقد أخطأ الطريق إليه. وإن أراد غيره، فيكفي المسلمين ما هم فيه من فرقة واختلاف. أترى هؤلاء الستة، وهم يرشحون أحدهم، سيرشحونه بقلوب صافية أم ستشتعل الفتنة بينهم، اليوم أو غداً. والله إنه لاختيار مشؤوم ما أظنه سينتهي إلى خير، لا للمسلمين ولا للمرشحين أنفسهم.

قال ثالث وهو يدلي برأيه في الموضوع: وأنا والله لا أدري ما أقول. لِمَ لم يتركها عمر للمسلمين يولون من يثقون فيه ومن يرونه رضا لهم؟! مالك يا ابن الخطاب؟! لا أنت بالذي رشحت أحداً كما فعل أبو بكر حين ولاك، ولا أنت بالذي أخرجتها من عنقك وتركتها للمسلمين؟!

قال الأول: ليس هذا فقط، بل إنه جعل زمام الأمور كلها بيد عبد الرحمن بن عوف في حال اختلاف المرشحين وانقسامهم فريقين، فأي فريق كان ابن عوف فيه فإن مرشّحه هو الذي سيتولى الخلافة. لِم لم يرشح عبد الرحمن وحده ما دام هذا موضع ثقته وتفضيله فيحسم الأمر ابتداء، ويريح المسلمين من عواقب الاختلاف، بين المرشحين ثم بين أنصارهم وأتباعهم وأقاربهم؟! أكان ابن عوف أفضل الستة المرشحين؟ لم جعلهم ستة، لا سبعة مثلاً ليكون انتخاب الخليفة أسهل عند الاختلاف، بترشح أكثر الفريقين له؟ أأعجزه أن يجد سابعاً بين المسلمين، أو حتى بين القرشيين يضيفه إلى الستة، ليسهل انتخاب الخليفة ولا يحتاج إلى واحد يتحكم فيه؟! إنني أزداد حيرة كلما ازددت تفكيراً في الأمر.

٥٣

هكذا إذن رسم عمر صورة الحكم في الإسلام: قرشية بامتياز كما يقال الآن. قريش وحدها في الساحة، لا احد معها ولا أحد يشاركها. إن فات الحكم هذا الطرف منها، فإنه سيحط حتماً عند ذاك الطرف.

وحين قال عمار بن ياسر لعبد الرحمن بن عوف في مسرحية الشورى: (إن أردت ألا يختلف المسلمون...) رد عليه عبد الله بن أبي سرح (إن أردت ألا تختلف قريش.....) ثم تجاوز الكلام هذه الحدود، فقال بعض بني مخزوم مخاطباً عماراً أيضاً في أحداث نفس المسرحية (... وما أنت وتأمير قريش لنفسها)؟

هذه هي الشورى التي جاءت بعثمان، لا کمرشح للمسلمين، لكن كمرشح لقريش دون المسلمين.

وبخلافة عثمان التي كانت صفقة مشؤومة بين أطراف حركتهم حسابات ومصالح، يكون قد بدأ فصل جديد سيمهد للأسوأ، في اضطهاد المسلمين وإنهاك حرماتهم في أشخاصهم وأموالهم، واستبعاد ذوي الفضل والسابقة منهم، وتقريب من لا فضل عنده ولا خلق ولا دين.

نحن الآن أمام حكم، كل شيء فيه يؤكد أنه حكم قريش وبني أمية من قريش، لا حكم المسلمين. لقد أصبحت أسماء الوليد بن عقبة بن أبي معيط ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص تحتل الواجهة التي أقصي عنها أبوذر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وليت عثمان اكتفی من خيار المسلمين بذلك: لقد مضى بعيداً في العدوان عليهم والتنكيل بهم.

قال أحد سكان المدينة، يسأل آخر كان واقفاً عند مدخل المسجد الكبير:

من هذا الذي أنزل من ظهر الناقة؟ إن منظره لمحزن. لقد لحق لحم فخذيه بجنبي الناقة. ما أظنه إلا أرهق من طول الغربة. ألا تراه لا يقوى على المشي! أية جريمة ارتكبها؟! لكن حتى لو ارتكب جريمة، فهل يجوز أن يفعل به هذا، وهو غير داخل في العقوبة ولا جزأ منها؟!

قال الآخر: ويحك، هل تعرفه؟ هل تعرف عمن تتكلم؟ هل سمعت بأبي ذر؟

٥٤

قال الأول: ومن لم يسمع بأبي ذر: صاحب رسول الله ورابع أربعة سبقوا إلى الإسلام والزاهد العفيف الذي يقول فيه رسول الله (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)؟! أهو هذا الذي أراه الآن؟!

قال الآخر: وأنه لهو، إنه ابوذر، هذا الذي تراه، وترى لحم فخذيه لاصقاً على جنبي الناقة. لقد أركبوه على ناقة بغير قتب وساروا به يصلون الليل بالنهار، من الشام حتى المدينة، وهو سبب ما ترى.

قال الأول: وماذا فعل؟ هل يمكن لمثل أبي ذر أن يفعل غير ما فيه خير المسلمين وصالحهم؟!

قال الآخر: وهذا هو ذنبه. هذا ما أغاظهم منه. لم يتحملوا منه النصح والارشاد والدعوة إلى المساواة بين المسلمين وعدم أكل أموالهم بالباطل وصرفها في غير وجوهها المشروعة. إنه الحكم الجديد!

وأسرع السائل نحو أبي ذر، لكن الجند دفعوه؛ إذ كان عثمان قد منع الناس من لقائه والكلام معه.

وبعد أيام كان أبو ذر في طريقه إلى الربذة وحيداً، ليس معه إلا زوجته وغلامه، وليس من مودع له إلا علي والحسن والحسين وعمار بن ياسر.

قال وهو يودعه، وقد سالت عيناه بالدموع ( أما والله لو أردت دنياهم لأمنوك، ولو رضيت أعمالهم لاحبوك ) لكنه لم يرض أعمالهم فكرهوه وآذوه وأبعدوه، حتى مات في الربذة وحيداً.

وكانت امرأته تبكي قبل أن يموت؛ لأنه لا يملك ثوباً يصلح كفنا له. ذلك هو أبو ذر أحد أكابر الثوار في التاريخ الاسلامي.

٥٥

الفصل التاسع

قريش الحاکمة

أبو ذر، عمار، عبد الله بن مسعود

لكن هل كان أبو ذر هو الوحيد الذي تعرض لأذى عثمان؟ لا أظن، فعثمان لم يترك أحداً من خيار الصحابة يقدر على إيذائه إلا ناله باذاه. وسأبسط لك حديث اثنين غير أبي ذر، من أعلام الصحابة، تاركاً، إلى ما بعد، حديث الثورة. الثورة على عثمان، التي شارك فيها المسلمون من جميع أقطارهم. وكانت أول ثورة صنعتها الجماهير في التاريخ الإسلامي.

أما أول الاثنين فهو عمار بن ياسر، أحد صالحي المسلمين وخيارهم، وابن أول شهيدين في الإسلام. وذنبه أنه ذهب إلى عثمان حاملاً معه كتاباً كان قد كتبه عدد من فضلاء الصحابة، بينهم عمار نفسه، يذكرون فيه ما أحدثه عثمان من أحداث خطيرة ويخوفونه نتائجها ويطلبون إليه إصلاح ما سبق منها وعدم تكرارها، وإنهم لن يسكتوا بعد اليوم عن المظالم التي يتعرض لها المسلمون على يديه.

قال عثمان وهو يخاطب عماراً بعد أن سلمه الكتاب وقرأ جزأ منه: أعلي تقدم من بينهم؟!

قال عمار: لأني أنصحهم لك، ولقد أردت أن أحذرك، لعل التحذير ينفع، والوقت لا يزال أمامك وهو فرصة أخيرة لك لإصلاح ما مضى، حتى لا يكون علينا موضع اللوم، بأننا لم ننبه ولم ننصح.

قال عثمان: كذبت يا ابن سمية.

قال عمار: وأنا ابن سمية، وابن ياسر.

٥٦

وسمية هذه التي يعير عثمان عماراً بها بنسبه إليها متجاوزاً أباه ياسراً، هي أول شهيدة في الإسلام، ماتت تحت تعذيب أبي جهل لها، وفيها وفي زوجها ياسر يقول النبي (أبشروا آل ياسر فمثواكم الجنة). ثم أمر عثمان غلماناً له فطرحوا عماراً أرضاً فضربه عثمان ضرباً شديداً بقدميه اللتين لم يخلع منهما النعل حتى غشي عليه من شدة الضرب وأصابه فتق ظل يعاني منه طول حياته.

خليفة المسلمين لا يريد أن يستمع لنصح أحد من خيار المسلمين. لماذا؟ لأنه سلك طريقاً آخر غير طريق المسلمين.

وعبد الله بن مسعود الذي لم يسلم من عدوان عثمان!! ماذا فعل ليستحق، ليستحق أن تكسر أضلاعه!!

وعبد الله بن مسعود، رابع الناس إسلاماً وأول من جهر بالقرآن في مكة من المسلمين. وكانوا يخافون قريشاً أن يجهروا به.

إنه لم يفعل غير ما يفعله كل مسلم حريص على دينه، يرى الحاكم يقدم على ظلم المسلمين فينكر ذلك ويرفضه. لكن عثمان يمضي في طريقه غير مبال ولا مكترث بإنكار المسلمين ورفضهم، ولا حاسب حساباً لقولهم أو عدم قولهم، لقد أبى إلا أن يحمل بني أمية على رقاب الناس.

وحين بلغه عن عبد الله بن مسعود ما بلغه من انتقاده لأعماله، أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه وأشدها بغضاً عند الله وبعداً عن الاسلام. فأخرجه مولى لعثمان فضرب به الأرض حتى كسر بعض أضلاعه.

قال ابن مسعود، ومولى عثمان يجره إلى خارج المسجد وقد تمزقت ثيابه وسال دمه: لا تخرجني من مسجد خليلي رسول الله. لقد كنت ملازماً لهذا المسجد منذ آمنت بمحمد رسولاً. والله للموت أهون عليّ من مفارقة المسجد، أنا عبد الله بن مسعود، أنا رابع من قال: (أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قبل أن يسلم خليفتكم ) لكن عثمان كان يؤمیء لمولاه: أن زد في تعذيبه ولا تصغ إليه وأخرج عن المسجد رابع المسلمين؛ لأنه لم يطق مظالم عثمان.

٥٧

الفصل العاشر

قريش... الحاکمة... عثمان

أموال المسلمين... أين ذهبت؟!

قال عبد الله بن الأرقم - خازن بيت مال المسلمين - وهو يوجه كلامه إلى عثمان: كنت أراني خازناً للمسلمين، لا خازناً لك، فخازنك هو غلامك لا أنا. والله لا أتولى لك بيت المال أبداً. ثم ألقى المفاتيح إلى عثمان وخرج وهو يقول: لا والله ما هي أموال عثمان، ولا أموال أبيه عفان ابن أبي العاص وأنها أموال المسلمين يريدني أن أخونهم وأوزعها في بني أمية، كلما جاءه واحد منهم غرف له ما يريد. ماذا أقول لله غداً؟! لن أكون شريكاً في سرقة أموال المسلمين. لن أخونهم في أموالهم وإن غضب عثمان. والله لرضا الله عندي خير من رضا الخليفة، والخوف منه أشد من الخوف من الخليفة.

وكان عثمان قد أمر ابن الأرقم بأن يدفع لعبد الله بن خالد بن أسيد الأموي، حين قدم على عثمان من مكة، ثلاثمائة ألف، ولكل واحد ممن كان معه، مائة ألف، وطلب من عبد الله بن الأرقم أن يدفعها لهم، فاستكثر عبد الله ذلك ورفض أن يدفع المبالغ التي أمر بها عثمان. فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا.

هكذا كان موقف عثمان من أموال المسلمين التي جمعوها بدمائهم وثكل نسائهم ويتم أطفالهم. لقد أصبحت رهناً برغبته، يعطي منها ويحرم من يشاء، لا قيد عليه في ذلك ولا رقابة، ويرفض كل قيد ورقابة، مبعداً المسلمين عنها وكأنها شأن خاص من شؤونه لا شريك له فيه.

٥٨

وهكذا أصبح بيت مال المسلمين، بيت مال الأمويين وأنصارهم يغرفون منه ما يشاؤون، لا يمنعهم منه إلا أن لا يبقى مكان يخزنونه فيه. ولى عمه الحكم بن أبي العاص: طريد رسول الله صدقات قضاعة التي بلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له. ثلاثمائة ألف لم تدخل بيت مال المسلمين وحرموا منها، وفيهم العاجز والمريض والمحتاج، لتدخل بيت الحكم، لم يتعب فيها ولم يجهد ولم يكن مستحقاً لها ولا لبعضها. ويبدو أن سابقة أبي بكر مع أبي سفيان قد تكررت هنا بين عثمان والحكم.

وكان أبو بكر قد تنازل عن أموال الزكاة ووهبها لأبي سفيان حين قدم بها المدينة في أول خلافة أبي بكر.

وغنائم افريقيا!! كل ماغنمه المسلمون في افريقيا من غنائم لا يحصرها عد ولا حساب، ولا يحتويها صندوق ولا خزانة. ماذا فعل بها خليفة المسلمين، وهي حصاد دمائهم وسيوفهم، ولكل ثكلی ويتيم حق فيها ونصيب. لقد وهبها كلها لعبد الله بن أبي سرح، أخيه من الرضاعة.

قال كعب بن عمير للربيع بن حنظلة، وهو شبه مذهول: أيمكن أن يكون هذا يا أبا حنظلة؟! إنني لا أستطيع أن أصدق، ولا أريد أن أصدق ما فعله عثمان.

قال الربيع: وما هو هذا الذي لا تستطيع ولا تريد أن تصدق؟ أليس عليك أن تبدأ به أولاً لأعرف إن كان مما يصدق أو لا. إنك تتكلم وكأني أعلم الغيب أو كأني أعيش في داخلك.

قال كعب: لقد سمعت من أكثر من شخص أنّ عثمان وهب كل ما غنمه المسلمون في أفريقيا لشخص واحد هو عبد الله بن أبي سرح الذي.....!؟

قال الربيع: وسمعته أنا أيضاً وماذا فيه مما لا يصدق، وقد أكده الواهب والموهوب له؟! أي غريب فيما فعله عثمان مع ابن أبي سرح؟! ألم يعتد هذا ومثله أو أمثاله مع غير ابن أبي سرح؟!

٥٩

من يعطي القليل بغير الحق يعطي الكثير، ومن يهب البعض يهب الكل، لن يتحرج عن إعطاء الكل مادام قد استسهل الباطل ورضي به. ليس في عمل عثمان ما يثير استغرابي، أنا على الأقل. فصدق ما لا تستطيع أو لا تريد أن تصدقه كما تقول. كل شيء ممكن جائز عند صاحبنا. أنسيت كيف أصبح خليفة؟! ألم تكن خلافته نفسها نتيجة مساومات وشروط بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، ولا أريد أن أطيل في هذه القصة، فأنت تعرفها كما أعرفها.

قال كعب وكأنه يتذكر أحداث الشورى: لقد ذكرتني يا أبا حنظلة ما لم أنس. هل تعلم كيف ساءت الأمور فيما بعد بين الاثنين؟ هل تعلم أن عثمان جاء يزور عبد الرحمن في مرض موته فرفض عبد الرحمن أن يراه، وكان يدير وجهه عنه كلما أراد عثمان أن يكلمه. ثم طلب ألا يصلي عليه عند وفاته. وإنه كان يقول محرضاً على عثمان: (عاجلوه قبل أن يتجارى في ملكه).

قال الربيع: وأعلم أكثر من ذاك. أعلم أنه جاء الى علي بن أبي طالب بعدما مات أبو ذر في الربذة، فنال من عثمان وطعن فيه. فقال له علي: أليس هذا عملك؟! فقال عبد الرحمن (فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي. إنه خالف ما أعطاني) ما أسرع ما انقلب ابن عوف على عثمان وتباعد ما بينهما وتبدل الحب بغضاً!! إن حبل الباطل لقصير يا عمير. فلنعد لحديثنا الذي كنا فيه، أظنني كنت في ذكر أبي موسی. لقد بعث أبو موسى عامل عثمان على البصرة بمال كثير، فجعل عثمان يقسمه بين ولده وأهله بالصحاف حتى لم يبق منه شيء. لم يكن قابلاً للعد فقسمه بالصحاف حتى لا يتعب، وأظنه تعب حتى وهو يقسمه بالصحاف! هل تريد المزيد؟ عندي منه المزيد والله. هل تريد أن تسمع ما قاله المسور بن مخرمة الزهري لمروان بن الحكم، وكان هذا قد دعا وجوه الناس الی وليمة كبيرة بمناسبة الانتهاء من بناء بيت له أنفق فيه أموالاً طائلة من أموال المسلمين؟ قال المسور وهو يرد على مروان ( والله لقد غزوت معنا افريقيا، وإنك لأقلنا مالاً، فأعطاك ابن عمك خمس افريقيا. وعملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين ) ذلك خليفتك يا عمير. لست أنا المسؤول عنه، إنما المسؤول عنه من رشحه ومن اختاره ومن ولاه أمور المسلمين، وكان عارفاً به. هل تريد المزيد؟ ما يزال عندي المزيد لأحدثك عن تبذير عثمان لأموال المسلمين وعن قطائعه لبني أمية.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

« الواحدي في أسباب نزول القرآن بإسناده عن الأعمش وأبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد الخدري. وأبو بكر الشيرازي في ما نزل من القرآن في أمير المؤمنينعليه‌السلام بالإِسناد عن ابن عباس. والمرزباني في كتابه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب »(١) .

ترجمة أبي بكر الشيرازي

١ - الذهبي: « الشيرازي الإِمام الحافظ الجوّال أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن ابن أحمد بن محمد بن موسى الفارسي صاحب كتاب الألقاب. سمع أبا القاسم الطبراني بإصبهان، وأبا بحر البربهاري وطبقته ببغداد، وعبد الله بن عدي بجرجان، ومحمد بن الحسن السّراج بنيسابور، وعبد الله بن عمر بن علك بمرو، وسعيد بن القاسم المطّوعي ببلاد الترك، ومحمّد بن محمّد بن صابر ببخارى، وسمع بالبصرة وواسط وشيراز وعدة مدائن.

روى عنه: محمد بن عيسى الهمداني، وأبو مسلم بن عروة، وحميد بن المأمون، وآخرون.

قال شيرويه نا عنه أبو الفرج البجلي. قال: كان صدوقاً حافظاً، يحسن هذا الشأن جيّداً. خرج من عندنا سنة ٤٠٤ الى شيراز. وأخبرت أنه مات في سنة ٤١١. وذكره جعفر المستغفري فقال: كان يفهم ويحفظ، كتبت عنه »(٢) .

٢ - الذهبي: « وفيها توفي أبو بكر الشيرازي أحمد بن عبد الرحمن الحافظ مصنّف الألقاب. كان أحد من عني بهذا الشأن، وأكثر الترحال في البلدان، ووصل إلى بلاد الترك، وسمع من الطبراني وطبقته. قال عبد الرحمن ابن مندة:

____________________

(١). بحار الأنوار ٣٧ / ١٥٥ عن المناقب لابن شهر آشوب.

(٢). تذكرة الحفاظ ٣ / ١٠٦٥ - ١٠٦٦.

٢٠١

مات في شوال »(١) .

٣ - اليافعي: « وفيها توفي الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي مصنف كتاب الألقاب »(٢) .

٤ - السيوطي: « الشيرازي صاحب الألقاب، الامام الحافظ الجوّال أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن موسى الفارسي. سمع الطبراني وطبقته. وكان صدوقاً حافظاً يحسن هذا الشأن جيّداً. مات سنة ٤٠٧ قال جعفر المستغفري: كان يفهم ويحفظ »(٣) .

(٣)

رواية ابن مردويه

وروى ذلك أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الاصفهاني كما علمت من عبارة ( الدر المنثور ) السالفة الذكر.

وفيه أيضاً: « وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنّ عليا مولى المؤمنين و إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »(٤) .

وستعلم روايته أيضاً من عبارة البدخشي الآتية.

____________________

(١). العبر حوادث ٤٠٧.

(٢). مرآة الجنان حوادث ٤٠٧.

(٣). طبقات الحفاظ: ٤١٥.

(٤). الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٢ / ٢٩٨.

٢٠٢

ترجمة ابن مردويه

١ - الذهبي: « ابن مردويه الحافظ الثبت العلامة أبو بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الاصفهاني صاحب التفسير والتاريخ وغير ذلك.

روى عن أبي سهل بن زياد القطان، وميمون بن إسحاق الخراساني، ومحمّد بن عبد الله بن علم الصفار، وإسماعيل الخطبي، ومحمّد بن علي بن دحيم الشيباني، وأحمد بن عبد الله بن دليل، وإسحاق بن محمّد بن علي الكوفي، ومحمد ابن أحمد بن علي الأسواري، وأحمد بن عيسى الخفاف، وأحمد بن محمّد بن عاصم الكراني، وطبقتهم.

وروى عنه: أبو القاسم عبد الرحمن بن مندة، وأخوه عبد الوهاب، وأبو الخير محمّد بن أحمد، وأبو منصور محمّد بن سكرويه، وأبو بكر محمّد بن الحسن ابن محمّد بن سليم، وأبو عبد الله الثقفي، وأبو مطيع محمّد بن عبد الواحد المصري، وخلق كثير.

وعمل المستخرج على صحيح البخاري، وكان قيّماً بمعرفة هذا الشأن، بصيراً بالرجال، طويل الباع، مليح التصانيف.

ولد سنة ٣٢٣. ومات لست بقين من رمضان سنة ٤١٠. يقع عواليه في الثقفيات وغيرها»(١) .

٢ - الذهبي أيضاً: « وفيها توفي أحمد بن موسى بن مردويه، أبو بكر الحافظ الاصبهاني، صاحب التفسير والتاريخ والتصانيف، لست بقين من رمضان، وقد قارب التسعين، سمع بأصبهان والعراق، وروى عن أبي سهل ابن زياد القطان وطبقته »(٢) .

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ٣ / ١٠٥٠.

(٢). العبر حوادث ٤١٠.

٢٠٣

٣ - السيوطي: « ابن مردويه الحافظ الكبير العلّامة كان قيّماً بهذا الشأن، بصيراً بالرجال، طويل الباع، مليح التصانيف، ولد سنة ٣٢٣. ومات لست بقين من رمضان سنة ٤١٠ »(١) .

٤ - الزرقاني: « أبو بكر الحافظ أحمد بن موسى بن مردويه الاصبهاني الثبت [ اللبيب ] العلامة. ولد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وصنف التاريخ والتفسير المسند والمستخرج على البخاري، وكان فهماً بهذا الشأن، بصيرا بالرجال طويل الباع، مليح التصنيف، مات لست بقين من رمضان سنة ٤١٠ »(٢) .

وتظهر جلالة الحافظ ابن مردويه من كلامٍ لابن قيّم الجوزية حول حديث بني المنتفق حيث قال بعد أن ذكره ما هذا نصه: « هذا حديث كبير جليل، ينادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة، لا يعرف إلّا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، رواه عنه إبراهيم بن ضمرة الزبيري، وهما من كبار أهل المدينة، ثقتان يحتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام الحديث محمّد بن إسماعيل البخاري، رواه أئمة السنّة في كتبهم وتلقّوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد، ولم يطعن أحد منهم فيه، ولا في أحد من رواته.

فممّن رواه الامام ابن الامام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة

ومنهم الفاضل الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن عاصم النبيل في كتاب السنّة له.

ومنهم الحافظ أبو أحمد بن أحمد بن ابراهيم بن سليمان العسّال في كتاب المعرفة.

ومنهم حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب

____________________

(١). طبقات الحفاظ: ٤١٢.

(٢). شرح المواهب اللدنية ١ / ٦٨.

٢٠٤

الطبراني في كثير من كتبه.

ومنهم الحافظ أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن حيان أبو الشيخ الاصبهاني في كتاب السنّة.

ومنهم الحافظ ابن الحافظ أبو عبد الله محمّد بن إسحاق بن محمّد بن يحيى ابن مندة حافظ أصبهان.

ومنهم الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه.

ومنهم حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الاصبهاني.

وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم »(١) .

وتظهر جلالته أيضاً من عبارةٍ لتاج الدين السّبكي فإنه قال في ( طبقاته ):

« فأين أهل عصرنا من حفاظ هذه الشريعة: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وعلي المرتضى

ومن طبقة أخرى من التابعين: أويس القرني

... أخرى: وأبي عبد الله بن مندة، وأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن بكير، وأبي عبد الله الحاكم، وعبد الغني بن سعيد الازدي، وأبي بكر بن مردويه

فهولاء مهرة هذا الفن، وقد أغفلنا كثيراً من الأئمة، وأهملنا عدداً صالحاً من المحدّثين، وإنما ذكرنا من ذكرناه لننبّه بهم على من عداهم، ثم أفضى الأمر إلى طيّ بساط الأسانيد رأساً وعدّ الإِكثار منها جهالة ووسواسا »(٢) .

وهذه العبارة تدل على جلالة ابن مردويه من وجوه عديدة لا تخفى.

كما تظهر جلالته من وصفهم إياه بالحفظ، فقد قال السمعاني بترجمة حمزة

____________________

(١). زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ / ٥٦.

(٢). طبقات الشافعية ١ / ٣١٧.

٢٠٥

ابن الحسين المؤدب الاصبهاني: « روى عنه أبو بكر ابن مردويه الحافظ »(١).

وقال ابن كثير حول حديث الطائر: « وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة، ومنهم أبو بكر ابن مردويه الحافظ، وأبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي »(٢) .

وقال الكاتب الجلبي: « تفسير ابن مردويه هو الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى الاصبهاني المتوفى سنة ٤١٠ »(٣) .

« الحافظ » في الاصطلاح

ثم إنّ « الحافظ » من الألقاب الجليلة في اصطلاح علماء الحديث، قال الشيخ علي القاري: « الحافظ - المراد به حافظ الحديث لا القرآن. كذا ذكره ميرك، ويحتمل أنه كان حافظاً للكتاب والسنّة.

ثم الحافظ في اصطلاح المحدّثين من أحاط علمه بمائة ألف حديث متنا وإسنادا »(٤) .

وفي ( لواقح الأنوار ) بترجمة السيوطي: « وكان الحافظ ابن حجر يقول: الشروط التي إذا اجتمعت في الإنسان سمّي حافظا هي: الشهرة بالطلب: والأخذ من أفواه الرجال، والمعرفة بالجرح والتعديل لطبقات الرواة ومراتبهم وتمييز الصحيح من السقيم، حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره، مع استحفاظ الكثير من المتون، فهذه الشروط من جمعها فهو حافظ ».

وقال البدخشي: « الحافظ - يطلق هذا الاسم على من مهر في فن الحديث بخلاف المحدّث»(٥) .

____________________

(١). الأنساب - الاصبهاني.

(٢). تاريخ ابن كثير ٧ / ٣٥٣.

(٣). كشف الظنون ١ / ٤٣٩.

(٤). جمع الوسائل في شرح الشمائل: ٧.

(٥). تراجم الحفاظ - مخطوط.

٢٠٦

ومن شواهد جلالة ابن مردويه: إن شمس الدين محمّد ابن الجزري ذكره في عداد مشاهير الأئمة، وكبار علماء الحديث الذين روى عنهم في كتابه ( الحصن الحصين )، مع أصحاب الصحاح والمسانيد وسائر الكتب المعتبرة وجعل رمزه « مر »، وذكر في خطبة كتابه ما نصه: « فليعلم أني أرجو أن يكون جميع ما فيه صحيحاً »(١) .

كما أن ( الدهلوي ) نفسه ذكر تفسير ابن مردويه في ( رسالة أصول الحديث ) في عداد تفاسير الديلمي وابن جرير وغيرهم، وقدّمه عليها في الذكر، وهذا يدلّ على أن تفسير ابن مردويه من التفاسير المشهورة المعتبرة لدى أهل السنّة.

(٤)

رواية الثعلبي

روى أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي نزول الآية الكريمة:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) في يوم غدير خم في تفسيره حيث قال:

« قال أبو جعفر محمّد بن علي: معناه: بلّغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي بن أبي طالب، فلمـّا نزلت هذه الآية أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.

أخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري، أنا أبو بكر محمّد بن عبد الله ابن محمد، نا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي، نا حجاج بن منهال نا حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لمـّا نزلنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع كنا بغدير خم فنادى: إن الصلاة جامعة، وكسح

____________________

(١). الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين بشرح القاري: انظر ٢٠ و ٢٥.

٢٠٧

للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت شجرتين، فأخذ بيد علي فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى. قال: هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال: فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمّد القائني، نا أبو الحسين محمّد بن عثمان النصيبي، نا أبو بكر محمّد بن الحسن السبيعي، نا علي بن محمّد الدهان والحسين ابن إبراهيم الجصاص، نا حسين بن حكم، نا حسن بن حسين عن حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية. قال: نزلت في علي، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغ فيه فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه »(١) .

ترجمة الثعلبي

وقد ذكرت ترجمة أبي إسحاق الثعلبي وآيات عظمته وجلالته ووثاقته في المنهج الأول من الكتاب، في الجواب عن شبهات ( الدهلوي ) حول الاستدلال بقوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) .

كما ستأتي ترجمته في الدليل السادس من أدلة دلالة حديث الغدير على إمامة عليعليه‌السلام ، وستقف هناك على كلمات الثناء التي قالها والد ( الدهلوي ) في حق الثعلبي.

كما يتضح من عبارة الثعلبي في خطبة تفسيره عظمة هذا التفسير واعتباره.

____________________

(١). الكشف والبيان في تفسير القرآن - مخطوط.

٢٠٨

(٥)

رواية أبي نعيم

وروى أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصبهاني نزولها في واقعة يوم غدير خم في كتاب ( ما نزل من القرآن في عليعليه‌السلام ). وقد ذكر روايته الفاضل رشيد الدين خان الدهلوي في ( إيضاح لطافة المقال ) نقلاً عن الشيخ علي المتخلص بحزين، وتلك الرواية هي باسناده « عن علي بن عامر [ عياش ] عن أبي الجحاف والأعمش عن عطية قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي بن أبي طالب:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) .

وقد ذكر مثل هذه الرواية الحاج عبد الوهاب بن محمّد عن الحافظ أبي نعيم كما سيجيء.

ترجمة أبي نعيم

١ - ابن خلكان: « الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق ابن موسى بن مهران الاصبهاني، الحافظ المشهور، صاحب كتاب حلية الأولياء. كان من أعلام المحدّثين، وأكابر الحفاظ الثقات، أخذ عن الأفاضل وأخذوا عنه وانتفعوا به. وكتاب الحلية من أحسن الكتب، وله كتاب تاريخ أصبهان وتوفي في صفر وقيل يوم الاثنين الحادي والعشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة باصبهان. رحمه الله تعالى »(١) .

____________________

(١). وفيات الأعيان ١ / ٢٦.

٢٠٩

٢ - الصلاح الصفدي: « أحمد بن عبد الله بن إسحاق بن موسى بن مهران، أبو نعيم الحافظ، سبط محمد بن يوسف بن البناء الاصفهاني، تاج المحدثين وأحد أعلام الدين، له العلوّ في الرواية والحفظ والفهم والدراية، وكانت الرّحال تشدّ إليه، أملى في فنون الحديث كتباً سارت في البلاد وانتفع بها العباد، وامتدت أيامه حتى ألحق الأحفاد بالأجداد، وتفرّد بعلوّ الأسناد

وكان أبو نعيم إماماً في العلم والزهد والدّيانة، وصنف مصنفات كثيرة منها: حلية الأولياء، والمستخرج على الصحيحين - ذكر فيها [ فيه ] أحاديث ساوى فيها البخاري ومسلماً، وأحاديث علا عليهما فيها كأنهما سمعاها منه، وذكر فيها حديثاً كأن البخاري ومسلماً سمعاه ممّن سمعه منه ودلائل النبوة، ومعرفة الصحابة، وتاريخ بلده، وفضائل الصحابة، وصفة الجنّة، وكثيراً من المصنفات الصغار.

وبقي أربعة عشر سنة بلا نظير، لا يوجد شرقاً ولا غرباً أعلى إسناداً منه ولا أحفظ، ولمـّا كتب كتاب الحلية إلى نيسابور بيع بأربعمائة دينار »(١) .

٣ - الخطيب التبريزي: « أبو نعيم الاصفهاني هو: أبو نعيم أحمد ابن عبد الله الاصفهاني صاحب الحلية، هو من مشايخ الحديث الثقات المعمول بحديثهم المرجوع إلى قولهم، كبير القدر، ولد سنة ٣٣٤ ومات في صفر سنة ٤٣٠ باصفهان وله من العمر ٩٦ سنة رحمه الله تعالى »(٢) .

____________________

(١). الوافي بالوفيات ٧ / ٨١.

(٢). رجال المشكاة = الإِكمال في أسماء الرجال ط مع المشكاة ٣ / ٨٠٥.

٢١٠

(٦)

رواية الواحدي

وروى ذلك أيضاً أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، وعنه في ( مطالب السئول لابن طلحة الشافعي ) و ( الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ) وهذا نص ما جاء في ( أسباب النزول ) له: « قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قال الحسن: إن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لمـّا بعثني الله تعالى برسالته ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من الناس من يكذّبني، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهاب قريشاً واليهود والنصارى، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

أخبرنا أبو سعيد محمد بن علي الصفار قال: أنا الحسن بن أحمد المخلدي قال: أنا محمّد بن حمدون بن خالد، أنا محمد بن إبراهيم الحلواني [ الخلواتي ] قال: أنا الحسن بن حماد سجادة قال: علي بن عياش [ عابس ] عن الأعمش وأبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يوم غدير خم في علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه »(١) .

كلام الواحدي في خطبة أسباب النزول

ولأجل أنْ لا يبقى ريب في اعتبار هذه الرواية نورد نص عبارة الواحدي في خطبة كتابه ( أسباب النزول ) فإنه قال: « وبعد هذا: فإن علوم القرآن غزيرة فآل الأمر بنا إلى إفادة المستهترين بعلوم الكتاب إبانة ما أنزل فيه من

____________________

(١). أسباب النزول للواحدي: ١١٥.

٢١١

الأسباب، إذ هي أولى ما يجب الوقوف عليها وأولى ما يصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، ولا يحلُّ القول في أسباب نزول الكتاب إلّا بالرواية والسماع ممّن شاهد التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطلاب.

وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل في العثار في هذا العلم بالنار: أنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أنبأ أبو الحسين [ الحسن ] محمّد بن أحمد بن حامد العطار، أنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، أنا ليث بن حماد، ثنا أبو عوانة عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتقوا الحديث إلّا ما علمتم، فإنه من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار.

والسلف الماضون -رحمهم‌الله - كانوا من أبعد الغاية احترازاً عن القول في نزول الآية، أنا أبو نصر أحمد بن عبد الله المخلدي، أنا أبو عمرو بن مجيد ثنا أبو مسلم، ثنا عبد الرحمن بن حماد، ثنا أبو عمر عن محمّد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال: إتق الله وقل سداداً، ذهب الذين يعلمون في ما أنزل القرآن.

فأما اليوم فكلّ واحد يخترع للآية سبباً ويخلق إفكاً وكذباً، ملقياً زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد لجاهل سبب الآية، وذاك الذي حداني إلى إملاء الكتاب الجامع للأسباب، لينتهي إليه طالبوا هذا الشأن، والمتكلمون في نزول القرآن، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب، ويجدّوا في تحفظه بعد السماع والطلب »(١) .

وإذا كان ما ذكر سبب تأليفه هذا الكتاب، فإن هذا الحديث الذي رواه في سبب نزول الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) يكون هو الخبر الصدق الوارد

____________________

(١). أسباب النزول: ٤.

٢١٢

عمّن شاهد التنزيل ووقفوا على الأسباب، فيجب التصديق به والاعراض عن غيره، لأنه من الكذب على القرآن، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار.

ترجمة الواحدي

١ - ابن الأثير: « وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمّد بن متويه الواحدي المفسّر، مصنّف الوسيط والوجيز في التفسير، وهو نيسابوري إمام مشهور »(١) .

٢ - الذهبي: « الامام العلامة الاستاذ أبو الحسن صاحب التفسير، وإمام علماء التأويل، من أولاد النجار، وأصله من ساوه، لزم الاستاذ أبا إسحاق الثعلبي وأكثر عنه، وأخذ علم العربية من أبي الحسن القهندزي الضرير وسمع من أبي طاهر بن مخمس، والقاضي أبي بكر الحيري، وأبي إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، ومحمّد بن إبراهيم المزكّي، وعبد الرحمن بن حمدان النصروي، وأحمد بن إبراهيم النجار، وخلق.

حدّث عنه: أحمد بن عمر الارغياني، وعبد الجبار بن محمد الخواري وطائفة أكبرهم الخواري.

صنف التفاسير الثلاثة: البسيط والوسيط والوجيز، وبتلك الأسماء سمّى الغزالي تواليفه الثلاثة في الفقه، ولأبي الحسن كتاب أسباب النزول مروي،

تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه، وقيل: كان منطلق اللسان في جماعة من العلماء بما لا ينبغي، وقد كفّر من ألّف كتاب حقائق التفسير، فهو معذور قال أبو سعد السمعاني: كان الواحدي حقيقاً بكل احترام وإعظام، لكن كان فيه بسط لسان في الأئمة، وقد سمعت أحمد بن محمّد بن بشار يقول: كان الواحدي

____________________

(١). الكامل في التاريخ حوادث سنة ٤٦٨.

٢١٣

يقول صنّف السلمي كتاب حقائق التفسير، ولو قال إن ذلك تفسير القرآن لكفر به.

قلت: الواحدي معذور مأجور. مات بنيسابور في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة، وقد شاخ »(١) .

٣ - الذهبي أيضاً: « أحد من برع في العلم وكان رأسا في الفقه والعربية »(٢) .

٤ - ابن الوردي: « كان استاذاً في التفسير والنحو، وشرح ديوان المتنبي أجود شرح، وهو تلميذ الثعلبي، وتوفي بعد مرض طويل بنيسابور »(٣) .

٥ - اليافعي: « الامام المفسر أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، أستاذ عصره في النحو والتفسير، تلميذ أبي إسحاق الثعلبي، وأحد من برع في العلم، وصنف التصانيف الشهيرة المجمع على حسنها، والمشتغل بتدريسها والمرزوق السعادة فيها »(٤) .

٦ - ابن الجزري: « إمام كبير علامة، روى القراءة عن علي بن أحمد البستي، وأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي. روى القراءة عنه: أبو القاسم الهذلي. مات في سنة ٤٦٨ بنيسابور »(٥) .

٧ - ابن قاضي شهبة: « كان فقيهاً، إماماً في النحو واللغة وغيرهما، شاعراً، وأما التفسير فهو إمام عصره فيه، »(٦) .

٨ - الديار بكري: « وفي سنة ثمان وستين وأربعمائة توفي أبو الحسن علي بن

____________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٨ / ٣٣٩.

(٢). العبر، حوادث سنة ٤٦٨.

(٣). تتمة المختصر، حوادث سنة ٤٦٨.

(٤). مرآة الجنان، حوادث سنة ٤٦٨.

(٥). طبقات القراء ١ / ٥٢٣.

(٦). طبقات الشافعية ١ / ٢٦٤.

٢١٤

أحمد بن محمد بن متويه الواحدي المفسّر، مصنّف البسيط والوسيط والوجيز في التفسير، وهو نيسابوري إمام مشهور »(١) .

٩ - الكاتب الجلبي: « أسباب النزول للشيخ الامام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر المتوفى سنة ٤٦٨. وهو أشهر ما صنّف فيه، أوله: الحمد لله الكريم الوهاب »(٢) .

١٠ - وذكر ولي اللهالدهلوي الواحدي مع البغوي والبيضاوي، واصفاً إياهم بكبار المفسّرين، وجاعلاً إيّاهم قدوة المسلمين(٣) .

(٧)

رواية أبي سعيد السجستاني

ورواه أبو سعيد مسعود بن ناصر السجستاني في كتابه حول حديث الولاية باسناده عن ابن عباس إنه قال: « أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغ بولاية علي، فأنزل الله عزّ وجلّ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية فلمـّا كان يوم غدير خم قام فحمد الله وأثنى عليه وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره، وأعز من أعزه، وأعن من أعانه ».

____________________

(١). تاريخ الخميس ٢ / ٣٥٩.

(٢). كشف الظنون ١ / ٧٦.

(٣). ازالة الخفاء.

٢١٥

ترجمة أبي سعيد السجستاني

وأبو سعيد السجستاني من مشاهير حفاظ أهل السنّة الثّقات، وقد تقدم سابقاً ذكر طرف من ترجمته عن السمعاني والذهبي.

(٨)

رواية الحاكم الحسكاني

وروى أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) في واقعة يوم غدير خم، ففي كتاب ( مجمع البيان ) بتفسير الآية المباركة: « عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن الكلبي عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله قالا: أمر الله محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينصب عليّاً علماً للناس فيخبرهم بولايته، فتخوّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه هذه الآية، فقامعليه‌السلام بولايته يوم غدير خم ».

قال: وهذا الخبر بعينه قد حدثناه السيد أبو الحمد عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل في قواعد التفضيل »(١) .

____________________

(١). مجمع البيان في تفسير القرآن المجلد الثاني / ٢٢٣ وهو في شواهد التنزيل ١ / ١٨٧.

٢١٦

(٩)

رواية ابن عساكر

وممّن روى نزول تلك الآية المباركة في واقعة يوم غدير خم: أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر الدمشقي، كما عرفت ذلك من عبارة السيوطي في ( الدر المنثور )(١) .

ترجمة ابن عساكر

١ - ياقوت الحموي: « هو أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الحافظ أحد أئمة الحديث المشهورين والعلماء المذكورين. ولد في المحرم سنة ٤٩٩. ومات في الحادي عشر من رجب سنة ٥٧١ »(٢) .

٢ - ابن خلكان: « الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر الدمشقي الملقب ثقة الدين. كان محدّث الشام في وقته ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث فاشتهر به، وبالغ في طلبه، إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، ورحل وطوف وجاب البلاد ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم ابن السمعاني في الرحلة.

وكان حافظاً ديناً، جمع بين معرفة المتون والأسانيد وصنّف التصانيف المفيدة وخرّج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث، محفوظاً في الجمع والتأليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلدة، أتى فيه بالعجائب،

____________________

(١) وهو في ترجمة أمير المؤمنينعليه‌السلام من تاريخ دمشق ٢ / ٨٦.

(٢). معجم الأدباء ١٣ / ٧٣.

٢١٧

وهو على نسق تاريخ بغداد، قال لي شيخنا الحافظ العلامة أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر أدام الله به النفع - وقد جرى ذكر هذا التاريخ وأخرج لي منه مجلّداً وطال الحديث في أمره واستعظامه - ما أظن هذا الرجل إلّا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلّا فالعمر يقصر عن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبّه. قال - ولقد قال الحق - من وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع للانسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له هذا إلّا بعد مسودات ما كاد ينضبط حصرها.

وله غيره تواليف حسنة وأجزاء ممتعة »(١) .

٣ - الذهبي: « ابن عساكر الامام الحافظ الكبير محدّث الشام فخر الأئمة ثقة الدين قال السمعاني: أبو القاسم حافظ ثقة متقن ديّن خيّر حسن السمت، جمع بين معرفة المتن والاسناد، وكان كثير العلم غزير الفضل، صحيح القراءة، متثبّتا، رحل وتعب وبالغ في الطلب، وجمع ما لم يجمعه غيره، وأربى على الأقران وقال المحدث بهاء الدين القاسم: كان أبيرحمه‌الله مواظباً على الجماعة والتلاوة، يختم كلّ ليلة ختمة [ يختم كل جمعة ]، ويختم في رمضان كلّ يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحيي ليلة العيدين بالصلاة والذكر، وكان يحاسب نفسه على لحظة تذهب

قال سعد الخير: ما رأيت في سنن [ سن ] ابن عساكر مثله.

قال القاسم ابن عساكر سمعت التاج المسعودي يقول سمعت أبا العلاء الهمداني يقول لرجل استأذنه في الرحلة [ قال ]: إن عرفت أحداً أفضل مني فحينئذٍ آذن لك أن تسافر إليه، إلّا أن تسافر إلى ابن عساكر فإنه حافظ كما يجب.

وحدثني أبو المواهب بن صصري قال: لما دخلت همدان قال لي الحافظ: أنا

____________________

(١). وفيات الأعيان ١ / ٣٣٥.

٢١٨

أعلم أنه لا يساجل الحافظ أبا القاسم في شأنه أحد، فلو خالق الناس ومازجهم كما ينبغي [ أصنع ] إذاً لاجتمع عليه الموافق والمخالف، وقال لي يوماً: أي شيء فتح له؟ وكيف الناس له؟ قلت: هو بعيد من هذا كلّه، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلّا بالجمع والتسميع حتى في نزهته وخلواته، قال: الحمد لله هذا ثمرة العلم، إلّا أنا حصل لنا [ من ] هذا المسجد والدار والكتب تدل على قلة حظ أهل العلم في بلادكم. ثم قال: ما كان يسمى أبو القاسم إلاّ شعلة نار ببغداد من ذكائه وتوقده وحسن إدراكه.

قال أبو المواهب: كنت أذاكر أبا القاسم الحافظ عن الحفّاظ الذين لقيهم. فقال: أما بغداد فأبو عامر العبدري، وأما اصبهان فأبو نصر اليونارتي لكن اسماعيل بن محمّد الحافظ كان أشهر. فقلت: فعلى هذا ما كان رأى سيدنا مثل نفسه. قال: لا تقل هذا قال الله:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) قلت: فقد قال [ الله تعالى ]( أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) . فقال: لو قال قائل: إن عيني لم تر مثلي لصدق.

ثم قال أبو المواهب: لم أر مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه، من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الامامة والخطابة، وأباها بعد أن عرضت عليه

وكان شيخنا أبو الحجاج يميل إلى أن ابن عساكر ما رأى حافظاً مثل نفسه.

قال الحافظ عبد القادر: ما رأيت أحفظ من ابن عساكر.

وقال ابن النجار: أبو القاسم إمام المحدّثين في وقته، إنتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والنقل والمعرفة التامة وبه ختم هذا الشأن. فقرأت بخط الحافظ معمر بن الفاخر في معجمه أنا الحافظ أبو القاسم الدمشقي - بمنى - وكان أحفظ من رأيت من طلبة الحديث والشبان. وكان شيخنا اسماعيل بن محمد الامام

٢١٩

يفضّله على جميع من لقيناهم، قدم إصبهان ونزل في داري، وما رأيت شاباً أودع ولا أحفظ ولا أتقن منه، وكان مع ذلك فقيهاً أديباً سنّياً، جزاه الله خيراً وكثّر في الاسلام مثله، وإني كثيراً سألته عن تأخره عن المجيء إلى إصبهان فقال: لم تأذن لي أمّي.

قال القاسم: توفي أبي في حادي عشر رجب سنة ٥٧١. ورئي له منامات حسنة، ورثي بقصائد، وقبره يزار بباب الصغير »(١) .

٤ - الذهبي أيضاً: « فيها توفي الحافظ ابن عساكر صاحب التاريخ الثمانين مجلّداً ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ في ذلك الذروة العليا، ومن تصفّح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ. توفي في حادي عشر رجب »(٢) .

٥ - اليافعي: « وفيها: الفقيه الامام، المحدث البارع، الحافظ المتقن الضابط ذو العلم الراسخ، شيخ الاسلام، ومحدّث الشام، ناصر السنّة، وقامع البدعة زين الحفّاظ وبحر العلوم الزاخر، رئيس المحدّثين المقر له بالتقدم، العارف الماهر، ثقة الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، الذي اشتهر في زمانه بعلو شانه، ولم ير مثله في أقرانه، الجامع بين المعقول والمنقول، والمميز بين الصحيح والمعلول.

كان محدّث زمانه، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث واشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، رحل وطوّف وجاب البلاد، ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة.

وكان أبو القاسم المذكور حافظاً ديناً، جمع بين معرفة المتون والأسانيد - وصنف التصانيف المفيدة، وخرّج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ٤ / ١٣٢٨ - ١٣٣٣.

(٢). العبر حوادث ٥٧١.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226