ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 62753
تحميل: 4337

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62753 / تحميل: 4337
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال كعب: لا. لا أريد، اتركه لك، يكفيني ما سمعت. لكم الله أيها المسلمون، لكم الله من خلفائكم، إن كفيتم شرهم فقد كفيتم الشر كله.

لكم الله من حكامكم أيها المسلمون، كما قال كعب وغير كعب، قبله وبعده. إن قيل إن عثمان ضرب عماراً وسبب له فتقاً أجاب المشوهون المزورون: إن عماراً كان ضعيف الجسم فلم يتحمل ضرب عثمان له، فأصابه الفتق، ولو كان قوى الجسم لما تعرض للفتق. فالذنب إذن في جسم عمار لا في ضرب عثمان. كان عليه أن يكون أقوى وأشد تحملاً.

وإن قيل إن عثمان كسر ثلاثة أظلاع لعبد الله بن مسعود،  ردوا بأن عثمان لم يتول الفعل بنفسه، وإنما أمر غلامه به، ثم إن الاظلاع ربما لم تكن ثلاثة، ربما كانت أقل اثنين أو واحداً.

وإن قيل لهم إن عثمان نفی أبا ذر إلى الربذة حتى مات وحيداً لم تجد زوجته من يعينها على غسله وتكفينه، قالوا إن أبا ذر هو الذي اختار النفي إلى الربذة، لم ينفه عثمان إليها.

وإن قيل إن عثمان بذر أموال المسلمين وأنفقها في غير مواضعها، على أهله وأقاربه وأصحابه ممن لا يستحق، قالوا إن للحاكم أن يتصرف في أموال المسلمين كما يشاء حتى لو أعطاها كلها لأهل بيته أو لمن لا يستحق. ليس لأحد الحق في محاسبته أو الاعتراض عليه أو إبداء رأي فيما يفعل.

لماذا نبقى مشاركين في جريمة من أجرم، بالتستر عليها وتبريرها؟! لماذا اللعب بعقول المسلمين؟! ألم يحن أن نقول عمن ارتكب جريمة إنه مجرم، وعمن ظلم إنه ظالم، وعمن أخطأ إنه مخطئ؟! إلى متی يبقی المسلمون وحدهم، دون غيرهم، يبررون الجريمة ويلتمسون العذر للمجرم؟! أتراه قدراً لهم، كتب عليهم، فلا يستطيعون الخلاص منه؟! لكم أحزنني وأحزن غيري أن نرى حتى اليوم كتّاباً ومؤرخين، وهم يحاولون تبرير الظلم والاعتذار عن الظالمين والتماس المسوغات لأفعالهم. مواقف لا أجد ما أصفها به إلا أنها مضللة خادعة، وأن أصحابها أنفسهم غير مؤمنين ولا مقتنعين بها.

لا أدري لماذا يجب أن يكون الحاكم المسلم معصوماً؟! لماذا لا يخطئ؟! ولماذا، حين يخطئ، علينا أن نعتذر عن خطئه، وهو لم يعتذر عنه، ولا يمكن الاعتذار عنه.

٦١

الفصل الحادي عشر

عثمان

فوز الثورة         

الأحداث تتسارع على امتداد الأرض العربية الإسلامية، حاملة قلقاً وخوفاً وحزناً. لا أحد يعرف ماذا يحمل الغد، لكنه يعرف أنه غد مرعب الصورة لا يريده ولا يرغب فيه ولا يريد الحديث عنه.

ومن المدينة إلى مكة، إلى الكوفة والبصرة، إلى الشام ومصر، كان الترقب هو المشترك بين الناس. إنهم ينتظرون شيئاً ما، شيئاً كبيراً، وهذا ما يخيفهم ويذهب بهم في اتجاهات شتی ما اتسع لهم الفكر.

ماذا يفعل الخليفة؟! تساءل الناس. ما الذي يمنعه من اتخاذ إجراء حاسم وسريع يبعد عنهم شبح حروب وقتلى ودماء، ما دام الأمر ممكنا ولم يفت وقته بعد؟!

وتعالت أصوات كبار الصحابة وذوي السابقة والدين منهم، منبهة إلى ما يجري ومحذرة مما سيجري، لو استمر الخليفة صاماً أذنيه عن الاستماع إلى شكاوى الناس، وإزالة أسبابها. لقد تجاوز ولاته كل الحدود في فسادهم وطغيانهم واستعلائهم على الناس وازدرائهم بهم. وقد حان الوقت - وهو قد حان منذ زمن طويل - أن يبعدهم ويستبدل بهم من هم أصلح وأكفأ. لم يعد الناس يطيقون أياً منهم، فليس فيهم إلا السيء والأسوأ.

وإذا كان الصحابة قد سكتوا طويلاً على هؤلاء الولاة، وعلى عثمان نفسه، خوف الفتنة، فإنهم لا يستطيعون أن يبقوا ساكتين، والفتنة قريبة، على أبواب دورهم، وهي تنذر بشر خطير. ان واجبهم الديني والأخلاقي يفرض عليهم موقفاً آخر، واضحاً وقوياً إزاء ما يجري. فالإسلام ليس إسلام عثمان ولا بني أميه. إنه إسلام المسلمين كلهم. وإذا كان من تمييز وتفاضل فهو لمن جاهدوا فيه وأبلوا وسبقوا، وليس بينهم بنو أمية وأنصارهم.

النذر تلوح في الأفق القريب وكأنها خطوط حمراء وسوداء توشك أن تلتقي، ثم لا يعرف إنسان ما الذي ستنتهي إليه، وان كانت ستنتهي إلى شر في جميع الأحوال.

٦٢

وكان هذا الوضع القابل للانفجار في أية لحظة، يستدعي من الخليفة القيام باصلاحات سريعة وعميقة تزيل أسباب الشكوی، لدى المسلمين، وهي معروفة، وحلها ليس بالمتعذر لمن يريد الحل.

كان عليه ان يتدارك الخطر الوشيك بخطوات جادة حازمة تعيد إلى المسلمين اطمئنانهم وثقتهم بان الخليفة ليس بعيداً عنهم ولا عن همومهم.

لكن الخليفة كان مشغولا، مشغولا بما هو أهم في نظره من المسلمين ومشاكل المسلمين ومصالحهم. مشغولاً ببني اميه والوليد بن عقبة وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم الذي أصبح الدخول إلى الخليفة لا يتم الا باذنه. كل شيء منوط به. لقد أصبح هو الخليفة، لا يعوزه سوى الاسم. ولم يكن مروان هذا بالمرضي عند المسلمين ولا بالمؤتمن على ما أوكل إليه. وليس في سيرته ما يمنحه الأقل الأقل مما منحه عثمان. لم يعرف بفضل ولا سابقة ولا دين إلا أنه ابن الحكم بن أبي العاص، عم عثمان الذي طرده النبي من المدينة وأبى أن يساكنه فيها لشدة أذاه له في مكة، قبل أن يضطر إلى إعلان إسلامه. وها هو ابنه، مروان يثير الآن، بتقدمه وخطوته عند الخليفة، سخط المسلمين وغضبهم. ولقد نبه الكثيرون من خيار خيار المسلمين، عثمان إلى ما يمثله، مروان خصوصاً، من خطر عليه إذا ما مضى في تقديمه واحتضانه وتقليده امور المسلمين يبث فيها على هواه.

وكان من أول المنبهين وأرفعهم صوتاً وأوضحهم موقفاً، علي بن أبي طالب الذي طالب عثمان مراراً بأن يبعد مروان ولا يسمح له بأن يقوده كما يشاء. كان علي يرى المستقبل بعين بصيرة ورؤية نافذة لا يبخل بالنصح لوكان عثمان ممن يسمع النصح ويأخذ به. كان يرى بان هذا البطانة الفاسدة التي تحيط بعثمان،وعلى رأسهم مروان، سيقودون عثمان، ومعه المسلمون، إلى خطر لا يعرف نتائجه الا الله.

٦٣

لكن عثمان ما كان يخطو في طريق الإصلاح خطوة إلا ليرجع في الاتجاه المعاكس خطوات: عزل سعد بن أبي وقاص، وهو من وجوه المسلمين ومن المرشحين الستة مع عثمان للخلافة، عن الكوفة، وولى أخاه لأمه، الوليد بن عقبة. ولم يكن الوليد صالحاً لولاية الكوفة ولا لغيرها. كان متهتكاً مستهتراً معروفاً. سكر يوماً، وهو وإلى الكوفة، فصلى الصبح أربعاً. ثم التفت إلى المصلين، يسألهم: إن كانوا يريدون الزيادة. وقد شاعت هذه الحادثة بين الناس حتى قال فيها الشعراء ما لا نزال نحفظه من الشعر.

هذا هو والي الكوفة أخو الخليفة، لا يعي من شدة سكره وهو يؤم المصلين وحين ضج أهل الكوفة منه، واضطر عثمان إلى عزله، عين في مكانه قريبه، سعيد بن العاص الأموي والياً على الكوفة.

وكان سلوك سعيد في الكوفة من بين الأسباب التي أدت إلى الثورة على عثمان. فقد كان يستفز أهل الكوفة ويتحدى مشاعرهم، ومن ورائهم، مشاعر المسلمين في غير الكوفة.

قال يوماً لجلسائه، وبينهم مالك الأشتر: ( إنما السواد - أرض ما بين دجلة والفرات من وسط العراق وجنوبه - بستان لقريش ). فرد الأشتر قائلاً: ( أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بسيوفنا، بستان لك ولقومك )؟! وتكلم الآخرون ممن حضروا المجلس. واجتمع إليهم الناس منكرين محتجين. فكتب سعيد إلى عثمان في إخراجهم من ديارهم في الكوفة. فلم يكن من عثمان إلا أن نفاهم إلى معاوية  في الشام، تماماً كما فعل من قبل مع أبي ذر. لم يسأل ولم يتحر عن الأسباب ولم يحاول إصلاح الخطأ الذي ارتكبه واليه ولم يوجه لوماً أو، حتى ما هو دون اللوم إلى سعيد يسترضي به الناس في الكوفة. لقد كان رضى سعيد عنده يعدل أو يسبق رضى كل أهل الكوفة: إحدى أكبر حواضر المسلمين انذاك.

ولم تكن الحال في البلدان الأخرى بأفضل منها في الكوفة. ولم يكن سخط الناس وتبرمهم فيها بأقل من سخط الناس وتبرمهم في الكوفة، ولا موقف عثمان من شكاوي الناس من ولاتة الآخرين في البلدان الأخرى بأفضل من موقفه من شكاوى أهل الكوفة. فحين بعث أهل البصرة عامر بن عبد قيس رسولا عنهم ليبلغ مطالبهم إلى عثمان، لم يفعل عثمان أكثر من أن يسخربه أمام الناس قائلاً: (انظروا إلى هذا، فإن الناس يزعمون أنه قارئ... ووالله ما يدري اين الله) فأجابه عامر (بلى والله إني لأدري أن الله لبالمرصاد) وهو جواب من يرى المستقبل ويعرف ماذا ينتظر عثمان إذا استمر لا يرى ولا يسمع، ولا يريد أن يرى ويسمع.

٦٤

ومصر؟! ألم يجد عثمان من يوليه عليها إلا أخاه من الرضاعة: عبد الله بن سعد بن أبي سرح: أحد الأربعة الذين أهدر النبي دمهم حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة.

قال كعب بن عمير للربيع بن حنظلة: قل لي يا أبا حنظلة. ألم يجد عثمان من يوليه البصرة غير هذا المرتد الذي فعل مع النبي ما لا يزال المسلمون يذكرونه وينكرونه ويتساءلون عما دفع عثمان إلى توليته مصر على أهميتها! ألم يجد بين المسلمين من يتولاها له؟!

قال الربيع: والله اني لاسأل نفسي ما سألتها أنت منذ سمعت الخبر. ما الذي أعجب عثمان فيه ليوليه بلدا في حجم مصر؟! دينه، فضله، سابقته؟! كذبه على النبي وعلى الله، وهو يكتب القرآن؟!

أم ردته إلى قريش وهزؤه بالنبي وسخريته منه؟! هل نسي عثمان كل ذاك؟! لقد كان ابن أبي سرح أحد أربعة رفض النبي ان يؤمنهم قائلاً (لا أأمنهم في حل ولا في حرم)

هل تعلم أن النبي كان يملي عليه الآية فيحرفها وهو يكتبها، ويقول ساخراً (ما يدري محمد ما يقول. اني لا كتب له ما شئت. هذا الذي كتبت يوحى إلى كما يوحى إلى محمد) ثم خرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتدا.

ما لعثمان لايدني ولا يقرب ولا يكرم إلا من آذى النبي وكرهه وطعن عليه؟! غضب النبي على الحكم بن أبي العاص فطرده من المدينة وأبى أن يساكنه فيها، فرده عثمان إليها وأدناه وقربه وأكرمه وأفاض عليه وعلى أهله من أموال المسلمين ما تعرف.

وغضب النبي على عبد الله بن أبي سرح حتى أهدر دمه، فاستأمن له عثمان بعد أن أخفاه عنده، ثم لم يكتف، فها هو اليوم يوليه مصر: أكبر بلدان المسلمين.

أينفي عثمان أباذر ويؤذيه ويشرده ليأتي بالحكم ويقربه ويكرمه؟!

ايعرض حياة عمار للتلف ليولي ابن أبي سرح؟!

(أهذا هو فعل مسلم، فضلا عن خليفة المسلمين؟!)

لقد كان عثمان يدفع الأمور، بجهل أو بتعنت واستعلاء، إلى ان تبلغ الحد الذي بلغته.

فليس لأحد أن يلوم غيره، وليس لأحد أن يلقي التبعة على غيره.

٦٥

الفصل الثاني عشر

عثمان

الثورة

  لم تجد جميع النصائح والتحذيرات ولا الوفود ذاهبة عائدة. لم تواجه إلا الرفض العنيف والإصرارعلى موقف لم يعد محتملاً ولا مقبولاً. لقد صمم عثمان أن يمضي إلى آخر الشوط، غير ملتفت لما يحيط به وبالناس من أخطار تبدو وشيكة، إلا له ولأركان حكمه الذين لم يستطيعوا أن يدركوا أن هناك جماهير وفقراء ومظلومين لن يترددوا حين تسد المنافذ أمام مطالبهم - وقد سدت أو كادت - أن يثوروا. وأقوى الثائرين، هم أفقرهم وأشدهم تعرضاً للظلم وإحساساً به، فليس عندهم ما يخسرونه، وهم يرون الإغراق في الترف من أموالهم التي سرقت منهم. سالت فيها دماؤهم وتحملوا المشاق وواجهوا المخاطر.

لكن المجلس الاستشاري لعثمان کان له رأي آخر. كان يريد التخلص من زعماء الثوار، بقتلهم أو نفيهم وابعادهم ليستريحوا منهم.

وكان هذا المجلس يتألف من مروان بن الحكم ومعاوية وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر. وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعمرو بن العاص يجتمعون، كلهم أو بعضهم بطلب من عثمان حين يجد ما يستدعي استشارتهم. ليس فيهم من افاضل المسلمين وأهل الصلاح والعفة أحد. كلهم من بني امية أو من انصارهم ومؤيديهم.

قال سعيد بن العاص وهو يعرض رأيه فيما جمعهم له عثمان (دواء ذلك طلب هؤلاء وقتل الذين يخرج هذا من عندهم).

فليس عند سعيد من حل للأزمة التي تواجه الحكم أو سببها الحكم الا القتل لمن يتوجع أو يشكوأو يرفع الصوت بما يشكو. لا يفكر في اصلاح ولا في رجوع عن خطأ ولا في عدل يبسطه في الناس. انه القتل، والقتل دائماً.

وفي اجتماع آخر، قال عبد الله بن عامر - ابن خال عثمان - (أرى لك يا أميرالمؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه...)

٦٦

وها أنت ترى الحلول المطروحة: بين حسم الداء، بقتل الذين يشكون ويحتجون ويطالبون بالعدل، وبين إبعادهم عن ديارهم بحجة الجهاد الذي سيسوه، كما نقول الآن، وجعلوا منه وسيلة لاشغال المسلمين عن التفكير في جرائم الحكم، بالتفكير في عوائلهم وأطفالهم البعيدين عنهم. إلى أن يذلوا ويخضعوا للحكم ويكفوا عن الشكوى منه ويلزموا الانقياد والسكوت عن جرائمه.

هذه هي الخيارات التي وضعها عثمان ومجلسه الاستشاري امام المسلمين أو وضعهم أمامها: القتل أو الابعاد أو... الطاعة التامة والخضوع المطلق. القتل بيد الحكم (المسلم)، أو القتل في الجهاد بيد اعداء المسلمين، أو الرضا بما يساوي القتل. ما أروعك أيها الخليفة وأعدلك، وأروع وأعدل من جاء بك!!

وتوالت الاحتجاجات، وضج الناس في كل مكان، وتعالت الأصوات مستنكرة مستهجنة.

والتقى صوت بصوت، وشكا مظلوم لمظلوم، واجتمع ثائر مع ثائر. وانتفض الناس ضد الحكم.

حتى الذين كانوا مع عثمان وأيدوه وانضموا إلى جانبه في مسرحية الشورى المعروفة، لم يستطيعوا الاستمرار في تأييده، فتخلوا عنه واصبحوا أعداء له، صادقين أو غير صادقين. فعبد الرحمن بن عوف، وهو من اختاره وبايعه ونصبه خليفة، انفض عنه بعد حين واصبح من أشد خصومه الناقمين عليه المرضيين على قتله، لا يخفي ذلك ولا يسره بل يعلنه عالياً بين المسلمين. استمع إليه وهو يقول (... عاجلوه - يعني عثمان - قبل ان يتمادى في ملكه)

ويأتي إلى علي يطلب منه ان يقود الحملة ضد عثمان قائلاً له (خذ سيفك وآخذ سيفي ونقاتله) فيقول له علي (أليس هذا الذي تحرض على قتله هو من اخترت؟!) فلا يجد عبد الرحمن ما يجيبه به الا ان يقول (لقد خالف ما أعطاني).

٦٧

وطلحة بن عبيد الله، المرشح الآخر من الستة والذي رجح كفة عثمان حين مال إليه، لم يكن احد أشد تحريضاً على عثمان وانتقاصا منه وطعنا فيه من طلحة هذا، حتى قال عثمان (اللهمّ اكفني طلحة فانّه ألب علي هؤلاء، واني لأرجو ان يكون منها صفرا، وان يسفك دمه) ويكفي لبيان مشاركة طلحة ودوره في قتل عثمان، ان مروان بن الحكم هو الذي قتله في حرب الجمل، ثأرا بقتل عثمان، رماه بسهم فظل ينزف حتى مات. وكان الاثنان: طلحة ومروان، في صف واحد يقاتلان علياً.

والسيدة عائشة زوج النبي، تتهم عثمان بالكفر قائلة: (اقتلوا نعثلاً - تعني عثمان - فقد كفر) فالسيدة عائشة تصرّح بكفره وبأنه يستحق القتل لذاك.

والصحابة من أهل المدينة، يكتبون إلى الصحابة في البلدان الأخرى: (إن أردتم الجهاد فهلموا إليه، فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فأقيموه).

بل إن عمرو بن العاص نفسه، ترك عثمان وهو محصور ومضى إلى قصره في فلسطين. وكان يقول: ( والله إني لألقى الراعي فأحرضه على عثمان ).

ويحرض علياً وطلحة والزبير عليه وحين بلغه مقتل عثمان قال شامتاً: ( أنا أبو عبد الله، إذا حككت قرحة نكأتها ).

هكذا إذن بدت الصورة: شعب مضطهد مظلوم وحكم جائر ظالم. والحل بيد الحكم الذي لا يريد أن يسمع. وإذا سمع فلا يريد أن يصلح. إنه ماضي في الطريق الذي اختطه: طريق الظلم والمزيد من الظلم لمن يشكو أو يصرخ أو ينتقد أو يرفض.

وكان لابد من خطوة أخرى يخطوها اليائسون من الإصلاح. لقد انتظروا طويلاً وصبروا طويلاً. وماذا بعد الانتظار والصبر، وقد جربوهما دون نفع ولاغنى.

وجائت الخطوة الأخرى حين قرر الثوار نقل مطالبهم مباشرة إلى الخليفة في المدينة ومحاولة فرضها إذا لزم الأمر. فهناك في المدينة جماعة المسلمين وكبارهم وذوو المنزلة والدين والفضل منهم، وهم ليسوا عثمان ولا بني أمية، ولا من أتباع الحكم ومؤيديه. إنهم سيتصلون بهم ويعرضون عليهم مظالمهم. وسيفهم هؤلاء موقفهم ويشاركونهم الضغط على عثمان للخروج من أزمة طالت ووصلت إلى طريق لا منفذ فيه إلا بالثورة، وهم لا يتمنونها ولا يريدونها، مادام في غيرها حل. وهذا هو الحل، وقد يكون الأخير.

٦٨

والتقى ثوار الكوفة والبصرة ومصر قريباً من المدينة.

ومن هناك سارت رسلهم إلى كبار المسلمين في المدينة يعرضون ما جاؤوا فيه من مطالب، ويرجونهم أن يضغطوا على عثمان لتلبيتها  حقناً لدماء المسلمين أن تراق في غير طائل.

وكان علي، طول تلك الأزمة على اتصال دائم بعثمان، يكلمه وينصحه ويطلب منه الاصغاء، إلى الناس والاستجابة لمطالبهم، وهي مشروعة ليس فيها ما يعجز أو ما يصعب تحقيقه.

لنستمع إلى هذا الحوار بينهما حين وصل الثوار إلی مشارف المدينة وجاء عثمان إلى علي يطلب توسطه لديهم وصرفهم عن دخول المدينة وعودتهم إلى بلدانهم.

قال عثمان:... وأحب أن تركب إليهم وتردهم عني.

قال علي: على أي شيء أردهم عنك؟

قال عثمان: علي أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي.

قال علي وهو يذكّر عثمان بوعود سابقة لم يلتزم بها: إني قد كلمتك مرة بعد أخرى. وفي كل مرة أخرج للناس، أسترضيهم وأعتذر عنك وأعدهم بأن تصير إلى ما يحبون كما وعدتني أن تفعل، ثم لا يحصل شيء من ذاك. أنسيت يا عثمان؟! هذا ما فعله بك مروان وابن عامر ومعاوية وابن أبي سرح. لقد أطعتهم وعصيتني. هذا ما أوصلوك إليه، راضياً أو غير راضٍ: قال ذلك بصوت فيه حزن ولوم وعتب.

ثم خرج في عدد من الصحابة إلى الثوار، فكلمهم وأعطاهم الرضا من عثمان، وتعهّد لهم بتحقيق مطالبهم على أن يرجعوا إلى ديارهم آمنين.

وعاد الثوار، وعاد علي إلى المدينة وعثمان.

٦٩

قال: يا عثمان، الله الله في المسلمين وفي نفسك. والله يا عثمان، ما كنت يوماً أضعف موقفاً مني اليوم وأنا أريد ردّهم عنك، وأعطي لهم من الوعود ما لا أدري إن كنت ستفي بها أم ستكون كغيرها في سابقاتها، لكنها الضريبة يؤديها المسلم، لعلّه يدفع شراً عن أمة يرى الخطر محدقاً بها. الله الله يا عثمان فيما توليت من أمور المسلمين. لقد بلغت بنفسك وبهم أقصی ما يبلغه عدو بعدوّه. وما كان بعيداً أصبح وشيكاً ينذر بخطر لا يعلم نتائجه إلا الله، فاتق الله فيما عاهدت. يا عثمان، الناس ثائرون وسيوفهم على عواتقهم. وإن استطعت أن أردهم اليوم فلن أستطيع ذلك بعد اليوم، سأكون المتهم معك أو قبلك.

والله لقد استحييت من طول ما اعتذرت عنك يا عثمان. والله ما عاد المصريون حتى كاد اليأس يداخلني من عودتهم، وعيني على طريق المدينة أن يميلوا إليه؛ فقم وكلم الناس هنا، قل لهم ما يهدئهم ويعيد السكينة والأمن إلى نفوسهم، وليكونوا شهوداً معي عليك، فلا أكون المكذب فيما أعطيت عنك.

وقام عثمان فخطب الناس ونزع عما أذنب وأعطاهم من نفسه التوبة واستغفر الله مما فعل. وعاهدهم بأن ينحي عنه مروان وأمثاله.

ولكن لم تمضي إلا ساعات حتى كان مروان، وبأمر عثمان نفسه، يثير الناس بخطبة حمقاء مجنونة يقول فيها: (... شاهت الوجوه. جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا...).

وتحولت خلافة المسلمين إلى ملك لبني أمية.

وبهذا نكون قد انتهينا من الفصل الأول للثورة، ليبدأ الفصل الثاني والأخطر منها.

قال كعب بن عمير للربيع بن حنظلة: أصحيح يا أبا حنظلة أن المصريين عادوا الى ذي خشب(١) بعد ما تركوه قافلين إلى بلدهم؟ ما الذي عاد بهم؟ هل سمعت شيئاً عن ذلك؟

____________________

(١) ذو خشب مكان قريب من المدينة على الطريق الذاهب إلى مصر.

٧٠

قال الربيع: نعم. لقد عادوا وكانوا قد تركو ذاخشب في طريق عودتهم إلى مصر، تنفيذاً للاتفاق الذي تم بينهم وبين علي. فلما كانوا في بعض الطريق، لفت انتباههم رجل مقبل من جهة المدنية كأنه يطير على ناقته باتجاه مصر، فأخذوه، فإذا هو غلام لعثمان، والناقة لبيت المال. وعند تفتيشه، وجدوا معه كتاباً بختم الخليفة إلى واليه في مصر، يأمره بجلد زعمائهم وحبسهم وصلب بعضهم. فعادوا وعاد معهم الثوار الآخرون من الكوفة والبصرة.

وسمعت أن عثمان ذهب عند ورود هذه الأنباء، إلى علي كما اعتاد، طالباً عونه ووساطته لرد الثوار، وإن علياً امتنع أولاً، فقد كانت له أكثر من تجربة فاشلة مع عثمان. لكنه قبل بعد ما أقسم عثمان على الوفاء بما يلتزم به.

وكفّ الثوار عن دخول المدينة وعن عثمان، على شروط تنفذ خلال مدة اتفق عليها.

لكن المدة فاتت ولم يف عثمان بشيء مما التزم به. كان يبيت أمراً آخر: يريد إطالة الوقت حتى تصل قواته لضرب الثوار والقضاء عليهم، لقد راسل ولاته وقادته في البلدان الأخرى، وهم الآن في الطريق إلى المدينة كما سمعت. وأظن المدينة ستشهد أحداثاً جساماً في قابل الأيام، فقد عرف الثوار نوايا عثمان وما يبيته لهم.

قال كعب وهو يودع الربيع: نعوذ بالله من قابل الأيام يا أبا حنظلة.

وشهدت المدينة تلك الأحداث الجسام. وقتل عثمان بعد ما رفض تلبية مطالب الثوار، وأبى أن يعتزل أو يعزل المتهمين الفاسدين من حاشيته. لكن النتائج الخطيرة التي ترتبت عليها لم تقتصر على المدينة، بل تجاوزتها إلى كل مكان يعيش فيه المسلمون. ولم تقتصر على الزمان الذي حصلت فيه، بل تجاوزته إلى ما بعده وما بعد بعده، حتى وصلت إلينا.

٧١

لقد كانت فتنة كبيرة ما نزال نعيشها، وما تزال ترهقنا بآثارها. وأظننا سنبقى نعيشها، وستبقى ترهقنا بآثارها إلى أن نستطيع أن نفهم أسبابها ونقبلها، لا نزوّر فيها ولا نشوهها. فكم تساءلت، وأنا أصل إلى هذا الموضع من حديث عثمان والثورة عليه: ألا يستحي هؤلاء الذين لا همّ لهم إلا تبرير الظلم والاعتذار عن الظالمين واختلاق الأسباب لاتهام الثوار. ألا يستحيون حين يجعلون كل هذه الثورة الشعبية الأولى التي قامت وشارك فيها كل الناس، وأولهم كبار الصحابة وأهل المدينة ومصر والكوفة والبصرة وغيرها. كل هذا التراث الثوري الضخم الذي يفخر به التاريخ الإسلامي حين يتكلم المتكلمون عن ثورات وثوار، أن يجعلوا كل هذا من عمل رجل اختلقوه: يهودي أسود، يهودي ليكون أقرب إلى الاتهام بالعداء للإسلام، وأسود ليكون أدعى إلى السخرية بمن اتبعوه. كل الذي حصل هو من صنعه. هو الذي ثوّر الناس في الكوفة وفي البصرة وفي مصر، وحتى كبار الصحابة في المدينة. كلهم مفتونون بهذا اليهودي الأسود. كلهم خاضعون لهذا اليهودي الأسود. وحده الذي يفكر ويقرر ويثور، وليس فيهم إلا التابع المطيع. وليس من سلطة ولا عيون ولا جواسيس ولا شرطة ولا جيش، ولا أجهزة تتابع الناس وتراقب نشاطهم في السر والعلن. يتنقل كما يريد ويقول ما يريد، ورسله تطوف البلدان لا تخشى شيئاً ولا تحذر شيئاً. ويستمر هذا زمناً طويلاً، حتى مقتل عثمان، وحتى مقتل علي بعد عثمان.

أعاذنا الله أن نكون من المضللين الكاذبين أو من المضللين المخدوعين.

٧٢

الفصل الثالث عشر

بعدما فسد الناس

ـ ما لهذه الجموع زاحفة نحو بيت علي من كل اتجاه تكاد تكسر الباب من شدة تدافعها عليه. ماذا يريدون من علي؟ هل يريدون قتله؟ إنهم يحاصرون بيته من كل ناحية، ألا تسمع هتافهم؟ قال ذلك كعب بن عمير، وهو بادي الاستغراب للربيع بن حنظلة الذي كان إلى جانبه يراقب ما يجري. ثم أضاف: انظر يا أبا حنظلة، إن أعدادهم تتزايد. لقد ملؤوا الأزقة التي تؤدي إلى البيت. ها هو طلحة بن عبيد الله، إني أراه بينهم وقريب منه الزبير، إنهما يتقدمان الصفوف.

قال الربيع: ما أحسب هذه الناس جاءت لشيءٍ مما تظن. لقد سمعت أن المسلمين اختاروا علياً للخلافة. لم يجدوا من هو أصلح لها منه، فجاؤوا يطلبونه للبيعة. لقد مضى أسبوع على مقتل عثمان، وليس من إمام يقوم بأمر الناس ويعيد الهدوء ويبسط الأمن ويقيم النظام. وكل يوم يمر يزداد الوضع سوءاً، ولن يكون أحد بعيداً عما يمكن أن يحصل، والله وحده العالم بما سيحصل، وهو شر على أية حال.

لهذا جاءت هذه الجموع إلى علي تعلن ثقتها فيه وإصرارها على أنها لن تنصرف دون قبوله بما قبله المسلمون واختاروه من مبايعته خليفة لهم. هذا ما جاؤوا فيه يا ابن عمير. إنهم يناشدونه الله والإسلام أن يستجيب لهم ويرضی ما رضوه لأنفسهم، بعد ما تكرر رفضه للخلافة.

قال كعب: والله لقد تأخر الناس كثيراً عن علي، ولو بايعوه قبل اليوم، لسار بهم على نهج واضح وسياسة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، ولما وصل المسلمون إلى ما نراه اليوم. ماذا سيفعل علي، وقد فسدت النفوس واختلف الناس وتكارهوا وسال الدم بينهم. ماذا سيفعل وقد أقيمت أسواق للذمم والضمائر، تباع فيها وتشترى علنا دون خوف ولا حياء ولا دين. إني لأظن طلحة والزبير غير صادقين. إنهما يطلبان الخلافة ويسعيان إليها منذ رشحهما عمر مع الأربعة الآخرين.

٧٣

قال الربيع: صدقت يا كعب. كان الله في عون ابن أبي طالب، لقد خلف السابقون له تركة ثقيلة لن يسهل حملها )

وكان علي قد رفض البيعة مراراً وطلب إلى الناس أن يختاروا غيره، خليفة لهم، فأبوا وخوفوه الفتنة واختلاف المسلمين، وأنهم اجمعوا عليه، لا يرون سواه ولا يريدون سواه. لقد وضعوه أمام خيارين لا ثالث معهما: أن يقبل الخلافة أو... أن يذهب المسلمون إلى المجهول الذي لا يعلمه إلا الله، لكنه في كل الأحوال خطير على الإسلام والمسلمين. هذا هو إذن الخيار الصعب: بين الله وبين نفسه وبين المسلمين.

وقبل علي ولم يكن لمثله أن يرفض. قبل المهمة على صعوبتها في تلك الظروف العصيبة العاصفة.

وفي اليوم المحدد للبيعة، صعد المنبر فقال فيما قال في أول خطبة له قبل أن يبايع الناس: (... ألا وأنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم معي، وليس لي أن آخذ درهماً دونكم...).

فلن يكون مع علي الذي يبايعونه اليوم خليفة إلا مفاتيح بيت مال المسلمين، لا يأخذ درهماً ولا يختص بدرهم، لا له ولا لأهله. لقد بقي يختم على جراب يضع فيه كسر الخبز أو دقيق الشعير الذي يأكل منه.

هذا هو خليفتهم منذ اليوم. لا يطمعون فيه بغير الحق، ولكن لا يخشون منه أن يميل إلى غير الحق، وهو أول من يأخذ به ويطبقه على نفسه.

لكن هذا الحق لا تطيقه قريش ولا تؤمن به ولا تريده، فالحكم عندها سلطان ومال ونفوذ، وهي لا تتردد أن تقاتل من يحاول أن يسلبها السلطان والمال والنفوذ.

قال كعب بن عمير: هل تعرف يا أبا حنظلة كم يملك طلحة؟

قال الربيع: أعرف.

قال كعب: والزبير؟

قال الربيع: أعرف أيضاً، لو وزعت أموال طلحة والزبير على فقراء أهل المدينة لقامت بمؤنتهم.

٧٤

قال كعب: وابن العاص؟

قال الربيع: سلخ ثلاثة اقراء كبيرة ونفخ جلودها وحشاها ذهباً.

وحين أراد كعب أن يسأل عن آخرين، منعه الربيع قائلاً: إذن تتعب وتتعبني معك. لقد أصبحت قريش وبنو أمية خاصة، ومن معهم من أنصار وحلفاء، طبقة جديدة يأتيها المال من الحكم أو بواسطة الحكم، ومع المال، السلطان والنفوذ والجاه ).

وهذا ما يفسر غضب قريش وثورتها وهي تتلقى نبأ مبايعة علي خليفة. لقد استأثرت بالحكم زمناً ليس بالقصير، وهي لا تريد أن تتنازل عنه أو تشرك أحداً فيه.

هي تعرف أن علياً لن يسمح لها بأن تتخذ من الحكم وسيلة للإثراء على حساب الآخرين أو ظلمهم والاعتداء على حقوقهم أو التميز عنهم بأي شكل من أشكال التميز، لا أحد عنده فوق أن يؤخذ الحق منه، ولا أحد دون أن يؤخذ الحق له. فيم علوية... وفيم قرشية، ما أبعد بينها رغم النسب!!

وهذا يضاف إلى حقد سابق على علي الذي وترها بأب أو ابن أو أخ أو قريب، إنها لا تنسى ثأرها عنده.

قال أحد القرشيين لصاحب له من غير قريش: لكم قتل علي من قريش! إنها لا تغفر له ولا تحبه، ولا تزال تطالب بالثأر منه حتى يشفى غيظها ويبرد حقدها، ينشأ عليه الصغير ويشيب الكبير.

قال صاحبه: ولِمَ؟! أكان علي قد قتلهم لخصومة أو عداء له معهم؟! أكان قتله لهم في غير الحق؟! لقد قتلهم كفاراً في حروب نشبت بين الإسلام وأعدائه، وكانوا هم من هؤلاء. ألم يكن النبي نفسه هو الآمر والقائد، وبأمره يأتمر المسلمون، وكل شيء منوط به؟! أتستطيع أن تنكر ذلك أو تشك فيه؟ فهل ستكرهون النبي وتحقدون عليه؟! ربما! أذنب علي أنه كان شجاعاً واضحاً مستقيماً لا يعرف المهادنة في دين الله، ولا المساومة عليه كالآخرين: بين جبان ومخادع، ومن كان يخطط للحكم مستقبلاً.

٧٥

قال الأول: والله لقد أصبت، لمَ لم يفعل كما فعل الآخرون ممن تعرف؟! لم يحاربوا ولم يقاتلوا ولم يقتلوا أحداً من قريش فأمنوا كرهها. كانوا حين تقوم الحرب ويشتعل القتال، يتوارون أو يبعدون عن ساحته فلا تسمع لهم صوتاً ولا تحس مكاناً.

قال الثاني: والله لقد كنت أحسب بلاء علي وذياده عن الإسلام، ومواقفه وهو يرد المشركين عن النبي ويحميه بنفسه، مما يوجب  الفضل لعلي ورفع منزلته بين المسلمين؛ هل نسيت بدراً وأحداً والخندق. الخندق حيث لا يستطيع مسلم أن يضع شيئاً غير أن يضع يديه على أذينه حتى لا يسمع ابن عبد ود وهو يرفع صوته بالتحدي وطلب المبارزة، ولا النبي وهو يطلب من أصحابه الرد على ابن عبد ود؟! من الذي أزال عن النبي غمّه؟! من الذي دفع عن المسلمين تحدياً كان سيضع إيمانهم في الميزان؟! أهو شخص آخر غير علي؟! وهؤلاء الذين يطعنون فيه، أتراهم مسلمين؟! أيمكن لمسلم أن ينحاز إلى كافر قُتل في حرب بين المسلمين والكفار؟! لقد سرّ علي النبي وأسعد المسلمين في ذلك الوقت، وكان سيفه هو الذي مهّد الطريق لأن يتولى من تعرف مناصب لم يكونو ليتولوها لولاه.

وسكت الأول: قليلاً قبل أن يجيب: هذا رأيك لا رأي قريش.

ويمكن أن يضاف إلى الأسباب السابقة، سبب قلما يذكر حين يتناول الحديث العلاقة بين علي وقريش وبغضها له؛ ذلك أن الكثيرين من رجال قريش كانوا يغارون من علي، ذي النسب القصير، وهو غاية الفخر عند العرب. فهو ابن أبي طالب، وإن صعدت، فابن عبد المطلب ثم ابن هاشم. وهم لا يملكون آباءً وأجداداً كآباء علي وأجداده ولا قريبين منهم، في عصر الآباء والأجداد والأنساب، وماضٍ يضاف إلى حاضر، ومآثر قديمة تضاف إلى مآثر حديثة وتثقل وزنها.

ثم إن أبا طالب، أبا علي، هو الذي منع محمداً وحماه، ومنع

الإسلام وحماه، ليزيل بعد ذاك، مجد قريش وسلطانها. وهذا ما لا تنساه قريش.

٧٦

الفصل الرابع عشر

طلحة والزبير

في إحدى غرف بيت الزبير الكبير في المدينة، كان اثنان قد استسلما لحديث طويل.

قال طلحة موجهاً كلامه للزبير: ألا ترى يا أبا عبدالله أننا تسرعنا في بيعتنا لعلي بالخلافة، وكان يسعنا ما وسع أصحابنا الذين امتنعوا عن بيعته. أو أن نتربص وقتاً آخر نكون فيه أقدر وأوفر حظاً للفوز بما نريد، ولم يكن علي ليجبرنا وقد أبى بيعته سعد بن أبي وقاص وزيد ابن أرقم وكعب بن مالك وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وغيرهم، فلم يجبرهم وتركهم لشأنهم لم يعرض لهم بسوء. ماذا سنكسب من بيعتنا لعلي؟ ما أظننا إلا سنخسر، وسنخسر كثيراً.

قال الزبير: وأنا والله أشد منك كرهاً وأكثر لنفسي لوماً لإسراعنا إلى بيعته، طائعين غير مكرهين. ما كان يضرنا لو تريثنا فلم نعجل، أو أبينا البيعة، شأن الآخرين ممن ذكرت، فعملنا فيما بعد، ولا بيعة في أعناقنا ولا عهد يمنع خلافنا عليه؟

قال طلحة: دعنا مما فات ولنفكر فيما سنفعل للانقلاب على هذا الذي سنحمد الله لو ترك لنا أموالنا التي جنيناها في زمن عثمان.

هل سمعت ما قاله في ثاني يوم من أيام خلافته، إنه سيرد إلى بيت مال المسلمين، كل ما أقطعه عثمان أو أعطاه بغير حق(١) وهل كانت أموالنا ثمرة كدّ وجهد منا؟

إننا لن نطمع في حكومة ابن خالك بأكثر من أن نتساوى مع أي واحد من المسلمين، لا فضل ولا امتياز ولا قربى، ليس أحد أقرب من أحد وليس أحد أبعد من أحد. المسلمون كلهم عنده سواء...

____________________

(١) انظر الفصل العاشر من هذا الكتاب.

٧٧

وهذا نذير شؤم، فما أظنه سيقف عند قطائع عثمان وعطاياه، وإن كانت البداية من هنا. ما أظنه إلا سيتجاوز هذا إلى كل مال أخذ بغير حق في زمن عثمان أو زمن غيره.

أين سنكون نحن عند ذاك؟ هل يرضيك يا أبا عبد الله أن يكون ابن عمة رسول الله وزوج بنت أبي بكر كواحد من هؤلاء المسلمين؟

قال الزبير: إنك تحدثنی وكأنني لا أعرف علياً. هلاّ لمت نفسك وأنت تصر على أن نذهب إليه بعد بيعتنا له مباشرة، لطلب ولاية البصرة والكوفة، فنصحتك ألا تفعل أو أن تتريث في ذاك، فأبيت إلا الذهاب، وطاوعتك حين رأيت إصرارك. ألم أخبرك بأنه لن يفعل، فهو يعرف أننا لا نطلب ولاية البصرة والكوفة إلا للامتناع بهما وإعداد العدة لحربه، بعيداً عنه، لكأنه كان عالماً بما في نفوسنا وهو يجيبنا: ( لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى دينه من أصحابي، ومن قد عرفت دخيلته ). لقد كان ذلك خطأ آخر منا بعد خطأ البيعة.

وكان طلحة والزبير قد ذهبا إلى علي بعد توليه الخلافة وطلبا منه أن يولي أحدهما البصرة والآخر الکوفة لقاء بيعتهما له.

قال طلحة: أظننا نستحق ما نحن فيه، إنه جزاء مافعلناه بعثمان. لقد حرضنا عليه وتآمرنا وشاركنا في قتله، مع أن ما نملك إنّما جنيناه كله أو أغلبه، في حكمه. ليت حكمه دام لنا!

أليس هناك من عثمان آخر وشورى أخرى وابن عوف آخر؟ هل تذكر يا أبا عبد الله ما حصل في الشورى؟ هل تذكر ابن عوف وهو يساوم علياً وعثمان، فرفض علي المساومة وقبلها عثمان فانحاز إلى جانبه وبايعه خليفة. لقد كان علينا أن نعرف علياً منذ ذلك الوقت، وأن المساومة غير ممكنة معه.

٧٨

قال الزبير: الحق معك يا أبا محمد. لقد ذكرتني ما لم أنس، كنا يومها مختلفين؛ كنت مع علي وكنت أنت مع عثمان. لكم أسفت لما وصلت إليه الأمور بين عثمان وبين عبد الرحمن. لقد بلغ الخلاف بينهما حداً لم يبلغه بين اثنين، حتى قال عبد الرحمن وهو يخاطب عثمان: ( يا ابن عفان، قد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك وإني استغفر الله من بيعتك ) وحتى أنه لم يكلمه حين أتاه عثمان عائداً في مرض ألمّ به. ثم لم يكلمه حتى مات.

قال طلحة: رحم الله الاثنين، ولنعد إلى ما كنا فيه وكيف ستجري الأمور بيننا وبين هذا الذي ابتلينا ببيعته؟ إنّي أفضل الإسراع في إعلان استقالتنا منها.

قال الزبير ضاحكاً: كإسراعنا في الركض إليها. إنّك مسرع دائماً يا أبا محمد. لنفكر جيداً حتى لا نخطئ في التخلص من البيعة كما أخطأنا في الدخول فيها. ماذا سنقول للمسلمين وقد بايعنا علياً على ملأ منهم في المسجد وكلهم حاضرون شاهدون؟

وكان قد مضى وقت طويل على اجتماع طلحة والزبير، ولم يخرج أي منهما، ولم يعرف عبد الله بن الزبير ما انتهيا إليه في شأن الموقف من علي. فدخل عليهما وهو يتصنع الضحك قائلاً: أرى النجوى قد طالت بين أبي وعمي. إني لأرجو أن يكونا قد وصلا إلى اتفاق بشأن ما اجتمعا له. ثم تابع أهناك ما يدعو إلى الخوف والقلق وطول البحث؟ لقد مضى وقت وأنتما في هذا الاجتماع.

قال طلحة: لا، لا شيء من ذاك، لكننا كنا نفتش عن عذر نتعلل به أمام المسلمين من بيعة سبقت منا لعلي، وهم كانوا شهوداً فيها.

قال عبد الله: أو هذا ما يشغلكم؟! وما شأن المسلمين بهذا؟!

٧٩

الخلافة والحكم شأن قريش، قريش وحدها، وليس لأحد غيرها نصيب ولا رأي ولا قول فيه. ما أيسر الأمر الذي كنتم تناقشونه! أهناك أسهل من أن تقولا: لقد بايعنا مكرهين والسيف فوق الرأس هددونا بالقتل إن لم نبايع، وليس على مكره بيعة. ماذا فعل المسلمون قبل اليوم لتخافوهم اليوم؟ ألم يقل عمر للنبي نفسه، وأنتما تعلمان (إنه ليهجر) ثم تولى الخلافة بعده؟ ماذا صنع المسلمون؟ هل منعه قولهُ ذاك أن يصبح خليفة لهم؟ هل حاسبه أحد أو حال دون توليه الخلافة أحد؟ أكان علي أكبر وأجل قدرا وأعلى منزلة من النبي؟

ألم يقل النبي في حق علي يوم غدير خم وعلى ملأ من المسلمين أكبر ممن كان يوم بيعتكما لعلي، وكنتما بين الحاضرين الشاهدين: (من كنت مولاه فعلي مولاه...) ثم استبعد علي وترك أمر النبي، ولم يستطع أحد من المسلمين أن يمنع ذاك. إنكما إن أحكمتما أمركما واسترحتما من علي، فستمتلكان كل الوسائل لإسكات من يعترض أو يرفض، لن تجدا صعوبة فيه، كما لم يجد صعوبة فيه من كان قبلكما. هذا هو الرأي وليس غيره، وليس أسهل منه؛ لقد اشغلتما نفسيكما فيما لا يشغل بمثله.

قال طلحة وكأنه وجد ما طال تفتيشه عنه: والله إنه الرأي الذي لا رأي بعده، ولا أدري كيف غاب عنا. هلا كنت معنا منذ دخلنا فجنبتنا ما كنا فيه من قلق وهم وطول بحث، ثم التفت إلى الزبير وعلائم الرضا والسعادة بادية عليه: ما أصوب ما ذهب إليه ابنك يا أبا عبد الله! أين كنا عنه ونحن نخوض في الأمر منذ دخلنا مشرقين ومغربين دون أن نهتدي إليه. ألم أقل لك إن لدى الشباب من حدة الذهن ونفاذ الرأي ما لا يملكه الشيوخ أمثالنا؟!

قال الزبير: ليس ذلك كثيراً على ابن أسماء. هل تعلم يا أبا محمد أن كرهه لعلي يفوق كرهنا له مجتمعين؟ والله ما أظن حالته زادت عليه في كرههاً علياً.

٨٠