أيام الرعب

أيام الرعب0%

أيام الرعب مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 92

أيام الرعب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 92
المشاهدات: 21545
تحميل: 5416

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 92 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21545 / تحميل: 5416
الحجم الحجم الحجم
أيام الرعب

أيام الرعب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي مساء ١٦ تموز من عام ١٩٧٩ أعلن عن تخلّي أحمد حسن البكر عن رئاسة الجمهوريّة وتولّي صدام حسين لها.

وختمت صفحة لتفتح صفحة كانت مفتوحةً لمن يقرأ صفحات الكتاب جيداً.

- إذن لم يكن فاضل مخطئاً حين تنبأ بأنّ صدام سيصبح رئيساً للجمهورية في مستقبل قريب قد لا يتعدى تموز القادم: قال حسين ذلك، وهو يتذكر اللقاء الأخير الّذي جمعه إلى فاضل وتناولا فيه مسار الأحداث في العراق.

وتوقعات الاثنين بشأنها، وتأكيد فاضل على دور صدام في المرحلة القريبة القادمة.

وكان حسين يستبعد حصول ما ذهب إليه فاضل - قال، وهو يحاوره في هذا الموضوع: وما الّذي يدعو صدام إلى ذلك، وكل شيء في يده الآن؟! ما الّذي يعوزه! إنّه الرئيس الفعلي. ولا تنس أنّ البكر هو الّذي احتضن صدام وقدمّه ودعمه في وجه خصوم كثيرين كانوا أقرب إلى المكان الّذي يشغله صدام اليوم. وإلى كل ذاك فما يزال البكر يتمتّع بشيء من القوة والنفوذ في أوساط بعثيّة قد ترفض تولّي صدام السلطة، وقد تبعد أكثر فتعلن تمردها على القيادة الجديدة. أليس هذا وارداً؟! ألا تتفق معي فيه؟! ألا يمكن أن يؤدّي هذا إلى إنشقاق الحزب وإضعافه، وربّما نهايته؟!

قال فاضل: إنّي أتحدث عن عصابة وحوش، من يملك أنياباً أقوى ومخالب أطول يفترس الآخر، وأظن صدام هو من يمتلكها الآن.

ثم إنّك تنسى العامل الخارجي وكأنه غير موجود، مع أنّه في رأس المعادلة، أترى الغرب غافلاً عما يجري في المنطقة، وأكثر نفطه يأتي منها؟! لِمَ إذن كل هذه القوات وكل هذه القواعد المنتشرة في المنطقة وحولها؟! وكل هؤلاء الملوك والرؤساء والمشايخ في أواخر القرن العشرين؟!

وهذا الحدث الجديد ذو العشر درجات على مقياس رختر؟! أحسب آثاره ستمتد بعيداً، بعيداً جداً في المكان والزمان. هل يترك الغرب ثورة الخميني لتمتد وتتسع، وهي تعلن عداءها الصريح له وتحرّض عليه وتدعو لمحاربته وإخراجه؟!

٦١

قال حسين: وما علاقة صدام بهذا؟! أنا أتحدّث عن صدام والبكر وحزب البعث وصراع السلطة، وأنت تتحدّث عن الغرب وإيران وعشر درجات على مقياس رختر!

قال فاضل: اسمع يا عزيزي. المسألة واضحةٌ في نظري. الغرب لن يترك ثورة الخميني، إنّه يعدّ العدة لضربها وهزيمتها قبل أن تقوى وتترسخ في إيران، وقبل أن تنتقل إلى غير إيران. عليه أن يحارب الثورة الإيرانيّة ويتخلّص منها لكن لا يريد أن يدخل هو طرفاً في الحرب. لقد جرى ذلك قبل اليوم فكانت النتائج كارثيّةً عليه، عسكرياً واقتصاديّاً وسياسيّاً. إنّه يفتّش عمّن يحارب الخميني بالنيابة. هل سمعت بهذا الاصطلاح: الحرب بالنيابة؟! أظنّه اصطلاحاً جديداً يدخل القاموس السياسي، إنّك تراه الآن في أفغانستان: مقاتلين وسلاحاً وأموالاً.

من المهيّأ لحرب النيابة ضد الخميني؟ من القادر عليها؟ فتّش عن الدول القريبة من إيران. لن تجد غير دول صغيرة أو فقيرة أو مشغولة هي الأخرى بمشاكل في داخلها أو مع جيرانها. العراق هو الوحيد المهيّأ، بجيشه وسلاحه وإمكانيّاته. أظنّك عرفت الآن سرّ ما يجري في العراق. إنّهم يعدّون صدام منذ بدأت تلوح بوادر انتصار ثورة الخميني في إيران وقرب رحيل الشاه. صدام هو رجلهم الّذي ادخروه لمثل هذا اليوم. إنّه طموح ودموي وطائفيّ، وهذا هو الرجل المثالي لتحقيق أهدافهم والثأر من الخميني. يريد أن يلعب دور البطل القومي في المنطقة، وقد خلت من البطل. لن يسأل عن عدد القتلى، لن يكونوا من بين من يحسب على كل حال.

وفي الخيار بينه وبين البكر لقيادة الحرب ضد إيران، فقد وقع الخيار عليه لأسباب كثيرة منها ما ذكرت، ومنها ما لست في حاجة إلى ذكره؛ لأنّه معروف، فهل عرفت يا صديقي العزيز العلاقة بين صدام والبكر وإيران ومقياس رختر؟! إننّي لا أعلم الغيب، ذلك لا يعلمه إلاّ الله، لكنّي أقرأ فقط، أقرأ جيداً، وأيّ واحد آخر سيصل إلى النتيجة التي وصلت إليها، لو أنّه حاول أن يقرأ جيداً، وستكشف الأيام صدق ما أقول.

قال حسين وهو يستحضر مرةً أخرى ذلك اللقاء: والله لقد كشفت الأيّام صدق ما قلت يا عزيزي فاضل.

٦٢

الفصل الثالث عشر

صدام، البداية، تجهيز المؤامرة

وتصفية الخصوم

لم يكن الحاج علي وهو يذهب إلى فراشه، وقد حان وقت نومه، يفكّر أن خبراً مروّعاً ينتظره فجر تلك الليلة. لقد مرّ اليوم ولا جديد فيه مما يقلق أكثر من أيّام أخرى سابقة كلها قلق وألم وحزن، منذ جاء البعث عام ١٩٦٨، ثم خصوصاً، منذ أصبح صدام رئيس الجمهورية. لكن الساعات القليلة القادمة ستحمل له خبراً سيّئاً شديد الوقع عليه، ففي حوالي الرابعة من فجر أحد أيّام أيلول ١٩٧٩ رنّ التليفون في بيته، وقام الحاج متثاقلاً ما يزال النوم في عينيه. ردّد، وهو يتّجه إلى التلفون: كالعادة، سيقول إنّه أخطأ الرقم ويعتذر، كم أصبح مزعجاً، هذا التلفون! ليتني أستطيع أن أغلقه قبل النوم. ولكن كيف؟! أليس من الممكن أن يحصل ما يستوجب إخباري، وما لا يحتمل التأخير؟!

ولم يكن في الرقم خطأ هذه المرّة، ولم يعتذر من كان على الطرف الثاني من الخط. كان صوتاً جافّاً قاسياً يقول: (لقد رمينا جثّة الخائن عبد الواحد أمام بيته).

وحين أراد الحاج علي أن يستفسر أكثر عن الموضوع، كان التلفون قد أغلق، وشخص يسبّ الخونة وأهلهم ومن يتصل بهم.

كانت الصدمة قويةً على الحاج، فلبس ما وجده أمامه من ملابسه، وأسرع إلى بيت عبد الواحد الّذي لا يبعد عنه كثيراً.

كان عبد الواحد قريباً له، من نفس قبيلته، وتربطه به علاقة قويّة حتى أنّ عبد الواحد كان شبه مقيم في بيته، ينام فيه ويستقبل أصحابه فيه قبل أن ينتقل إلى بيته الجديد الّذي أكمل بناءه منذ قريب.

كان الدم ما يزال ينزف والجسم لم يبرد بعد، حين وصل الحاج ليراه ملقى في الشارع قريباً من باب البيت.

٦٣

نظر الحاج إلى الجثّة واستعاد صورة عبد الواحد الشاب الّذي يفيض حيويّةً ورجولةً وشهامةً ( كان بعثيّاً وهذا في ذاته خطأ كبير، لكن ما الّذي فعله كبعثيّ ليستحق عليه القتل في نظر رئيس عصابة البعثييّن الآن. لقد منحه صدام قبل يوم واحد من اعتقاله درجةً عسكريّةً أعلى من درجة ( عقيد ) على أن يرفعه في اليوم التالي إلى رتبة قائد فرقة ).

كان صدام حين تقلّد رئاسة الجمهورية بعد البكر، يفكر كثيراً في هؤلاء القيادييّن البعثييّن ويخشاهم، فهم غير مقتنعين بصدام، لا يثقون فيه ولا يأمنون غدره، ثم إنّ الكثيرين منهم أحقّ منه برئاسة الجمهوريّة، لم يكن أقدمهم في الانضمام إلى الحزب ولا أكفأهم ولا أقربهم إلى كوادر الحزب ومنتسبيه. ولو أنّ انتخابات جرت لمنصب رئاسة الجمهورية لكان غيره الّذي سيتولاها.

كان صدام يعرف ذاك جيّداً ولا يغفل عن التفكير فيه، فحين قرر أن يحتلّ مكان البكر في رئاسة الجمهورية، قرّر في نفس الوقت أن يتخلّص من كل خصومه البعثييّن ويصفّيهم ليتفرّغ لخصوم آخرين. ذلك هو السبيل الوحيد لكي يحكم مطمئناً دون خوف ولا قلق ولا هواجس، وذلك ما يفعله كل دكتاتور مغتصب عندما يستولي على الحكم. أوّل ما يفعله هو التخلّص من رفاقه وشركائه القدامى الذيّن يعرفهم ويعرفونه، يعرفون كل شيء عنه، وسيبقون ينظرون إليه ويتعاملون معه كما كانوا في السابق، وهذا ما لا يتحمّله الدكتاتور، وهو يقفز إلى الحكم يريد أن يبدأ حكماً هو موسّسه وبانيه وسيّده، وحده. هو وحده، لا شركاء له فيه. سيأتي بأشخاص يدينون له. لم يكونوا شيئاً فاصطفاهم ورفعهم، هو، لا أشخاص كانوا معه، في مستواه أو أعلى منه. هؤلاء لا يدينون له بشيء، وربّما نظروا إليه كغاصب لحقٍّ هم أولى به، الحاكم الجديد يخاف هؤلاء ولا يطمئن إليهم ويخشى دائماً إتّفاقهم عليه ورفضهم طاعته، أو عدم إذعانهم لما يريد. وهذا الحاكم يرفض دائماً أن يكون لأحد دالّة عليه، ويحرص دائماً على أن يكون ماضيه مجهولاً، لا يعرفه الناس، سيّما إذا لم يكن هذا الماضي ممّا يعتزّ به الإنسان أو يستطيع أن يتكئ عليه في الميدان السياسي الّذي يخوضه.

هذا ما كان يقلق صدام ويشغل فكره، ولكن كيف عليه أن يفعل؟ ما السبيل إلى التخلّص من هؤلاء البعثييّن المنافسين بضربة واحدة، وهم كثيرون ولا يجمعهم مكان واحد، لا في العراق ولا في خارج العراق.

٦٤

وانتهى إلى الحل، ماذا لو دعاهم إلى مؤتمر عام يعقد في بغداد بحجّة البحث في مسائل خطيرة تستوجب البحث. سيجمعهم في مكان واحد، والباقي معروف.

وهنا أطلق صدام ضحكةً عاليةً كأنّه يعلن انتصاره، لنفسه: هذه هي اللّعبة والله لن يخرج أحدٌ منكم إلاّ للقتل أو للسجن الّذي يتم فيه القتل. لن يخرج أحدٌ منكم، لن يسلم أحدٌ؛ إنّها نهايتكم. سأريحكم من صدام، وسيستريح منكم، إلى الأبد، إلى الأبد، وبئس المصير.

وبدأت الإجراءات اللازمة لعقد المؤتمر. وطارت الدّعوات إلى ( الرفاق ) لحضوره.

كان رئيس جهاز الأمن الخاص بصدام قد انتقى عدداً من بين أفراده ممّن يعرفهم ويثق بهم ثقةً مطلقةً، وأوكل إلى كل واحد منهم دوره الّذي حدّده له بشكل دقيق.

وجاء الموعد ودخل ( الرفاق ) إلى مكان الاجتماع. وحين تأكّد المسؤول عنه أنّه لم يبق أحدٌ من المدعويين لم يدخل، أغلقت جميع الأبواب، ووقف خلفها من الداخل ومن الخارج حرس مدجّجون امتدّ بعضهم إلى الشوارع الفرعيّة المؤديّة إلى مكان الاجتماع ليمنعوا الوصول إليه.

الجو يشير إلى شيء غير طبيعيّ سيتفجّر قريباً، الوجوه متوترةٌ وإشارات مبهمة تصدر من بعض المنتشرين في القاعة يفهمها آخرون منهم.

الرفاق المدعوون يسألون عن القضايا التي جاؤوا لبحثها فتقابلهم ضحكات هستيريّة ساخرة، وأفرادٌ من حرس صدام يروحون ويجيؤون يستعرضون الحاضرين بنظرات مخيفة.

سأل أحد المدعوييّن آخر إلى جنبه، وهو يهمس في أذنه: لقد وقعنا يا رفيقي. لم نحسب أمورنا جيداً. غفلنا عن صدام الّذي نعرفه جيداً، نعرفه منذ زمن طويل.

قال الآخر: انتهى كل شيء الآن. كانت المؤامرة أكبر منّا. لم يعد بيدنا شيء، ولم يعد اللوم نافعاً، لكن اللوم يقع على من كان في بغداد من رفاقنا كان عليهم أن يعرفوا، وهم قريبون من مسرح التآمر. كان عليهم أن يعرفوا.

٦٥

قال الأوّل، وهو يتلفّت يميناً وشمالاً، وإلى الأمام والخلف: الحق معك. عرفنا المؤامرة بعدما سقطنا فيها، ولن نخرج، لم يأت بنا صدام ليتركنا نخرج، وأضاف: إنّي أسخر من نفسي وأنا أتلفّت يميناً وشمالاً حتى لا يسمعوا كلامي. وهذا الزر الّذي أمامي؟! وأومأ على زرٍّ في الكرسي الّذي يجلس عليه، لِمَ وضع هنا؟! وفي كرسيك مثله. ثم سكت لحظةً قبل أن يقول بصوت مستسلم: لقد انتهى كل شيء، حتى الخوف لا محل له الآن. إنّي أسخر من خوفي. ماذا يجدي عليّ الآن؟! كان ذلك نافعاً حين كنّا ما نزال في خارجه - مشيراً إلى المكان الّذي حشدوا فيه - قبل أن نساق بفعلتنا إليه.

وبدأ صدام الاجتماع، لا ليطرح قضايا للبحث، ولكن ليعلن الكشف عن (مؤامرة خطيرة، كان على وشك أن ينفذّها رفاق الأمس، هؤلاء الّذين تجدونهم الآن بيننا في هذا المكان لقد أرادوا أن يهدموا حزبكم الّذي شيدتموه بدمائكم وتضحياتكم وشهدائكم) قال ذلك، وكأنه يستثير عواطف الحاضرين بهذه العبارات التي تنتهي بـ ( كاف ) المخاطب.

وصرخ واحدٌ من وسط القاعة ( الموت للمتآمرين ). لقد كان أحد أفراد جهاز الأمن الخاص لصدام، وهذا كان دوره.

وارتفع صوت آخر ( لا ترحمهم أيّها الرفيق صدام. لا ترحم الخونة العملاء ).

واختلطت الأصوات وتعاقبت من كل أرجاء القاعة: ( الموت للمتآمرين ) أقل ما تطالب به.

وتسابق الحاضرون من جمع أكبر عدد من أوصاف الخيانة والعمالة والغدر، وتشابكت أيديهم، كلّها تتجه إلى هؤلاء الرفاق السابقين الّذين استغلوا عطف صدام وتسامحه فتمادوا في إجرامهم لشق الحزب وتدميره. ( لا عفو بعد اليوم يا صدام. لا تسامح ولا رحمة. الموت للمجرمين عملاء الأجنبي - وهي تهمة تلصق بمن لا تهمة ضدّه ).

هكذا كانت الهتافات تهزّ القاعة... وتصدر الحكم.

٦٦

وخلف منضدة كبيرة في صدر القاعة، كان يقف صدام وهو يتصنّع الحزن، وبين مرة وأخرى يخرج منديله يمسح دموعه أمام جموع الحاضرين الّذين اتّجهت أنظارهم إليه. كان يحرص على أن يظهر وكأنه لا يريد أن يتدخّل فيما يقرّره أعضاء الحزب. وليس هو إلاّ واحداً منهم، آلمه ما آلمهم. لا يفرض عليهم رأياً ولا يتخذ موقفاً خلافاً لما يتخذون من موقف في ضوء نظام الحزب وقناعتهم إزاء هذه الخيانة العظمى التي تعرّض لها الحزب وجوداً ونضالاً وتاريخاً.

هكذا ظهر مؤلّف ومخرج وبطل المسرحيّة، وهو يدلي ببعض الملاحظات خلال العرض، متألّماً حزيناً؛ لأن رفاقه ارتكبوا ( خيانة عظمى ) ضد الحزب، كان يؤكد في كل ما يقول على لفظ ( الخيانة ) التي يريد أن يثبّتها عليهم كواقعة حقيقية أمام الحاضرين من كوادر الحزب، في الاجتماع وخارج الاجتماع.

وسيق الرفاق، كل من ينادى باسمه، يسرع جماعة من جهاز الأمن لإخراجه موثقاً، إلى مكان مجهول ومصير هو الآخر مجهول.

ونصل إلى ختام المسرحيّة. لقد أراد صدام ألاّ يكون معروفاً كنهاية الأفلام المصرية القديمة. رأى أن تختلف الأحكام في العلن فلا تكون كلها بالإعدام، حتى لا تفقد المسرحيّة عناصر إثارتها، ولا تقرأ خاتمتها من بدايتها.

وأعلنت الأحكام: بعضها بالإعدام وبعضها بالسجن الّذي تختلف صوره. ولم يخرج من السجن إلا من كان صدام قد زجّ به ابتداء بين المتّهمين، ليخرجه فيما بعد بضمان ولائه، أو لإبعاد التهمة عن الأحكام وإضفاء شيء من الشرعية عليها.

ونعود إلى عبد الواحد الّذي بدأنا به حديثنا. لقد كان عبد الواحد بعثيّاً قديماً وعسكرياً شجاعاً. قاد أول دبابة دخلت بغداد في انقلاب ١٩٦٨، وليته لم يكن كذلك، وهذا ما خوّف صدام وزمرته منه. كان على خلاف دائم معهم، يعتقد أنّ هناك حزباً لا عصابة.

واتُّهم بالمؤامرة طبعاً، وحُكم عليه بالسجن سبع سنوات. لكنه لم يخرج من السجن. كانت نهايته هي بداية حديثنا: جثّة على باب بيتٍ صدر الحكم بمصادرته بعد قتل صاحبه.

٦٧

الفصل الرابع عشر

فاضل وحسين... ومحمود البعيد!

كانوا ثلاثة، من مدينة واحدة هي النجف، ودخلوا كلية واحدة هي الحقوق، و تخرجوا في سنة واحدة هي ١٩٥٢.

واستمروا أصدقاء، بعد التخرّج كما كانوا قبله، يفترقون ويلتقون، كما يشاء الزمان، لا كما يشاؤون، لكن عواطفهم نحو بعضهم وحبّهم لبعضهم لم يفارقهم ولم يضعف، كان دائماً معهم، هو نفسه ذلك الحب القديم.

سبق الحديث عن اثنين منهم، فاضل وحسين، أما الثالث محمود، فقد سافر إلى فرنسا لإكمال دراسته، وبعد عودته التحق بالسلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، ثم التدريس في جامعة بغداد، قبل أن يعود ثانيةً إلى وزارة الخارجية ينتقل في وظائفها من بلد إلى بلد، وكانت داكار - السنغال آخر محطّة له في العمل الدبلوماسي، فقد عاد بعدها إلى بغداد ليطلب إحالته على التقاعد.

وفي آخر لقاء بين فاضل وحسين، كان الحديث يدور بين عدة مواضيع ليست بعيدة عن السياسة، لكن أضيف إليها هذه المرة، حديث جديد قديم عن صديقهما محمود الّذي ابتعد عنهما منذ عاد إلى الدبلوماسية عام ١٩٧٠.

قال حسين وهو يبدأ الحديث مع فاضل: لك عندي خبر يسرّك كما سرّني، سيسرّك جداً.

٦٨

وقبل أن يكشف حسين عن خبره، قاطعه فاضل بلهجة متشائمة: وهل هناك ما يسر من الأخبار بفضل البعث والبعثيين؟! لم يعد شيء من ذاك يا صاحبي، كل شيء، لكن الأسوأ أنّ كل شيء يسير نحو الأسوأ. إنّ الأمور تتجه إلى المجهول، أو إلى المعلوم، إلى الخطر الّذي أراه مقبلاً علينا، أو إننّا نحثّ الخطى إليه تحت قيادة الرئيس الفارس صدام!! إنّ تحركات مريبة تتتابع على الساحة السياسيّة منذ استيلائه، أو لأكن أدق، منذ الإتيان به رئيساً للجمهورية دون أيّة كفاءة أو امتياز إلاّ أنّه الأكثر دمويةً بين الدمويين، والأكثر حقداً على العراقيين والعراق، وأنّه على استعداد لتدميره دون تردد أو سؤال. ما أروعه من امتياز! ألا ترى معي أنّ ما يجري الآن كلّه مخيف وينذر بشرٍّ كبير، وأنّ علينا أن نواجهه، علينا جميعاً، ما دمنا نستطيع أن نفعل ذلك، قبل أن يقوى أكثر ونضعف نحن أكثر، ويكون الثمن أكثر من مضاعف.

قال حسين وهو ينظر بتململ إلى فاضل: لقد أبعدتني عن الخبر الّذي كنت أريد إبلاغه إليك، قتلته قبل أن يخرج من فمي وتعرف ما هو. مالك؟! أنا لا ألقاك إلاّ نادراً، وحين ألقاك، لا يكون حديثك إلاّ همّاً وحزناً تضيفه إلى همّي وحزني. والله إني لأستغرب حالك الآن، لقد كنت المتفائل دائماً بيننا، نحن الثلاثة حين كان محمود معنا. أتراني المقصود بكلامك؟! ماذا عليّ أن أفعل صحيح أن الأخبار كلها سيّئةٌ، لكننّا محاصرون في الداخل وفي الخارج، بين إرهاب البعث وإرهاب داعميه على الحدود وفيما وراءها. ماذا تريد أن أفعل؟! هل عليّ أن أموت أو أنتحر حتى ترضى؟! هل في هذا ما يخيف البعثيين أو يقلقهم؟! أنا شخصياً لم أُخلق للمقاومة والقتال.

لم أحمل السلاح يوماً ولم أحارب. لا أنكر هذا ولم أنكره يوماً. لكل واحد منّا يا صديقي العزيز قدراته وطاقاته وهو أعرف بها. لكنني لم أكن يوماً بعثيّاً. لقد كرهتهم واحتقرتهم، فكراً وسلوكاً، منذ ابتلانا الغرب بهم. إنّ المقاومة والمقاومين موجودون، والعراق زاخر بهم، إنّهم النجوم التي تضيء سماءه، دون أن تغيب في يوم ولا ساعة، ليسوا كهذه النجوم، إنّهم يضيؤون في الليل وفي النهار... ولقد تساءلت طويلاً إن كنت أعذر نفسي بعدم الإلتحاق

٦٩

بفصائل المقاومة وحمل السلاح معهم. كنت ألوم نفسي، أكتفي باللوم، وأحياناً أتساءل: هل من الأفضل أن أحمل السلاح وأنضّم إلى المقاتلين. لم يغب هذا عنّي، لكن ربما قبض عليّ، وهو أقرب الاحتمالات للمقاوم، وأنا أعرف نفسي، لا أستطيع احتمال التعذيب، وقد تخونني قواي وأنهار، وقد أعترف بأسرار أودعنيها المقاتلون وائتمنوني عليها، أو عرفتها بحكم عملي معهم. سأكون سبباً في إلحاق الأذى بالمقاومة والمقاومين. فهل الأفضل أن أنضّم إليهم، وهذا الاحتمال قائم، أم ابقى كما أنا باق الآن، أحارب البعثيين بما تيسّر لي من وسائل، بعيداً عن الانضمام العلني للمقاومة، وليسعني عذرهم إن لم أنفعهم كما ينبغي، وبين الواحد وبين المائة تسع وتسعون درجة. كلها إيجابية باختلاف الدرجات.

ستضحك من هذا المتخاذل الّذي يفتّش عن مبررات لتخاذله، ولا والله لا أفتّش عن مبررات، ولم أفتّش عنها يوماً، لكنّي أعرف من نفسي ما قد يجهله الآخرون.

أنت يا عزيزي فاضل أجرأ منّي وأقوى، ولا أنكر ذاك، أعرفك منذ كنّا في الاعداديّة، وأنت أول المتظاهرين، وإحدى قائمتي اللافتة تمسك بها يداك، وصوتك يعلو بالتقدّم ورصّ الصفوف. آه ما أحلى تلك الأيام! كم هي قريبة بحساب الذكريات، وإن كانت بعيدة بحساب السنين! لقد كنت دائماً مشاركاً في المظاهرات، لم أتخلف عن واحدة منها.

لكن دوري كان يقتصر على المشاركة. لم يكن كدورك وأنت تقود. أعترف بذلك. ألا يقال إن الاعتراف بالخطأ فضيلة؟ فاعتبر موقفي الآن خطأ، اعتبره ما شئت، واعتبر اعترافي وإقراري بالعجز فضيلةً لي.

قال فاضل بهدوئه المعهود: ومن قال إنّك مخطئٌ وإنّي ألومك؟! من قال لك؟! أنت تعرف الخوارج طبعاً: هذه الفرقة الدموية التي أرعبت المسلمين زمناً غير قصير وأسالت دماءهم وقتلت حتى الأطفال، ثم لم تكتف فبقرت بطون الحوامل من النساء وقتلت الأجنّة، وأمهاتهم قبلهم. لم يرحموا شيخاً ولا طفلاً ولا عجوزاً... حكم عام بالقتل على كل من لم يكن معهم. لقد كانوا شجعاناً، لكنّهم كانوا متوحّشين ومتخلّفين. هؤلاء الخوارج، بينهم فرقةٌ اسمها القعدة، أي الذيّن يقعدون عن القتال ولا يشاركون فيه، مع أنّهم من الخوارج، عقيدةً وفكراً. وأضاف ضاحكاً: هل تريد أن أسمّيك من اليوم قعيدي.

٧٠

قال حسين: أتذكر حديث الخوارج وتنسى حديث النبّي: ( من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) وأنا أرضى بأضعف الإيمان، وإن كنت أظن أنّي أستحق شيئاً أكثر منه. أرضى به ما دمت، لم أخرج من دائرة الكره للبعث والبعثييّن إلى الرضا والقبول أو المشاركة، وإن لم أحمل السلاح ضدّهم. يكفيني هذا من نفسي حتى الآن، وأرجو أن يكون لي موقف آخر، ولا أعدك به؛ لأنّي غير واثق منه.

قال فاضل، وكأنه تذكّر: ألم تقل لي أن عندك خبراً سارّاً، فأين هو؟! لم تخبرني به، أنسيت؟!

قال حسين: وهل تركت لي فرصةً حتى أخبرك؟! كأنك لا تريد أن تسمع خبراً سارّاً، أو كأنّ لك عداء مع الأخبار السارّة. لقد وأدت خبري كما كان العرب يئدون البنات. لكنّهم كانوا يئدونها بعد ولادتها، وأنت وأدت خبري قبل ولادته، قبل أن يخرج من فمي.

قال فاضل: منذ كم أصبحت مهتمّاً بتاريخ العرب؟! عهدي بك أبعد الناس عنه. هل أصابك محمود بعدواه قبل أن يسافر؟ ليته معنا لكم أنا مشتاق إليه؟! هل عندك شيء من أخباره؟ أين هو الآن؟ هل تذكر؟ كانت غرفته قبل غرفتينا في عمارة الشطب، بعدما جاء للسكن معنا في نفس العمارة، إثر تعرّضه لحادث سرقة، عندما كان يسكن في الوزيرية في بيت مستقل، لقد سرقته خادمته.

قال حسين: وهذا هو الخبر السار الّذي كنت أريد أن أعلمك به: إنه في الطريق إلى بغداد. لقد طلب النقل والإحالة على التقاعد. هذا ما سمعته قبل يومين من أحد أفراد عائلته. ربّما يكون هنا خلال أسبوعين أو أقل. سأتصل بك طبعاً حين أتأكّد من موعد وصوله. سنلتقي، سنستعيد ذكرياتنا وأيّامنا الحلوة الجميلة. ما أحلاها من ذكريات وأيّام! ستكون الدعوة خاصةً بنا الثلاثة، لا رابع فيها. أنت وأنا وهو. سنتحدّث كما نشاء، في الماضي والحاضر... والمستقبل! لن نفسد أوّل لقاءنا بحديث المجرمين. عندنا وقت طويل للحديث عنهم.

٧١

الفصل الخامس عشر

أوّل لقاء الثلاثة

كان اللّقاء عاطفيّاً حارّاً، تبادلوا فيه العناق والدموع، لم يصدّقوا أنّهم مع بعضهم من جديد. انطلقت عواطفهم كما شاءت، لم يخبّوها ولم يكتموها. كأنّهم كانوا يحملون همّاً فأرادوا أن يتخفّفوا منه بعد طول حمل.

كان محمود يغالب دموعه وهو يعانق فاضل مرّةً وحسين أخرى ليعود إلى فاضل. لم يكن يصدّق نفسه. سنين لم يجتمعوا ثلاثتهم. حتى فاضل وحسين، غلبهما البكاء والدموع مع أنّهما كانا يلتقيان أحياناً؛ لكأن هذا اللقاء ذكّرهما بماض بعيد حين كان الثلاثة شبانّاً يعيشون معاً، لا يفترقون إلاّ عند النوم، وأحياناً تضمّهم غرفةٌ واحدة في النوم.

سكت الثلاثة لحظات قبل أن يقطع الصمت حسين، وهو يوجّه الكلام لمحمود: ماذا تنوي أن تعمل بعد التقاعد؟ ألم تفكّر في شيء؟

قال محمود: لا أدري، لا شيء محدداً حتى الآن. كل الّذي أعلمه أنّني قدّمت طلباً لإحالتي على التقاعد، وأرجو ألاّ يتأخّر الجواب بالموافقة عند ذاك سأفكّر جديّاً. لست تاجراً كما تعلم، ولم أكن يوماً. ليس أمامي غير المحاماة أعود إليها بعد سنين طويلة على تركي لها منذ الخمسينات.

قال حسين: ولماذا استعجلت التقاعد، وأظنك تملك حوالي الخمس عشرة سنة في الوظيفة، والعمل في وزارة الخارجيّة مما يعشقه الآخرون؟

قال محمود: والله لقد مللت الوظيفة، بل كرهتها، وما أتعس الإنسان حين يكره عمله. إنّ الوظيفة يا صاحبي، ولا استثني الوظيفة في الخارجيّة، شلل للفكر وقتل للروح، روتين يومي بائس مقيت، يسلبك الشعور بجمال الحياة. تخرج في ساعة وتعود في ساعة، وأنت بينهما، تفكّر في الثاني حين تكون في الأوّل، وفي الأوّل، حين تكون في الثاني. حتى الأحلام لا تخرج عن دائرة الوظيفة: الوزير والمدير العام وأوّل الشهر وآخر الشهر والعلاوة والترفيع. يستعجل الإنسان عمره، ثم لا يخرج إلاّ على عكاز بعدما استنفدت قوّته ولم يبق منها ما يصلح لشيء. هذا في غير عهد البعثييّن، فكيف في عهدهم؟!

٧٢

قال حسين: إذن حسمت خيارك باتّجاه المحاماة.

قال محمود: ليس ذلك خياراً لأحسمه. ليس خياراً حين لا يملك الإنسان حريّة الاختيار ولا يكون أمامه إلاّ طريق واحدٌ عليه أن يسلكه. ماذا يبقى من الاختيار؟! ثم أضاف ضاحكاً: لقد أصبحت أشعريّاً من حيث لا أدري.(١)

قال فاضل وهو يشارك في الحوار: إنّ ألسنة السوء تتناولك بما لا يرضي. لقد دخلت قبل أيّام في معركة حامية وأنا أسمع من يتّهمك بأنك لم تعد أحمد الّذي يعهد، كما قال، وبأنّك تخلّيت عن قيمك السابقة التي عرفت بها، وأصبحت مسايراً للبعثييّن، وربّما أكثر!

قال محمود وكأنه استفزّ بما لم يتوقّع: ولماذا؟! ماذا فعلت لأستحق هذه التّهمة؟! ألأنّي عملت في وزارة الخارجيّة. أنتما تعلمان أن أوّل وظيفة شغلتها كانت في وزارة الخارجيّة عام ١٩٥٨ بعدما رجعت من فرنسا، وقبل أن أذهب إلى جامعة بغداد. فإن كانت الخارجيّة أفضل من الجامعة، فإنّها وظيفتي السابقة، عدت إليها بنفس درجتي وبنفس راتبي، لم يتفضّل عليّ أحد بشيء في الدرجة أو الراتب. وإن كانت الجامعة أفضل من الخارجيّة فقد نزلوا بي عن حقّي وحاربوني فيه. وعلى كلٍّ فقد عيّن عددٌ من أساتذة الجامعة ممن تعرفانهم، سفراء، فهل تحوّلوا بعثييّن؟!

قال حسين وهو يعود إلى الكلام: وهل الدوائر الأخرى أفضل حالاً من وزارة الخارجية؟! وما الفرق بين وظيفة في الخارجية ووظيفة في غيرها؟! هل القضاء: القضاء، وهو أخطر وأعلى سلطة في العراق، وفي غير العراق، يتمتّع بالنزاهة والحياد والاستقلال؟!

هل يختلف عن أيّة دائرة أخرى؟! ثمّ التفت إلى فاضل قائلاً: والمحاماة نفسها، القضاء الواقف كما يعبّرون، ماذا بقي منها ومن قوّتها ومبادئها التي كانت دائماً تفخر بها وتعتّز؟! ألم تكن تشكو لي، كلّما لقيتني، مما تعانية أنت شخصياً، من فساد المحاماة حين فسد القضاء؟!

____________________

(١) أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ينكرون حريّة الإنسان في أعماله ويعتقدون أنه مجبر عليها ولا خيار له فيما يقوم به من أعمال.

٧٣

ووزارة الماليّة، هذه التي أعمل فيها، لعلّها تشكو الفساد أكثر من الوزارات الأخرى، وأنا أتكلّم هنا عن دراية واطلاع، فأنا موظّف فيها منذ زمن طويل، قبل أن يلحقها الفساد في زمن البعثيين. ربّما كانت الخارجيّة، الأقل فساداً بين الوزارات. لقد أفسدوا يا صاحبي كل شيء. أفسدوا الإنسان نفسه. بدؤوا بالإنسان كقيم ومبادئ وأخلاق. وما بقي سيأتي وحده. لن يكون إلاّ نتائج علينا أن نتوقّعها، وسنخطئ إذا لم نتوقّعها. لكن هل علينا أن نترك وظائفنا لنجوع نحن وعوائلنا؟! بِمَ سنضرّ البعثييّن لو تركنا وظائفنا؟! والله سيسرّهم ذاك ويسعدهم وسيسمح لهم بأن يفسدوا أكثر. المهمّ أن نكون نحن محصّنين في وظائفنا، ألاّ يصل الفساد إلينا، أن نبقى محافظين على قيمنا ومثلنا؛ حينذاك سنكون نافعين للناس، وسيعرفون من هو صالح ومن هو شرّ. لن نخلي الساحة للبعثييّن. وقد نستطيع، من مواقعنا، أن نسهم في المعركة ضدّهم، أو يكون لنا دور في أي جهد للإطاحة بهم. أنا لست من الرأي الّذي يقول بترك الوظيفة احتجاجاً على الحكم أو رفضاً له. تركنا لوظائفنا سيكون إفراغاً للميدان من العناصر النظيفة. سيكون جريمةً في حق الشعب والوطن، وهديةً نقدّمها لأعدائه.

وعاد محمود للحديث قائلاً: هل تعلمان بأنّ البعثيين ساوموني أكثر من مرة بأن أكون سفيراً مقابل الانتماء لحزب البعث فرفضت. فعلوا ذلك معي في اليونان، ثم فعلوه معي في تركيا. كان ذلك بحضور زوجتي، فرفضت وقلت، إن أصررتم فهذه استقالتي، ثم أضفت: لقد رفضت قبل اثني عشر عاماً، عرضاً خيراً من عرضكم. عرض عليّ عبد السلام عارف الوزارة على ١٩٦٥ فرفضت. كان اللّقاء كما أذكر في فندق بغداد، أكبر فنادق بغداد في ذلك الوقت. أمهلوني يومين للرّد، وكان أبي مريضاً عندنا، وطرحت الأمر عليه فرفض بشكل قاطع. قال لي: إنّه هو المقصود وراء طلب تعييني وزيراً. كان يراد أن يغير موقفه من عبد السلام عن طريق استيزار ابنه: مساومة لأبي، وأنتما تعرفان جيداً هذا الأمر. لقد حدّثتكما عنه كما أذكر، في لقاء جمعنا بعده بأيّام قليلة. ثم مضى قائلاً:

٧٤

هل قرأتما يوماً كلمةً لي أو مقالاً أو شيئاً مما يكتبه بعض الناس هذه الأيّام في مدح البعث أو قائده؟! أكان صعباً عليّ، مع كثرة المناسبات، أن أكتب شيئاً، أي شيء، وأنتما تعلمان أن ليس ذلك صعباً عليّ، وقد فعله الكثيرون غيري، لو كنت كما يزعمون مسايراً للبعثييّن أو... ربّما أكثر؟!

ألا تعلمان كم تحمّل أبي بسبب موقفه من البعث والبعثييّن؟!

إنّ البعض يتهمني لأنه لا يعرف حقيقة موقفي، وربّما كان معذوراً، خصوصاً في هذا الوقت الّذي كثر فيه الحديث والمحدّثون، وكثر المتّهمون، وكثر الانتهازيون والمتعاونون والطامعون والتافهون لكنّي لا أعذر من يعرفني، ومن كان قريباً مني، ومن عشت معه وعاش معي.

وحسناً فعلت يا فاضل، فقد كنت غافلاً، وقد أبقى غافلاً عن دفع تهمة لا تلحق بي وحدي، وإنّما تلحق بأهلي وعائلتي وأولادي من بعدي.

قال حسين؟ وهو يتّجه بكلامه لفاضل: ماذا كنت ستفعل يا فاضل لولم نتّفق؟! لقد رجوتك ألاّ تفسد أول لقاء لنا بالحديث عن البعث والبعثيين والمجرمين؟! وها أنت تخالف ما اتّفقنا عليه.

قال فاضل: أكنت أحرص على محمود ومصلحته؟! لقد قلت له الحقيقة ليعرف موقف الناس ورأيهم. لم أقل إنّهم اتّهموه، ولكن هناك بعض من ارتابوا أو تحيّروا أو أسفوا، لم يجدوا جواباً يرتاحون إليه، وها هو الجواب نملكه الآن ونحتج به.

قال حسين: إذن لنبدأ حديثاً جديداً.

وبدأ الثلاثة حديثاً جديداً، بعيداً عن الجريمة والمجرمين.

٧٥

الفصل السادس عشر

في الطريق إلى الحرب

مقتل الصدر: محمد باقر وبنت الهدى

كان صدام قلقاً ثائر الأعصاب خلال الأشهر الأولى من عام ١٩٨٠. والمقرّبون منه يتجنّبون الاتّصال به إلاّ مضطرين، فردود أفعاله غير معروفة ولا مأمونة، لا يعلمون ما ينتظرهم منه، كلّ الاحتمالات واردةٌ، وكلّ واحد يهنّئ نفسه إذا انتهى اليوم دون أن يلقاه.

وكان حين يريد أن ينام أو يظهر في اجتماع عام، يتناول بعض الحبوب المهدّئة قبل النوم أو قبل موعد الاجتماع، فلا يرى منه المشاهدون إلاّ صدام القوي الواثق المخيف، لكنّ القريبين منه يعرفون غير هذا، يعرفونه مهموماً دائم التفكير شارد الذهن، يطلب منهم الشيء، ثم لا يلبث أن يطلب إلغاءه أو نقيضه.

قال أحد كوادر الحزب لآخر من أصحابه: ما الّذي يقلق السيد الرئيس هذه الأيام؟! لِمَ هذا الحزن في وجهه رغم جهده في أن يحجبه عن الأنظار؟! ما الّذي يهمّه ويشغل باله؟! المؤامرة؟! وقد رتّبنا فصولها كما شاء، وقتلنا الذيّن اتهمناهم بتدبيرها، إعداماً أو قتلاً في السجون. كل الذين أردنا قتلهم قتلناهم. والذيّن يحوم حولهم أي شك، أبعدناهم وأخضعناهم لمراقبة صارمة، حتى في بيوتهم. والأجهزة الحسّاسة في الدولة، من مدنيّة وعسكرية، أوكلناها إلى من نثق بهم من الرفاق. ماذا بقي ممّا يقلق أو يفكّر فيه؟! الحزب الشيوعي؟! لقد أنهيناه ونزعنا ثقة الجماهير عنه، ولم نعد في خوف منه. الأحزاب القوميّة؟! ضحك على الناس أم علينا؟! ما أظنهم يستطيعون أن يملؤوا غرفة في قاعة، ليسوا إلاّ لافتات تجدها على أبواب بعض المباني، ولا شيء وراء ذاك. هذا على صعيد الداخل. أمّا مع الخارج، فأنت تعلم أنّنا سوّينا خلافاتنا مع الدول العربية، ونحن نعيش شهر عسل سيطول بفضل الخطر الّذي تحمله إليهم الثورة الإسلامية في إيران، وليس غيرنا من يواجهه ويصدّه نيابةً عنهم. ألسنا حرّاس البوّابة الشرقيّة وحماتها كما يردّدون؟! ولكن قل لي، هل تظنّهم صادقين في شعورهم نحونا؟! إني أشك كثيراً في ذلك. لم نكون نحن وحدنا حماة البوابة الشرقية للأمّة العربية، أو حتى أكون منصفاً، لمشايخ الخليج؟! لِمَ لا يتولّون هم حراسة هذه

٧٦

البوابّة في وجه إيران التي يبدو أنه لم يعد لهم من عدو سواها؟! ما لهم يحرضوننا ويدفعون بنا إلى الموت، وأميركا موجودة عندهم ولن تتخلّى عن حمايتهم؟! هل تتخلّى أميركا عن نفط الخليج؟! هل تسمح بتهديده، حتى من دول الخليج نفسها التي ينبع النفط في أراضيها؟!

قال الآخر: أتريد الحقّ يا صاحبي؟

قال الأول: وما يمنعك أن تقوله، ونحن وحدنا،  ولا أحدٌ يسمعنا أو يرانا؟!

قال الثاني: لم يجدوا مغفّلين مثلنا. أنا لا أحمّلهم الذنب ولا ألومهم، وهم يرون من يتبرّع بالموت دونهم. لِمَ يرفضون؟! هل سمعت أنّ أحداً رفض التبرّع بالموت دونه؟! ماذا تكلّفهم كلمة أو حديث يشيدون فيه بحماة البوّابة والساهرين على الحدود والذائدين عن الحمى، وكلمات مشابهة أخرى تجدها في أيّ قاموس، لا تعني شيئاً ولا تكلّف شيئاً.

قال الأول: ولكننا لسنا نحن الّذين سنقاتل الخميني وإيران. دماء غيرنا من العراقييّن، ستسيل. من الجنوب ومن الشمال. هؤلاء هم الّذين سيدفعون فاتورة الحرب. ستسيل دماؤهم، لا دماؤنا. لن تصيبنا الحرب إلاّ من بعيد. أمّا الّذين يحترقون بنارها، فأنت تعرفهم: أسلوب مبتكر نتخلّص به من أعدائنا في الداخل وأعدائنا في إيران. ويخرج قائدنا بطلاً قوميّاً للعرب، لا كالأبطال، لا كعبد الناصر الّذي أسقطته هزيمة ١٩٦٧ أليس هذا كسباً كبيراً للقائد وللحزب، بدماء غيرنا؟!

قال الثاني: لقد كان هؤلاء الّذين تشير إليهم، وقود الحرب دائماً، حتّى التّي نشبت خارج العراق. عليهم الموت ولنا الاسم والإعلان. إنّهم بضاعتنا التي نتاجر بها.

قال الأول: لنعد إلى حديثنا الّذي بدأناه عن قلق السيد الرئيس. هل ترى من سبب له بعدما حطّمنا كل القوى المعادية، وليس في الساحة الآن من لاعب غيرنا كما تعلم؟! أهناك قوّةٌ أو قوى أخرى غير التي ذكرتها تستحق أن تقلقه؟!

قال الثاني: نعم. نسيت الأهم من بينها يا صاحبي.

قال الأول مستغرباً: الأهم! الأهم من كل ما ذكرت! ما هو؟! ماذا بقي من القوى السياسيّة المؤثّرة التي تقلق السيد الرئيس وتشغل باله؟! لقد حطّمناها كلّها، نعم كلّها، ولم يبق منها ما يستحق الذكر.

٧٧

قال الثاني وهو يديم النظر في وجه صاحبه: هذا العدو الجديد الّذي يتمتّع بكل عناصر القوّة والنفوذ، لقد أغفلته، وأغفلناه كلّنا، وهو الّذي يقلق السيد الرئيس كما أظن. حطّمنا الآخرين وبقي هو يزداد قوّةً، كلّما ازددنا بطشاً كأنه يتحدّانا. ألم أقل إنّك نسيت الأهم، في نظري على الأقل؟!

قال الأول: عن أي عدّو تتكلّم؟! الخميني؟! إذن ماذا نفعل الآن؟! كم كل هذه الاستعدادات؟! إننّا نتهيّأ ونهيّئ كل شيء لحربه. سنهزمه قريباً، وسنأتي به إلى بغداد أسيراً، إن لم يقتل هناك. إنّ الخميني هو عدّونا الأوّل.

قال الثاني ضاحكاً بل عدّوهم الأوّل: عدوّ مشايخ الخليج وعدو الغرب.

سنحقّق لهم ما عجزوا مجتمعين عن تحقيقه، سيعترفون كلهم لفضلنا عليهم، لكن مالك تأخذني يميناً ويساراً ولا تذكر اسم هذا العدو الّذي تراه أخطر وأهم من جميع الآخرين؟! قل لي وأرحني. فمنذ التقينا وأنت تتحدّث عن عدّو دون أن تذكر اسمه. أهو لغزٌ، أم تريد أن تختبر معرفتي؟!

قال الثاني: لا والله، لا هذا ولا ذاك. أنا أتكلّم عن هذا المدّ الشيعي الّذي يمثّله ويقوده حزب الدعوة. يبدو أنّنا غفلنا عنه ولم نحسب حسابه جيداً. شغلنا بالآخرين وتركناه - إنه العدو الحقيقي الّذي يهدّدنا. فحزب الدّعوة لا يقوم على مواقف تقليديّه فرديّة ما أسرع ما كنّا نلتف عليها ونتجاوزها. بشكل أو بآخر. خطورة هذا الحزب أنّه يقوم على تنظيم سرّي متماسك ليس من السهل اختراقه، وعلى فكر يحمله شباب مستعدّون للتضحية. وقد رأينا الكثيرين منهم: صمدوا وواجهوا الموت بشجاعة وثبات قلّ نظيرهما، صعدوا المشانق وتحملّوا التعذيب، وأيّ تعذيب! تعذيبنا نحن، الّذي لم تكن بعيداً عنه، والذي لا يتحمّله إلاّ من كان لا يهاب الموت من هؤلاء المؤمنين أصحاب القضايا الكبيرة الّذين لا يرون الموت إلاّ شهادةً وسعادةً. لقد سالت دماؤهم في التعذيب أكثر ممّا سالت في المواجهة، ولم يتخلّوا ولم يجبنوا.

قال الأول: وكيف تقول، غفلنا؟! وهل أكثر من الّذين قتلنا منهم، سرّاً وعلناً؟! ماذا تريدنا أن نفعل؟!

٧٨

قال الثاني: وهذا ما يخيف أكثر، وأظن هذا وراء ما تراه من قلق السيد الرئيس وهمّه وتفكيره.

قال الأول: وما الحل في رأيك؟! إنّ القيادة لم تغفل يوماً ولم تقصّر، خلافاً لرأيك، في مطاردة هذا الحزب ورصد نشاطه وملاحقة حاملي فكره في الداخل وفي الخارج. أأكثر من أن يصدر مجلس قيادة الثورة قراراً يقضي بإعدام كل منتم لحزب الدعوة، لا عند صدور القرار أو بعده فقط، بل حتى من كان منتمياً له في السابق، في أيّ يوم من حياته. هل تعلم بأنّنا أوّل دولة في التاريخ تعاقب على أفعال قبل صدور القانون الّذي يعتبرها جريمةً ويعاقب عليها؟! والله إنه امتياز لحزبنا لم يسبقه إليه أحدٌ. مبدعٌ والله، أنت يا حزب البعث!! من يستطيع أن يبلغ في تفكيره ما بلغت؟! هذا هو جزاء الخونة والعملاء. ليت القرار شمل عوائلهم أيضاً، ولم يقتصر عليهم وحدهم.

قال الثاني: لا تقلق يا عزيزي، سينال هؤلاء، جزاءهم كما تتمنّى، لكن دون نصّ قانونيّ مكتوب. ألا تعرف أن عندنا نصوصاً مكتوبة، ونصوصاً أخرى، أكثر منها، غير مكتوبة، ننفّذها عند الحاجة إليها. ولولا هذه النصوص لأفلت الكثيرون من المجرمين.

قال الأوّل: أرى أنّ هذه النصوص - أقصد غير المكتوبة - هي التي يجب أن نعطيها الأولوية في التعامل مع المجرمين أعداء الشعب، لا النصوص المكتوبة التي قد تقيّد حريّتنا وتمنعنا من التصرّف بما نراه مناسباً من العقوبات.

ضحك الثاني وقال: هذه هي العدالة الثوريّة التي يمثّلها حزبنا: حزب الوحدة والحرية والاشتراكيّة.

ومرت لحظات قبل أن يستأنف الحديث قائلاً: لكن! ثم توقّف بعدها وكأنه لا يريد الاستمرار.

قال الأوّل: لكن! لكن ماذا؟! لِم سكت؟! هل عدت إلى طريقتك في الحديث معي، لا تفصح عمّا تريد إلاّ بعد إلحاح؟! هل عليّ أن أكون عالماً بالغيب عندما أتحدّث معك؟!

٧٩

قال الثاني: مالك ولطريقتي في الحديث وعلم الغيب؟! هلاّ صبرت قليلاً لتعرف ما أردت أن أقول؟! أردت أن أقول: إنّ كل الاجراءات التي اتخذناها والتي سنتخذها من قتل وتعذيب وإرهاب وتفتيش وغيرها بحقّ هذا الحزب والمنتمين إليه، لن تكون مجديةً ما لم نتخلّص من كبيرهم: هذا الساحر المقيم في النجف. وكل حديث آخر، مع وجوده، سيكون ضرباً من العبث لا فائدة منه. نحن أو هو. هذه هي المعادلة، لا تحتمل الساحة الاثنين معاً. علينا أن نعجّل في القضاء عليه قبل أن يقضي علينا.

قال الأول: أظنك تتحدّث عن محمد باقر الصدر؟

قال الثاني: ومن غيره وغير أتباعه، من يستطيع أن يقلق السيد الرئيس؟! إنّه محمد باقر الصدر: هذا الرجل النحيف الجسم الهادئ الصوت الّذي يقيم مع أخته في بيت صغير من إحدى أحياء النجف القديمة. إنّ مظهره لا يشير إلى حالة استثنائية، لكن في الواقع مجموعة قوى فكرية وروحية فريدة، لا قوةً واحدةً. ما زاره وفدٌ من الوفود العربيّة والأجنبية إلاّ خرج ذاهلاً مدهوشاً. يتكلّم في الفلسفة كما يتكلّم في الفقه، ويؤلّف في الاقتصاد كما يؤلّف في الشريعة. إنّه عالم من المواهب والطاقات. هل تعلم أنّه خطر في ذهني أن أزوره وأحضر مجلسه متنكّراً، لولا خوفي من أن أكشف!

قال الأول: والأخطر من ذاك أنّه ليس مجرّد مفكّر، لكنّه قائدٌ ومخطّطٌ على الصعيد العملي والميداني. إنّ فكره في انتشار وتوسّع، وأتباعه يتزايدون في العراق وفي غير العراق. إنه قائد لثورة ستهزّ العالم الشيعي كلّه، وربّما العالم الإسلامي كلّه. وما أظننا إلاّ سنخسر المعركة ضدّه، إن لم نبادر، وبسرعة إلى محاصرته وقطعه عن الاتصال بالعالم الخارجي ومنع أنصاره من الوصول إليه أو حضور دروسه أو تلقّي توجيهاته. قبل أن نتخلّص من الخميني، علينا أن نتخلّص من الصدر: هذا العدو الّذي يعيش معك على أرض واحدة، ولا تدري متى ينقض عليك. لكنّي أتساءل أحياناً: كيف استطاع أن يبلغ ما بلغ من مرتبة عالية، وهو بعد في هذه السن. إنّه كما أسمع لم يتجاوز الخامسة والأربعين أو دونها.

قال الثاني: حين يكون الحديث عن المواهب، فعلينا أن نترك السن. الموهبة لا تعرف السن يا عزيزي، ولا تعترف به.

٨٠