المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى0%

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 353

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وسام الخطاوي
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 353
المشاهدات: 46202
تحميل: 5974

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 353 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46202 / تحميل: 5974
الحجم الحجم الحجم
المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) بعد كلّ ذلك: (فإذا علم أنّ وجود كون الخبر كذباً لا يصحّ على هذه الجماعات فليس بعد ارتفاع كونه كذباً إلاّ أنّه صدق، وأي عجب واستبعاد؛ لأنّ يكون أحدنا يلقى بنفسه ويسمع الخبر ممّن هو على صفة المتواترين). (1)

ويذكر الشريف المرتضى (قدس سرّه) صفة وشرط مهم في التواتر، وهو: أنّه ليس من شرط الخبر المتواتر أن يكون رواته متباعدي الديار؛ لأنّ التواطؤ قد يحصل بأهل بلد واحد. (2)

المتحمِّل للخبر، والمُتحمَّل عنه، وكيفية ألفاظ الرواية عنه:

هذا البحث وإن كان يرتبط ارتباطاً رئيسياً بعلم الدراية، لكن يمكن بنحو وآخر جرّه إلى علم الحديث، فمن هذا البحث تعرّضنا إليه بنحو الإشارة.

يتطرّق الشريف المرتضى (قدس سرّه) - هنا تحت هذا الفرع - إلى عدّة محاور لتوضيح بعض المناهج الروائية:

المحور الأوّل: المتحمِّل للخبر، وهو على قسمين:

القسم الأوّل: الذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته وأمانته.

القسم الثاني: والّذي يذهب إلى عدم وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة، يقول: إنّ العمل في مخبر الأخبار تابع للعلم بصدق الراوي، فالشرط الوحيد عنده هو كون الراوي صادقاً، ولا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمناً أو كافراً أو فاسقاً أو عدلاً.

واختار الشريف المرتضى (قدس سرّه) القسم الثاني طبعاً. (3)

____________________

(1) المصدر السابق: ص338.

(2) المصدر السابق.

(3) الذريعة إلى أُصول الشريعة: ج2، ص555 - 556.

١٦١

المحور الثاني: راوي الحديث، فإنّه لا يجوز أن يروي إلاّ ما سمعه من حدّث عنه أو قرأه عليه فأقرّ له به.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (فإذا سمع الحديث من لفظه فهو غاية التحمّل). (1)

المحور الثالث: ألفاظ الرواية، وهي على أقسام ثلاثة:

1 - المناولة. 2 - المكاتبة. 3 - الإجازة.

وأوضح الشريف المرتضى (قدس سرّه) المناولة: وهي أن يشافه المحدّث غيره، ويقول له في كتاب أشار إليه: (هذا الكتاب سماعي من فلان).

أمّا المكاتبة فهي: أن يكتب إليه وهو غائب عنه إنّ الّذي صحّ من الكتاب الفلاني هو سماعي. (2)

وعلى هذه التفرقة التعريفية تصبح المناولة أقوى من المكاتبة، كما هو واضح.

أمّا الإجازة: فيقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) فيها: (لا حكم لها؛ لأنّ ما للمحتمل أن يرويه له ذلك، أجازه له أو لم يجزه، وما ليس له أن يرويه محرّم عليه مع الإجازة وفقدها). (3)

حجّية ظواهر السنّة في إثبات الأحكام الشرعية:

حجّية ظواهر القرآن الكريم أو السنّة النبوية مقطوع بها معلوم صحّتها، ويلحق بها الشريف المرتضى (قدس سرّه) بعض ما اتّفق في بعض الأحكام أن تكون معلومة من مذاهب أئمّتنا المتقدّمين على الإمام الغائب (عليهم السلام)، الّذين ظهروا وعرفوا وسئلوا وأجابوا وعلّموا الأحكام، وما جرى مجرى هذه المسائل من الأُمور الّتي ظهرت عنهم واشتهرت - كما عبر الشريف المرتضى (قدس سرّه).

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وإذ علمت مذهبهم وكانوا عندنا حجّة معصومين

____________________

(1) المصدر السابق: ص 556.

(2) المصدر السابق: ص 560 - 561.

(3) المصدر السابق: ص 561.

١٦٢

كفى ذلك في وقوع العلم بها والقطع على صحّتها، ولا اعتبار بمن خالفنا في العمل بشيء ممّا عددناه عنهم، ووقع أن يكون مشاركاً في المعرفة بذلك؛ لأنّ المخالف في هذا: إمّا أن يكون معانداً، أو مكابراً، أو يكون ممّن لم تكثر خلطته لنا، أو تصفّحه لأخبارنا، أو سماعة من رجالنا؛ لأنّ العلم الضروري ربّما وقف على أسباب من مخالطته، أو مجالسة، أو سمع أخبار مخصوصة). (1)

عدم حجّية الأخبار المنقولة عن طريق أصحاب الحديث:

يطرح الشريف المرتضى (قدس سرّه) عدّة إشكالات، ويرجع معظمها إلى مسالك أهل الحديث، والّذين كان يعتقد بأنّهم رووا ما سمعوا، وحدّثوا به، ونقلوا عن أسلافهم، يقول (قدس سرّه) في حقّهم: (وليس عليهم أن يكون حجّة ودليلاً في الأحكام الشرعية أو لا يكون كذلك؛ فإن كان في أصحاب الحديث من يحتجّ في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحّته فقد زل وزوّر، وما يفعل ذلك من يعرف أُصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حقّ معرفتها، بل لا يقع مثل ذلك من عامل، وربّما كان غير مكلّف). (2)

هكذا يطعن الشريف المرتضى (قدس سرّه) بأهل الحديث، بل قد يحمل عليهم أكثر من هذا، ويعتبرهم قد خرجوا عن الأُصول العقلية الصحيحة؛ وذلك لأنّهم قد يحتجّون في أُصول الدين من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة بأخبار الآحاد. (3)

ويقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) أكثر من ذلك: (وربّما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه اغتراراً بأخبار الآحاد المروية، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتجّ بالخبر الّذي ما رواه ولا حدث به ولا سمعه من ناقله فيعرفه بعدالة أو غيرها، حتّى لو قيل له في بعض الأحكام: من أين أثبته وذهبت إليه؟ كان جوابه: لأنّي وجدته في

____________________

(1) جوابات المسائل الموصليات الثالثة: ص209 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأُولى).

(2) المصدر السابق: ص211.

(3) المصدر السابق.

١٦٣

الكتاب الفلاني، ومنسوباً إلى رواية فلان بن فلان، ومعلوم عند كلّ من نفى العلم بأخبار الآحاد ومن أثبتها وعمل بها أنّ هذا ليس بشيء يعتمد، ولا طريق يقصد، وإنّما هو غرور وزور). (1)

العمل بأخبار الجمهور:

عن الأئمّة (عليهم السلام) أنّه عند حصول التعارض بين الأخبار يؤخذ ما هو أبعد من قول الجمهور والرأي العام.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (ليس ينبغي أن ترجع عن الأُمور المعلومة والمذاهب المشهورة المقطوع عليها بما هو مشتبه ملتبس محتمل). (2)

وعلى هذا الأساس فيعتقد قائلاً (قدس سرّه): (فأمّا الرّواية بأن يُعمل بالحديثين المتعارضين بأبعدهما من مذهب العامّة، فهذا لعمري دوري (3) ، فإذا كنّا لم نعمل بأخبار الآحاد في الفروع كيف نعمل بها في الأُصول الّتي لا خلاف بيننا في أنّ طريقها العلم والقطع؟!). (4)

ولا نمتلك أكثر من هذين النصّين حتّى نفصل هذا البحث، ونشرح أُصوله.

____________________

(1) المصدر السابق: ص212.

(2) جوابات المسائل الموصليات الثالثة: ص211 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأُولى).

(3) ينبغي التنبيه على مسألة مهمّة، وهي: أنّه نقل الفقيه ابن إدريس (قدس سرّه) هذا المقطع القيّم في كتابه السرائر، ولكن بهذه الصورة: (قد روي) بدل: (دوري)، فحينئذٍ يختلف المعنى الّذي توخّيناه تماماً، والظاهر أنّ نسخة السرائر أصحّ (السرائر: ج1، ص50).

(4) جوابات المسائل الموصليات الثالثة: ص212 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأُولى).

١٦٤

الفصل الرابع

منهجه في المباحث العقائدية والكلامية

تمهيد:

تقييم طريقة العمل في الأخبار العقائدية.

التوحيد والعدل الكلامي.

تأويل ظواهر الأخبار.

منهج العدول عن الظواهر المحالة.

المنهج العملي في ظواهر الأخبار.

أساس المنهج الظاهر في الأدلّة القطعية.

القياس المنطقي في الأدلّة العقائدية.

المناهج المنطقية في المسائل العقائدية.

الأسس العقلية الشيعية في مواجهة المغالطة والجدل الاعتزالي.

الدلالة العقلية التنزيهية.

منهج قياس الأولوية في الأحكام.

الجمع بين المناقشات السَّنَدية والدلالية.

منهجية الأسس الدلالية.

المنطق الروائي في تقييم الرواة.

التضعيفات السندية.

البحوث السندية في التراث العقائدي.

الخبر المتواتر والنص الجلي في المسائل العقائدية.

اللغة والأسس الكلامية.

معطيات اللغة العربية في المناهج العقائدية.

منطوق الأخبار والقضايا العلمية.

الدقّة التاريخية في واقع الأخبار العقائدية.

الحقائق الشيعية ونزاهتها من الغلو.

حجية الخبر الّذي قامت الحجّة به على أصله.

١٦٥

١٦٦

تمهيد:

ركّز الشريف المرتضى (قدس سرّه) على منحيين في منظومته الكلامية:

المنحى الأوّل: منازلاته مع القاضي عبد الجبّار المعتزلي، المنظّر الكبير للفكر الاعتزالي، وبالخصوص في كتابه المغني في أبواب التوحيد والإمامة وبالأخصّ ما يتعلّق منه بالإمامة (المجلّد العشرون بقسميه الأوّل والثاني).

المنحى الثاني: منهج المنطق التنزيهي المطابق للأُصول العقلية عند الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وبالخصوص في كتابه القيّم تنزيه الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام).

وهناك الكثير من التفاتاته العقلية في الأُصول الاعتقادية مبثوثة في رسائله وذخيرته وأماليه، وهي مجموعة كبيرة من الأُسس والمناهج الاعتقادية. والكلّ - مع المنحيين السابقين - مجموعة عقائدية متكاملة في باب الأُصول الاعتقادية الشيعية.

ونحن في هذا العرض سوف نتوخّى الأُسس الروائية في المنهجية الاعتقادية للشريف المرتضى (قدس سرّه)، ونذكر تعريفاً مختصراً لكلّ من الشافي، والمغني، وتنزيه الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، والذخيرة؛ لنحيط بالأجواء العلمية لكلّ كتاب.

ثمّ نعرّج على أصل الاعتقادات وننقّح المطالب بصورة كلّية؛ لنخرج بأُصول كلّية تشخّص لنا المنهج العقائدي والروائي، ومقدار معطيات أُصول العقائد الشيعية، ومدى استجوابها - في فكر الشريف المرتضى (قدس سرّه) طبعاً - للإشكالات المذهبية

١٦٧

والرؤي العقلية والروائية.

فنقول - وبالله التوفيق -: يعتبر كتاب الذخيرة في علم الكلام من الكتب المهمّة في علم الكلام، والشيعي منه بالخصوص، وقبله قد كتب الشريف المرتضى (قدس سرّه) الملخّص - الّذي لازال مخطوطاً - ولكن هناك بعض الفوارق بين الكتابين، فإنّ كتاب الذخيرة شديد الاختصار في أوائله تعويلاً على ما جاء في الملخّص، وفيه بسطٌ في أواخره؛ سدّاً للفراغ الموجود بسبب عدم إتمام الكتاب الأوّل. مع امتياز الثاني بشموله على جلّ الأبواب الكلامية من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، وما يتّصل بها من سائر المسائل المبحوث عنها في الكتب المعنية بعلم الكلام.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في آخر كتاب الذخيرة: (وبين أوائل هذا الكتاب وأواخره تفاوت ظاهر، فإنّ أوّله على غاية الاختصار، والبسط والشرح معتمدان في أواخره. والعذر في ذلك: أنّا بدأنا بإملائه والنية فيه الاختصار الشديد تعويلاً على أنّ الاستيفاء والاستقصاء يكونان في كتاب الملخّص، فلمّا وقف تمام إملاء الملخّص - لعوائق الزمان الّتي لا تملك - تغيّرت النية في كتابنا هذا، وزدنا في بسطه وشرحه، وإذا جمع بين ما خرج من كتاب الملخّص وجعل ما انتهى إليه كأنّه لهذا الكتاب، وجد بذلك الكلامَ في جميع أبواب الأُصول مستوفي مستقصى). (1)

في صدر الكتاب قد ذكر اسم الذخيرة هكذا: كتاب ذخيرة العالم وبصيرة المعلّم، وهو من تتمّة كتاب الملخّص في أصول الدين).

ويحتوي كتاب الذخيرة على أسمى المناهج الروائية - كما يأتي البحث عنها في ذلك مفصّلاً - من قبيل ضروب الأخبار ومنهج الخبر المتواتر، والقياس المنطقي في الأدلّة الاعتقادية، والاتّفاق على أصل الخبر، والاختلاف في التأويل.

أمّا بالنسبة إلى رسائله فقد خرجت مجاميع أربعة منها وقد احتوت على أغنى

____________________

(1) الذخيرة في علم الكلام: ص607.

١٦٨

المباحث المنهجية في العلوم العقائدية. وسوف يأتي من خلال البحث تفصيل هذه المناهج كالعمل بالظواهر إلاّ لضرورة، والعدول عن الظاهر؛ لأنّه يلزم منه المحال، وكذلك العمل بالظواهر، وترك التأويل، والمسائل العلمية، ومنطق الأخبار وغيرها من المباحث المنهجية.

والمهمّ هنا هو التنبيه على أنّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) لم يخالف أُسسه المنهجية المتعارفة في جميع كتبه ورسائله إلاّ في طريقة البحث والعرض. وقد انفرد بمناهج لا نشاهدها في الفصول والفروع السابقة واللاحقة.

نعم، هناك تهافت مصداقي في بعض المباحث الّتي يطرحها الشريف المرتضى (قدس سرّه)، وقد نقدنا بعض مناهجه المعرفية الاعتقادية في هذا الفصل؛ لأهمّيتها وتأثيراتها على الرأي العام. نعم في الأُصول الثابتة لم يعدل الشريف المرتضى (قدس سرّه) عن شيء من مبانيه، وخصوصاً الأُصول العقلية الثابتة عنده، ولكن في تطبيق المصاديق يقع في بعض الإشكالات - كما يأتي ذلك -.

وهذا التهافت نشهده في أماليه (غرر الفوائد ودر القلائد)، ولكن الرصانة والتحقيق الدقيق نلمسها في كتاب الذخيرة وبعض مباحث رسائله، ويمكن القول أنّ الأمالي كان مجلسها عامّاً يحضره جمع كثير من مختلف المذاهب الإسلامية؛ ولذلك راعى فيه الجمع العام، بخلاف الذخيرة والرسائل فهي للرعيل الشيعي الإمامي، فلذلك تختلف مبانيها كما في الأمالي.

أمّا بالنسبة إلى كتاب تنزيه الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، فهو من الكتب النادرة في التراث الإمامي، فقد أوّل في هذا الكتاب والأحاديث الدالّة على وقوع كبيرة أو صغيرة من الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) بتأويلات حسنة، وبتعبير الشريف المرتضى (قدس سرّه): (عن الذنوب والقبائح كلّها)، والردّ على من خالف في ذلك على اختلافهم وضروب مذاهبهم.

١٦٩

وتأمّل السيّد الكنتوري (قدس سرّه) في ذلك مدعياً أنّه: (ربّما أوّل الشريف المرتضى (قدس سرّه) بعض الآيات على مذهب غير الإمامية القائلين بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) بعد البلوغ، أو بعد النبوّة لا قبلها....

واستشهد لذلك: (كما وقع لأُخوة نبيّ الله يوسف (عليهم السلام) حيث ذكر بعد ذكر ما هو الموافق لمذهبنا أنّه قد قيل: إنّ تلك الأفعال صدرت عنهم في الصغر، فإن ثبت ذلك يسقط المسألة، وإنّما أراد سقوط المسألة عند القائلين بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) بعد البلوغ لا قبله) (1) . (2)

____________________

(1) كشف الحجب والأستار: 14، رقم 714.

(2) لا بأس هنا بتحرير موضوع النزاع في هذه الفقرة الّتي أشار إليها السيّد الكنتوري (قدس سرّه)؛ رفعاً للتهافت الّذي سوف يرتكز في ذهن القارئ، ولنرى مقدار صحّة هذه الدعوى من السيّد الكنتوري (قدس سرّه)، فنقول:

اختلف في نزاهة الأنبياء (عليهم السلام) عن الذنوب، فذهبت الإمامية: إلى أنّه لا يجوز على الأنبياء (عليهم السلام) شيء من المعاصي والذنوب كبيراً كان أو صغيراً، لا قبل النبوّة ولا بعدها.

ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفية من الأنبياء (عليهم السلام) قبل النبوّة وفي حالها، وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغائر.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) توفيقاً بين الرأيين: واعلم أنّ الخلاف بيننا وبين المعتزلة في تجويزهم الصغائر على الأنبياء - صلوات الله عليهم - يكاد يسقط عند التحقيق؛ لأنّهم إنّما يجوّزون من الذنوب ما لا يستقرّ له استحقاق عقاب، وإنّما يكون حظّه تنقيص الثواب على اختلافهم أيضاً في ذلك؛ لأنّ أبا عليّ الجبّائي يقول: إنّ الصغيرة يسقط عقابها من غير موازنة، فكأنّهم معترفون بأنّه لا يقع منهم ما يستحقّون به الذمّ والعقاب.

وهذه موافقة للشيعة في المعنى؛ لأنّ الشيعة إنّما تنفي عن الأنبياء (عليهم السلام) جميع المعاصي من حيث كان كلّ شيء منها يستحقّ به فاعله الذمّ والعقاب؛ لأنّ الإحباط باطل عندهم، وإذا بطل الإحباط فلا معصية إلاّ ويستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب وإذا كان استحقاق الذمّ والعقاب منفيّاً عن الأنبياء (عليهم السلام) وجب أن تنتفي عنهم سائر الذنوب، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلّقاً بالإحباط، فإذا بطل الإحباط فلا بدّ من الاتّفاق على أنّ شيئاً من المعاصي لا يقع من الأنبياء (عليهم السلام) من حيث يلزمهم استحقاق الذمّ والعقاب، لكنّه يجوز أن نتكلّم في هذه المسألة على سبيل التقدير، ونفرض أنّ الأمر في الصغائر والكبائر على ما تقوله المعتزلة، ومتى فرضنا ذلك لم نجوّز أيضاً عليهم الصغائر؛ لما سنذكره ونبيّنه إن شاء الله تعالى (تنزيه =

١٧٠

هذه المفارقة العقائدية من الشريف المرتضى (قدس سرّه) ليست المفردة الوحيدة في حياته، فقد نرى الكثير ما هو خلاف مباني الإمامية في جميع مناحيه الفكرية، وسوف نسلط الضوء عليها إن شاء الله في هذا الفصل، ولنرى مقدار معطيات هذه البحوث في الوسط الشيعي، ومقدار تفاعل الأطراف معه.

أمّا بالنسبة إلى كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبّار (1) المنظّر الكبير للفكر المعتزلي، وهو من الزعماء الّذين بلغوا النهاية في جمع الشُّبه - على حدّ تعبير الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مقدّمة كتابه الشافي - ورصدها في صالح مذهبه وطعن الطائفة الإمامية.

وكتابه المغني يعدّ من الموسوعات الضخمة والمطوّلة العلمية خصوصاً باب الإمامة منه، فقد أورد فيه قويَّ ما اعتمده شيوخه مع زيادات يسيرة سبق إليها،

____________________

= الأنبياء والأئمة (عليهم السلام): ص34، 35.

إذاً لا خلاف مع الشريف المرتضى (قدس سرّه) في هذه المسألة العقائدية.

(1) القاضي عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار الهمداني، كان في أوّل أمره أشعري الأُصول شافعي الفروع. ثمّ تأثّر بمن حضر عندهم من علماء المعتزلة فتحوّل إلى الاعتزال. ومن جملة من أخذ عنهم إسحاق بن عيّاش المعتزلي المتوفّى (336هـ)، وكان ابن عيّاش هذا من معتزلة البصرة من تلاميذ أبي هاشم الجبائي المتوفّى (321هـ).

ثمّ انتقل القاضي المعتزل إلى بغداد وحضر مجلس أبي عبد الله الحسين بن علي البصري المتوفّى (446هـ) مدّة من الزمن، فكان من أبرز تلامذته حتّى لمع نجمه وطار صيته، فاستدعاه الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة البويهي إلى الرأي، وكان الصاحب واحد زمانه علماً وفضلاً وتدبيراً وجودة رأي.

فنال القاضي عبد الجبّار الحظوة عند الصاحب (رحمه الله) والمنزلة لديه. ولم يمنع الصاحب ما بينهما من الخلاف في المذهب أن يوليه القضاء ويلقّبه بقاضي القضاة؛ لذلك نرى القاضي عبد الجبّار لم يتقِ الصاحب (رحمه الله)، ولم يتحاشاه، ولم يرع جانبه، فأملى آراءه وأقوال مشائخه من المعتزلة في الإمامة بمنتهى الحرية، وحاول في كتاب الإمامة من المغني أنّ يفند أقوال الإمامية وعقيدتهم بكلّ ما أوتي من حول وقوّة ويشن عليهم حرباً شعواء لا هوادة فيها. (انظر: مقدمة الشافعي في الإمامة: ج1، ص8 - 9، 11).

١٧١

وتهذيب مواضع تفرّد بها. (1)

من هنا أحسَّ بالأهمية البالغة في ذلك العصر لمواجهة هذه الموجة العارمة والمنتشرة في آفاق ربوع الأصقاع الإسلامية، حتّى نجد أنّ كتاب المغني بإضافة ردّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) يلخّصه شيخ الطائفة الطوسي (قدس سرّه) مرّة أُخرى في تلخيص الشافي بسبك جديد وطرز حديث.

ولا نغالي إذا قلنا: إنّ ردّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) أفضل أنواع الردّ والمناظرة، ولو لا هذا الردّ من الشريف المرتضى (قدس سرّه) لما أمكن ركب هذه الصعبة؛ فإنّه اعتمد على أقوى الشُّبه الاعتقادية - كما هو دأب المعتزلة في تدقيقاتهم العقلية -، ولكن القوّة الفكرية العقائدية للشريف المرتضى (قدس سرّه) استطاعت أن تواجه هذه العاصفة.

فتصدّى الشريف المرتضى (قدس سرّه) لردّ هذا الكتاب بكلّ مناحيه وإشكالاته العقائدية وسجالاته العقلية بكتاب جامع لأُصول الإمامة وفروعها، ومحيطاً بالطرق الاستدلالية والنكت المحرّرة بما لا يوجد في شيء من الكتب المصنّفة على حدّ تعبير الشريف المرتضى (قدس سرّه)؛ ولذلك قد قال فقيد العلم والأدب الشيخ محمّد جواد مغنية (رحمه الله): فتصدّى لنقضه الشريف المرتضى في كتاب ضخم أسماه: الشافي، وقد جاء فريداً في بابه، وبصورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه - على الأصحّ - [وقد] عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها كمبدأ ديني واجتماعي وسياسي، وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنّها ضرورة دينية واجتماعية، وأنّ علياً هو الخليفة الحقّ.... (2)

وقد قسّم القاضي عبد الجبّار اعتراضاته إلى قرآنية وحديثية، ونحن تعرّضنا إلى القسم الثاني لأجل إخراج المنهجية الحديثية بينه وبين الشريف المرتضى (قدس سرّه)؛ لنرى

____________________

(1) انظر: مقدّمة كتاب الشافي في الإمامة: ج1، ص33.

(2) انظر مقدّمة الشافي في الإمامة: ج1، ص19.

١٧٢

مقدار المستنقع الّذي وقع فيه القاضي عبد الجبّار، مراعين شمول البحث للجهات العقائدية، ومقتصرين على محاور الرواية باختصار.

فإنّ الشاخص البارز في حياة الشريف المرتضى (قدس سرّه) - كما قلنا: - إطاحته بعميد المعتزلة القاضي عبد الجبّار - وما تضمّنه كتابه المغني - قسم الإمامة - وبالأحرى أنّ دعامة إشكالات المعتزلة قد انهارت بانهيار القاضي، فلم تقم لهم قائمة بعد الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلاّ بمقتطفات لابن أبي الحديد. (1)

ونحن في استعراضنا المنهجي لكتاب الشافي سوف نرى سجالاته الروائية في كلّ موضع، ونأخذ كلّ قضية تضمّنت الحديث عن رواية من الروايات؛ لنرى كيفية منهجه في الاستفادة من الروايات.

ولا بدّ أن نؤكّد مرّة أُخرى على أن تعاملنا هو في تفسير الروايات الواردة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) فقط، ولا نذكر كلّ خبر عن غيرهم، بل كان مقصودنا في هذه الدراسة هي رؤية وجهات هذين العلمين في الروايات والأخبار الاعتقادية ومقدار تفسيراتها ومعطياتها، ولا نتطرّق إلى الحوادث والأخبار التاريخية وغيرها واختلاف وجهات النظر فيها، وكيف يتمّ الاستدلال بها أو ردّها.

نعم، لم يراع الشريف المرتضى (قدس سرّه) كباقي المحقّقين التفريق بين الخبر والرواية، ولكن اقتصرنا هنا على الرواية الواردة عن المعصوم (عليه السلام) دون الخبر الّذي يشمل غير الإمام المعصوم (عليه السلام).

تقييم طريقة العمل في الأخبار العقائدية:

الشريف المرتضى (قدس سرّه) دقيق النظرة في الأخبار، ويعرف مطبّات البحوث فيها، فهو

____________________

(1) لا بدّ أنّ يعلم أنّ أبا الحسن البصري قد كتب ردّاً على الشافي، وهناك ردود مطوّلة مهمّة للشارح ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة، علماً أنّ هناك ردّاً على جميع إشكالات شرح نهج البلاغة للمحدّث الجليل الشيخ البحراني باسم: سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد، وهو كبير مخطوط.

١٧٣

يقول: (اعلم أنّه لا يجب الإقرار بما تضمّنه الروايات: فإنّ الحديث المروي في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا يتضمّن ضروب الخطأ وصنوف الباطل:

1 - من محال لا يجوز أن يتصوّر.

2 - ومن باطل قد دلّ الدليل على بطلانه وفساده، كالتشبيه والجبر والرؤية والقول بالصفات القديمة، ومن هذا الّذي يحصي أو يحصر ما في الأحاديث من الأباطيل. ولهذا وجب:

أ - نقد الحديث بعرضه على العقول.

ب - فإذا سلم عليها جوّز أن يكون حقّاً والمخبر به صادقاً.

وليس كلّ خبر جاز أن يكون حقّاً وكان وارداً من طريق الآحاد يقطع على أنّ المخبر به صادقاً.

ثمّ يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (ثمّ ما ظاهره من الأخبار مخالف للحقّ ومجانب للصحيح على ضربين:

1 - فضرب يمكن فيه تأويل له مخرج قريب لما يخرج إلى شديد التعسّف وبعيد التكلّف، فيجوز في هذا الضرب أن يكون صادقاً، فالمراد به التأويل الّذي خرّجناه.

2 - فأمّا ما لا مخرج له ولا تأويل إلاّ بتعسّف وتكلّف يخرجان عن حدّ الفصاحة، بل عن حدّ السداد، فإنّا نقطع على كونه كذباً لا سيّما إذا كان عن نبيّ أو إمام مقطوع فيهما على غاية السداد والحكمة، والبعد عن الألغاز والتعمية). (1)

وبعد هذا التقييم المفصّل لمسلك الأخبار العقائدية يأتي الشريف المرتضى (قدس سرّه) بمثال لهذا الضابط الكلّي حول الحديث المروي في كتاب أُصول الكافي - كتاب التوحيد منه - فيقول: إنّ هشام بن الحكم سأل الصادق (عليه السلام) عن قول الزنادقة له:

____________________

(1) جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة: ص409 - 410 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأُولى).

١٧٤

أيقدر ربّك يا هشام على أن يدخل الدنيا في قشر البيضة من غير أن تصغر الدنيا ولا تكبر قشر البيضة؟ وأنّ الصادق (عليه السلام) قال له: يا هشام، أُنظر أمامك وفوقك وتحتك وأخبرني عمّا ترى.

وأنّه قال: أرى سماءً وأرضاً وجبالاً وأشجاراً وغير ذلك، وأنّه قال له: الّذي قدر أن يجعل هذا كلّه في مقدار العدسة - وهو سواد ناظرك - قادر على ما ذكرت.

وهذا معنى الخبر وإن اختلف بعض اللفظ. (1)

وكيف يصحّ من الإمام المعصوم تجويز المحال؟!

ولا فرق في الاستحالة بين دخول الدنيا في قشر البيضة وهما على ما هما عليه، وبين كون المحل أسود أبيض ساكناً متحرّكاً في حال.

وهل يجيء من استحالة الإحاطة بالجسم الكبير من الجسم الصغير مقابلة سواد الناظر لما قابله، مع اتصال الهواء والشعاع بينه وبينه؟!

وأين حكم الإحاطة على ذلك الوجه من حكم المقابلة على هذا الوجه؟!

وهل لإزالة معرّة هذا الخبر الّذي رواه هذا الرجل في كتابه وجعله من عيون أخباره سبيل بتأويل يعتمد عليه جميل؟!

وبعد الضابطة الّتي نقلها عن الشريف المرتضى (قدس سرّه) يقول: (وهذا الخبر المذكور بظاهره يقتضي تجويز المحال المعلوم بالضرورات فساده وإن رواه الكليني (رحمه الله) في كتاب التوحيد، فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا - رحمهم الله تعالى - في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة، والأغلب الأرجح أن يكون هذا خبراً موضوعاً مدسوساً.

ويمكن فيه تخريج على ضرب من التعسّف، وهو أن يكون الصادق (عليه السلام) سُئل عن هذه المسألة بحضرة قوم من الزنادقة والملحدين للأنبياء، الّذين لا يفرّقون بين

____________________

(1) رواه في أُصول الكافي: ج1، ص79، ح4.

١٧٥

المقدور والمستحيل، فأشفق (عليه السلام) أن يقول: إنّ هذا ليس بمقدور؛ لأنّه يستحيل. فيقدّر الأغبياء أنّه (عليه السلام) قد عجّزه تعالى، ونفي عن قدرته شيئاً مقدوراً، فأجاب به، وأراد أن الله تعالى قادر على ذلك لو كان مقدوراً، ونبّه على قدرته على المقدورات بما ذكره من العين، وأنّ الإدراك يحيط بالأُمور الكثيرة، وإلاّ فهو (عليه السلام) أعلم بأنّ ما أدركه بعيني ليس بمنتقل إليها ولا حاصل فيها، فيجري مجرى دخول الدنيا في البيضة.

وكأنّه (عليه السلام) قال: من جعل عيني على صفة أدرك معها السماء والأرض وما بينهما لابدّ أن يكون قادراً على كلّ حال مقدوراً، وهو قادر على إدخال الدنيا في البيضة لو كان مقدوراً. وهذا أقرب ما يؤل عليه هذا الخبر الخبيث الظاهر. (1)

التوحيد والعدل الكلامي:

التوحيد والعدل أصلان من الأُصول الإسلامية، ومن ركائز العقيدة الإسلامية، وقد خاض فيهما كلّ فريق بالتأليف والتصنيف، ومن بين هؤلاء يأتي دور المتكلّمين الّذين كان لهم القسط الأكبر من المعارف الإسلامية الكلامية، وقد كتب جمعٌ غفيرٌ قبل الشريف المرتضى (قدس سرّه) وبعده، وأطالوا في التصنيف والتأليف في خصوصهما، وقد كتب الشريف المرتضى (قدس سرّه) كتباً كثيرةً في هذا المجال كالملخّص والذخيرة وشرح جمل العلم والعمل والشافي، وبثّ الكثير من بحوثه الكلامية في أماليه ورسائلة، بل لا نغالي القول بأنّ الشاخص الأكبر في بحوثه هو المسائل الكلامية.

وقد أتى الشريف المرتضى (قدس سرّه) بمسألة نافعة في المقام، وهي: (اعلم أنّ أُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وخطبه؛ فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه، ولا غاية وراءه.

ومن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأُصول، وروي عن

____________________

(1) جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة: ص408 - 411 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأُولى).

١٧٦

الأئمّة من أبنائه (عليهم السلام) من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة، ومن أحبّ الوقوف عليه وطلبه من مظانّه أصاب منه الكثير العزيز، الّذي في بعضه للصدور السقيمة ونتاج للعقول العقيمة). (1)

ولا يكتفي الشريف المرتضى (قدس سرّه) بهذا القدر من القاعدة الكلّية حتّى يأتي بأقوال مجموعة من المتكلّمين، والّذين انتشرت آرائهم في عالم الإسلام؛ ليؤكّد صحّة وسقم أقوالهم، منهم:

الأوّل: الحسن بن أبي الحسن البصري.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في حقّه: وأحد من تظاهر من المتقدّمين بالقول بالعدل... فمن تصريحه بالعدل ما رواه علي بن الجعد... وكان الحسن بارع الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ وذمّ الدنيا، أو جلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهو القدرة والغاية. (2)

ثمّ ينقل عدّة أخبار في ذلك ويقول (قدس سرّه): (وهذا الباب إن ولجناه اغترفنا من ثبج (3) بحر زاخر، أو شؤبوب (4) غمام ماطر، وكلّ قول في هذا الباب لقائل إذا أضيف إليه، أو قويس به كان كإضافة القطرة إلى الغمرة، أو الحصاة إلى الحرَّة، وإنّما أشرنا إليه إشارة وأومأنا إليه إيماء، ثمّ نعود ما كنّا فيه). (5)

الثاني: يقف الشريف المرتضى (قدس سرّه) وقفة المتأمّل من الشيخ الكليني (رحمه الله) وكتابه الكافي، وخصوصاً أبواب التوحيد منه، يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في ضمن أحد

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص148.

(2) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص153.

(3) ثبج البحر: وسطه أو معظمه.

(4) الشؤبوب: الدفعة من المطر.

(5) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص154.

١٧٧

تفاسيره التوحيدية والّتي تقدّمت في تقييم طريقة العمل في الأخبار العقائدية: (وهذا الخبر المذكور... وإن رواه الكليني (رحمه الله) في كتاب التوحيد فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا - رحمهم الله تعالى - في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة). (1)

الثالث: قد نقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) عدّة تفاسير خبرية وروائية عن ابن قتيبة في عدّة مباحث عقائدية، وأنّه - كما يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) - قد خلط وأتى بما ليس لمرضي - وقد هاجمه الشريف المرتضى (قدس سرّه) مهاجمة شديدة، وأوضح مطبّات بحثه وفكره، حتّى أنّه يقول في بعض استظهارات ابن قتيبة في إحدى الأخبار: (ليس الّذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء). (2)

فتحتم علينا أن نذكر بعض نماذج مطبّاته؛ لنعرف منهجية الشريف المرتضى (قدس سرّه) في نقاشه مع بعض مفسّري العقائد الإسلامية:

المطبّة الأُولى: في الإشكال الواقع في الخبر الّذي روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، حينما قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده).

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (فأوّل ما نقوله: إنّ الخبر مطعون عند أصحاب الحديث على سنده، وقد حكى ابن قتيبة في تأويله وجهاً عن يحيى بن أكثم، طعن عليه، وضعّفه، وذكر عن نفسه وجهاً آخر، نحن نذكرهما، وما فيهما، ونتبعهما بما نختاره.

قال ابن قتيبة: كنت حضرت يوماً مجلس يحيى بن أكثم بمكّة، فرأيته يذهب إلى أنّ البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد الّتي تغفر الرأس في الحرب، وأنّ الحبل من حبال السفن، قال: وكلّ واحد من هذين يبلغ ثمنه دنانير كثيرة، قال: ورأيته

____________________

(1) جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة: ص410 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأُولى).

(2) أمالي الصدوق (غرر الفرائد ودرر القلائد): ج2، ص6.

١٧٨

يعجب بهذا التأويل، ويبدي فيه ويعيد، ويرى أنّه قطع به حجّة الخصم.

قال ابن قتيبة: وهذا إنّما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلم، وليس هذا موضع تكثيرٍ لما يأخذه السارق فيصرفه إلى بيضةٍ تساوي دنانير، وحبلٍ لا يقدر السارق على حمله، ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلاناً! عرّض نفسه للضرر في عقد جوهر، وتعرّض لعقوبة الغلول في جراب مسك، وإنّما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه الله، تعرّض للقطع في حبٍّ رثٍّ، أو إداوَةٍ خلقٍ، أو كبّة شعر؛ وكلّ ما كان من ذلك أحقر كان أبلغ.

قال: والوجه في الحديث أنّ تعالى لمّا أنزل على رسوله (صلّى الله عليه وآله): ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ) (1) ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)، على ظاهر ما أنزل عليه في ذلك الوقت، ثمّ أعلمه الله تعالى بعدُ: أنّ القطع لا يكون إلاّ في ربع دينار فما فوقه، ولم يكن (عليه السلام) يعلم من حكم الله تعالى إلاّ ما علّمه الله تعالى، وما كان الله يعرّفه ذلك جملة جملة، بل بيّن شيئاً بعد شيء.

قال الشريف المرتضى (قدس سرّه): ووجدت أبا بكر الأنباري يقول: ليس الّذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء، قال: لأنّ البيضة من السلاح ليست علماً في كثرة الثمن ونهاية علوّ القيمة، فتجري مجرى العقد من الجوهر، والجراب من المسك؛ اللّذين هما ربّما ساويا الألوف من الدنانير، والبيضة من الحديد ربّما اشتريت بأقلّ ممّا يجب فيه القطع، وإنّما أراد (عليه السلام) أنه يكتسب قطع يده بما لا غنى له به؛ لأنّ البيضة من السلاح لا يستغني بها أحد، والجوهر والمسك في اليسير منهما غنىً.

قال الشريف المرتضى (قدس سرّه): والّذي نقوله: إنّ ما طعن به ابن الأنباريّ على كلام ابن قتيبة متوجّه، وليس في ذكر البيضة والحبل تكثير كما ظنّ، فيشبه العقد والجراب

____________________

(1) المائدة: 38.

١٧٩

من المسك، غير أنّه يبقى في ذلك أن يقال: أيّ وجهٍ لتخصيص البيضة والحبل بالذكر، وليس هما النهاية في التقليل؟! وإن كان كما ذكره ابن الأنباريّ، من أنّ المعنى أنّه يسرق ولا يستغنى به؛ فليس ذكر ذلك بأولى من غيره، ولابدّ من ذكر وجه في ذلك.

وأمّا تأويل ابن قتيبة فباطل؛ لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لا يجوز أن يقول ما حكاه عند سماع قوله تعالى: ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ ) ؛ لأنّ الآية مجملة مفتقرة إلى بيان، ولا يجوز أن يحملها أو يصرفها إلى بعض محتملاتها دون بعض بلا دلالة، على أنّ أكثر من قال إنّ الآية غير مجملة، وأنّ ظاهر القول يقتضي العموم، يذهب إلى أنّ ما اقتضى تخصيصها بسارق دون سارق لم يتأخّر عن حال الخطاب بها، فكيف يصحّ ما قاله ابن الأنباري أنّ الآية تقدّمت، ثمّ تأخّر تخصيص السارق، ولو كان ذلك ما ظنّ لكان المتأخّر ناسخاً للآية.

وعلى تأويله هذا يقتضي أن يكون كلّ الخبر منسوخاً، وإذا أمكن تأويل أخباره (عليه السلام) على ما لا يقتضي رفع أحكامها ونسخها كان أولى.

والأشبه أن يكون المراد بهذا الخبر أنّ السارق يسرق الكثير الجليل فتقطع يده، ويسرق الحقير القليل فتقطع يده، فكأنّه تعجيز له، وتضعيف لاختياره، من حيث باع يده بقليل الثمن، كما باعها بكثيرة.

وقد حكى أهل اللغة أنّ بيضة القوم وسطهم، وبيضة الدار وسطها، وبيضة السنام شحمته، وبيضة الصيف معظمه، وبيضة البلد الّذي لا نظير له، وإن كان قد يستعمل ذلك في المدح والذم على سبيل الأضداد، وإذا استعمل في الذم فمعناه: أنّ الموصوف بذلك حقير مهين، كالبيضة الّتي تفسدها النعامة فتتركها ملقاةً لا تلتفت إليها. (1)

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج2، ص5 - 7.

١٨٠