المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى0%

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 353

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وسام الخطاوي
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 353
المشاهدات: 46206
تحميل: 5976

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 353 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46206 / تحميل: 5976
الحجم الحجم الحجم
المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشريف المرتضى (قدس سرّه) مسلّماً أنّه حتّى لو كانت الرواية بذلك معروفة، فهي أيضاً تدلّ على معنى الإمامة والاستخلاف، ويأتي بشاهد على هذا الأمر، ومن ثمّ يتطرّق إلى إشكال أبي هاشم قائلاً: (فأمّا قول أبي هاشم: إنّ الكلام يحتاج إلى زيادة، وأنّه كان يجب أن يقول القاضي: ديني إلى أُمتي. فهذا إنّما كان يجب لو أراد بلفظ القضاء الأخبار؛ لأنّ لفظة (إلى) إنّما يحتاج إليها من هذا الوجه، فأمّا إذا أُريد بالقضاء الحكم فذلك غير واجب). (1)

ثمّ إنّ القاضي عبد الجبّار يضعّف الخبر من جهة أُخرى كما هو ديدنه، فيقول: إنّ قوله (صلّى الله عليه وآله): (خليفتي من بعدي) غير معروف، والمعروف: (خليفتي في أهلي)، وذلك لا يدلّ على الإمامة، بل تخصيصه بالأهل يدلّ على أنّه أراد (عليه السلام) أن يقوم بأحوالهم...). (2)

ويصرّح الشريف المرتضى (قدس سرّه) - بعد بحث قصير مع القاضي عبد الجبّار - بأنّه حتّى لو أخذنا بالرواية غير المعروفة: (خليفتي في أهلي) فإنّها نصّ في الإمامة، ويأتي بشاهد على هذا الأمر. (3)

وفي نهاية البحث في هذا الخبر يتطرّق القاضي عبد الجبّار إلى نكتة، قائلاً: (لو كان ما تعلّقوا به حقّاً لقد كان (عليه السلام) يدّعي به النصّ، ولا يستجيز ترك ذكره عند اختلاف الأحوال في باب الإمامة على ما قدّمنا القول به، وقد بيّنا أنّ ما ثبت من إمامة أبي بكر ثمّ عمر، يقتضي صرف ما ظاهره الإمامة عن ظاهره، فبأن يجب لأجل ذلك إبطال التعلّق بالمحتمل من القول أولى). (4)

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) - معلّقاً على هذا النصّ -: (إنّ هذا الخبر وأمثاله من ألفاظ النصّ غير محتمل، وأنّ ظواهرها وحقائقها تقتضي النصّ بالإمامة، ولم يثبت

____________________

(1) المصدر السابق: ص79 - 80.

(2) المغني في أبواب التوحيد والعدل (القسم الأوّل): ج20، ص185.

(3) الشافي في الإمامة: ج3، ص80.

(4) المغني في أبواب التوحيد والعدل (القسم الأوّل): ج20، ص185.

٣٠١

ما ادّعاه من إمامة من ذكره على وجه، فضلاً عن ثبوتها على وجه غير محتمل، فينصرف لذلك في ظواهر النصوص). (1)

بهذه الشفافية في البحث والتعليق استطاع الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن يردّ على التهافتات في المتن، حتّى على جميع الاحتمالات الّتي طرحها الخصم بجرف الخبر لصالحه ومعتقداته.

منطوق الأخبار والقضايا العلميّة:

واكب الشريف المرتضى (قدس سرّه) حضارة زمانه العلميّة، وجعلها إحدى العوامل في قبول الخبر وردّه، كما نشاهد ذلك: في خبر ردّ الشمس على المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) الّذي لهجت به الشعراء في مقطوعاتهم، (2) ووردت به الروايات الكثيرة، واعتبر ذلك فضيلة ومزية اختصّ بها من بين سائر الصحابة.

فقد روي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان نائماً ورأسه في حجر أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلمّا حان وقت صلاة العصر كره أمير المؤمنين (عليه السلام) أن ينهض لأدائها فيزعج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من نومه، فلمّا مضى وقتها وانتبه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) دعا الله تعالى بردّها له فردّها فصلّى (عليه السلام) في وقتها.

وقد ورد على هذا الخبر بعض الإشكالات الفقهية، بأنّه (عليه السلام) كان عاصياً بترك الصلاة، وأجاب الشريف المرتضى (قدس سرّه) بجوابين، وقد دعم الوجه الثاني منهما بمنهجية روائية، قائلاً: إنّ الصلاة لم تفته بمضي جميع وقتها، وإنّما فاته ما فيه الفضل والمزية من أوّل وقتها.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (ويقوي هذا الوجه شيئان:

أحدهما: الرواية الأخرى، لأنّ قوله: (حين تفوته) صريح في أنّ الفوت لم يقع،

____________________

(1) الشافي في الإمامة: ج3، ص81.

(2) منها ما يقوله السيّد الحميري (قدس سرّه) في قصيدته المذهبة:

ردّت عليه الشمس لمّا فاته

وقت الصلاة وقد دنت للمغرب

٣٠٢

وإنّما قارب وكاد.

والأمر الآخر: قوله: (وقد دنت للمغرب) يعني الشمس، وهذا أيضاً يقتضي أنّها لم تغرب، وإنّما دنت للغروب). (1)

بهذه المنهجية الروائية استطاع الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن يصحّح الجواب الثاني، ولكن الأمر والإشكال لا تنختم بهذا المقدار، وهناك بعض الأسئلة العلميّة تتبادر إلى الذهن في هذا الباب، وتترسّخ بمرور تطوّر الحضارة والتقدّم الفضائي، يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (كيف يصحّ ردّ الشمس وأصحاب الهيئة والفلك يقولون: إنّ ذلك محال لا تناله قدرة؟!

وهبه كان جائزاً على مذاهب أهل الإسلام، أليس لو ردّت الشمس من وقت الغروب إلى وقت الزوال لكان يجب أن يعلم أهل الشرق والغرب بذلك؛ لأنّها تبطئ في الطلوع على بعض البلاد، فيطول عليهم ليلهم على وجه خلاف العادة، ويمتد من نهار قوم آخرين ما لم يكن ممتدّاً؟

ولا يجوز أن يخفى على أهل البلاد غروبها، ثمّ عودها طالعة بعد الغروب، وكانت الأخبار تنتشر بذلك، ويؤرّخ هذا الحادث العظيم في التواريخ، ويكون أبهر وأعظم من الطوفان.

قلت: قد دلّت الصحيحة الواضحة على أنّ الفلك وما فيه من شمس وقمر ونجوم غير متحرّك لنفسه، ولا طبيعةً، على ما يهذي به القوم، وأنّ الله تعالى هو المحرّك له، والمتصرّف باختياره فيه، وقد استقصينا الحجج على ذلك في كثير من كتبنا، وليس هذا موضع ذكر.

فأمّا علم أهل الشرق والغرب والسهل والجبل بذلك على ما مضى في السؤال فغير واجب؛ لأنّا لا نحتاج إلى القول بأنّها ردّت من وقت الغروب إلى وقت الزوال

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج2، ص341.

٣٠٣

وما يقاربه على ما مضى في السؤال، بل نقول: إنّ وقت الفضل في صلاة العصر هو ما يلي، بلا فصل زمان أداء المصلّي فرض الظهر أربع ركعات عقيب الزوال، وكلّ زمان وإن قصر وقل يجاوز هذا الوقت، فذلك الفضل فائت فيه.

وإذا ردّت الشمس له هذا القدر اليسير الّذي نفرض أنّه مقدار ما يؤدي فيه ركعة واحدة خفى على أهل الشرق والغرب ولم يشعروا به، بل هو ممّا يجوز أن يخفى على من حضر الحال وشاهدها، إن لم ينعم النظر والتنقير عنها، فبطل السؤال على جوابنا الثاني المبني على فوت الفضيلة.

فأمّا الجواب الآخر، المبني على أنّها كانت فاتت بغروبها للعذر الّذي ذكرناه، فالسؤال أيضاً باطل عنه؛ لأنّه ليس بين مغيب جميع قرص الشمس في الزمان وبين مغيب بعضها وظهور بعضها إلاّ زمان يسير قصير، يخفى فيه رجوع الشمس بعد مغيب جميع قرصها إلى ظهور بعضها على كلّ قريب وبعيد.

ولا يفطن إذا لم يعرف سبب ذلك على وجه خارق للعادة، ومن فطن بأنّ ضوء الشمس غاب، ثمّ عاد بعضه جوّز أن يكون ذلك لغيم أو حائل). (1)

بهذا المقدار من الوعي العلمي ردّ الإشكال الّذي تبادر إلى الذهن معتمداً على بعض الاستظهارات الّتي يقتضيها المقام في وقوع هذه الحادثة الّتي تكون محطّاً للنظر.

الدقّة التاريخيّة في واقع الأخبار العقائديّة:

التمويه الّذي حصل لمجموعة من الأخبار أخرجها عن واقعها الأصيل، بحيث أسيئ الفهم منها، فهناك عدّة أخبار صحيحة، ولكن قد قطع عنها بعض الفصول، أو أُضيف إليها بعض المقاطع، أو لم تنقل بحذافيرها، وهذا ما شكّل عدم شفافية في واقعها.

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج2، ص342.

٣٠٤

حتّى أنّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) ذكر قسماً كبيراً منها، وحلّلها تحليلاً دقيقاً تاريخياً، كما في الأخبار التي أضافها أبوعلي داعماً خلافة الشيخين، وهو ما روي عن أبي جحيفة ومحمّد بن علي وعبد خير وسويد بن غفلة وأبي حكيمة وغيرهم، وقد قيل: إنّهم أربعة عشر رجلاً، قالوا: إنّ علياً (عليه السلام) قال في خطبة: (خير هذه الأُمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر)، وفي بعض الأخبار: (ولو شاء أن اسمّي الثالث لفعلت). (1)

وفي هذا المجال نرى دقّة الشريف المرتضى (قدس سرّه) في ردّ الخبر ردّاً تحقيقياً يدلّ على إحاطته بمطبّات الأخبار، وسوف نشرح الردّ بصورة علمية؛ لنرى مقدار جلالة الشريف المرتضى (قدس سرّه) في ذلك:

يعتقد الشريف المرتضى (قدس سرّه) أنّ الخبر المنقول صحيح، وقد قاله أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ذكره كلّ من الرواة الّذين أشار إليهم أبو علي، ولكن خلال نقل الخبر في العصور المتأخّرة وبالتحديد زمن بني أميّة استغلّ بعض الرواة - نتيجةً لاتجاهم العقائدي - جرف الخبر، بحيث أدّى إلى جعله منقبة للشيخين بعد أن كان من القوادح بهما؛ فإنّ أصل الخبر كان بهذه الصورة: أنّ هؤلاء الرواة المذكورين سمعوا الإمام علي (عليه السلام) يقول على المنبر: (ما هذا الكذب الّذي يقولون، ألا إنّ خير هذه الأُمة بعد نبيها أبو بكر وعمر؟!) فكان كلامه (عليه السلام) إنكار على من يعتقد ذلك، وتشنيع على المتفوّه بذلك.

ولكن كلّ من الرواة أدناه حرّفوا الخبر، وأسقطوا مقدّمة الخبر، وهم:

1 - جعفر بن عبد الرحمن البلخي، الّذي كان عثمانياً.

2 - أبو الخباب الكلبي كذلك.

3 - الشعبي ورأيه في الانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام) معروف. (3)

____________________

(1) المصدر السابق: ص94.

(2) المصدر السابق: ص112 - 113.

٣٠٥

هؤلاء استطاعوا أن يخدموا الرأي العام، وأنّ المسبب الرئيسي في هذه المغالطة هو الشعبي، حيث إنّ تحريف الخبر وقع في زمانه، وإن كان كلّ من هؤلاء خدش فيهم علماء الرجال، ومن أراد بذلك فليراجع ليعرف حقيقة الأمر.

وعلى كلّ حال فقد أدّى إسقاط مقدّمة الخبر لقلب الخبر إلى فضيلة بعد ما كان قدحاً، وهذه لعبة كبيرة كان عمّال السلطان يلعبها في حرف الأخبار عن واقعها؛ للحصول على شيء من حطام الدنيا.

ثمّ ينقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) عدّة توجيهات للخبر من أصحابه الإمامية، وعدّة إشكالات على الخبر، ولكنه يتركها على حالها، وفي مطاف ردّ هذا الخبر ينقض الشريف المرتضى (قدس سرّه) على الخبر بصورة استهزائية قائلاً: (ومن ظريف الأُمور: أن يستشهد القوم بهذا الخبر على التفضيل، وهم يروون أنّ أبا بكر قال: (وليتكم ولست بخيركم) فصرّح باللفظ الخاصّ بأنّه ليس بالأفضل، ثمّ يتأوّلون ذلك على أنّه خرج مخرج التخاشع والتخاضع فألاّ استعملوا هذا الضرب من التأويل فيما يدعونه عن قوله: (ألا إنّ خير هذه الأُمة؟!)، ولكن الإنصاف عندهم مفقود). (1)

الحقائق الشيعيّة ونزاهتها من الغلو:

تراثنا الإمامي الشيعي وقع تحت ظلم الأقلام المستأجرة، وقد اطلقت التهم واحدة تلو الأُخرى على الحقائق المسلّمة، وخبط بينها وبين عقائد أهل الغلو والمتنصلين على المذهب، وأبرز ما ابتلينا به هو عقائد الغلاة، والّذين حرّفوا الحقائق، وذهبوا المذهب البعيد عن الحقائق العقليّة.

وهذه التهم قد وجهت لمذهب الشيعة حتّى من عظماء المذاهب الأُخرى - كما يأتي عن أبي علي مثلاً - ولم يرعوا أي حرمة للحقائق ومقدار صحّتها، ويقف

____________________

(1) المصدر السابق: ص116.

٣٠٦

الشريف المرتضى (قدس سرّه) أمام هذه التهم، حتّى أنّه يواجه القاضي عبد الجبّار مجابهة شديدة، ويقول في صدر كلامه: (فممّا كنّا نظن أنّ مثل صاحب الكتاب يتنزّه عن ذكره...؛ لأنّا لا نعرف عاقلاً يحتجّ عليه وله).

بل يعتبر هذه الأُمور من الغلاة ما هي إلاّ كفر وزندقة، والّذي دعا الشريف المرتضى (قدس سرّه) أنّ يعقد لهذه البحوث فروعاً هو ما قاله أبو علي من ضرب عمر بأنّه لا أصل له، حتّى قال: (وهل هذه الرواية إلاّ كروايتهم عن جعفر في أخبار لهم أنّ علي بن أي طالب هو إسرافيل، والحسن ميكائيل، والحسين جبرئيل، وفاطمة ملك الموت، وآمنه أُمّ النبيّ ليلة القدر، فإن صدّقوا ذلك صدقوا هذا أيضاً). (1)

هكذا اتّهم أبو عليّ الشيعة في معتقداتهم وآرائهم، وحرّف عليهم، ونسب إليهم ما هم أبرياء منه، ولكن الشريف المرتضى (قدس سرّه) يقف أمامه، ويعقد له فرعاً لمواجهته، فيقول: (فأمّا قوله: إنّ هذه الرواية كروايتهم أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو إسرافيل، وأنّ الحسن هو الميكائيل إلى آخر كلامه. فممّا كنّا نظنّ أنّ مثل صاحب الكتاب ينتزّه عن ذكره، والتشاغل بالاحتجاج به؛ لأنّا لا نعرف عاقلاً يحتجّ عليه وله، ولا يذهب إلى ما حكاه، ومن ينتسب إلى التشيّع رجلان: مقتصد وغالٍ. فالمقتصد معلوم نزاهته عن مثل هذا القول، والغالي لم يرض إلاّ بالإلهية والربوبيّة، ومن قصر منهم ذهب إلى النبوّة، فهذه الحكاية خارجة عن مذهب المقتصد والغالي، قد كان يجب لمّا أودعها كتابه محتجّاً بها أن يذكر قائلها، والذاهب إليها بعينها، والراوي لها باسمه، والكتاب الّذي نقلها منه إن كان من كتاب.

وبعد فلو كانت هذه الحكاية صحيحة، وقد ذهب إليها ذاهب لكان من جملة مذاهب الغلاة الّذين نبرأ إلى الله تعالى منهم، ولا نعدّهم شيعة ولا مسلمين، فكيف تجري هذه الرواية مجرى ما حكاه عنّا؟!

____________________

(1) الشافي في الإمامة: ج4، ص111.

٣٠٧

ثمّ يقال له: ألست تعلم أنّ هذا المذهب إليه أصحاب الحلول، والعقل دالّ على بطلان قولهم؛ فهل العقل دالّ على استحالة ما روي من ضرب فاطمة (عليها السلام).

فإن قال: هما سيّان، قيل له: فبيّن استحالة ذلك في العقل، كما بيّنت استحالة الحلول، وقد ثبت مرادك، ومعلوم عجزك عن ذلك.

وإن قال: العقل لا يحيل ما رويتموه، وإنّما يعلم فساده من جهة أخرى.

قيل له: فلم جمعت بين الروايتين، وشبّهت بين الأمرين، وهما مختلفان متباينان؟!

وبعد، فكما غلا قوم في أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الضرب من الغلو، فقد غلا آخرون فيه بالعكس من هذا الغلو، فذهبوا إلى ما تقشعرّ من ذكره الجلود، وكذلك قد غلا قوم ممّن لا يرتضي صاحب الكتاب طريقته في أبي بكر وعمر وعثمان، وأخرجهم غلوّهم إلى التفضيل لهم على سائر الملائكة، ورووا روايات معروفة تجري في الشناعة مجرى ما ذكره عن أصحاب الحلول، فلو عارضه معارض، فقال له: ما روايتكم في عليّ ما تروونه إلا كرواية من روى كيت وكيت، وذكر ما ترويه الشراة، وتدين به الخوارج، وما روايتكم في أبي بكر وعمر وعثمان ما تروونه من التفضيل والتعظيم إلاّ كمن روى كذا وكذا، وذكر طرفاً ممّا يروونه الغلاة ما كان يكون جوابه، وعلى أيّ شيء يكون معتمده؟! فإنّه لا تنفصل عن ذلك إلاّ بمثل ما انفصلنا عنه). (1)

مداخلات في الآراء العقائدية:

هناك بعض المداخلات في الرأي العقائدي يشير الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلى بعضها:

المداخلة الأُولى:

من الأخبار الدالّة على أنّ أفضل الناس وخيرهم بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما هو في خبر الطائر المشوي، يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وهذا الخبر - وإن روي من طرق مختلفة وأسانيد كثيرة - فالأُمة متّفقة على تقبّله،

____________________

(1) الشافي في الإمامة: ج4، ص117 - 118.

٣٠٨

وإنّما اختلفوا في تأويله، وما فيهم من أنكره ودفعه). (1)

المداخلة الثانية:

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وأمّا الأخبار المدّعاة فنحو ما يروونه عنه (صلّى الله عليه وآله) من قوله: (لا تجتمع أُمتي على خطأ)، وهذا خبر ينقله الآحاد، وليس بموجب للعلم ولا قامت به الحجّة، فكيف يعتمد في هذا الأصل الكثير على مثله؟!

وإنّما يرجعون في تخصيصه إلى إجماع الصحابة عليه وعملهم به، وأنّهم له يردّوه، وأنّ عادتهم جرت بالتشكيك فيما لا يعرفونه). (2)

المداخلة الثالثة:

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (ومن العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الّذي يتضمّن النصّ بالخلافة، وكلّ فضيلة غريبة موجودة في الكتب للمخالفين، وفيما يصحّونه من روايتهم، ويصفونه من سيرتهم، ولا يتّبعونه، لكن القوم رووا ما سمعوا، وأودعوا كتبهم ما حفظوا، ونقلوا ولم يتخيّروا، ويتبيّنوا ما وافق مذهبهم دون ما خالفهم، وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحقّ). (3)

وأنّ هناك بعض المداخلات الجزئية أعرضنا عنها، واكتفينا بهذه الثلاثة، وهي وإن كانت جزئية، ولكنها تحتوي مضمون كلّ منها على ذكر منهجية في فكر الشريف المرتضى (قدس سرّه).

حجّية الخبر الّذي قامت الحجّة به على أصله:

من الأدلّة على صحّة الخبر: هو ما كان مورداً لقبول الأُمة له، بل يمكن أن نقول: إنّ عدم اختلاف الأُمة في تأويله وتفسيره هو أحد الأدلّة على صحّته، فتسالم الجميع

____________________

(1) الذخيرة في علم الكلام: ص492.

(2) المصدر السابق: ص427 - 428.

(3) شرح القصيدة المذهبة: ص68 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الرابعة).

٣٠٩

على خبر هر نوع توثيق له، وبعبارة الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وهذا يدلّ على أنّ الحجّة قامت به في أصله). وأحد هذه الأخبار هو تواتر حديث الثقلين، فقد أُحصيت طرقه فبلغت أكثر من عشرين صحابياً.

قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض)، وهو يدلّ على إمامتهم وعصمتهم (عليهم السلام)، وكذلك على عمادهم الإمام علي (عليه السلام) ضمناً.

وهذا الحديث خصب من ناحية المنهج، ومن حيث معطياته الأخبارية والروائية.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (إنّ هذا الخبر دالّ على ثبوت إمامة الإمام علي (عليه السلام) بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بلا فصل بالنّص. ودالّ على أنّه لا بدّ في كلّ عصر في جملة أهل البيت (عليهم السلام) من حجّة معصوم مأمون يقطع على صحّة قوله. وتلقّته الأُمة بالقبول، ولم يخالف أحد في صحّته، وهو يدلّ على أنّ الحجّة قامت به في أصله، وأنّ الشكّ مرتفع عنه). (1)

وهذا الكلام الأخير من الشريف المرتضى (قدس سرّه) يستحقّ الإمعان؛ ولأن المتعارف عليه بين علماء الأُمّة أنّه إذا ورد عليهم خبر مشكوك في صحّته أن يقدّموا الكلام في أصله، ثمّ يشرعوا في تأويله.

وهذا الخبر الّذي نقلناه عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عدلوا عن هذه الطريقة فيه، فدلّ على سلامة أصله.

فنحن نواجه هذا الاستدلال بهذه الصورة على سلامة الخبر، وهي بمثابه منهج معرفي في صحّة الخبر وسقمه طرحه الشريف المرتضى (قدس سرّه) في بحثه هذا، وخالف فيه طرقه السابقة الّتي أكّد فيها على تواتر الخبر بين المحدثين وما شابهها.

____________________

(1) المصدر السابق: ص122 - 123.

٣١٠

الخاتمة

وفيما يلي النتائج الّتي توصّلنا إليها في منهجية الشريف المرتضى (قدس سره) الروائية في المباحث الّتي تطرّقنا إليها في الكتاب:

أوّلاّ: المبحث القرآني

1 - يعتبر الحقيقة مقدّمة على المجاز؛ ولذلك يحاول مهما أمكن ألاّ يبتعد عن الحقيقة خصوصاً في القرآن الكريم الّذي هو نازل على الظواهر دون التأويلات والمجازيات.

2 - حدود القرآن والسنّة واحدة فأحدهما يدلّ على الآخر، فالعطاء واحد والأحكام واحدة.

3 - يعتبر العقل الركيزة الأساسية في المنظومة المعرفية، بل هو الحاكم في رفع التنازع بين الأدّلة بجميع أطرافها (قرآناً وسنّة)؛ لأنّه الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإسلامي.

4 - المأخذ في أدلّة العقول هو الصراحة والوضوح، فإذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار.

5 - ثبت عنده أنّ أدلّة العقول لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات فلا بدَّ من صرف كلّ ما ورد بظاهره خلاف ذلك من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها.

6 - يعتقد أنّ الأدلّة العقلية الواضحة الّتي لا يدخلها الاحتمال والإتباع والمجاز لابدَّ

٣١١

أن يصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها، فالمرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدينية هي أدلّة العقول.

7 - المعطيات والمشتركات بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة كثيرة ويعضد بعضها البعض الآخر في إنارة الواقع والشريعة، وأنّ كلاهما لو كان واضحان هما بمثابة برهان عقلي صريح يجب الآخذ به.

8 - قد يبدو التعارض واضحاً في بعض الأدلّة الشرعية، كما هو كثير بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وذلك لعدم تصوّر صحيح للمسألة، وعدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع، وهنا لا بدَّ من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة ولا يمكن طرحها إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع، يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض.

ثانياً: المبحث الفقهي:

1 - يعتبر المسائل الفقهية - الّتي شُنِّع بها على الشيعة وادّعي عليهم مخالفة الإجماع - أكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدّمين والمتأخّرين، وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الأدلّة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق ولا يوحش معه خلاف المخالف.

2 - يجعل من مسلماته العقلية: ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده فهو الحقّ المبين ولا يضرّه الخلاف فيه، وقلّة عدد القائل به، كما لا ينفع في الأوّل الاتفاق عليه، وكثرة عدد الذاهب إليه، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة له إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه.

3 - لم يورد إلاّ ما اعتمده، وهو عن طريق العلم وموجباً لليقين، وما ورد من طريق الآحاد - والّتي لا علم يحصل عندها بالحكم المنقول - فهو على طريق المعارضة للخصوم والاستظهار في الاحتجاج عليهم بطريقهم واستدلالهم، وقد ضمّ

٣١٢

إليها الاحتجاج عليهم بالقياس فهو على سبيل المعارضة.

4 - إنّ المعوّل فيما يعتقد - على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات - فإذا دلّت الأدلّة على أمر من الأمور وجب أن يبنى كلّ وارد من الأخبار - إذا كان ظاهره بخلافه عليه - على ذلك، ويساق إليه، ويطابق بينهما، ويجلى ظاهراً إن كان له، ويشترط إن كان مطلقاً ويخصّ إذا كان عامّاً، ويفصّل إذا كان مجملاً، ويوفق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة، فإذا وردت أخبار فلا بدَّ من عرضها على هذا المقياس والبناء عليها، ويفعل فيها ما حكمت به الأدلّة وأوجبته الحجج العقلية، وإذا تعذّر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل فليس غير الإطِّراح لها وترك التعريج عليها.

5 - يعتبر أصحاب الحديث هم الذين لم يعرفوا الحقّ في الأُصول ولا اعتقدوا بحجّة ولا نظر، بل هم مقلّدون فيها، فهم ليسوا بأهل نظر، ولا اجتهاد، ولم يصلوا إلى الحقّ بالحجّة، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض.

6 - يعتبر الغلاة: كان ديدنهم أو منطقهم هو التمسّك بأخبار غير صحيحة ولا معتمدة ولا ثابتة.

7 - يقول: إنّ كُتب ابن الجنيد قد حشاها بأحكام عمل فيها على ظن، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرذل فخلط بين المنقول عن الأئمّة (عليهم السلام) وبين ما قال برأيه، أو أنّه عوّل في ذلك على ظنون وحسبان وأخبار شاذة لا يلتفت إليها.

8 - الرجوع إلى كتاب ابن بابويه الصدوق (قدس سره) وهو كتاب من لا يحضره الفقيه أو إلى كتاب الحلبي أولى من الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كلّ حال.

9 - يطرح ملاكات في ضعف الخبر:

الأوّل: اختلاف لفظ الخبر، والطريق واحد يدلّ على ضعفه.

الثاني: إذا كان راوي الخبر يخالف ما رواه، كان فيه ما هو معلوم.

٣١٣

الثالث: تفرّد الراوي بالخبر.

الرابع: معارضة أخبار الشيعة لأخبار الجمهور. نعم، يستدرك بأنّ أخبار الإمامية بما هم فرقة ليس لها الحجّية والاعتبار، وإنّما لأجل تمسّكهم بأهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنّهم الوسائط إلى الحقّ الصريح.

الخامس: إنّ بعض الرواة وضع بعض الأخبار ورتّبها على حسب توجّهه الفقهي، وقد احترس هذا الراوي عن المطاعن الموجّهة إليه بعد ذلك، واستعمل من الألفاظ ما لا يدخله الاحتمال والتأويل.

السادس: عدم وضوح منطق الخبر في أنّه تفسير أو توقيف؛ لأنّه لو كان توقيفاً فالمصير إليه واجب، وإن كان تفسيراً من قبل نفسه فلم يخالفه مخالف.

السابع: التعارض بين أخبار الجمهور فيما بينها هو أحد المضعّفات على مسالكهم، بل يؤكّد أنّ هذا الاضطراب يستوعب جميع التراث الروائي لأهل السنة.

الثامن: غلط الراوي في نقل الخبر هو بمثابة إسقاط له عن الحجّية.

التاسع: يعتبر إنكار الزهري للخبر أحد المضعّفات له.

العاشر: بعض الأخبار الّتي تخالف مضامينها للصور المنطقية.

10 - يتعرّض في كتبه إلى عدّة مصطلحات درايتية:

أ - الكذّاب. ب - الضعيف. ج - المطعون فيه. د - الرفّاع. هـ - المدلّس. و - المجهول. ز - الظالم. ح - المضعّف. ط - المتّهم في الحديث. ي - لا يحتجّ بحديثه.

11 - لا يرجع عن ظواهر الكتاب المعلومة بما يقتضي الظن، وأنّ اللجوء إلى الخبر الواحد أو القياس ما فيهما ما يوجب العلم، فيترك له ظاهر القرآن. نعم، في بعض تعابيره في بحوثه المقارنة مع الجمهور أنّ العمل بالكتاب أولى من العمل بالخبر.

12 - لا يخصّ عموم الكتاب بأخبار الآحاد ولو ساغ العمل بها في الشريعة؛ لأنّها لا توجب الظنّ، ولا يخصّ ولا يرجع عمّا يوجب العلم من ظواهر الكتاب.

٣١٤

نعم، غير خبر الواحد من الأخبار الّتي هي معلومة فهي تخصّ الكتاب؛ لأنّ العموم قد يختصّ بدليل، ويترك السنّة لا تقتضي العلم القاطع فلا يخصّ ولا ينسخ بها، وإنّما يجوز بالسنّة أن يخصّ أو ينسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين، وعلى هذا الأساس إذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها، ورجعنا إلى ظاهر نصّ الكتاب.

13 - أمّا نفس الخبر فلا يمكن تخصيص ظاهره، بل يبقى على إطلاقه وعمومه، وعليه فيقدّم من الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقاً. نعم، في تعارض الخبرين كما إذا ورد خبر عامّ اللفظ وآخر خاصّ، فيبنى العامّ على الخاصّ لكي يستعمل الخبرين ولا يطرح أحدهما، ولكن تقديم بعض التأويلات على البعض الآخر في الأخبار بعيد عن الواقع، لأجل أنّ هذا ترك للظاهر بعيد التأويل، فإنّ الظاهر يقضي عليه، وفي حالة التعارض بين الأخبار يسقط الاحتجاج بها، ويرجع إلى ظاهر نصّ الكتاب.

14 - أحد المرجّحات الدلالة في الخبر ما كان له مخرج في اللغة أو ما كان له تأويل معقول.

15 - نسخ (1) الكتاب بأخبار الآحاد غير جائز، وذلك عن طريق الأولوية؛ لأنّه إذا لم يخصص كتاب الله تعالى بأخبار الآحاد فالأولى أن ينسخ بها. نعم، يصحّ النسخ لو كانت هناك دلالة وهي القرينة القطعية، وإلاّ فإنّ أخبار الآحاد حالها حال القرآن الطنيّة.

ثالثاً: المبحث الأُصولي:

1 - إتماماً للنقطة الأُولى في النسخ يعتقد الشريف المرتضى (قدس سره) أنّ النسخ هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه. سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من الأُمور الّتي

____________________

(1) يوضّح الشريف المرتضى (قدس سره) حقيقة النسخ بأنّها: تغيّر حال المزيد عليه، وتخرجه من كلّ الإحكامات الشرعية، وأنّها تتأخّر عن دليل الحكم المزيد عليه، وإلاّ إذا صحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخاً.

٣١٥

ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع.

2 - إنّ الحكم المجعول في الشريعة له نحوان من الثبوت:

أ - ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقة، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلاّ بالنسخ.

ب - ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أنّ الحكم يعود فعلياً بسبب فعلية موضوعه خارجاً، فالحكم يعود فعلياً بسبب فعلية موضوعه خارجاً، وارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء.

3. أمّا نسخ القرآن بالسنّة الشريفة، فإنّ السنّة تقسم إلى قسمين:

أ - قسم مقطوعة معلومة.

ب - قسم واردة من طريق الآحاد.

والقسم الأوّل لا ينسخ القرآن بها.

والقسم الثاني لا ينسخ القرآن بما ليس معلوم من السنّة؛ لأنّه مبني على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة؛ لأنّ من يجوّز النسخ يعتمد على أنّه كما جاز التخصيص به وترك الظاهر لأجله والعمل به في الأحكام المبتدأة، جاز النسخ أيضاً به، وأنّ دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق غير مختصّ، فوجب حمله على العموم، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشرع بطل النسخ، ويقيم على ذلك عدّة أدلّةً سمعية وعقلية.

4 - أمّا نسخ السنّة الشريفة بالقرآن الكريم فكلّ شيء دلّ على أنّ السنّة مقطوع بها تنسخ القرآن الكريم يدلّ على هذه المسألة، بل هو هاهنا آكد وأوضح؛ لأنّ للقرآن الكريم المزية على السنّة الشريفة. وتقام على ذلك ثلاثة أدلّة سمعية تاريخية.

٣١٦

5 - أمّا نسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخر فهو كذلك، أي أنّ كلّ دليل أوجب العلم والقطع واليقين فجائز النسخ به، وهنا مبني على وجوب العمل بأخبار الآحاد، فمن عمل بها في الشريعة نسخ بعضها ببعض، ومن لم يعمل بها لم ينسخ بها؛ لأنّ النسخ فرع وتابع لوجوب العمل.

6 - أمّا تخصيص عموم الكتاب بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحاد، فإنّه لا شبهة في تخصيص العموم بكلّ دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنة مقطوع عليها وإجماع. وأمّا تخصيصه بالسنّة فلا خلاف فيه، وقد وقع كثير منه، وأمّا تخصيص عموم الكتاب الكريم بأخبار الآحاد فلا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، وإن كان جائزاً أن يتعبّد الله تعالى بذلك فيكون واجباً غير أنّه تعالى ما تعبّدنا به.

7 - أمّا تخصيص العموم بأقوال الصحابة، فإنّه حجّة في نفسه يصحّ تخصيص العموم به بلا خلاف في ذلك، وإنّما الإشكال في انفراد أحد الصحابة بقول أو رأي فهل يخصّ العموم؟ والظاهر أنّ ذلك لا يصحّ. نعم، بعض أقوال الصحابة حجّة ويخصّ به العموم، كما لو كان هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

8 - هناك عدّة فوارق منهجية بين التخصيص والنسخ؛ لأنّ التخصيص في الشريعة يقع بأشياء لا يقع النسخ بها، والنسخ يقع بأشياء لا يقع التخصيص بها، فالأوّل كالقياس وأخبار الآحاد عند من ذهب إلى العبادة بهما، والثاني كنسخ شريعة بأُخرى وفعل بفعل، وإن كان التخصيص لا يصلح في ذلك.

9 - ادّعى الشريف المرتضى (قدس سره) الإجماع على عدم العلم بالخبر الواحد، وإنّما يقتضى غلبة الظن بصدقه إذا كان عدلاً. نعم، لا يمنع العقل من العبادة به ولو تعبّد الله تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحّة؛ لأنّ عبادته تعالى بذلك يوجب العلم الّذي لابدَّ أن يكون العمل تابعاً له، وإن كانت العبادة ما وردت به، ويقيم على ذلك عدّة أدلّة مفصّلة.

10 - القائلون بالتواتر على ضربين:

٣١٧

أ - أنّ الخبر المتواتر فعل الله تعالى عنده للسامعين العلم الضروري بمخبره.

ب - أنّ العلم بمخبره مكتسب.

اعتقد أصحاب الضرب الأوّل أنّ وقوع العلم ضروري له، فإذا وجد نفسه عليه علم أنّ صفة المخبرين له صفة المتواترين، فهؤلاء عندهم أنّ حصول العلم بصفة المخبرين.

ويعتقد أصحاب الضرب الثاني: أنّ الطريق إلى العلم بصفة المخبرين هو العادة؛ لأنّ العادة قد فرّقت بين:

الأوّل: الجماعة الّتي يجوز عليها أن يتّفق منها الكذب من غير تواطؤ وما قام مقامه.

الثاني: من لا يجوز ذلك عليه.

الثالث: من إذا وقع منه التواطؤ جاز أن ينكتم.

الرابع: من لا يجوّز انكتام التواطؤ.

وعلى هذا فإذا علم أنّ وجود كون الخبر كذباً لا يصحّ على هذه الجماعات، فليس بعد ارتفاع كونه كذباً إلاّ أنّه صدق.

11 - أحد الصفات والشرائط في التواتر أنّه ليس من شرط الخبر المتواتر أن يكون رواته متباعدي الديار؛ لأنّ التواطؤ قد يحصل بأهل بلد واحد.

12 - أمّا بالنسبة إلى المتحمّل للخبر، والمتحمّل عنه، وكيفية ألفاظ الرواية عنه: فالمتحمّل للخبر على قسمين:

أ - القسم الذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته وأمانته.

ب - القسم الذاهب إلى عدم وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة، يقول: إنّ العمل في مخبر الأخبار تابع للعلم بصدق الراوي، فالشرط الوحيد عنده هو كون

٣١٨

الراوي صادقاً، ولا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمناً أو كافراً أو فاسقاً أو عادلاً.

وأمّا راوي الحديث؛ فإنّه لا يجوز أن يروي إلاّ ما سمعه عمّن حدّث عنه أو قرأه عليه فأقر له به، ولكن إذا سمع الحديث من لفظه فهو غاية التحمّل.

وأمّا ألفاظ الرواية، فهي على أقسام ثلاثة:

ـ المناولة، وهي أن يشافه المحدّث غيره بالسماع.

ـ المكاتبة، وهي أن يكتب إليه ذلك.

ـ الإجازة، وهي لا حكم لها؛ لأنّ ما للمتحمّل أن يرويه له ذلك، أجازه له أو لم يجزه، وما ليس له أن يرويه محرم عليه مع الإجازة وفقدها.

13 - يعتقد الشريف المرتضى (قدس سره) أنّ معظم إشكالات عدم حجّية الأخبار المنقولة إلى مسالك أهل الحديث؛ لأنّهم خرجوا عن الأُصول العقلية الصحيحة، فإنّهم قد يحتجّون في أُصول الدّين من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة بأخبار الآحاد، بل ربّما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه اغتراراً بأخبار الآحاد المروية.

14 - إنّ أخبار الآحاد لا توجب علماً ولا تقتضي قطعاً، وأنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علماً، وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم، وقد تثبت أنّها لا توجب عملاً في الشريعة، ولا يرجع بمثلها عمّا علم وقطع عليه، وأنّها لا توجب علماً ولا يقيناً، وأكثر ما توجبه - مع السلامة التامّة - الظن، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة ممّا يوجب العلم واليقين، وأنّها لا توجب الظن، ولا تنتهي إلى العلم، وما شابهها من التعابير الّتي هي صريحة في نفي صفة العلميّة والعمليّة عن أخبار الآحاد، بل صرّح أنّها لا يعمل عليها في الشريعة.

15 - يقرن بين القياس وخبر الآحاد بأنّهما لا يمكن أن يكونا طريقاً إلى العلم بشيء من الأحكام البتة مع فقد دليل التعبّد بهما.

٣١٩

16 - إنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبّد بأحكامها من طريق العقول. نعم، يعترف بأنّ المذهب الصحيح هو: تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول، ولكن ذلك ما ورد ولا تعبّدنا به، فهو لا يعمل بها؛ لأنّ التعبّد بها مفقود وإن كان جائزاً، وعلى هذا الأساس لا يتأوّل خبراً لا يقطع به ولا يعلم صحّته. نعم، يمكن على سبيل التسهيل ذكر تأويلاً للخبر وإن لم يكن ذلك واجباً، ويمكن إرجاعه إلى التسامح في أدلّة السنن.

رابعاً: المبحث العقائدي والكلامي:

1 - يوجب الشريف المرتضى (قدس سره) نقد الحديث ويعرضه على العقول، فإذا سلم عليها جاز أن يكون حقّاً والمخبر به صادقاً، وليس كلّ خبر جاز أن يكون حقّاً وكان وارداً من طريق الآحاد، ويقطع على أنّ المخبر به صادقاً.

2 - ويقسم طريقة العمل في الأخبار العقائدية إلى أنّ ما ظاهره من الأخبار مخالف للحقّ ومجانب للصحيح على ضربين:

أ - فضرب يمكن فيه تأويل له مخرج قريب لما يخرج إلى شديد التعسف وبعيد التكلّف، فيجوز في هذا الضرب أن يكون صادقاً.

ب - وأمّا ما لا مخرج له ولا تأويل إلاّ بتعسف وتكلّف يخرجان عن حدّ الفصاحة، بل عن حدّ السداد، فإنّا نقطع على كونه كذباً، لا سيّما إذا كان عن نبيّ أو إمام مقطوع فيهما على غاية السداد والحكمة والبعد عن الألغاز والتعمية.

3 - يصرّح الشريف المرتضى (قدس سره) على أنّ أُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية من ورائه، وأنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه وجمعه، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأُصول.

4 - في تأويل ظواهر بعض الأخبار الاعتقادية، يصرّح بأنّ التأويل والتفسير

٣٢٠