المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى0%

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 353

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وسام الخطاوي
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 353
المشاهدات: 46200
تحميل: 5974

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 353 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46200 / تحميل: 5974
الحجم الحجم الحجم
المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإسلامي بتدوينها وجمعها وتبويبها، إذ تعتبر السنّة عاملاً أساسياً لفهم وإدراك التشريع الإسلامي بصورة عامّة. ولهذا سعى جهابذة من الأعلام لوضع منهج دقيق وواسع الأطراف لفهم النصّ الدّيني. وكان هذا العلم لم تتضح معالمه في الوقت المتقدّم، بل هو من إنتاجات العصور المتأخّرة الّذي أضاف الصفات المنهجية والعلمية على التوجيه العام للمسيرة المعرفية. (1)

نعم، واضع أسسه هو الشريف المرتضى (قدس سرّه) في كثير من كتاباته في جميع الحقول الإسلامية، إذ إنّه يعتبر العقل هو الركيزة الأساسية في المنظومة الإلهية، بل هو الحاكم والسيف البتّار في رفع الإبهامات والإشكالات بين الأدلّة بجميع أطرافها (قرآناً وسنّة)؛ لأنّه الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإسلامي، طبعاً أخذ في آلياته الصراحة والوضوح، فإذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار.

هذا منهج دقيق في فذلكة الواقع الدّيني، وهو آلية وصريحة في صرف كلّ ما ورد بظاهره خلاف ذلك من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها، فالمرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدّينية هو أدلّة العقول، وهذا المنهج قد أثّر كثيراً في رسالته، وأبعاد ثقافته في فهم النصّ الدّيني. نعم، هو يؤمن بأنّ المعطيات والمشتركات كثيرة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة، بل تعاضد بعضها للبعض الآخر في إنارة الواقع والشريعة، ولكن كلاهما بمثابة برهان عقلي صريح يجب الأخذ به.

وهذا العلم المنهجي لفهم النصّ الشرعي هو الّذي وضع مفرداته وأسسه وجزئياته استمداداً من الآيات القرآنية وما احتوته السنّة الشريفة، فهو يعتقد أنّ هناك بالوهلة الأولى تعارضاً واضحاً في بعض الأدلّة الشرعية، ويرجع ذلك إلى

____________________

(1) تأمّلات في الحديث عند السنّة والشيعة: ص14.

٦١

عدم التصوّر الصحيح للمسألة، وعدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع، وهنا لا بدّ على رأيه من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة ولا نستسلم لطرحها، إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض.

فهذا المنهج العقلي هو الأساس في فهم النصّ الدّيني، وهذا استمدّ شرعيته من كونه علماً وموجباً لليقين وإرجاع نقد الحديث وعرضه على العقل، ويكون العقل من الأدلّة القاطعة، فإذا دلّ على أمر وجب إثباته والقطع عليه، وألاّ يرجع عنه بخبر محتمل، ولا بقول معترض للتأويل، بل هو صرّح في مواضع متعدّدة - سوف تأتي بعد ذلك - أنّ الأخبار يجب أن تبنى على أدلّة العقول، ولا تقبل في خلاف ما تقتضيه أدلّة العقول، فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلاً صحيحاً لائقاً بأدلّة العقول، فإن احتمل تأويلاً يطابقها تأوّل ووافق بينه وبينها.

ويتوّج الشريف المرتضى (قدس سرّه) هذا المنهج بقوله: (وبصحّة هذه الطريقة يرجع عن ظواهر آيات القرآن الكريم الّتي تتضمّن إجباراً أو تشبيهاً).

وعن طريق هذا المنهج ينفتح على مناهج أخرى، تكون روافد لهذا المنهج الدقيق، فهو يعتبر الحقيقة مقدّمة على المجاز، ولذلك يحاول مهما أمكن ألاّ يبتعد عن الحقيقة خصوصاً في القرآن الكريم الّذي نزل على الحقيقة دون المجاز.

فالشريف المرتضى (قدس سرّه) يؤسّس منهجية أصيلة عقلية تعتمد العلم والمعرفة والدليل، فهو يصرّح أنّ ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده فهو الحقّ المبين، ولا يضرّه الخلاف فيه، وقلّة عدد القائل به، كما لا ينفع في الأوّل الاتّفاق عليه، وكثرة عدد الذاهب إليه، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه.

فالأساس في منهجه هو العقلائية، فلذلك اعتبر أصحاب الحديث هم الّذين لم

٦٢

يعرفوا الحقّ في الأصول ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر، بل هم مقلّدون فيها، فهم ليسوا بأهل نظر ولا اجتهاد، ولم يصلوا إلى الحقّ بالحجّة، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض. وغير ذلك من الأسس الّتي اشتقها من منهجيته العقلائية.

حتّى إنكاره لحجّية أخبار الآحاد وأنّها لا توجب علماً ولا تقتضي قطعاً ناشئ من أساسه العقلي، فإنّ العقل لا يعطي الشرعية لخبر الواحد بحيث يجعله علماً وطريقاً إلى الواقع، فهو يقول: إنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علماً، وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم وأكثر ما توجبه - مع السلامة التامّة - الظن، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة الشرعية ممّا يوجب العلم واليقين، وهكذا يطيح بالقياس على أسس نزاله العقلي، فإنّه لا يكون طريقاً إلى العلم بشيء من الأحكام البتة، بل صرّح في موضع آخر بأنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبّد بأحكامها من طريق العقول.

نعم، يعترف بأنّ المذهب الصحيح هو: تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول، ولكن ذلك ما ورد ولا تُعبّدنا به، فهو لا يعمل بها؛ لأنّ التعبّد بها مفقود وإن كان جائزاً، وعلى هذا الأساس لا يتأوّل خبراً لا يقطع به ولا يعلم صحّته.

وعن طريق هذه المنهجية العقلائية يعرّج على رافد آخر وهو عدم تخصيص القرآن الكريم بأخبار الآحاد؛ لأنّها لا توجب الظن ولا يخصّص ولا يرجع عمّا يوجب العلم من ظواهر الكتاب. فالعقل يؤكّد على أنّ تخصيص الظواهر يحتاج إلى قرينة أقوى وأكثر متاخمة للعلم وظواهر القرآن هي حجّة وعلمية فتحتاج إلى أقوى منها. ومن هذا الباب ما يقع في السنّة الشريفة من باب النسخ والإطلاق والتقييد وغيرها كلّها تحتاج إلى جنبة علمية يرجّحها العقل في مورد التعارض.

٦٣

وهذا كلّه يرجع إلى منهجيته في باب العقل.

وسوف يرى القارئ إعمال المنهجية العقلية في جميع المناهج الروائية وفي جميع الحقول الإسلامية، وإن تنوّعت أدوار العقل ومناهجه في مختلف البحث الروائي، لكن الجميع يستمدّ شرعيته من العقل، فعندما يعتقد الشريف المرتضى (قدس سرّه) أنّه لا يمكن تخصيص ظاهر نفس الخبر، بل يبقى على إطلاقه وعمومه، وعليه فيقدّم من الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقاً، ومرجع هذا إلى أنّ العقل يضفي الحجيّة على الظهور والأقوائية والأولوية. فهذا المنهج يستمدّ روحه من المنهجية العقلية، وكذلك عند ما يذكر المرجّحات الدلالية في الخبر يذكر ما كان له تأويل معقول، وقريب منه القرينة القطعية وحالات التعارض والترجيحات كلّها تنتهل من منهل واحد عقلائي.

٦٤

الفصل الأوّل

منهجه في المباحث القرآنية

تمهيد

منهج المحدّثين في تفسير القرآن.

حدود القرآن والسنّة الشريفة.

المنهج العقلي وظواهر الكتاب والسنّة.

الأخذ بالعمومات والظواهر القرآنية.

المنهج المشترك بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

التعارض بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

٦٥

٦٦

تمهيد

من أخصب حقول التفسير هو التفسير الروائي؛ لأنّه أصل التفسير القرآني، وعليه فسّر القرآن الكريم، فإنّ السنّة الصادرة من النّبي وآله (عليهم السلام) هي المفسّر الكبير لكتاب الله تعالى.

وفي هذا المجال نتطرّق إلى المنهج الروائي في التفسير عند الشريف المرتضى (قدس سرّه)، (1) ورغم الأهمية الكبرى الّتي أولاها الشريف المرتضى (قدس سرّه) للنقل والأثر في تفسيره إلاّ أنّه لم يكن ممّن يقبل الرواية والحديث دون تمحيص وتدقيق ومحاملة وترجيح؛ لأنّه كان يرى أُولئك الّذين قال عنهم: لم يُتلقَ سائر ما روي عنهم بالقبول. ولم يجز لنفسه الانسياق مع سائر مرويّاتهم إلاّ بعد الاطمئنان لصحّة ما يروون، ومن هنا نجده يضعّف بعض آراء هؤلاء ويرد أقوالهم، أو يرجّح غيرهم عليهم.

وإذا كان موقف الشريف المرتضى (قدس سرّه) من أقوال الطبقة الأولى على هذا النحو من

____________________

(1) قمت أنا وأخي الأستاذ الفاضل خزعل غازي - حفظه الله - بعمل إحصائي شامل وكامل للآيات الكريمة في كتب الشريف المرتضى (قدس سرّه) البالغ عدّة مجلّدات، ومن خلاله وجدنا الأثر الخصب للرواية في تفسيره للقرآن الكريم.

وقد تضمّن تفسيره عدداً كبيراً من الأحاديث والأخبار الّتي رويت عن النبيّ والأئمّة (عليهم السلام)، وقد اعتمدها (قدس سرّه) عند تفسيره للآيات القرآنية، وأعطاها اهتمامً خاصّاً، ولا سيّما أنّ تلك الأخبار قد جاءت بصدد توضيح آيات الكتاب العزيز، وتفسير معانيه، وبيان مقاصده ومراميه.

٦٧

الدقّة في التحري والتمحيص والغربلة، فإنّ موقفه من أقوال المفسّرين المعاصرين له لا يقل شأناً عن موقفه ممّن سبقهم؛ لأنّه كان يتهمهم بالانحياز لمذاهبهم، وهو أمر في غاية الخطورة؛ إذ لم يكن طلب الحقيقة هو المقصود في تفاسيرهم؛ ولذلك نجده يقف من تفاسيرهم موقف المتأمّل. فيأخذ منها ما يأخذ بعد رؤية وتمعّن، ويرفض منها ما يستحقّ الرفض، ويناقش ما ينبغي مناقشته من أقوالهم وآرائهم، كما فعل مع الطبري والبلخي وغيرهما.

ومن متابعة موقف الشريف المرتضى (قدس سرّه) من الاعتماد على المأثور يتّضح لنا أنّ للتفسير بالمأثور عنده حدوداً ثابتة قائمة على تدقيق الروايات وتمحيصها، وقبول الأثر الصحيح منها، دون الشعور بضرورة السير وراء النقول والمرويّات في كلّ الفروض، وبهذا يكون (قدس سرّه) إلى حدٍّ كبير في عملية تطوير المنهج التفسيري المعتمد أساساً على النقل والأثر.

ومن أهمّ كتب الشريف المرتضى (قدس سرّه) في هذا المجال هو كتاب الأمالي، الّذي جاز القسم الأكبر من التفسير الروائي وخصوصاً الجزء الأوّل منه. وهو من الكتب المهمّة في حقل الأدب والتاريخ والتفسير والرواية، يقول الأُستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم في مقدّمته على كتاب الأمالي:

وحيثما يستعرض الباحث كتب العربية النفيسة الّتي حوت ألوان المعارف، وزخرت بأشتات الطرائف، وحفظت بين دفتيها نتائج القرائح، وحقائق السير والتاريخ والأخبار، ونصوص الشعر واللغة والغريب، فإنّه بلا مراء يعدّ منها كتاب أمالي المرتضى - أو كما يسمّيه مؤلّفه: غُرر الفوائد ودرر القلائد - وينظمه في العقد الّذي يضمّ كتاب الكامل للمبرّد، واليبان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد لابن عبد ربّه، والأغاني لأبي الفرج، وغيرها من الكتب الّتي حلّقت في

٦٨

سماء الآداب العربية كالنجوم، وأرست قواعدها كالأطواد، وعمرت بها مجالس العلماء، وسوامر الأدباء، وتدارسها المتأدّبون جيلاً بعد جيل، وتداولها النسّاخ، وعدّت في مكتبات الدارسين من أكرم الذخائر وأنفس الأعلاق.

وهي مجالس مختلفة، أملاها في أزمان متعاقبة، تنقل فيها من موضوع إلى موضوع، ومن غرض إلى آخر، اختار بعض آي القرآن الكريم، ممّا يغمّ تأويله على الخاصّة بل العامّة، ويدور حولها السؤال، ويثار الاستشكال، وعالج تأويلها وتوجيهها على طريقة أصحابه من المعتزلة (1) ، أو أصحاب العدل كما كان يسمّيهم، وحاول جهده أن يوفّق بين تأويل الآيات المتشابهة، وما دار على ألسنة العرب من نصوص الشعر واللغة، وفي هذا أبدى تفوّقاً عجيباً، وأبان عن ذهن وقّادٍ، وذكاء متلهبٍ، وبصر نافذٍ، وأعانه فيما فسّر وأوّل ووجّه وفرة محفوظه من الشعر واللغة ومأثور الكلام. وكان الطابع الّذي يغلب عليه عرض الوجوه المختلفة، والآراء المحتملة، مجوّزاً في ذلك إمكان الأخذ بالآراء جميعاً.

وترجع قيمة ما عرض له الشريف في هذا المجالس من تأويل الآيات إلى أنّها تعدّ صورة لتفسير القرآن الكريم عند علماء المعتزلة، ممّا لم يصل إلينا من كتبهم إلاّ القليل النادر.

واختار أيضاً طائفة من الأحاديث الّتي يختلف العلماء في تأويلها، ويبدو التعارض فيما بينها، وحاول تفسيرها وتأويلها، بالمنهج الّذي عالج به تأويل آي القرآن، مستعيناً بشواهد الشعر واللغة، موضّحاً مذهب أصحابه من أهل العدل؛ مدلياً بحجّتهم على من خالف تأويلهم من جماعة أهل السنّة، أو أهل الجبر كما كان يسمّيهم، وناقش ابن قتيبة وأبا عبيد القاسم بن سلام وابن الأنباري في ذلك على الخصوص.

____________________

(1) في هذه العجالة: لا نؤيّد الأستاذ في هكذا مزاعم، ونأمل أن نطرح ذلك في مقدّمة التفسير إن شاء الله تعالى.

٦٩

ثمّ عرض لمسائل في علم الكلام ممّا اشتجر فيها الرأي، ودار حولها الجدل، واصطرعت الأقلام، وأقيمت المناظرات، مثل القول برؤية الله، وخلق أفعال العباد، وإرادة الله للقبائح، والقول بوجوب الأصلح، وقرّر رأي أصحابه، وحاجّ عنهم، واحتجّ على خصومهم، وكان فيما جادل وناقش رفيقاً في الجدل، عفيفاً في المقال.

وأودع في الكتاب بجانب ما بسّط من تأويل الآيات والأحاديث وعرض المسائل مختارات من المصطفى المنخول من الشعر وحرّ الكلام. تناولها بالشرح والنقد والموازنة، وذكر صدراً من تراجم الشعراء والعلماء والأُدباء وأصحاب الأهواء والآراء الخاصّة، وأورد طائفة من أشعارهم وأقوالهم ونوادرهم، ثمّ استروح بذكر فيض من الطرائف النادرة، والأجوبة الحاضرة المسكتة، والأفاكيه الرفيعة، معتمداً فيما أورده على ما وصل إليه من كتب الجاحظ وابن قتيبة والمبرّد وأبي حاتم والآمدي وغيرهم، أو ما رواه عن شيوخه، وأبي عبد الله المرزبانيّ على الخصوص.

واختار أيضاً بعض الموضوعات الّتي كانت مقاصد شعراء العربية في الجاهلية وصدر الإسلام، كالمدائح والأهاجي والمراثي والسير ووصف الشيب والطيف وغيرها، وأورد ما قاله الشعراء فيها، ووازن بين الكثير منها، وتناولها بالنقد في كثير من الأحيان.

وبهذه الفنون المتنوّعة، والفصول المختلفة، والمباحث الجليلة اجتمع للكتاب ميزة كبرى بين الكتب العربية، وعدّ مصدراً ينقل عنه العلماء، ويحتجّ به الأدباء، ويرد شرعته القارئون على ممرّ الأجيال.

ويبدو أنّ هذه المجال أملاها الشريف في داره على تلاميذه ومريديه، في أزمنة مختلفة متعاقبة. (1)

____________________

(1) أمال المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1 ص18 - 20 من المقدّمة.

٧٠

منهج المحدّثين في تفسير القرآن:

المحدّثون لهم مناهجهم في تفسير القرآن الكريم وآرائهم واعتقاداتهم في هذه المنظومة المعرفية واختلاف أهوائهم ومناحيهم، وهذا لم يشكل عند الشريف المرتضى (قدس سرّه) مانعاً من عرض تفاسيرهم ووجهات أنظارهم، وسوف نأتي بنماذج منهجية من هؤلاء المفكّرين لنعرف مطبّات فكر هؤلاء المفسّرين وإشكالاتهم.

ولابدّ أن ننبّه على أنّ البحث ينصبّ حول المفسّرين من أهل الحديث لا كلّ مفسّر، بل الّذين لهم أنظار في الأخبار التفسيرية.

فمنهم: ابن قتيبة الّذي اعتنى به الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مواضع كثيرة من أماليه حول تفسيراته الروائية، كما نشاهد ذلك في رواية عقبة بن عامر، عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) - عندما قال -: (لو كان القرآن في إهاب ما مسّته النار).

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): وقد ذكر متأوّلو حديث النّبي (صلّى الله عليه وآله) في هذا الخبر وجوهاً كثيرة، كلّها غير صحيحٍ ولا شافٍ، وأنا أذكر ما اعتمدوه، وأبيّن ما فيه، ثمّ أذكر الوجه الصحيح:

قال ابن قتيبة: ذهب الأصمعي إلى أنّ من تعلّم القرآن من المسلمين لو اُلقي في النار لم تحرقه، فكنّى بالإهاب - وهو الجلد - عن الشخص والجسم، واحتجّ على تأويله هذا الحديث بما روي عن سليمان بن محمّد قال: سمعت أبا أمامة يقول: اقرؤوا القرآن ولا تغرنّكم هذه المصاحف المعلّقة؛ فإنّ الله لا يعذّب قلباً وعى القرآن.

قال ابن قتيبة: وفي الحديث تأويل آخر، وهو أنّ القرآن لو كتب في جلد، ثمّ اُلقي في النار على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم تحرقه النار؛ على وجه الدّلالة على صحّة أمر النبيّ عليه وآله السلام، ثمّ انقطع ذلك بعده، قال: وجرى هذا مجرى كلام الذئب وشكاية البعير وغير ذلك من آياته (عليه السلام).

٧١

وقال: وفيه تأويل ثالث: وهو أن يكون معنى الحديث: لو جعل القرآن في إهاب، ثمّ اُلقي في النار ما احترق القرآن، فكأنّ النار تحرق الجلد والمداد ولا تحرق القرآن؛ لأنّ الله تعالى ينسخه ويرفعه من الجلد، صيانة له عن الإحراق.

وقال أبو بكر بن القاسم الأنباري ردّاً على ابن قتيبة، ومعترضاً عليه: اعتبرت ما قاله ابن قتيبة من ذلك كلّه، فما وجدت فيه شيئاً صحيحاً.

أمّا قوله الأوّل فيردّه ما روي عنه (عليه السلام) من قوله: (يخرج من النار قوم بعد ما يحرقون فيها، فيقال: هؤلاء الجهنّميون طلقاء الله (عزّ وجل).

قال: وقد روى أبو سعيد عن النّبي (صلّى الله عليه وآله): (إذ دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، قال الله (عزّ وجل): انظروا من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان فأخرجوه منها).

قال أبو بكر: وكيف يصحّ قول ابن قتيبة في زعمه أنّ النار لا تحرق من قرأ القرآن، ولا خلاف بين المسلمين أنّ الخوارج وغيرهم ممّن يلحد في دين الله تعالى ويقرأ القرآن، أن تحرقهم النار بغير شكّ، واحتجاجه بخبر أبي أمامة: (إنّ الله لا يعذّب قلباً وعلى القرآن) معناه: قرأ القرآن، وعمل به؛ فأمّا من حفظ ألفاظه وضيّع حدوده؛ فإنّه غير واعٍ له.

قال: فأمّا قوله: إنّه من دلائل النبوة الّتي انقطعت بعده. فما روى هذا الحديث أحد أنّه كان في دلائله (عليه السلام)، ولو أراد ذلك دليلاً لكان (صلّى الله عليه وآله) يجعل القرآن في إهاب، ثمّ يلقيه في النار فلا يحترق.

قال: وقول ابن قتيبة الثالث: (لاحترق الجلد والمداد، ولم يحترق القرآن) غير صحيح؛ لأنّ الّذي يصححّ هذا القول يوجب أنّ القرآن غير المكتوب، وهذا محال؛ لأنّ المكتوب في المصحف هو القرآن.

٧٢

والدليل على هذا قوله تعالى: ( إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ ) (1) ، ومنه الحديث: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو)، وإنّما يريد المصحف.

قال أبو بكر: والقول عندنا في تأويل هذا الحديث أنّه أراد: لو كان القرآن في جلد، ثمّ اُلقي في النار ما أبطلته؛ لأنّها وإن أحرقته فإنّها لا تدرسه: إذ كان الله قد ضمّنه قلوب الأخيار من عباده.

والدليل على هذا قول الله تعالى للنبي (صلّى الله عليه وآله) فيما روي عنه: (إنّي منزل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرأه نائماً ويقظان)، فلم يرد تعالى أنّ القرآن لو كتب في شيء، ثمّ غسل بالماء لم ينغسل، وإنّما أراد أنّ الماء لا يبظله ولا يدرسه إذا كانت القلوب تعيه وتحفظه.

قال: ومثل هذا كثير في كتاب الله تعالى وفي لغة العرب، قال الله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى‏ بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) (2) ، فهم قد كتموا الله تعالى لمّا قالوا: ( وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ ) (3) ، وإنّما أراد تعالى ولا يكتمون الله حديثاً في حقيقة الأمر: لأنّهم وإن كتموه في الظاهر فالذي كتموه غير مستتر عنه.

وبعد هذا الاستعراض السريع لرائدين من رواد المحدّثين يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): والوجه الصحيح في تأويل الخبر غير ما توهّمه ابن قتيبة وابن الأنباري جميعاً، وهو أنّ هذا من كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على طريق المثل والمبالغة في تعظيم شأن القرآن والإخبار عن جلالة قدره وعظم خطره، والمعنى أنّه لو كتب في إهاب، واُلقي في النار، وكانت النار ممّا لا تُحرِق شيئاً لعلو شأنه وجلالة قدره، لم تحرّفه النار.

____________________

(1) الواقعة: 77 - 79.

(2) النساء: 42.

(3) الأنعام: 23.

٧٣

ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب وأمثاله كثيرة ظاهرة على مَن له أدنى أنس بمذاهبهم، وتصرّف كلامهم.

فمن ذلك قوله تعالى: ( لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (1) ، ومعنى الكلام: إنّنا لو أنزلنا القرآن على جبل، وكان الجبل ممّا يتصدّع إشفاقاً من شيء، أو خشية لأمر، لتصدّع مع صلابته وقوّته. فكيف بكم يا معاشر المكلّفين، مع ضعفكم وقلّتكم؟! وأنتم أولى بالخشية والإشفاق، وقد صرح الله تعالى بأنّ الكلام خرج مخرج المثل بقوله: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) ، ومثله قوله تعالى: ( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (2) .

ومثله قول الشاعر:

أما وجلال الله لو تذكرينني

كذكراك ما نهنهت للعين مدمعا

فقالت: بلى والله ذكراً لو أنّه

تضمّنه صمّ الصفا لتصدّعا

ومثله:

فلو أنّ ما بي بالحصى، فلق الحصى

وبالريح لم يسمع لهنّ هبوب

ومثله:

وقفت على ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكى عنده وأخاطبه

وهذه طريقة للعرب مشهورة في المبالغة، يقولون: هذا كلام يفلّق الصخر، ويهدّ الجبال، ويصرع الطير، ويستنزل الوعول، وليس ذلك بكذب منهم، بل المعنى أنّه لحسنه وحلاوته وبلاغته يفعل مثل هذه الأُمور لو تأتت، ولو كانت ممّا يسهل

____________________

(1) الحشر: 21.

(2) مريم: 90.

٧٤

ويتيسر لشيء من الأشياء لتسهّلت به من أجله.

فأمّا الجواب الأوّل المحكيّ عن ابن قتيبة فالذي يفسده - زائداً على ماردّه ابن الأنباريّ - أنّه لو كان الأمر على ما ذكره ابن قتيبة وحكاه عن الأصمعي، لكان النّبي (صلّى الله عليه وآله) قد أغرانا بالذّنوب؛ لأنّه إذا أمن حافظ القرآن ومتعلّمه من النار والعذاب فيها، ركن المكلّفون إلى تعلّم القرآن والإقدام على القبائح آمنين غير خائفين، وهذا لا يجوز عليه (صلّى الله عليه وآله)، والمعنى في قول أبي أمامة: (إنّ الله لا يعذّب قلباً وعى القرآن) على نحو ما ذكره ابن الأنباري.

فأمّا جواب ابن قتيبة الثاني، فمن أين له أن ذلك مختصّ بزمانه (صلّى الله عليه وآله)، وليس في اللفظ ولا في غيره دلالة عليه؟! وأقوى ما يبطله أنّه لو كان كما ذكر لما جاز أن يخفى على جماعة المسلمين الّذين رووا جميع معجزاته عليه وآله السلام وضبطوها. وفي وجداننا من روى ذلك وجمعه وعني به غير عارف بهذه الدّلالة والآية إبطال لما توهّمه.

فأمّا جوابه الثالث فباطل؛ لأنّ القرآن في الحقيقة ليس يحلّ الجلد، ولا يكون فيه حتّى ينسب الاحتراق إلى الجلد دونه، وإذا كان الأمر على هذا لم يكن في قوله: إنّ الإهاب هو المحترق دون القرآن فائدة: لأنّ هذه سبيل كلّ كلام كتب في إهاب أو غيره إذا احترق الإهاب لم يضف الاحتراق إلى الكلام؛ لاستحالة هذه القضيّة عليه.

ومن عجيب الأمور قول ابن الأنباري: (وهذا يوجب أنّ القرآن غير المكتوب)؛ لأنّ: كلام ابن قتيبة ليس يوجب ما ظنّه؛ بل يوجب ضده من أنّ المكتوب هو والقرآن؛ ولهذا علّق الإحراق بالكتابة والجلد دون المكتوب الّذي هو القرآن، وإذا كان المكتوب في المصحف هو القرآن على ما اقترح ابن الأنباري، فما المانع من قول ابن قتيبة أنّ الجلد يحترق دونه؟ لأنّ أحداً لا يقول: إنّ الجلد هو القرآن، وإنّما

٧٥

يقول قوم: إنّه مكتوب فيه. وإذا كان غيره لم يمتنع إضافة الاحتراق إلى أحدهما دون الآخر، وهذا كلّه تخليط من الرجلين؛ لأنّ القرآن غير حال في الجلد على الحقيقة، وليست الكتابة غير المكتوب، وإنّما الكتابة أمارة للحروف، فأمّا أن تكون هي الكلام على الحقيقة أو يوجد معها الكلام مكتوباً فمحال.

فأمّا استشهاده على ذلك بالآية وبقوله: (لا تسافروا بالقرآن) فذلك تجوّز وتوسّع، وليس يجب أن يجعل إطلاق الألفاظ المحتملة دليلاً على إثبات الأحكام والمعاني، ومعترضة على أدلّة العقول، وقد تجوّز القوم بأكثر من هذا، فقالوا: في هذا الكتاب شعر امرئ القيس وعلم الشافعي وفقه فلان، ولم يقتض ذلك أن يكون العلم والكلام على الحقيقة موجودين في الدفتر. وقد بين الكلام في هذا الباب هو مواضع هي أولى به.

فأمّا جواب ابن الأنباري الّذي ارتضاه لنفسه، فلا طائل أيضاً فيه؛ لأنّه لا مزيّة للقرآن فيما ذكره على كلّ كلام وشعر في العالم؛ لأنّا نعلم أنّ الشعر والكلام المحفوظ في صدور الرجال إذا كتب في جلد، ثمّ اُحرق أو غسل لم يذهب ما في الصدور منه، بل يكون ثابتاً بحاله، فأي مزيّة للقرآن في هذا على غيره؟ وأيّ فضيلة؟

فإن قال: وجه المزيّة أنّ غير القرآن من الشعر وغيره يمكن أن يندرس ويبطل بإحراق النار، والقرآن إذا كان هو تعالى هو المتولّى لإبداعه الصدور لا يتمّ ذلك فيه؟

قلنا: الكلّ سواء لأنّ غير القرآن إنّما يبطل باحتراق الإهاب المكتوب فيه متى لم يكن محفوظاً مودعاً للصدور، ومتى كان بهذا الصفة لم يبطل باحتراق الجلد، وهكذا القرآن لو لم يحفظ في الصدور لبطل بالاحتراق، ولكنّه لا يبطل بهذا بالشرط، فصار الشرط في بطلان غير القرآن وثباته كالشرط في بطلان القرآن

٧٦

وإثباته، فلا مزيّة على هذا الجواب للقرآن فيما خصّ به من أنّ النار لا تمسّه، وهذا يبيّن أنه لا وجه غير ما ذكرناه في الخبر، وهو أشبه بمذاهب العرب وأولى بتفضيل القرآن وتعظيمه. (1)

بعد هذا العرض الطويل نخرج بالمنهجية الكلّية لهذا المقطع، وهي:

إنّ النزاع في هذه المنهجية ينصبّ حول المجاز والحقيقة في تفسير القرآن؛ فإنّ ما طرحه الشريف المرتضى (قدس سرّه) من الوجهين الثاني والثالث عن ابن قتيبة يتّضح أنّ تفسيره الثاني حمل على الحقيقة، وتفسيره الثالث حمل على المجاز، وما نقله ما التفسير الأوّل عن الأصمعي فهو مجاز بعيد.

وكأنّ ابن قتيبة أراد إيضاح حقيقة، وهي مقدار عطاء المفسّرين قبله ومنهم الأصمعي الّذي بَعُد تفسيره بهذا المقدار، بل حتّى على مجازه، فأتى ابن قتيبة بتفسير مجازي قبال تفسير الأصمعي لينبه القارئ على مقدار العطاء التفسيري المجازي الّذي أدركه وأدركه الأصمعي، ثمّ جاء بتفسير حقيقي ليؤكّد ثراء معرفته الحقيقية للتنزيل.

ولكنّ الأنباري يضع بصمات الخطأ على جميع أجوبة ابن قتيبة، سواء المجازان الأوّلان أو الثالث الحقيقي.

حيث يعتبر المجاز الأوّل عن الأصمعي - والّذي نقله ابن قتيبة وكأنّه يرتضيه مجازاً - بعيد جدّاً، وهو خلاف المأثور، فيردّه بخبرين، ويأتي باستبعاد حسي. ويرد التفسير الثاني المجازي باستبعاد عقلي بسيط.

ويكرس همّه على الرد الثالث باستحالة عقلية، ومصادمة بعض الأخبار.

ولكن الأنباري يلتمس لنفسه وجهاً تأويلياً مقبولاً في ظاهر الحال، ويأتي بعدّة شواهد على ذلك.

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص 426 - 431.

٧٧

وكأنّه يريد أن يُفهّم القارئ إلى أنّ تأويله وإن كان ليس حملاً على حقيقته، لكنّه أكثر مقبولية؛ فإنّه - كما على حدّ تعبيره - كثير في كتاب الله تعالى.

والشريف المرتضى (قدس سرّه) يعتبر الجميع قد وقعوا في الوهم، وليست هذه التأويلات هي حقيقية ولا مجازية تأويلية، وإنّما إذا أردنا الخبر لا بدّ من التمسّك بآيات أُخرى، هي بمثابة تفسيرات لهذا الخبر، ويرى أنّ لتأويله نظائر كثيرة في القرآن الكريم ظاهرة على من له أدنى دربة بمذاهبهم وتصرّف كلامهم.

ولكنّ الحقيقة أنّ ردّ الأنباري والشريف المرتضى (قدس سرّه) على الجواب الأوّل الّذي نقله ابن قتيبة عن الأصمعي فيه نوع من التمحّل؛ فإنّ مقصود الأصمعي هو نفس ما طرحه الأنباري، أي: (من قرأ القرآن وعمل به، فأمّا من حفظ ألفاظه وضيع حدوده؛ فإنّه غير واعٍ له).

حدود القرآن الكريم والسنّة الشريفة:

حدود القرآن الكريم والسنّة الشريفة واحدة، فإنّ ما دل عليه القرآن الكريم تدلّ عليه السنّة الشريفة وكذا العكس. فالحدود بينهما مشتركة والعطاء متبادل، والأحكام واحدة، والمنطلق متّحد؛ ولذلك يقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (كتاب الله وأهل بيتي لا يفترقان).

وعلى هذا المبنى يؤكّد الشريف المرتضى (قدس سرّه) على هذه الحقيقة، وهي: إنّه لا تعدّ للقرآن من السنّة الشريفة؛ فإنّ القرآن دال على وجوب اتّباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع، فمن اعتمد على أدلّة الشرع لا يكون متجاوزاً للقرآن ولا متعدّياً.

ولنأتي بمثال تطبيقي على هذه الفكرة، وهو ما روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن)، فيذكر الشريف المرتضى (قدس سرّه) عدّة وجوه تفسير لهذا الخبر، وكان رابعها هو:

(أن يكون قوله (عليه السلام): (مَن لم يتغنّ) من غنى الرجل بالمكان إذا طال مقامه به،

٧٨

ومنه قيل: المغني المغاني، قال الله تعالى: ( كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ) (1) أي لم يقيموا بها.

وقال الأسود بن يعفر الأيادي:

ولَقد غَنوا فيها بأنعَم عيشةٍ

في ظلِّ مُلكٍ ثابت الأوتادِ

وقول الأعشى الّذي أنشده أبو عبيد، وهو:

وَكُنتُ اِمرَأً زَمَناً بِالعِراقِ

عَفيفَ المُناخِ طَويلَ التَغَنّ

بطول المقام أشبه منه بالاستغناء؛ لأنّ المقام يوصف بالطول، ولا يوصف الاستغناء بذلك، فكأنّ الأعشى أراد: إنّني كنت ملازماً لوطني، مقيماً بين أهلي، لا أسافر للانتجاع والطّلب، ويجري قوله هذا مجرى قول حسان بن ثابت الأنصاري:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل

أراد بقوله: (حول قبر أبيهم) أنّهم ملوك لا ينتجعون، ولا يفارقون محالّهم وأوطانهم، فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يقم على القرآن فلا يتجاوزه إلى غيره، ولا يتعدّاه إلى سواه، ويتخذه مغنىً ومنزلاً ومقاماً فليس منّا.

فإن قيل: أليس قد يتعدّى القرآن إلى السنّة والإجماع وسائر أدلّة الشرع؟ فكيف يحظر علينا تعدّيه؟

قلنا: ليس في ذلك تعدٍّ للقرآن؛ لأنّ القرآن دالّ على وجوب اتّباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع، فمن اعتمد بعضها في شيء من الأحكام لا يكون متجاوزاً للقرآن، ولا متعدّياً. فأمّا قوله (عليه السلام): (ليس منّا) فقد قيل فيه: إنّه لا يكون على أخلاقنا، واستشهد ببيت النابغة:

إذا حاولت في أسد فجوراً

فإنّي لست منك ولست منّي

وقيل إنّه أراد: ليس على ديننا. وهذا الوجه لا يليق إلاّ بجوابنا الّذي اخترناه.

____________________

(1) الأعراف: 92.

٧٩

وهو بعده بجواب أبي عبيد أليق؛ لأنّه محال أن يخرج عن دين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وملّته من لم يحسن صوته بالقرآن، ويرجّع فيه، أو من لم يتلذذ بتلاوته ويستحليها. (1)

فليس هناك تعدٍّ للقرآن الكريم، ومن أراد ذلك فقد تجاوز الحقيقة، ووقع في محاذير يأباها النصّ القرآني الكريم.

إنّ للقرآن الكريم حدوداً وكذلك للسنّة حدوداً، وأحد حدود القرآن هي أنّه لا بدّ من حمل القرآن الكريم على الحقيقة دون المجاز، خصوصاً إذا عضدت هذه الحقيقة بالسنّة الشريفة.

وهذا المعنى أكدته الآية (40) من سورة هود (عليه السلام) قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) .

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) بهذا الصدد: (أمّا التنور فقد ذكر في معناه وجوه:

وثالثها: أن يكون المراد بـ ( وَفَارَ التَّنُّورُ ) أي برز النور، وظهور الضوء، وتكاثفت حرارة دخول النهار، وتقضّي اللّيل. وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

ورابعها: أن يكون المراد بالتنوّر الّذي يختبز فيه على الحقيقة، وأنّه تنوّر كان لآدم (عليه السلام)... والّذي روي عنه أنّ التنوّر الخبر الحقيقي ابن عبّاس والحسن ومجاهد وغيرهم.

وخامسها: أن يكون معنى ذلك: اشتدّ غضب الله تعالى عليهم، وحلّ وقوع نقمته بهم، فذكر تعالى التنّور مثلاً لحضور العذاب، كما تقول العرب: قد حمى الوطيس: إذا اشتد الحرب، وعظم الخطب. والوطيس هو التنّور.

وتقول العرب أيضاً: قد فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم، قال الشاعر:

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص35 - 36.

٨٠