المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى0%

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 353

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: وسام الخطاوي
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 353
المشاهدات: 46207
تحميل: 5977

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 353 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46207 / تحميل: 5977
الحجم الحجم الحجم
المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تفور علينا قدرهم فنديمها

ونفثؤها عنّا إذا حميها غلا

أراد بِقْدرهم حربهم، ومعنى نُديمها: نُسكِّنها.

ومن ذلك الحديث المروى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): أنّه نهى عن البول في الماء الدائم، يعني: الساكن.

ويقال: قد دوّم الطائر في الهواء، إذا بسط جناحيه وسكّنهما ولم يخفق بهما. وتفثؤها معناه: نسكّنها؛ يقال: قد فثأت غضبه عنّي، وفثأت الحارّ بالبارد إذا كسرته به.

وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنّور الحقيقي؛ لأنّه الحقيقة وما سواه مجاز؛ ولأنّ الروايات الظاهرة تشهد له، وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدّة الغضب، واحتداد الأمر تمثيلاً وتشبيهاً؛ لأنّ حمل الكلام على الحقيقة الّتي تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسّع مع فقد الرواية.

وأي المعاني أريد بالتنّور فإنّ الله تعالى جعل فوران الماء منه علماً لنبيّه؛ وآيةً تدلّ على نزول العذاب بقومه؛ لينجو بنفسه وبالمؤمنين (1) .

فحمل الآية على الحقيقة أولى وأوجب من الحمل على المجاز حتّى دعا الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن يترك الوجه الثالث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأجل أنّه على نحو المجاز، أو أنّه من بطون القرآن الكريم.

المنهج العقلي وظواهر الكتاب والسنّة:

يعتبر العقل الركيزة الأساسية والمهمّة في المنظومة المعرفية عند الشريف المرتضى (قدس سرّه)، بل جعله الحاكم الرئيسي في رفع التنازع بين الأدلّة بجميع أطرافها

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج2، ص171.

٨١

(قرآناً وسنة)؛ لأنّه يعتقد أنّ هذه الموهبة الإلهية إذا هذّبت يمكن جعلها الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإلهي.

ويلتفت الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلى أنّ المأخوذ في أدلّة العقول هو الصراحة الواضحة، الّتي لا مناص من العدول، فإذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار، بل يتجاوز مرحلة الاحتمال والمجاز إلى مرحلة أدقّ، وهي وجوه التأويلات الّتي يمكن استكشافها من أدلّة العقول.

فليست أدلّة العقول لوحدها تتجاوب مع حاجات الواقع، بل لها قيود وشروط من عدم الاحتمال، فإذا ارتضينا ذلك سوف نحصل على مفهوم ومناط كلّي يتعاطف معنا على كلّ الأدلّة، ويكون دليلاً وحاكماً تخضع له جميع المدارك الشرعية، وسوف نصرف كلّ ما ورد ما ظاهره بخلاف الحقّ من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): - نقلاً عن لسان بعض -: (أو ليس من مذهبكم أنّ الأخبار الّتي يخالف ظاهرها الأُصول، ولا تطابق العقول لا يجب ردّها، والقطع على كذب رواتها إلاّ بعد ألاّ يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل؟ وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسّف). (1)

وأوضح جلاءً من هذا المتن ما قاله (قدس سرّه): (إذا ثبت بأدلّة العقول الّتي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء (عليهم السلام)، صرفنا كلّ ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها؛ كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفاً لما تدلّ عليه القول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه أو لا يجوز). (2)

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص318.

(2) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص477.

٨٢

فعلى هذا الميزان الموحّد (وهو العرض على الواضح من أدلّة العقول) سوف تكون الانطلاقة واضحة. وكذلك ما جاء في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا... ) (1) .

فقد قال: هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية عليه من أنّ يوسف (عليه السلام) عزم على المعصية وأرادها، وأنّه جلس مجلس الرجل من المرأة. ثمّ انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوب (عليه السلام) عاضّاً على إصبعه، متوعّداً له على مواقعة المعصية، أو بأن نؤدّي له بالنهي والزجر في الحال على ما ورد به الحديث؟

وينقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) النصّ الثاني المتقدّم الّذي نقلناه قبل قليل ليبني عليه الجواب، ثمّ يقول: (ولهذه الآية وجوه من التأويل؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبيّ الله تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية). (2)

وبعد أن ينقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) عدّة أجوبة في تفسير الآية، يقول: (وإنّما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسّرين ومخرّفو القصّاص، وقرفوا به نبي الله (عليه السلام)، لما في العقول من الأدلّة على أنّ مثل ذلك لا يجوز على الأنبياء (عليهم السلام)؛ من حيث كان منفّراً عنهم، وقادحاً في الغرض المجرى إليه بإرسالهم، والقصّة تشهد بذلك؛ لأنّه تعالى قال: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ) ؛ ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا، ثمّ الأخذ فيه، والشروع في مقدّماته، وقوله أيضاً: ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يقتضي تنزيهه عن الهمّ بالزنا، والعزم عليه. وحكايته عن النسوة قولهن: ( حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ) ، (3) تدلّ أيضاً على براءته من القبيح.

فأمّا البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفاً لطف الله له به في تلك الحال أو

____________________

(1) يوسف: 24.

(2) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص477.

(3) يوسف: 51.

٨٣

قبلها، اختار عنده الانصراف عن المعاصي، والتنزه عنها.

ويحتمل أيضاً ما ذكره أبو علي، وهو أن يكون البرهان دلالة الله تعالى له على تحريم ذلك عليه، وعلى أنّ من فعله يستحقّ العقاب. وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنّه الجهّال من رؤية صورة أبيه يعقوب (عليه السلام) متوعّداً له، أو النداء له بالزجر والتخويف؛ لأنّ ذلك ينافي المحنة، وينقض الغرض بالتكليف، ويقتضي ألاّ يستحقّ على امتناعه وانزجاره مدحاً ولا ثواباً، وهذا سوء ثناء على الأنبياء، وإقدام على قرفهم بما لم يكن منهم). (1)

وهكذا نرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) يبرز مقدرته العقلية في الحديث الّذي روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، يصرفهما كيف شاء).

فبعد أن ينقل النصّ الأوّل الّذي نقلناه سلفاً ويذكر عدّة تأويلات لتخريج الخبر، يقول:

ويمكن أن يكون في الخبر وجه، آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون، من أنّ الإصبعين هما المخلوقتان من اللّحم والدم، استظهاراً في الحجّة، وإقامةً لها على كلّ وجه، وهو أنّه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين، يحرّكه الله تعالى بهما، ويقلّبه بالفعل فيهما، ويكون وجه تسميتهما بالأصابع من حيث كانا على شكلهما.

والوجه في إضافتهما إلى الله تعالى - وإن كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة - أنّه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عمّا جاورهما غيره تعالى، فقيل إنّهما إصبعان له، من حيث اختصّ بالفعل فيهما على هذا الوجه؛

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص418 - 482.

٨٤

لأنّ غيره إنّما يقدر على تحريك القلب، وما هو مجاور للقلب من الأعضاء بتحريك جملة الجسم، ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفرداً ممّا يجاوره غيره تعالى، فمن أين للمبطلين المتأوِّلين هذه الأخبار بأهوائهم وضعف آرائهم: أنّ الأصابع هاهنا إذا كانت لحماً ودماً فهي جوارح لله تعالى؟!

وما هذا الوجه الّذي ذكرناه ببعيد، وعلى المتأوّل أن يورد كلّ ما يحتمله الكلام ممّا لا تدفعه حجّة، وإن ترتّب بعضه على بعض في القوّة والوضوح. (1)

الأخذ بالعمومات والظواهر القرآنية:

الأدلّة العقلية الواضحة الّتي لا يدخلها الاحتمال ولا الاتساع، والمجاز لابدّ أن يصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها، هكذا يعتقد الشريف المرتضى (قدس سرّه).

ومن هذا المنطلق نرى تأويل الخبر الّذي روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّ الميّت لَيعذّب ببكاء الحيّ عليه).

وفي رواية أُخرى: (إنّ الميّت يعذّب في قبره بالنياحة عليه). وهكذا روايات أُخرى بهذين المضمونين.

وكمنت المشكلة في هذه الروايات عند ما رأينا تعارضها مع صريح الآيات مثل قوله تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) . (2)

فإنّ قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره يدلّ عليه صريح النصّ العقلي.

ويؤسّس الشريف المرتضى (قدس سرّه) قاعدته العقلية المعروفة، وهي: أنّ المرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدينية أدلّة العقول، يقول في ذلك: (إنّا إذا كنّا قد علمنا بأدلّة

____________________

(1) المصدر السابق: ج1، ص321.

(2) الأنعام: 164.

٨٥

العقل، الّتي لا يدخلها الاحتمال والاتساع والمجاز، قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره، وعلمنا أيضاً ذلك بأدلّة السمع مثل قوله تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) فلابدّ أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها) (1) .

ثمّ يشرع الشريف المرتضى بتوجيه هذه الأخبار بما يطابق الأدلّة العقلية الواضحة الّتي لا غبار ولا غبش عليها.

المنهج المشترك بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة:

المعطيات والمشتركات بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة كثيرة ويعضد بعضها البعض الآخر في إنارة الواقع، وتقوية السبيل في توضيح وتركيز المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة.

وفي هذا المجال نرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) ينطلق من ركائزه العقلية في وضع منهج مشترك موحّد بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة. فعندما أسّس بنيانه على القواعد العقلية الواضحة اعتبر القرآن الكريم أحد الأدلّة الواضحة الّتي تقوم سائر الأدّلة عليها في تشخيص الواقع.

ولم يفتِ الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن ينبّه على السنّة الشريفة الواضحة هي بمثابة البرهان العقلي، كما كان القرآن الكريم والبرهان العقلي.

ومن ذلك نرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) يعاضد الأدلّة بعضها مع البعض الآخر، فيأتي بالحديث ويعضده بالقرآن وهكذا بالعكس، وهذا إذا دلّ على شيء فإنّما يدل على المعطيات المشتركة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

فيقول بين الحين والآخر: (يشهد بذلك قوله تعالى...) أو يقول: (ومنه قوله تعالى...) أو يقول: (وعلى هذا المعنى يتأوّل المحقّقون قوله تعالى...) أو يقول:

____________________

(1) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص340.

٨٦

(وهل يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه...).

هذه الأُمور الصريحة وما شابهها هي المنهج الّذي يتبعه الشريف المرتضى (قدس سرّه) في الاشتراك العلمي بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة، بحيث إنّ واقع المسألتين شيءٌ واحد وذو معطى موحّد يمكن من خلاله أن نخرج بنتائج موحّدة.

التعارض بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة:

قد يبدو التعارض واضحاً في بعض الأدلّة الشرعية، كما يبدو التضادّ بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة نتيجة عدم تصوّر صحيح للمسألة، أو عدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع، ومن هذا سوف تلوح علامات الاستغراب في رؤية الأدلّة من دون تحقيق وتمحيص.

وهذا شيء متعارف في عرف الشريعة المقدّسة إذا لم يعمل النظر إلى المخصِّصات والعمومات... ولكن بنظرة دقيقة ترتفع هذه الإشكالات ويمكن التغلّب عليها.

ويستند الشريف المرتضى (قدس سرّه) على دعامته المعروفة بأنّه لا بدّ من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة، ولا يمكن طرحها إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض.

ومن هذا المنطلق يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) . (1)

وظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ الإيمان إنّما كان لهم فعله بإذنه وأمره، وليس هذا مذهبكم؟! وإن حمل الإذن ها هنا على الإرادة، اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان

____________________

(1) يونس: 100.

٨٧

لم يرده الله منه، وهذا أيضاً بخلاف قولكم.

ثمّ جعل الرّجس الّذي هو العذاب على الّذين لا يعقلون، ومن كان فاقداً عقله لا يكون مكلّفاً، فكيف يستحقّ العذاب؟ وهذا بالضدّ من الخبر المرويّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (أكثر أهل الجنة البله).

الجواب، يقال له في قوله تعالى: ( إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) وجوه:

منها: أن يكون الإذن الأمر، هو التوفيق والتيسير والتسهيل، ولا شبهة في أنّ الله يوفّق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويسهّل السبيل إليه.

ومنها: أن يكون الإذن من قولهم: أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته، وأذنت فلاناً بكذا إذا أعلمته، فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات، فإنّه ممّ لا يخفى عليه الخفيّات... وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارةً عن العلم، وزعم إنّ الّذي هو العلم الأذن (بالتحريك)، واستشهد بقول الشاعر:

إنّ همّي في سماعٍ وأذن

وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم؛ لأنّ الأذن هو المصدر، والإذن هو اسم الفعل؛ فيجري مجرى الحذر في أنّه مصدر؛ والحذر (بالتسكين) الاسم، على أنّه لو

____________________

(1) آل عمران: 145.

٨٨

لم يكن مسموعاً إلاّ الأذن (بالتحريك) لجاز التسكين، مثل: مَثَلٍ ومِثْلٍ، وشَبَهٍ وشِبْهٍ، ونظائر ذلك كثيرة.

ومنها: أن يكون الإذن العلم، ومعناه إعلام الله المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلاّ بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان، وما يدعوها إلى فعله.

فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة في اللّغة، ولو احتملها أيضاً لم يجب ما توهّمه؛ لأنّه إذا قال: إنّ الإيمان لا يقع إلاّ وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريداً لما لم يقع، وليس في صريح الكلام ولا دلالته شيء من ذلك.

وأمّا قوله تعالى: ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) فلم يعنِ بذلك ناقصي العقول، وإنّما أراد الّذين لم يعقلوا ويعلموا ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم تعالى بأنّهم لا يعقلون تشبيهاً، كما قال تعالى: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) (1) ، وكما يصف أحدنا من لم يفطن الأُمور، أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه: بالجنون وفقد العقل.

فأمّا الحديث الّذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل: إنّه عليه وآله السلام لم يرد بالبُلْهِ ذوي الغفلة والنقص والجنون، وإنّما أراد البُلْه عن الشرّ والقبيح، وسمّاهم بلهاً عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقدوا العلم به. ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبله ظاهر؛ فإنّ الأبله عن الشيء هو الّذي لا يعرض له ولا يقصد إليه، فإذا كان المتنزّه عن الشرّ معرضاً عنه، هاجراً لفعله جاز أن يوصف بالبله للفائدة الّتي ذكرناها، ويشهد بصحّة هذا التأويل قول الشاعر:

ولقد لهوت بطفلةٍ ميّادةٍ

بلهاء تطلعني على أسرارها

____________________

(1) البقرة: 18.

٨٩

أراد أنّها بلهاء عن الشرّ والريبة، وإن كانت فطنةً لغيرهما؛ وقال أبو النجم العجلي:

من كل عجزاء سقوط البرقع

بلهاء لم تحفظ ولم تضيّع

أراد بالبلهاء ما ذكرناه. فأمّا قوله: (سقوط البرقع) فأراد أنّها تبرز وجهها ولا تستره، ثقة بحسنه وإدلالاً بجماله، وقوله: (لم تحفظ) أراد أنّ استقامة طرائقها تغني عن حفظها، وأنّها لعفافها ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف؛ وقوله: (لم تضيّع) أراد أنّها لم تهمل في أغذيتها وتنعيمها وترفيهها فتشقى، ومثل قوله: (سقوط البرقع) قول الشاعر:

فلمّا تواقفنا وسلّمت أقبلت

وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا

ومثله أيضا:

بها شرقٌ من زعفرانٍ وعنبرٍ

أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا

أي رمت به عنها ثقة بالجمال والكمال، ومثله وهو مليح:

لهونا بمنجول البراقع حقبةً

فما بال دهرٍ لزّنا بالوصاوص

أراد بـ (منجول البراقع) اللاتي يوسعن عيون براقعهنّ ثقةً بحسنهنّ، ومنه الطعنة النّجلاء، والعين النّجلاء، ثمّ قال: ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح، اللواتي يضيقن عيون براقعهن لقبحهنّ، والوصاوص: هي النّقب الصّغار للبراقع، وممّا يشهد للمعنى الأول الّذي هو الوصف بالبله لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة:

بمالي وأهلي من إذا عرضوا له

ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب

ويروى: بنفسي وأهلي.

ولم يعتذر عذر البرىّ ولم تزل

به ضعفةٌ حتّى يقال مريب

ومثله:

أحبّ اللّواتي في صباهنّ غرّةٌ

وفيهنّ عن أزواجهنّ طماح

مسرّات حبٍّ مظهرات عداوةً

تراهنّ كالمرضى وهنّ صحاح

٩٠

ومثله:

يكتبين الينجوج في كبد المشـ

تى وبلْهٌ أحلامهنّ وسامُ

أما قوله: (يكتبين) فمأخوذ من لفظ الكباء، وهو العود، أراد يتبخّرن به، والينجوج هو العود، وفيه ست لغات: ينجوج، وأنجوج، ويَلنجُوج، وألنْجُوج، وألنْجَج، ويَلَنْجَج.

فأمّا كبد المشتى، فهو ضيقته وشدّته، ومنه قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (1) ، وقد روي: (في كبّة المشتى) والمعنى متقارب؛ لأنّ الكبّة هي الصدمة والحملة، مأخوذ من كبّة الخيل؛ وأمّا الوسام فهنّ الحسان من الوسامة، وهي الحسن.

ويمكن أن يكون في البله جواب آخر، وهو أن يحمل على معنى البله الّذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنّة الّذين كانوا بلهاً في الدنيا، فعندنا أنّ الله ينعّم الأطفال في الجنّة والمجانين والبهائم، وإنّما لم نجعلهم بلهاً في الجنّة، وإن كان ما يصل إليهم من النعيم على سبيل العوض أو التفضّل لا يفتقر إلى كمال العقل؛ لأنّ الخبر ورد بأنّ الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلاّ وهم على أفضل الحالات وأكملها، ولهذا صرفنا البله عنهم في الجنّة، ورددناه إلى أحوال الدنيا، وإلاّ فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب. (2)

____________________

(1) البلد: 4.

(2) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج1، ص38 - 42.

٩١

٩٢

الفصل الثاني

منهجه في المباحث الفقهية

تمهيد:

إشكالات المحدّثين.

ابن الجنيد وإشكالات المراسيل والشذوذ في الأخبار.

إشكالات آرائه النادرة.

أخبار الآحاد.

مِلاكات ضعف الخبر.

التحقيق حول رواة الخبر.

الظواهر والعموم في الأخبار.

النسخ في الأخبار.

٩٣

٩٤

تمهيد

الفقه الموجود والموروث عن الشريف المرتضى (قدس سرّه) هو فقه الخلاف لا المقارن (1) ، وقمّته هو كتابا الانتصار ومسائل الناصريات، وفقدنا من فقهه كتابا المصباح والخلاف، والظاهر أنّهما من أروع الكتب حسب المواصفات الّتي يطرحها الشريف المرتضى (قدس سرّه) بين الآونة والأُخرى في بحوثه الفقهية حول هذين الكتابين، وحسبما نقل من نصوص من هذين الكتابين.

ولا نبخس الشريف المرتضى (قدس سرّه) حقّه في باقي رسائله الفقهية (الّتي طبعت في مجموعة رسائله) فبين ثناياها أروع النصوص الاجتهادية والحاسة الفقاهتية.

والّذي يهمّنا في هذا الفصل هو إلقاء نظرة منهجية إلى التراث الروائي الفقهي ومقدار معطياته ومساحته وأبعاده وأساليبه وطرقه مقتصرين على كتابيه المتقدّمين، وما أودعه في ثنايا رسائله المختصّ منها بالتراث الفقهي.

وقبل أن ندرس منهج الكتابين الانتصار والناصريات لا بدّ من طرح سعة أبعاد الكتابين؛ لنحيط - بعض الشيء - بمساحة وعي الشريف المرتضى (قدس سرّه)، ونلم بالجوانب الفقهية والتاريخية بهذين الكتابين، كلّ ذلك بنحو الاختصار:

____________________

(1) لا يخفى أنّ الفقه المقارن: هو جمع آراء الفقهاء في شتى المسائل الفقهية على صعيد واحد من دون إجراء موازنة بينها، أمّا الخلاف فهو جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلّتها، وترجيح بعضها على بعض.

٩٥

يحمل كتاب الانتصار في طيّاته نوعاً من الشموخ الفقهي الإمامي، فهو يصادر النتيجة لوعيه الفقهي، ويجعل الفقه الإمامي والإمامية وآراءهم وفتواهم - الّتي انفردوا بها، وصارت سبباً لتشنيع المخالفين - وهو الفقه المؤيَّد بالدليل والبرهان، وأنّ بحثهم الاستدلالي معتمد على أسمى الأدلّة الاجتهادية والأنظار الدقيقة، والرؤى الثاقبة والّتي استطاعت أن تثبت حقّيتها وصحّتها، ويقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مقدّمة كتابه: (فإنّي ممتثل... بيان المسائل الفقهية الّتي شُنّع بها على الشيعة الإمامية، وأُدعي عليهم مخالفة الإجماع وأكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدّمين أو المتأخّرين، وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الأدلّة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق، ولا يوحش معه خلاف المخالف، وأن أُبين ذلك وأفصله وأزيل الشبهة المعترضة فيه). (1)

هذه هي خلاصة خطّة الكتاب وما يحتويه جميع أبعاده. والشريف المرتضى (قدس سرّه) يصرّ ببسالة على أنّ الشناعة إنّما تجب في المذهب الّذي لا دليل عليه يعضده، ولا حجّة لقائله فيه، فهو ينطلق من ركيزة يصحّ على أساسها أن ينجح في أطروحته هذه، حتّى أنّه يؤكّد على سمو فكره وشموخه؛ حيث يقول: (فأمّا ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده، فهو الحقّ اليقين، ولا يضرّه الخلاف فيه، وقلّة عدد القائل به، كما لا ينفع في الأوّل الاتّفاق عليه، وكثرة عدد الذاهب إليه، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة له إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه). (2)

هذه هي الركيزة في سمو ذات الشريف المرتضى (قدس سرّه) في بحثه الاستدلالي، وله مناحي أُخرى في دعامته الفكرية، والّتي يأتي تفصيلها في هذا الفصل بغية الإحاطة ببعض معالم مدرسته والروائية منها بالخصوص. هذا بالنسبة إلى كتاب الانتصار.

____________________

(1) الانتصار: ص76.

(2) المصدر السابق.

٩٦

أمّا بالنسبة إلى مسائل الناصريات فإنّ دائرة البحث تتضيّق ويقع السّجال بين المذهب الإمامي والزيدي بالخصوص، ولكنّه في مطاوي البحث يحتوي جلّ الخلافات الفقهية على مستوى المذاهب الأخرى، فإنّ الكتاب هو المسائل المنتزعة من فقه جدّه الناصر - من جهة والدته رحمها الله - الذي يعبر عنه الشريف المرتضى (قدس سرّه) بـ: الفاضل البارع كرّم الله وجهه.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في خاتمة الكتاب: (ولم نورد فيما اعتمدناه إلاّ ما هو طريق للعلم وموجب لليقين إلاّ ما استعملته في خلال ذلك من ذكر الأخبار الّتي ينقلها الفقهاء ويتداولونها في كتبهم، محتجّبين بها دون الأخبار التي ينقلها الشيعة الإمامية.

وإنّما أوردنا هذه الأخبار - وهي واردة من طريق الآحاد، ولا علم يحصل عندها بالحكم المنقول - على طريق المعارضة للخصوم، والاستظهار في الاحتجاج عليهم بطرقهم واستدلالاتهم، كما فعلناه مثل ذلك في كتابنا مسائل الخلاف، وإن كنّا قد ضمنّا في ذلك الكتاب إلى الاحتجاج على المخالفين لنا بأخبار الآحاد الاحتجاج عليهم بالقياس على سبيل المعارضة لهم). (1)

وأكّد في مواضع عديدة من كتبه على هذه القضية: (ويجوز أن نعارض مخالفينا ونلزمهم على أصولهم أن يرجعوا به عن مذاهبهم، وإن لم يكن على سبيل الاستدلال منّا، بالخبر الّذي يرويه... [و] هذا الخبر ليس لنا في هذه المسألة، فيلزمنا أن يكون مطابقاً للمذهب، وإنّما أوردناه على سبيل الإلزام والمعارضة). (2)

ومن خلال البحث المركّز على هذين الكتابين تتضح المدرسة المنهجية في فقه الشريف المرتضى (قدس سرّه) ذاكرين ذلك على نقاط، ومذيلينها بشواهد؛ ليأنس القارئ،

____________________

(1) المصدر السابق: ص144.

(2) مسائل الناصريات: ص446.

٩٧

ويخرج البحث من جفافه ووعره.

إشكالات المحدّثين:

المحدّثون هم الّذين يكتفون بظواهر نقل الأخبار والرواية، وقد تسرّبت عليهم مواضع كثيرة من الخلل والنقص، وتطرّق إليهم الضعف والوهن في كثر من مأثوراتهم ونقولهم الروائية، إلى حدٍّ كاد يفقدنا الثقة التامّة بكلّ ما رووا وما استظهروه في ثنايا بحوثهم الروائية، (1) حيث وفرة أسباب الضعف والوهن في ذلك الخضم من المرويّات في كتب الحديث والرواية، حيث خُلط سليمها بسقيمها بحيث خفي وجه الصواب.

ولقد كانت كثرة المروي من ذلك الحشد الهائل من الأخبار والروايات جاوزت الحدّ في منظومة التراث الروائي، وبخاصّة ما إذا وجدنا التناقض وتضارب الأقوال والمعتقدات، والتزمّت في الرأي والاعتقاد، وما شابه ذلك من تبعات وويلات.

وكثيراً ما نشهد تضادّ ما نسب إلى راوي واحد، كما نسب إلى بعض المحدّثين، كلّ ذلك كان من أكبر عوامل زوال الثقة بهم أو بالأكثرية الساحقة منها، الأمر الّذي استدعى التثبت وإمعان النظر والبحث والتمحيص. (2)

وقد كان لأصحاب المسلك العقلي - والّذين عليهم المدار في السجالات العقلية، وخصوصاً رواد المسلك الكلامي، الّذين أشبعت توجياتهم بالمذاق والفذلكات الدقيقة والمتشعبة - الدور الرئيس في مواجهة المحدّثين منذ بزوغ الرسالة حتّى يومنا الحاضر، وقد نسبوهم إلى التقليد والتسليم والتفويض.

ومن بين هؤلاء الأعلام الشريف المرتضى (قدس سرّه) المنخرط في المسلك الكلامي والعقلي، فقد كانت مسالكه معروفة في هذا المجال، وكان يعتقد أنّ الحجج العقلية

____________________

(1) التفسير والمفسّرون للذهبي: ج1، ص156.

(2) انظر: التفسير والمفسّرون للشيخ محمّد هادي معرفة: ج2، ص30 - 29.

٩٨

والظواهر القرآنية هي خير سبيل لحفظ الأصالة الإسلاميّة من الوقوع في ورطة السذاجة والبساطة.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (إنّ المعوّل فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات، فإذا دلّت الأدلة على أمر من الأمور وجب أن نبني كلّ وارد من الأخبار إذ كان ظاهره بخلافه عليه، ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلي ظاهراً، إن كان له. ونشرط، إن كان مطلقاً. ونخصّه، إن كان عاماً. ونفصّله، إن كان مجملاً. ونوفّق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة.

وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته المعلوم وروده، فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علماً ولا تثمر يقيناً؟!

فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها، وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة وأوجبته الحجج العقلية، وإن تعذر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل فليس غير الإطراح لها وترك التعريج عليها) (1) فهذا المقياس الّذي أشار إليه (قدس سرّه) قلّما تفلت منه رواية أو خبر.

وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع لا بدّ أن نعرف أنّ الخبر والرواية ينتميان إلى المحدّثين، وهؤلاء الثلة بما أنّهم محدّثون قد نسب إليهم الشريف المرتضى (قدس سرّه) التقليد والتسليم والتفويض، وعلى هذا المنطق في الرؤية سوف تخرج أقوال هؤلاء عن منطق البحث العلمي.

فقد جعلهم الشريف المرتضى (قدس سرّه) من المنتسبين إلى أصحابه الإمامية، ولا اعتبار بخلافهم؛ لأنّ الخلاف - كما يقول - إنّما يفيد إذا وقع ممّن بمثله اعتبار في الإجماع من أهل العلم والفضل والرواية والتحصيل.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) - في مسألة رؤية الهلال وخلاف المحدّث -: (والّذين

____________________

(1) أمالي المرتضى: (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج2، ص351.

٩٩

خالفوا من أصحابنا في هذه المسألة عدد يسير ممّن ليس قوله بحجّة في الأصول ولا في الفروع، وليس ممّن كلّف النظر في هذه المسألة، ولا ما في أجلى منها؛ لقصور فهمه، ونقصان فطنه.

وما لأصحاب الحديث الّذين لم يعرفوا الحقّ في الأصول، ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر، بل هم مقلّدون فيها وللكلام في هذه المسائل وليسوا بأهل نظر فيها، ولا اجتهاد، ولا وصول إلى الحقّ بالحجّة، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض). (1)

وهذا قريب من الحقّ خصوصاً على مباني الشريف المرتضى (قدس سرّه) الّذي توزّعت جميع جهوده بين العقل ومنطق ظواهر القرآن وصريح الظواهر، فما يحمله أصحاب الحديث من الجمود على النصوص من غير أن يشهدوا العقل وقرائنه، وخير دليل على ما يقوله الشريف المرتضى (قدس سرّه):

(إنّ الصحيح من المذهب اعتبار الرؤية في الشهور كلّها دون العدد، وأنّ شهر رمضان كغيره من الشهور في أنّه يجوز أن يكون تامّاً وناقصاً.

ولم يقل بخلاف ذلك من أصحابنا إلاّ شذاذ خالفوا الأصول وقلّدوا قوماً من الغلاة تمسّكوا بأخبار رويت عن أئمّتنا (عليهم السلام) غير صحيحة ولا معتمدة ولا ثابتة...) (2) .

وهذا الاعتقاد في أهل الغلو يتماشى مع مسلك الشريف المرتضى (قدس سرّه)، فإنّ هؤلاء من الثلة تأخذ بالخبر على علاّته من دون تمحيص وتدقيق، وهو لا يلائم عرض الأخبار على العقل والسّجالات المنطقية.

ابن الجنيد وإشكالات المراسيل والشذوذ في الأخبار:

يعتبر ابن الجنيد الإسكافي من فقهاء المسلمين ومن أعلامهم وأعاظم مجتهديهم.

____________________

(1) رسالة في الردّ على أصحاب العدد: ص18، (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية).

(2) جوابات المسائل الطبرية: ص157، (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

١٠٠