الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل20%

الشهيد مسلم بن عقيل مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 186

  • البداية
  • السابق
  • 186 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64816 / تحميل: 7558
الحجم الحجم الحجم
الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل

مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
العربية

١

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا

محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم

أجمعين إلى قيام يوم الدين

١ - المؤلف:

مؤلف هذا الكتاب هو: « العلوي النسيب، الفاطمي الحسيب، المخلص في ولائه لآل الرسول، المتفاني في حبهم، والمتهالك في مسيرهم، العلامة المعاصر حجة الاسلام والمسلمين، السيد عبد الرزاق المقرّم الموسوي النجفي »(١) الذي يصل نسبه الكريم بثلاثة وعشرين ظهرا إلى الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

ولد المؤلف في سنة ١٣١٦ هـ في النجف الأشرف في بيت علم وتقوى وسيادة(٢) .

جده لأمّه هو السيد حسين المتوفى سنة ١٣٣٤ هـ، وخاله هو السيد أحمد المتوفى سنة ١٣٣٤ هـ، وكانا من علماء زمانهما. وأبوه، السيد محمد المتوفى ١٣٥١ هـ، كان كثير الاعتكاف في مسجد الكوفة.

وكانت أمه من نساء زمانها الصالحات، وقد توفيت سنة ١٣٧٠ هـ.

درس المغفور له على جده السيد حسين وعلى علماء عظام مثل: الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء ( ت: ١٣٦٦ هـ )، والسيد محسن الحكيم ( ت: ١٣٩٠ هـ )، وآقا ضياء الدين العراقي ( ت: ١٣٦١ هـ )، والسيد أبو الحسن الاصفهاني ( ت: ١٣٦٥ هـ )، والشيخ محمد حسين النائيني ( ت: ١٣٥٥ هـ )، والشيخ محمد جواد البلاغي ( ت: ١٣٥٢ هـ )، والشيخ محمد حسين الاصفهاني ( ت: ١٣٦١ هـ )، والشيخ عبد الرسول الجواهري ( ت: ١٣٨٩ )، والشيخ حسين الحلي والسيد أبو القاسم الخوئي - دام ظله -. ولقد كان لثلاثة من اساتذته، وهم الشيخ محمد جواد

__________________

١) كما وصفه بذلك سماحة العلامة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي - دام ظله - في تقديمه على كتاب « علي الاكبرعليه‌السلام » للمؤلفقدس‌سره طبعة قم ١٤٠١ هـ.

٢) أرّخ المرحوم شيخ آقا بزرگ الطهراني في كتابه « الذريعة » سنة ولادته بـ ١٤١٢ هـ كما جاء في كتاب « معجم مؤلفي الشيعة » تأليف الشيخ على الفاضل النجفي، ص ٤٠٠، غير أن التاريخ الذي ورد المتن منقول من المقدمة التي كتبها نجل المؤلف لكتاب « مقتل الحسينعليه‌السلام » طبع بيروت سنة ١٣٩٩ هـ، وهو أصح.

٢

البلاغي، والشيخ محمد حسين الاصفهاني، والشيخ عبدالرسول الجواهري، تأثير بالغ في نفس مؤلفنا الجليل.

كان المرحوم العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يكن حبا عميقا لآل بيت العصمة والطهارةعليهم‌السلام ، ولقد انعكس هذا الحب الشديد في آثاره العلمية التي خلفها الفقيد. وإليكم بعض تلك الآثار:

١ - « زيد الشهيدعليه‌السلام ».

٢ - « مقتل الحسينعليه‌السلام ».(٣)

٣ - « المختار بن أبي عبيد الثقفي ».

٤ - « السيدة سكينةعليها‌السلام ».

٥ - « الصديقة الزهراءعليه‌السلام ».

٦ - « علي الاكبرعليه‌السلام ».

٧ - « الشهيد مسلم بن عقيلعليه‌السلام ».(٤)

٨ - « الامام زين العابدينعليه‌السلام ».

٩ - « الامام الرضاعليه‌السلام ».

١٠ - « الامام الجوادعليه‌السلام ».

١١ - « قمر بني هاشم، العباسعليه‌السلام ».

١٢ - « يوم الاربعين عند الحسينعليه‌السلام ».

١٣ - « سر الايمان في الشهادة الثالثة » ( وهو بحث في الشهادة بولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في الأذان ».

١٤ - « محاضرات في الفقه الجعفري ».

وجميع هذه الكتب قد طبعت. أما كتبه التي لم تطبع بعد فهي:

١ - « المنقذ الأكبر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

٢ - « الحسن بن عليعليه‌السلام ».

٣ - « عاشوراء في الاسلام ».

٤ - « الأعياد في الاسلام ».

٥ - « زينب العقيلةعليها‌السلام ».

٦ - « ميثم التمار ».

٧ـ « أبو ذر الغفاري ».

__________________

٣) ترجم هذين الكتابين إلى الفارسية الشيخ عزيز الله عطاردي وطبعتهما « انتشارات جهان ».

٤) الكتب الاربعة الأخيرة ترجمها إلى الفارسية حسن طارمي ونشرتها « انتشارات ميقات ».

٣

٨ - « عمار بن ياسر ».

٩ - « نقل الأموات في الفقه الاسلامي ».

١٠ - « نقد التاريخ في المسائل الست ».

١١ - « حلق اللحية ».

١٢ - « ربائب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

١٣ - « لكني والألقاب ».

١٤ - « حاشية على كفاية الاصول ».

١٥ - « حاشية على المكاسب للشيخ الانصاري ».

١٦ - « نوادر الآثار ».

١٧ - « يوم الغدير ».

وقد كان المرحوم المقرم،علاوة على تأليفاته المذكورة،يتعاون مع الكثيرين ممن كانوا يتصدون لطبع كتب الشيعة القديمة،ويكتب لها المقدمات والتعليقات القيمة. من ذلك:

١ - « دلائل الامامة » للطبري الامامي.

٢ - « الامالي » للشيخ المفيد.

٣ - « الخصائص » للسيد الرضي.

٤ - « الملاحم » لابن طاووس.

٥ - « فرحة الغري » للسيد عبد الكريم بن طاووس.

٦ - « إثبات الوصية » للمسعودي.

٧ - « الكشكول » للسيد حيدر الآملي.

٨ - « بشارة المصطفى » لعماد الدين الطبري.

٩ - « الجمل » للشيخ المفيد.

١٠ - « طرف من الانباء والمناقب » لابن طاووس.

وكان العلامة السيد عبدالرزاق المقرم يقيم كل سنة عددا من المجالس في مواليد المعصومين ووفياتهم - صلوات الله عليهم أجمعين - وقد ضم كتابه « نوادر الآثار » طائفة من القصائد التي ألقيت في تلك المجالس، كما نشرت طائفة أخرى منها في عدد من كتبه المطبوعة. وله أبيات في التوسل بأهل بيت الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتمسك بأذيالهم، منها هذان البيتان يخاطب بهما أبا الفضل العباسعليه‌السلام :

أبا الفضل يا نور عين الحسين

ويا كافل الظعن يوم المسير

أتعرض عني وأنت الجواد

وكهف لمن بالحمي يستجير

وفي ١٧ محرم الحرام من سنة ١٣٩١ هـ وافى الأجل العلامة السيد عبدالرزاق المقرم فانتقل

٤

إلى دار البقاء عن عمر قضاه في خدمة آل البيتعليهم‌السلام وإحياء ذكرهم الكريم.

وقد أرخ لوفاته الشيخ أحمد الوائلي في قصيدة رثاه بها فقال:

« رحت عبدالرزاق للرزاق » ( ١٣٩١ هـ )(٥)

٢ - هذا الكتاب:

هذا الكتاب واحد من آثار مؤلفنا الفقيد الخالدة عن أول شهيد من قافلة شهداء كربلاء العظام، وسفير سيد الشهداءعليه‌السلام ونائبه، مسلم بن عقيلعليه‌السلام .

مقدمة الكتاب تتناول حياة أبي طالب ( جد مسلم ) وحياة عقيل. ويتناول الكتاب نفسه سيرة حياة نائب الامام الحسينعليه‌السلام فيورد نقاطا لم تذكر من قبل عن حياة مسلمعليه‌السلام ويبحثها بكل دقة وتمحيص ويسير مع مسيرته خطوة خطوة. وفي غضون ذلك يحقق في مواضيع أخرى، مثل « الطيرة في المنظور الاسلامي »، وغير ذلك من الدروس الأخلاقية والإجتماعية، يتطرق إليها ضمن كلامه على حركة مسلم بن عقيل (ع) التاريخية.

لقد طبع هذا الكتاب قبل سنوات عديدة في النجف الأشرف. واليوم أعيد طبعه بحلة قشيبة، بعد تصحيح الأغلاط المطبعية السابقة بقدر الإمكان.

نسأل الله تعالى أن يحشر روح المؤلف الرفيعة مع مواليه المعصومين الأربعة عشر - صلوات الله عليهم أجمعين - وأن يزيد من توفيقنا في نشر المعارف القرآنية العظيمة وسير العترة الطاهرة. إنه سميع مجيب.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله والأئمة المعصومين، ولا سيما مولانا وصاحبنا بقية الله في الأرضين.

قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة

محرم الحرام ١٤٠٧ هـ

__________________

٥) لمعرفة المزيد عن حياة العلامة السيد عبدالرزاق المقرم وآثاره يمكن الرجوع إلى المصادر التالية:

١ - مقالة للشيخ محمد هادي الأميني نشرت في مجلة « العدل » طبع النجف، العدد ١٧ بتاريخ ١٤ شعبان ١٣٩١.

٢ - مقدمة آية الله المرعشي النجفي لكتاب « علي الأكبر » طبع قم ١٤٠١ هـ

٣ - « معجم مؤلفي الشيعة » ص ٤٠٠.

٤ - « الذريعة » ٧ / ١١٩ و ١٢١ و ١٢٣ و ١٧ / ١٦٧ و ٢٢ / ٣٢ و ٢٤ / ٤٣٠ و ٢٥ / ١٣٥.

٥ - مقدمة السيد محمد حسين المقرم، نجل الفقيد لكتاب « مقتل الحسينعليه‌السلام »، طبع بيروت ١٣٩٩ هـ.

وقد اعتمدنا هذه المقدمة كأهم مصدر استقينامه ما جاء في هذا المختصر.

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام : «اني أحب عقيلا حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له وان ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال «إلى الله تعالى أشكو ما تلقى عترتي من بعدي ».

الأمالي للشيخ الصدوق

٦

٧

المقدمة

بيت أبي طالب:(١)

لقد كان بيت أبي طالب موطد الأساس بالنبوات، مرفوعة معالمه بخلافة الكبرى، وكانت آصرة النبوة ضاربة فيه من آدم إلى شيث إلى نوح إلى إبراهيم إلى إسماعيل الذبيح إلى ما تناسل منه ممن دان بالتوحيد وكانت له الوصاية في المحافظة على نواميس الأنبياء، وإنك لا تجد أحدا من عمود النسب الوضاح الذي يقف عنده الحديث النبوي(٢) إلا آخذا بأعضاد الشرف والسودد، حاملا للحنيفيّة البيضاء دين السلام، والوئام، وشرعة الخليل إبراهيمعليه‌السلام .

وان الوقوف على بعض ما ذكره التأريخ في حق هؤلاء الرجال يشهد لهذه الدعوى المدعومة بالوجدان، فكان « عدنان » يصارح في خطبته بأن فيمن يتناسل منه النبي الكريم خاتم الرسل أجمعين، الداعي الى كلمة الحق ورسالة الصدق ثم أوصى باتباعه.

ولكن ولده « معد » على نهجه أمر الله تعالى « أرميا » أن يحمله على البراق كيلا تصيبه نقمة بختنصر، وعرّفه بأنه سيخرج من صلبه نبيا يكون خاتم الأنبياء فحمله

__________________

١) طبعت هذه المقدمة في كتاب العباسعليه‌السلام ولنفاد النسخ رغب جماعة في إعادتها حرصا على الفائدة.

٢) في مناقب ابن شهر آشوب ج١ ص١٠٦ وكشف الغمة للاربلي ص٦: أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا بلغ نسبي الى عدنان فأمسكوا. وكأن السر فيه أن ما فوق عدنان من الأسماء مما يتعاصى نطق العامة بها نظرا الى غرابتها فلا يؤمن معه من التصحيف فيسبب الوهن في ساحة جلالتهم والخفة في مقدارهم وقد ولد الرسول الأعظم ووصيه أمير المؤمنين المقدم - صلى الله عليهما وعلى آلهما أجمعين -.

٨

إلى أرض الشام إلى أن هدأت الفتنة(٣) .

وكان نور النبوة يشع في جبهة « نزار »(٤) ، وورد النهي عن سب ربيعة ومضر والياس لكونهم مؤمنين، والياس أول من أهدى البدن الى البيت الحرام، وأول من ظفر بمقام إبراهيم، وقد أدرك « مدركة بن الياس » كل عز لآبائه وفي جبهته نور النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساطع، وكان « كنانة » بن خزيمة بن مدركة يجاهر بالدعوة الى دين « الخليل » ورفض عبادة الاصنام، وأنّ من صلبه نبيا يدعو إلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق.

و « فهر بن مضر » كانت العرب تهابه لجمعه خصال الخير والنور اللائح على أسارير جبهته، ولانتصاره على حسان بن عبد كلال حين جاء من اليمن لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتا باليمن يزوره الناس فأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان في الأسر ثلاث سنين، ثم فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة والمدينة.(٥)

ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعلم قريشا بأنه من ولده، ويأمر باتباعه، وفي المأثور من كلامه: زينوا حرمكم وعظموه وتمسكوا به ولا نفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم، ثم قال:

نهارٌ وليلٌ واختلاف حوادث

سواءٌ علينا حلوها ومريرها

يؤبان بالأحداث حتى تأوَّبا

وبالنعم الضافي علينا ستورها

على غفلة بأتي النبي محمد

فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها

ثم قال:

يا ليتني شاهد فخواء دعوته

حين العشيرة تبغي الحق خذلاناً(٦)

إن هذه السلسلة هي التي أنتجت قصيا فعبد مناف(٧) فهاشما فعبد المطلب ثم

__________________

٣) السيرة الحلبيّة ج١ - ص ٢٠.

٤) الروض الأنف للسهبلي ج١ - ص٨.

٥) السّيرة الحلبية ج١ - ص٩ وص١٩.

٦) صبح الأعشى ج١ - ص٢١١.

٧) كان اسمه عبدا ثم أضيف إليه مناف لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتى ضربت إليه الركبان من أطراف الأرض فقيل عبد مناف، وهو الصحيح كما في اثبات الوصية للمسعودي ص٧٥، فما في السيرة النبوية لإبن دحلان من أن أمه أخدمته صنما اسمه مناف لا يعبأ به لأنه لم يكن من الأصنام اسمه مناف وإنما الموجود « مناة » بالتاء المثناة من فوق، ومن هنا كان ابن الكلبي يقول في كتاب الاصنام ص ٣٢: لا أدري أين

٩

عبدالله وأبا طالب ومنهما أشرق الكون بخاتم الأنبياء وسيد الأوصياء - صلوات الله عليهم أجمعين -.

والذي يجب الهتاف به أن كل واحد من عمود النسب غير مدنس بشيء من رجس الجاهلية، ولا موصوم بعبادة وثن، وهو الذي يرتضيه علماء الحق لكونهم صديقين بين أنبياء وأوصياء، وقد نزههم الله سبحانه في خطابه لنبيه الأقدس: «وتقلبك في الساجدين » فانه أثبت لهم بلفظ الجمع المحلى باللام السجود الحق الذي يرتضيه لهم.

وأن ما يؤثر عنهم من الأشياء المستغربة عندنا لابد وأن تكون من الشريعة المشروعة لهم أو يكون له معنى تظهره الدراية والتنقيب.

وليس آزر الذي كان ينحت الأصنام، وكاهنة نمرود أبا ابراهيمعليه‌السلام الذي نزل من ظهره لأن أباه اسمه تارخ، وآزر إما أن يكون عمه كما يرتئيه جماعة المؤرخين، واطلاق الأب على العم شائع على المجاز وبه جاء الكتاب المجيد: «إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق » فأطلق على إسماعيل لفظ الأب ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمه كما أطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جده.

وإما أن يكون آزر جد إبراهيم لامه كما يرتئيه المنقبون والجد للأم أب في الحقيقة ومما يؤيد أنه غير أبيه قوله تعالى: «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » فميّزه باسمه ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى باضافة الابوة عن التسمية بآزر.

كل ذلك مضافا الى مصارحة الرسول الكريم بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فإنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:

« لما أراد الله تعالى أن يخلقنا، صورنا عمود نور في صلب آدم فكان ذلك النور في جبينه ثم انتقل الى وصية شيث، وفيما أوصاه ألا يضع هذا النور الإلهي إلاّ في أرحام المطهرات من النساء ولم تزل هذه الوصية معمولا بها يتناقلها كابر عن كابر فولدنا الأخيار من الرجال والخيّرات المطهرات المهذبات من النساء حتى انتهينا إلى صُلب

__________________

كان هذا الصنم ولمن كان ومن نصبه، ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير كما في الروض الأنف ج١ - ص٦: أن أمه أخدمته « مناة » بالتاء المثناة فسمي عد مناة ولكن رآه قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوله عبد مناف فإنه لا شاهد عليه، والصحيح ما عليه المسعودي.

١٠

عبد المطلب فجعله نصفين نصف في عبدالله فصار الى آمنة ونصف في أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد ».(٨)

ولم يزل هذا الحال كما وصفناه حتى أقبل دور شيخ الأبطح أبي طالب وورده أمير المؤمنين والإمامين السطين سيدي شباب أهل الجنة والأئمة من ولد سيد الشهداء حتى يقف العدد على ناموس الدهر وولي الأمر في كل عصر عجل الله فرجه.

ههنا يقف اليراع عن تصوير عظمة هذا البيت المنيع، ويرتج على الكاتب ويعي الشاعر، فإن حقيقة القداسة بين طرفي النبوة والإمامة التي جمعها هذا البيت لم تدع مسرحا لقائل أو متسعا لواصف لتقاعس القدرة البشرية عن نعت ما هو فوق مستواها، ولا يمكنها الخبرة بحقائق أنوار عالم الملكوت.

نعم لها الاضافة في مقدار ما يمكنها من التوصل اليه ولو في الجملة من أنه بيت نبوة وإمامة، بيت علم ودين، بيت عز وسؤدد.

بيت علا سمك الضراح رفعة

فكان أعـلا شرفا وأمنعا

أعزّه الله فما تهـبط فـي

كعبته الأملاك إلا خضعا

بيت من القدس وناهيك به

محط أسرار الهدى وموضعا

فكان مأوى المرتجي والملتجي

فما أعز شأنه وأمنعا(٩)

وهذه الصفات الكريمة هي التي أهلت أبا طالبعليه‌السلام لحمل أعباء الوصاية عن الأنبياءعليهم‌السلام بعد أن تلقاها عن أبيه عبد المطلب الذي كان وصيا من الأوصياء، وقارئا للكتب السماوية، كما أخبر أبو طالب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك إذ قال له: كان أبي يقرأ الكتب جميعا، وقال: إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به(١٠) .

وكان أبو طالب كأبيه « شيبة الحمد » عالما بما جاء به الأنبياء وأخبروا به أممهم من حوادث وملاحم لأنه وصي من الأوصياء، وأمين على وصايا الأنبياء حتى سلمها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١١)

__________________

٨) هذا حاصل أحاديث ذكرها المجلسي في البحار ج٦ - ص٦ وج٩ - ص٨.

٩) من قصيدة للعلامة الحجة السيد محمد حسين الكيشوانرحمه‌الله .

١٠) البحار ج٩ - ص٣١.

١١) مرآة العقول ج١ - ص٣٦٢.

١١

وفي ذلك يقول درست بن منصور لأبي الحسن موسىعليه‌السلام :

أكان رسول الله محجوجا بأبي طالب؟ قالعليه‌السلام : « لا ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها إلي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قلت: دفعها على أنه محجوج به؟ قالعليه‌السلام : « لو كان محجوجا به ما دفعها اليه » قلت: فما كان حال أبي طالب؟ قال:عليه‌السلام : « أقر بالنبي وبما جاء به حتى مات ».(١٢)

وقال شيخنا المجلسي - أعلا الله مقامه -:

أجمعت الشيعة على أن أبا طالب لم يعبد صنما قط، وأنه كان من أوصياء ابراهيمعليه‌السلام ، وحكى الطبرسي إجماع أهل العلم على ذلك، ووافقه ابن بطريق في كتاب الاستدراك(١٣)

وقال الصّدوق:

كان عبد المطلب، وأبوطالب من أعرف العلماء، وأعلمهم بشأن النبي، وكانا يكتمان ذلك عن الجهال والكفرة(١٤) .

وممّا يشهد على ذلك، الحديث الصحيح عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« والله ما عبد أبي، ولا جدي عبد المطلب، ولا عبد مناف، ولا هاشم صنما، وإنما كانوا يعبدون الله، ويصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به ».(١٥)

 ويقول أبو الحسن الرضاعليه‌السلام :

« كان نقش خاتم أبي طالب: رضيت بالله ربا وبابن أخي محمّد نبيّاً وبابني علي وصيا له »(١٦) .

 مضافا إلى أن قريشا لما أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنينعليه‌السلام خصوصا لما أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس ليسكن ما حل بهم ارتج الجبل، وتساقطت

__________________

١٢) البحار ج٩ - ص٢٩.

١٣) المصدر.

١٤) إكمال الدين ص١٠٢.

١٥) المصدر ص١٠٤.

١٦) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب.

١٢

الأصنام، ففزعوا إلى أبي طالب لأنه مفزع اللاجي وعصمة المستجير، وسألوه عن ذلك فرفع يديه مبتهلا الى المولى - جل شأنه - قائلا: إلهي أسألك بالمحمدية المحمودة، والعلوية العالية، والفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة فسكن ما حل بهم. وعرفت قريش فضل هذه الأسماء قبل ظهورها، فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المهمات وهي لا تعرف حقيقتها(١٧) .

ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخصه به دون سائر بنيه وقال:

وصّيتُ من كنّيته بطالـب

عبد مناف(١٨) وهو ذو تجارب

با ابن الحبيب أكرم الأقـارب

بابن الذي قد غـاب غيـر آب

فقال أبو طالب:

لا توصِني بلازمٍ وواجبِ

إني سمعت أعجب العجائب

من كل حبر عالم وكـاتب

بأن بحمد الله قـول الراهب

فقال عبد المطلب: أنظر يا أبا طالب أن تكون حافظا لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه، ولم يذق شفقة أمه، أنظر أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فإني قد تركت بني كلهم، وخصصتك به، فانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي، هل قبلت وصيتي؟ قال: نعم قد قبلت، والله على ذلك شاهد.

فقال عبد المطلب: مد يدك، فمد يده وضرب عبد المطلب بيده على يد أبي -

__________________

١٧) روضة الواعظين للقتال ص٦٩.

١٨) إختلف في إسم أبي طالب على أقوال أربعة: الأول: اسمه شيبة حكاه السيوطي في شرح شواهد المغني ص ١٣٥ مصر، الثاني: اسمه عمران حكاه ابن حجر في الإصابة ج٤ ص١١٥ بترجمته، الثالث: كنيته حكاه الحكام النيسابوري في المستدرك ج٣ ص١٠٨، عن محمد بن إسحاق، الرابع اسمه عبد مناف نص عليه ابن حبيب في المحبر ص١٦ والطبري في التاريخ ج٦ ص٨٩، وابن الاثير في الكامل ج٣ ص١٥٨، وأبو الفدا في المختصر ج١ ص١٧٠، وحكاه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص٨٤ عن ابن معين، والنويري في نهاية الأرب ج٢ ص٣٤١، والسيوطي في شرح الشواهد المغني ج١ ص١٣٥، وابن قتيبة في المعارف ص٨٨، وعند ابن حجر في الإصابة: أنه المشهور، وفي عمدة الطالب ص٥ نجف هو الصحيح وبذلك نطقت وصية أبيه عبد المطلب فإنه قال:

أوصيك يا عبد منافٍ بعدِي

بواحد بعد أبيه فرد

وقال أيضاً:

وصيت من كنيته بطالـب

عبد مناف وهو ذو تجارب

١٣

طالب ثم قال عبد المطلب: الآن خفف عليّ الموت، ولم يزل يقبله ويقول: أشهد أني لم أر أحدا أطيب ريحا منك ولا أحسن وجها(١٩) .

لم ينص عبدالمطلب عليه بالوصية لمحض أنه شقيق أبيه عبدالله فلقد كان الزبير يشارك أبا طالب في ذلك وإنما هو لكفايته لتلك المرتبة القدسية فقد صاغه المهيمن سبحانه متأهلا لحمل النواميس الإلهية « شديد بأعباء الخلافة كاهله ».

فاجتمعت فيه القابلية الذاتية والمعدات المفاضة عليه من سلفه الطاهر ومن الأوصياء الماضين وتأكدت بمصاحبة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آناء الليل وأطراف النهار فلا يكاد يفارقه آنا ما وبمشهد منه الإرهاصات النبوية والإفاضات الإلهية المكهربة للمواد اللائقة.

فرح أبو طالب بهذه الخطوة من أبيه العطوف، وراح يدخر لنفسه السعادة الخالدة بكفالة نبي الرحمة، فقام بأمره، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود، والعرب، وقريش، وكان يؤثره على أهله ونفسه وكيف لا يفعل هذا وهو يشاهد من ابن أخيه ولما يبلغ التاسعة من عمره هيكل القدس يملأ الدست هيبة، ورجاحة أكثر ضحكه الابتسام، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع، وإذا وضع له الطعام والشراب لم يتناول منه شيئا إلا قال: باسم الله الأحد، وإذا فرغ من الطعام حمد الله وأثنى عليه، وإن رصده في نومه شاهد النور يسطع من رأسه إلى عنان السماء(٢٠) .

وكان يوما معه بذي المجاز فعطش أبوطالب، ولم يجد الماء فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صخرة هناك، فركله برجله فنبع من تحتها الماء العذب(٢١) ، وزاد على ذلك توفر الطعام في بيته حتى أنه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النبي منه شيئا(٢٢) .

وهذا وحده كاف في الإذعان بأن أبا طالب كان على يقين من نبوة ابن أخيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أضف الى ذلك قوله في خطبته لما أراد أن يزوجه من خديجة:

« وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل »(٢٣) .

وكان يقول في وصيته لقريش عند الوفاة:

__________________

١٩) مرآة العقول ج١ ص٣٦٨.

٢٠) مناقب ابن شهر آشوب.

٢١) السيرة الحلبية ج١ ص١٣٩.

٢٢) المصدر.

٢٣) المصدر.

١٤

« يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم به على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب وإلى حربكم إلب، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البينة فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للجأش، وثباتا للوطأة، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها؛ فان صلة الرحم منسأة للأجل وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة؛ فإن فيهما محبة للخاص ومكرمة للعام.

واني اوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب كأني أنظر الى صعاليك العرب وأهل الوبر الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وعظموه، فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وأعظمهم عليه أحوجهم اليه، وأبعدهم أقربهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها وأعطته قيادها.

دونكم يا معشر قريش المحافظة على ابن أخيكم وكونوا له ولاة ولحزبه حماة؛ والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا سعد، ولا يأخذ بهديه إلا رشد، ولو كان للنفس مدة، وللأجل تأخير لكفيت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهي.

وأنشد:

أوصي بنصر النبي الخيـرُ مشهـدُهُ

عليا ابنـي وشيخ القوم عباسا

وحمـزة الأسد الحامي حقيقتـه

وجعفـرا أن يذودا دونه الناسا

كونوا فداء لكم أمي وما ولدت

في نصر أحمد دون الناس أتراسا(٢٤)

ولمّا جاء العباس إلى أبي طالب يخبره بتألب قريش على معاداته قال له:

__________________

٢٤) الدرجات الرفيعة للسيد علي خان بترجمة أبي طالب، واختصر هذه الوصية في تاريخ الخميس ج١ ص٣٣٩، وطراز المجالس للخفاجي ص٢١٧، وثمرات الأوراق للحموي بهامش المستطرف ج٢ ص١٠، وبلوغ الأرب ج١ ص٣٢٧ ط أول، وأسنى المطالب لزيني دحلان ص٥.

١٥

« إن أبي أخبرني أن الرسول على حق ولا يضره ما عليه قريش من المعادات له، وإن أبي طان يقرأ الكتب جميعا وقال: إن من صلبي نبيا لوددت أني أدركته فآمنت به فمن أدركه فليؤمن به(٢٥) ».

واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب الإلهية مع أنه كان يقرؤها مثله، يدلنا على تفننه في تنسيق القياس، وإقامة البرهان على صحة النبوة وأن الواجب اعتناق شريعته الحقة.

أما هو نفسه فعلى يقين من أن رسالة ابن أخيه خاتمة الرسالات،وهو افضل من تقدمه قبل أن يشرق نور النبوة على وجه البسيطة، ولم تجهل لديه صفات النبي المبعوث، وعلى هذا الأساس أخبر بعض أهل العلم من الأحبار حينما أسر إليه بأن ابن أخيه الروح الطيبة والنبي المطهر على لسان التوراة والإنجيل فاستكتمه أبو طالب الحديث كي لا يفشو الخبر، ثم قال له: إن أبي أخبرني أنه النبي المبعوث وأمر أن أستر ذلك لئلا يغرى به الأعادي ولو لم يكن معتقدا صدق الدعوة لما قال لأخيه حمة لما أظهر الإسلام(٢٦) :

فصبراً أبا يعلَى علىَ دينِ أحمـد

وكـن مظهرا للدين وفقت صابرا

وحط من أتى بالدين من عند ربه

بصـدق وحق لا تكن حمز كافرا

فقد سريي إذ قلت أنك مؤمـن

فكـن لرسول الله في الله ناصرا

وناد قريشا بالذي قد أتيته

جهارا وقل: ما كان أحمد ساحرا

وقال رادا على قريش(٢٧) :

ألم تعلموا أنا وجدنا مـحـمـدّاً

نبيا كموسى خط في أول الكتب

وقال(٢٨) :

وأمسى ابن عبدالله فيننا مصدّقـا

على سخط من قومنا غير معتب

وقال(٢٩) :

__________________

٢٥) الحجة على الذاهب ص٦٥.

٢٦) المصدر ص٧١.

٢٧) خزانة الأدب للبغدادي ج١ ص٢٦١.

٢٨) الحجة على الذاهب ص٤٥.

٢٩) شرح النهج الحديدي ج٣ ص٣١٣.

١٦

أمين محبٌّ فِي العبـادِ مسوَّمٌ

بخاتمِ ربٍّ قاهـرٍ للخواتمِ

يَرى النّاسَ برهانـاً عليه وهيبةً

ومَا جاهلٌ فِي فعلـهِ مثلُ عالـمِ

نبيٌّ أتاهُ الوحيُ مِن عندِ ربهِ

فمن قالَ لاَ، يقـرع بهَا سنَّ نادمِ

ومما خاطب بها النجاشي:

تعلم خيـار الناس أن محمدا

وزير لموسى والمسيح ابن مريم

أتى بالهدى مثل الذي أتيا به

فكل بأمر الله يهدي ويعصم

وإنكم تتلونـه في كتابكم

بصدق حديث لا حديث المترجم

فلا تجعلـوا لله نـدا وأسلموا

فإن طريـق الحـق ليس بمطلم

وقال(٣٠) :

اذهب بني فما عليك غضاضة

اذهب وقر بذاك منك عيونا

والله لن يصلوا اليك بجمعهـم

حتى أوسدفي التـراب دفينا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي

وصدقت ثم وكنت قبل أمينا

وذكرت دينا لا محالة أنـه

من خير أديان البرية دينـا

وبعد هذه المصارحة هل يخالج أحدا الريب في إيمان أبي طالب؟ وهل يجوز على من يقول إنا وجدنا محمدا كموسى نبيا إلا الإعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدمين؟ وهل يكون إقرار بالنبوة أبلغ من قوله « فأمسى ابن عبدالله فينا مصدقا »؟، وهل فرق بين أن يقول المسلم: أشهد أن محمدا رسول الله وبين أن يقول(٣١) :

وإن كان أحمد قد جاءهم

بصـدق ولم يتهم بالكذب

أو يعترف الرجل بأن محمدا كموسى وعيسى جاء بالهدى، والرشاد مثل ما أتيا به، ثم يحكم عليه بالكفر؟، وهل هناك جملة يعبر بها عن الاسلام اصرح من قول المسلم:

وذكرت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية دينا

__________________

٣٠) أورد الأبيات الزمخشري في الكشاف ج١ ص٤٤٨ طع سنة ١٣٠٨، وابن دحلان في السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية ج١ ص٩٧ طبع سنة ١٣٢٩، وأوردها ابن أبي الحديد في شرح النهج ج٣ ص٣٠٦ باختلاف يسير، وفي خزانة الأدب للبغدادي ج١ ص٢٦١، والإصابة ج٤ ص١١٦، وبلوغ الأرب ج٢ ص٣٢٥ طب سنة ١٣٤٢ ذكر البيت الثالث والرابع، وفي السيرة الحلبية ج١ ص٣١٣ البيت الثاني، وفي تاريخ أبي الفدا ج١ ص١٢٠ ثلاثة ابيات باختلاف يسير.

٣١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج٣ ص٣٠٩.

١٧

 كلاّ، ولو لم يعرف أبوطالب من ابن أخيه الصدق فيما أخبر به لما قال له بمحضر قريش ليريهم من فضله، وهو به خبير، وجنانه طامن: يا ابن أخي الله أرسلك؟ قال؟ « نعم »، قال أبو طالب: إن للأنبياء معجزة وخرق عادة فأرنا آية، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عم ادع تلك الشجرة وقل لها: يقول لك محمد بن عبدالله: اقبلي بإذن الله » فدعاها أبو طالب فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثم أمرها بالإنصراف فانصرفت.

فقال أبوطالب: أشهد أنك صادق، ثم قال لابنه: « يا علي الزمه. »(٣٢) وفي بعض الأيام رأى عليا يصلي مع النبي فقال له: يا بني ما هذا الذي أنت عليه؟، قال: يا آبة آمنت بالله وبرسوله وصدّقت بما جاء به ودخلت معه واتبعته، فقال أبوطالب:

أما أنه لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه(٣٣) .

وهل يجد الباحث بعد هذا ملتحدا عن الجزم بأن شيخ الأبطح كان معتنقا للدين الحنيف، ويكافح طواغيت قريش حتى بالصلاة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان أهمله فريق من المؤرخين رعاية لما هم عليه من حب الوقيعة في أبي طالب ورميه بالقذائف حنقا على ولده أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الذي لم يتسن لهم أي غميزة فيه، فتحاملوا على أمه وأبيه إيذاء له وإكثارا لنظائر من يرمون إكباره، وإجلاله ممن سبق منهم الكفر، وحيث لم يسعهم الحط من كرامة النبي والوصي، عمدوا إلى أبويهما الكريمين فعزوا إليهما الطامات، وستروا ما يؤثر عنهما من الفضائل إيثارا لما يروقهم إثباته.

يشهد لذلك ما ذكره بعض الكتاب عند ذكره أسرى بدر فانه قال: وكان من الأسرى عم النبي وعقيل ابن عمه ( أخو علي )(٣٤) .

فلو كان غرضه تعريف المأسور لكان في تعريف عقيل بأنه ابن عم النبي كفاية كما اكتفى في تعريف العباس به، ولم يحتج أن يكتب بين قوسين ( أخو علي ) وأنت تعرف المراد من ذكر هذه الكلمة بين القوسين، والى أي شيء يرمز بها الكاتب، ولكن فاته الغرض، وهيهات الذي أراد ففشل.

ثم جاء فريق آخر من المؤرخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض

____________

٣٢) الحجة على الذاهب ص٢٥.

٣٣) تاريخ الطبري ج٢ ص٢١٤.

٣٤) تاريخ الأمة العربية للمقدادي ص٨٤ مطبعة الحكومة بغداد سنة ١٩٣٩م.

١٨

المستهدفة، وأن ما جاؤا به حقائق راهنة فاقتصروا على مروياتهم مما دب ودرج، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنوايا السيئة ومن هنا أهملت حقائق ورويت أباطيل.

فعزوا إلى أبي طالب قوله: إني لا أحب أن تعلوني أستي(٣٥) ، ثم رووا عنه أنه قال لرسول الله: ما هذا الدين؟ قال رسول الله:

« دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به الى العباد، وأنت أحق من دعوته الى الهدى وأحق من أجابني »

فقال أبو طالب: إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي، والله لا يخلص اليك من قريش شيء تكرهه ما حييت(٣٦) .

فحسبوا من هذا الكلام أن أبا طالب ممن يعبد الأوثان، كيف وهو على التوحيد أدل، وجوابه هذا من أنفس التورية، وأبلغ المحاورة، فإن مراده من قوله لرسول الله عقيب قوله أنت أحق من دعوته: « إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي ». الاعتراف بايمانه وأنه باق على حنيفية إبراهيم الخليل التي هي دين الحق ودينه ودين آبائه. ثم زاد أبوطالب في تطمين النبي بالمدافعة عنه مهما كان باقيا في الدنيا.

نعم من لا خبرة له بأساليب الكلام وخواص التورية يحسب أن أبا طالب أراد بقوله: إني لا افارق ديني - الخ، الخضوع للأصنام فصفق طربا واختال مرحا.

وجاء آخر يعتذر عنه بأن شيخ الأبطح كان يراعي بقوله هذا الموافقة لقريش ليتمكن من كلائة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتمشية دعوته.

نحن لاننكر أن أبا طالب كان يلاحظ شيئا من ذلك ويروقه مداراة القوم للحصول على غايته الثمينة كي لا يمس كرامة الرسول سوء لكنا لا نصافقهم في كل ما يقولونه من انسلاله عن الدين الحنيف انسلالا باتا، فإنه خلاف الثابت من سيرته حتى عند رواة تلكم المخزيات ومهملي الحقائق الناصعة حذرا عما لا يلائم خطتهم فلقد كان يراغم الطواغيت بما هو أعظم من التظاهر بالإيمان والإئتمام بالصلاة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

__________________

٣٥) السيرة الحلبية ج١ ص٣٠٦.

٣٦) الطبري ج١ ص٢١٣ وابن الأثير ج٢ ص٢١.

١٩

وانّ شعره الطافح بذكر النبوة والتصديق بها سرت به الركبان وكذلك أعماله الناجعة حول دعوى الرسالة.

ولولا أبو طالب وابنه

لما مثل الدين شخصا فقاما

فذاك بمكـة آوى وحامـا

وهذا بيثرب جس الحماما

تكفل عبد مناف بأمر

وأودى فكـان علي تماما

فلله ذا فاتح للهدى

ولله ذا للمعـالـي ختامـا

وما ضر مجـد أبي طالب

عـدو لغى وجهول تعامى

وخلاصة البحث أن أبا طالب حلقة الوصل بين سلسلة الوصاية عن الرسل الماضين حتى أوصلها إلى النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما تنتهي به الحلقات الغابرة فإن بولده أمير المؤمنين تبتدى سلسلة الخلافة المحمدية ثم تتواصل في بينه الأطهرين حتى تنتهي الى حجة العصر وناموس الدهر الحجة المهدي المنتظر عجل الله فرجه.

فبيت أبي طالب بيت ضرب على النبوة سرادقه، وبني على الوصاية أطرافه، ونيطت بالدين أطنابه، وأسدل على العلم سجافه ووطدت على التقوى أوتاده.

إذا فما ظنك بمن ضمه هذا البيت وتربى فيه فهل يعدوه أن يكون إما داعية إلى الهدى أو مهذبا للبشر أو معلما للنواميس الإلهية أو هاديا إلى سبل السلام أو قائدا إلى الصالح العام.

نعم لا يجوز أن يكون من حواه هذا البيت إلا كما وصفناه بعد أن كان نصب عينه الأعلام الالهية وملء اذنه الوحي والإلهام، وحشو فؤاده نكت من عالم الغيوب ومعه التمارين المسعدة والتعاليم المصلحة.

وقد لبى هتاف الدعوة الالهية زوج شيخ الأبطح التي شهد لها الرسول الأمين بأنها من الطاهرات الطيبات المؤمنات في جميع أدوار حياتها، والعجب ممن اغترّ بتمويه المبطلين فدوّن تلك الفرية زعما منه أنها من فضائل سيد الأوصياء وهي: أن فاطمة بنت أسد(٣٧) دخلت بيت الحرام حاملة بعلي بن أبي طالب فأرادت أن تسجد لهبل

__________________

٣٧) في نهاية الارب للنويري ج٢ ص٣٤١ هي بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وهي أول هاشمية تزوجت هاشميا، وعند ابن جرير الطبري في التاريخ ج٦ ص٨٩، وابن الأثير في الكامل ج٣ ص١٥٨، وأبو الفداء في المختصر ج١ ص١٧٠، وابن كثير في البداية ج٧ ص٣٣٢ كما في النهاية.

٢٠

فمنعها عليعليه‌السلام وهو في بطنها.

وقد فات المسكين أن في هذه الكرامة التي حسبها طعنا بتلك الذات المبرأة من رجس الجاهلية ودنس الشرك، وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبياء المتكون من النور الآلهي مودعا في وعاء الكفر والجحود.

كما أنهم أبعدوها كثيرا عن مستوى التعاليم الآلهية ودروس خاتم الأنبياء الملقاة عليها كل صباح ومساء وفيها ما فرضه المهيمن سبحانه على الأمة جمعاء من الايمان بما حبا ولدها الوصي بالولاية على المؤمنين حتى اختص بها دون الأئمة من أبناءه وإن كانوا نورا واحدة ولقد غضب الإمام الصادقعليه‌السلام على من سماه أمير المؤمنين وقال: « مه لا يصلح هذا الإسم إلا لجدي أمير المؤمنين ».

فرووا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على قبرها وصاح: « ابنك علي لا جعفر ولا عقيل » ولما سئل عنه أجاب: « ان الملك سألها عمن تدين بولايته بعد الرسول فخجلت أن تقول ولدي »(٣٨) .

أمن المعقول أن تكون تلك الذات الطاهرة الحاملة لأشرف الخلق بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيدة عن تلك التعاليم المقدسة؟، وهل في الدين حياء، نعم أرادوا أن يزحزحوها عن الصراط السّويّ ولكن فاتهم الغرض وأخطأوا الرمية.

فإن الصحيح من الآثار ينص على أن النبي لما أنزلها في لحدها ناداها برفيع صوت:

« يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر فإذا أتاك منكر ونكير فسألاك من ربّك، فقولي: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وإبني إمامي ووليي، ثم خرج من القبر وأهال عليها التراب ».(٣٩)

ولعلّ هذا خاص بها ومن جرى مجراها من الزاكين الطيبين كفاطمة الزهراءعليها‌السلام فإن الحديث ينص على أنها لما سألها الملكان عن ربها قالت: الله ربي، قالا: ومن نبيك؟ قال: أبي، قالا: ومن وليك؟ قالت: هذا القائم على شفير قبري

__________________

٣٨) خصائص أمير المؤمنين للسيد الرضي وفي طريق الحديث محمد بن جمهور العمى الضعيف بنص النجاشي والكشي وابن الغضائري والعلامة الحلي.

٣٩) مجالس الصدوق ص١٨٩ مجلس٥١.

٢١

علي أبي طالب(٤٠) .

وإلا فلم يعهد في زمان الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعد النبي فإن غاية ما جاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنها تهدم الخطايا ».

والخدشة في هذا الحديث واضحة فإنالاعتراف بالرسالة كالإعتراف بالتوحيد متلازمان، وتلقين الأموات إنما هو لأجل أن يكون العبد الراحل عن هذه الدنيا باقيا على ما هو عليه فيهاحتى في آخر المنازل، فالإقرار بأحدى الشاهداتين لا ينفك عن الأخرى، فهذا الحديث الناص على الإقرار بكلمة التوحيد مع السكوت عن الشهادة بالرسالة لنبي الإسلام لا نعرف سنده ليكون شاهدا ودليلا.

وعلى كل فتخصيص زوج أبي طالب بذلك التلقين كالتكبير عليها أربعين خصائصها لأن التكبير على الأموات خمس.

وبالرغم من هاتيك السفاسف التي أرادوا بها الحط من مقام والدة أمير المؤمنينعليه‌السلام أظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام الأمة ما أعرب عن مكانتها من الدين وأنها بعين فاطر السماء سبحانه حين كفنها بقميصه الذي لا يبلى لتكون مستورة يوم يعرى الخلق، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة لرغبتها فيه عندما حدثها عن أحوال القبر وما يكون فيه من ضغط ابن آدم.

ولولا التنازل لرغبتها لما كان لاضطجاعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معنى فإن المؤمن المعترف بولاية أمير المؤمنين لا تصيبه الضغطة كما في صحيح الأثر فكيف بالوعاء الحامل لمن تكون من النور الأقدس.

فتحصل أن هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب بيت توحيد وايمان ولهدى ورشاد، وأ، من حواه البيت رجالا ونساء كلهم على دين واحد منذ هتف داعية الهدى، وصدع بأمر الرسالة غير أنهم بين من جاهر باتباع الدعوة وبين من كتم الإيمان لضرب من المصلحة.

وقد لبت هذا الهتاف أم هاني بنت أبي طالب فكانت من السابقات إلى الايمان كما عليه صحيح الأثر وفي بيتها نزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المعراج وهو في السنة الثالثة من البعثة وحدّثها بأمره قبل أن يخرج الى الناس، وكانت مصدقة له غير أنها خشيت تكذيب قريش إياه، وعليه فلا يعبؤ بما زعم من تخر إسلامها الى عام

__________________

٤٠) الإصابة لاب حجر ج٢ ص٤٧٨ بترجمة عروة بن مسعود.

٢٢

الفتح سنة ثمان من الهجرة.

وكانت وفاتها أما في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في مناقب شهر آشوب ج١ ص١١٠، وأما في خلافة معاوية كما في تقريب التهذيب لابن حجر ص٦٢٠، وحينئذ فليست هي المعينة بما في كامل الزيارة لابن قولويه ص٩٦: وأقبلت إليه بعض عماته تقول: إشهد يا حسين لقد سمعت قائلا يقول:

وإن قتيل الطف من آل هاشم

أذل رقابا من قريش فذلت

٢٣

عقيل

لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيبة وممن رضي عنهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أول الدعوة وكان هذا مجلبة للحب النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء، من رسوخ الإيمان في جوانحه، وعمل الخيرات بجوارحه، ولزوم الطاعة في أعماله، واقتفاء الصدق في أقواله، فقول النبي: « إني أحب عقيلا حبين، حبا له وحبا لحب أبي طالب له(١) » إنما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.

إذا فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنينعليه‌السلام بلسان حديد خلده عارا عليهم مدى الحقب والأعوام.

على أن حب أبي طالب له لم يكن لمحض النبوة فإنه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمة ولا ولده الوحيد، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار وطالب وهو أكبرهم سنا، وإنما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحب له مع وجود ولده « الامام » وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.

__________________

١) نص على هذه الجملة فقط في مستدرك الحاكم ج٣ ص٥٧٦، وتذكرة الخواص ص٧، والسير الحلبية ج١ ص٣٠٤، ونكت الهميان ص٢٠٠، ولها زيادة في حق ولده مسلم نص عليها الصدوق في الأمالي ص٧٨ مجلس ٢٧ سنذكرها في فضل البكاء عليه.

٢٤

وبعد أن فرضنا أبا طالب حجة وقته، وأنه وصي من الاوصياء لم يكن يحابي أحدا بالمحبة وان كان أعز ولده، إلا أن يجده ذلك الانسان الكامل الذي يجب في شريعة الحق ولاءه.

ولا شك أن عقيلا لم يكن حائدا عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الايمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفل تربيته وإعاشته، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجر منه على الاقل وكيف يتظاهر بحبه ويدينه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثق من إيمانه وتيقن من إسلامه غير أنه كان مبطنا له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنا لا نشك في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيار وأمير المؤمنين، وحينئذ لم يكن عقيل بدعا من هذا البيت الطاهر الذي بني الاسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى - صلوات الله عليه وعلى آله -

إلى الشّام:

لقد كانت الروايا في سفر عقيل الى الشام في أنه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج٣ ص٨٢ أنه بعد شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام وجزم به العلامة الجليل السيد علي خان في الدرجات الرفيعة، وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل فلاهم بملومين بشيء من ذلك ولا يحط من كرامتهم عند الملأ الديني؛ فإن للتقية أحكاما لا تنقض ولا يلايم المضطر على أمر اضطر إليه.

على أن عقيلا لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والإحصار بمطاعنه مشفوعة بالإشارة بفضل أخيه سيد الوصيين.

فمن ذلك أن معاوية قال له: يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك، فقال عقيل:

« لقد مررت بعسكر أخي فاذا ليل كليل رسول الله ونهار كنهاره إلاّ أنّ رسول الله ليس فيهم، وما رأيت فيهم إلا مصليا ولا سمعت إلاّ

٢٥

قارئا، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة »(٢) .

وقال له معاوية: إن عليا قطع قرابتك ولم يصلك، فقال عقيل:

« والله لقد أجزل أخي العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنه بالله إذ ساء به مثلك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم فاكفف لا أبالك فإنه عما تقول بمعزل ».(٣)

ثم صاح:

يا أهل الشام لقد وجدت أخي قد جعل دينه دون دنياه، وخشي الله على نفسه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، ووجدت معاوية قد جعل دنياه دون دينه، وركب الضلالة واتبع الهوى، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه، ولم تكدح فيه يمينه، رزقا أجراه الله على يديه، وهو المحاسب عليه دوني لا محمودا ولا مشكورا.

ثم التفت الى معاوية وقال:

أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأنّي بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.

فأطرق معاوية ثم قال: ما الذي يعذرني من بني هاشم، وأنشأ:

أزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا

فيأبوا لدى الإكرام أن يكرموا

وذا عطفتني رقتان عليهم

نأوا حسدا عني فكانوا هُم همُ

وأعطيتهم صفو الأخا فكأنني

معـا وعطاياي المباحة علقم

واُغضي عن الذنب الذي يقيلـه

من القوم إلا الهز بريّ المعمَم

حبا واصطبارا وانعطافا ورقـة

وأكظم غيض القلب إذ ليس يكظم

أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لخرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حويّ الحنظل.

فأجابه عقيل:

__________________

٢) الدرجات الرفيعة بترجمته.

٣) العقد الفريد ج٢ ص١٣٤ في باب الأجوبة المسكتة.

٢٦

غديرك منهـم من يلـوم عليهم

ومن هـو منهـم في المقالة أظلم

لعمرك ما أعطيتهم منـك رأفـة

ولكـن لأسبـاب وحولك علقـم

أبى لهم أن ينزل الـذل عنـوة

إذا ما طغـا الجبار كانوا هُم همُ

فدونك ما أسديت فاشدد يدا بـه

وخيركم المبسوط والشر فالزموا

ثمّ رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية: أما بعد يا بني عبدالمطلب أنتم والله فرع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم، ولكم الصفح الجميل فإن أحلامكم لراسخة، وعقولكم لكاسية، وحفظكم الأوامر، وحبكم العشائر، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن اغيّب الثرى، فكتب اليه عقيل:

صدقت وقلت حقا غير أنـي

أرى ألا أراك ولا تـراني

ولست أقول سوء في صديقي

ولكني أصد إذا جفـانـي

فكتب اليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألح عليه في ذلك فرجع اليه(٤) . فقال معاوية: لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:

وإني امرؤ مني التكرم شيمة

إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا

ثم قال:

يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها، وأظلتك بسرادقاتها، مدت عليك أطناب سلطانها ماذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعا لرهبته.

فقال معاوية: لقد نعتها أبو يزيد نعتا هش له قلبي، ثم قال له: لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة(٥) .

هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلمّ به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لاصحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولا عرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه.

كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما

__________________

٤) ربيع الأبرار للزمخشري في باب المعاتبات.

٥) العقد الفريد ج١ ص١٣٥.

٢٧

والاها وذلك بعد حادثة صفين.

كتاب عقيل

فإنه كتب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب: سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فإني خرجت من مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلا من « قديد »في نحومن أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت في وجوههم المنكر فقلت: إلى أين يا أبناء الشائنين، أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور الله وتبديل أمره؟ فأسمعني القوم واسمعتهم.

فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما، وان الحياة في دهر جرّأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الأفقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أبي برأيك، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك لاهنيء ولامريء ولا نجيع، والسلام.

كتاب أمير المؤمنين:

وكتب اليه أمير المؤمنينعليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يغشاه، وقد وصل إلي كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي، تذكر فيه أنك لقيت عبدالله بن أبي سرح مقبلا من « قديد » في نحو أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين الى جهة المغرب، وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه، وصد عن سبيله وبغاها عوجا، فدع عنك ابن أبي -

٢٨

سرح ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق.

ألا وإن العرب أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النبي قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقه، وجحدوا فضله، وبادروه بالعداوة، ونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه الجهد، وجروا اليه جيش الأحزاب، اللهم فأجز قريشا عني الجوازي؛ فقد قطعت رحمي، وتظاهرت علي، ودفعتني عن حقي، وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابة من الرسول، وسابقتني في الإسلام، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه، والحمدلله على كل حال.

وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل أن يسلب بها وأن يدنو منها، ولكنه قد أقبل في جردة خيل فأخذ على السماوة حتى قربوا من واقصة وشراف، والقطقطانة وما والى ذلك الصقع، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين، فلما بلغه ذلك فرّها ربا، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا فلم يبصر غلا بوقع المشرفية وولى هاربا، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا.

وأما ما سألتني أن أكتب اليك برأي فيما أنا فيه، فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرة الناس عزة، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق، والله مع المحق، ووالله ما أكره الموت على الحق، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.

وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك، فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي أن هلكت، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعا متضرعا « ولا مقرا للضيم واهنا، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد »(٦) ولكنه كما قال أخو بني سليم:

فان تسألينـي كيف أنت فإنني

صبور علي ريب الزمان صليب

يعز عليّ أن ترى بـي كئابـة

فيشمت باغ أو يسـاه حبيب

وهذا الكتاب من عقيل المروي بطرق متعددة(٧) يدلنا على أنه كان مع أخيه

__________________

٦) الجملة بين قوسين في النهج ج٢ ص٦٤.

٧) روى الكتابين أبو الفرج في الأغاني ج١٥ ص٤٤، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج١ ص١٥٥، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج١ ص٤٥، والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة بترجمة عقيل، وفي جمهرة رسائل العرب ج١ ص٥٩٦.

٢٩

أمير المؤمنينعليه‌السلام في حياته غير مفارق له، فإن الكتاب الذي كتبه إليه بعد غارة الضحاك على أطراف الحيرة، وذلك قرب شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إذا فالقول بأن وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعين كما اختاره السيد المحقق السيد علي خان في الدرجات الرفيعة، وجعله ابن أبي الحديد الأظهر عنده، وقد ظهر من ذلك أنه لم يكن مع معاوية بصفين.

حديث الحديدة:

أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنينعليه‌السلام فليس فيه ما يدل على اقترافه إثما أو خروجا عن طاعة، وإنما أراد أمير المؤمنين بذلك تهذيبه بأكثر مما تتهذب به العامة، كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه، فعرفة سيد الأوصياء أن إنسانا بلغ من الضعف إلى أن يئن من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون تمسه كيف يتحمل نار الآخرة في لظى، نزاعة للشوى، وهو مضطرم بين اوارها.

فمن واجب الإنسان الكامل التبعد عنها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمات القاسية، فهي مجلبة لمرضات الرب ومكسبة لغفرانه وان كان غيره من أفراد الرعية يتبعد عنها بترك المحرمات فحقيق بمثل عقيل - وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة - التجنب حتى عن المكروهات وما لا يلائم مقاماه من المباحات ويروض نفسه بترك ذلك كله حتى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه فلا يبعضهم الفقر الملمّ والكرب المدلهم، فرب مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فإن « حسنات الأبرار سيئات المقربين » وأمير المؤمنين أراد أن يوقف أخاه عقيلا على هذا الخطر الممنع الذي حواه وقد ذهل عنه في ساعته وإلا فعقيل لم يقترف مأثما حتى يكون ذلك عقوبة له.

افتراء على عقيل:

قال الصفدي: لقد بغض عقيلا إلى الناس ذكره مثالب قريش، وما أوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب، وكانت تبسط له طنفسة في مسجد رسول الله

٣٠

يصلّي عليها، ويجتمع إليه الناس لمعرفة أنساب العرب وأياهم وأخبارهم فقال أعداؤه فيه ونسبوه الى الحمق(٨) .

واختلقوا عليه أحاديث كان بعيدا عنها حتى وضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحط من كرامته زعما منهم أن في ذلك تشويها لسمعة هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب باخراج أهله عن مستوى الإنسانية فضلا عن الدين، بعد ان أعوزتهم الوقيعة في سيد الأوصياءعليه‌السلام بشيء من تلك المفتريات. فطفقوا يشوهون مقام أبيه وحامته، ولكن لا تنطلي تلكم الزخارف على الجيل المنقب حتى كشف عن نواياهم السيئة وعرف الملأ افتعال الحديث وبُعده عن الصواب.

قالوا في الرواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال: مازلت مظلوما منذ كنت صغيرا، أن عقيلا ليرمد فيقول: لا تذروني حتى تذروا عليا، فأضطجع وأذرى وما بي رمد.

لم أقرأ هذا الحديث إلا ويأخذني العجب. كيف رضى المفتعل بهذه القرية البينة، فإن أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة، وهل يعتقد أحد أو يظن إنسانا له من العمر ذلك المقدار إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء يمتنع منه إلا إذا شرب مثله أخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين، كلا لا يفعله أي أحد وإن بلغ الغاية في الخسة والضعف، فكيف بمثل عقيل المتربى بحجر أبي طالب والمرتضع در المعرفة خصوصا مع ما يشاهده من الآيات الباهرة من أخيه الإمام منذ ولادته.

إن الضّغائن والأحقاد تحبذ لمن تخلّق بها التردد في العمى والخبط في الضلال من دون روية وتفكير؛ «استَحَوَذَ عَلَيهِم الشَّيطانُ فَأَنساهُم ذِكرَ اللهِ اُولئِكَ حِزبُ الشَّيطانِ أَلا اِنَّ حِزبَ الشَّيطانِ هُمُ الخاسِرُونَ ».

نعم كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول غير مرة: « ما زلت مظلوما(٩) » من دون تلك الزيادة، يعني بذلك دفعه عن حقه الواجب على الأمة القيام به والميل عنه وتعطيل أحكام الله بالأخذ من غيره وتقديم من ليس له قدم ثابت في كل مكرمة، ولا نص من صاحب الشريعة، ولا فقه ناجع، ولا إقدام في الحروب، وحيث أن في هذه الكلمة حظا بمن ناوأه زحزحوها عنهم، وألصقوها بالسيد الكريم، وما أسرع أن عاد

__________________

٨) نكت الهميان ص٢٠٠.

٩) الشافي للسيد المرتضى ص٢٠٣.

٣١

السّهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه.

الخلف عن عقيل:

الخلف الصالح يخلد ذكر سلفه فلا يزال ذكره حيا بعمره الثاني من ذكره جميل وثناء جزيل وترحم متواصل واستغفار له منه وممن تعرّف به وفي الحديث: « ان ابن آدم اذا مات انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث » وعد منها الولد الصالح، ومن أجلى الواضحات أن هذا التذكير يختلف حسب تدرج الأولاد في المآثر، فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد، وكذلك الأسلاف فكلما كانوا في الشرف والسودد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع.

إذا فما ظنك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجل، وقد خلّفه في المآثر « شهيد الكوفة » وولده الأطائب شهداء الطف الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق.

ومن هنا كان السجادعليه‌السلام يعطف على ولد آل عقيل أكثر من ولد آل جعفر، فقيل له في ذلك، قال:

« إني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسينعليه‌السلام فأرق لهم(١٠) ».

فلولم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة.

وكم أب قد علا بابن ذرى شرف

كما علا برسـول الله عدنان

فكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كله.

ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين فإنهم بين علماء أعاظم وفقهاء مبرّزين وشعراء ومحدثين واُمراء صالحين ونسّابين، وقد انتشروا في مصر واليمن وحلب وبيروت ونصيبين والمدينة والكوفة والحلة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم واصفهان.

وكان القاسم بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن ابي طالب فاضلا تقيا وأخوه عقيل جليل ثقة، صاحب حديث وعمهما عقيل بن عبدالله نسابة مشجرا، وحفيد

__________________

١٠) كامل الزيارة لابن قولويه ص١٠٧.

٣٢

عقيل هذا جعفر بن عبدالله الاصفهاني عالم نسابة شيخ شبل ابن تكين مات سنة ٣٣٤ هـ.

ومحمد بن مسلم بن عقيل بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب يعرف بابن المزينة كان أمير المدينة قتله ابن أبي الساج.

وابنه أبو القاسم أحمد بن محمد المذكور، له أدب وفضل مات سنة ٣٣٠، والعباس بن عيسى الأوقص ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان وقد أولد بكرمان(١١) .

وعبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي الفح بن محمد بن عقيل العقيلي الطالبي ولد سنة ٦٩٨، وتوفي سنة ٧٦٩، ولي القضاء وقرأ القرءات السبع على الصائغ، وله تفسير القرآن في مجلدين والجامع النفيس(١٢) .

ومن أحفاد عقيل بن أبي طالب السيد إسماعيل بن السيد أحمد المازندراني الطبرسي النوري، فقيه من فقهاء الامامية، متبحّر في العلم، واسع الاطلاع، قيق النظر، وكان من اساتذة سيد الأمة ومجدد المذهب السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، وميرزا حبيب الله الرشتي، سكن النجف، وكانت له الإمامة في الجماعة دخل المشهد المطهر، وله تآليف رائقة في العقائد والأخلاق، منها كفاية الموحدين في أصول الدين، طبعت بالفارسية في ثلاث مجلدات، وله في شرح نجاة العباد لشيخ الطائفة صاحب الجواهرقدس‌سره ، طبع منه مجلدان في الطهارة والصلاة، وله كتاب في أصول الفقه رآه شيخنا الجليل المدقق الشيخ آغا بزرگ صاحب الذريعة عند صهره الشيخ علي المدرس الطهراني توفي غرة شعبان سنة ١٣٢١ هـ في الكاظمية ودفن في الصحن الشريف(١٣) .

وفي كربلاء من أحفاد عقيل بن أبي طالب بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيليين لهم أوقاف كثيرة

__________________

١١) عمدة الطالب.

١٢) طبقات القراء ج١ ص٤٢٨.

١٣) أعيان الشيعة ج١١ ص٢٥٣.

٣٣

حياة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

ولادة مسلمعليه‌السلام :

لقد أشرق الكون بهذا الميلاد المبارك، وتأرج فيه بنجره الشّذيّ يوم برز الى عالم الشهود بعد تقلب متطاول، بين أصلاب طاهرة، وأرحام زاكية، غير مدنسة بدرن الكفر، ولا موصومة بأدناس الجاهلية الأولى في نسب متصل بنسب صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب موروث من « شيخ الأبطح » الآنف ذكر شرفه وشرف بيته الرفيع وبينهما حلقة الوصل مثل عقيل الذي تقدم وصفه وذكر منزلته من العظمة والإيمان والشرف.

ولقد تلقى عقيل دروسا ضافية من صاحب الدعوة الالهية وأخيه الخليفة على الأمة عند انقضاء أمد الوحي المبين، وفيها ما يجب على الرجال من اختيار المحل الصالح لحمل تلكم النطف الزاكية وفي جملتها التحذير من منابت السوء المفسر على لسان المشرع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمرأة الدنيئة الأصل(١) لكون الوراثة حاكمة بطبعها الأوليّ على الفضائل المطلوبة من الولد اللهم إلا مع مزاحمة الكسبيات لها وظهورها عليها كما هو المشاهد من الرجال الذي اتصلوا بالذوات المقدسة فحصل لهم بواسطتها اسمى الخصال الطيبة وفازوا بالرضوان الأكبر.

ومن المقطوع به أن عقيلا مع حيطته بأنساب العرب ومواقع المآثر والمحازي وايمانه بتلكم الدروس الراقية لم يختر لنطفته إلا محلا لائقا تتعداه كل غميزة وتقترب منه الفضيلة ولم يستهسل أن ينبز عقبه بما لا يلائم نسبه الوضاح وبيتهم المنيع كما كان

____________

١) المقنعة للشيخ المفيد ص٧٩، والمجازات النبوية للشريف الرضي ص٦١ طبع مصر.

٣٤

يقال في كثيرين من أهل عصره وذرياتهم.

ويشهد له وقفة أولاده بمشهد الطف يوم التطمت أمواج الضلال وتحزّبت عصب الشرك على سيد شباب أهل الجنة وقطعوا عنه خطوط المدد وحالوا دون الوسائل الحيوية حتى الماء المباح لعامة الحيوانات، يريدون بذلك استئصال شأفة النبوة فكتبوا بدمائهم الزاكية اسطرا نورية على جبهة الدهر تقرؤها الأجيال المتعاقبة، ويتعرفون منها مناهج موتة العز وأن الحياة مع الظالمين ذميمة.

فظهر مسلمعليه‌السلام بين هذه وتلك ألقا وضاءا للحق وشخصية بارزة للدين والهدى متأهلا لحمل أعباء النيابة الخاصة عن حجة الوقت ولذلك اختاره لها سيد الشهداءعليه‌السلام من بين ذويه وحشده الأطايب.

ومن هذا الإستنباط يعلم طهارة « أمه » عن كل ما تغمز به النساء وأنها متحلية بالمفاخر وإن لم يعطها التأريخ حقها كما لم يعط حق ولدها المعظم الثابت له.

نعم للتأريخ والمؤرخين شغل شاغل بذكر أخبار القيان والمغنين وسرد روايات أهل الخلاعة والمعازف عن إثبات أحاديث سروات المجد وقادة الإصلاح من بني هاشم.

وهل النقمة ههنا على الكتاب أو ظروف التدوين أو السياسات القاسية أنا لا أدري، ولهذا كله خفى علينا يوم ولادتها وشهرها وسنتها، وكان من الصعب جدا تحديدها وكلما يقال فهو تقريب واستحسان ولا يغني من الحق شيئا.

وستقف في البحث المتعلق بأم مسلم على شيء ربما يستكشف المتأمل منه مبدأ الولادة.

أمّهعليه‌السلام :

إن غموض التعريف عن أم مسلم بأجلى المظاهر، أوقع الباحث في حيرة السؤال عن اقتران عقيل منها، هل كان بالعقد أم بملك اليمين، وأنها حرة أم جارية؟، والعتب في ذلك على المؤرخين الذين أهملوا الحقائق مع تحفظهم على أمور تافهة لايقام لها وزن، وان من الجدارة التعريف بنواحي هذا الرجل العظيم الذي دخل الكوفة وحده بلا عدة ولا عدد، فدوّى أرجاءها بصرخته الحسينية في وجه المنكر، وأقلق فكر الممثل للزعامة الأموية في الشام ولعل من هذا الإغفال يستطيع الباعث الجزم بأن ما يلم « بابن عقيل » كان على أبعد حد من الفضائل والفواضل سواء من ناحية أمه وأبيه أو من بيته

٣٥

الرّفيع فانه لو كان هناك طريق للغمز فيه ولو من جهة تأريخ امه لتذرع به المنحرفون عنه وعن سلفه الطاهر كما هو ديدنهم فيمن ضمهم هذا البيت أو انضوى إلى رأيتهم ومشى على ضوء تعاليمهم.

وليس للمؤرخين إلا نصان أحدهما بعيد عن الواقع كما ستعرف، والآخر على ما فيه من غموض وإجمال يمكن للمتأمل فيه، وفيما كتب عن أصل النّبط الإذعان بأن « أم مسلم » عربية حرة، ولعل ترك ابن زياد التعرض لها في ما جرى بينه وبين مسلم من المحاورات يشهد له، فإنه كان بصدد اسقاط مسلم عن أعين الناس فنسب له أشياء يقطع بأنه لم يأت بها أصلا فلو كانت أمه جارية لنبزه بها كما فعل هشام بن عبد الملك مع زيد الشهيد - رضوان الله عليه - إذ قال له: زعمت أنك تطلب الخلافة ولست هناك وأنت ابن أمة، فقال له زيد: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة فلم يمنعه أن كان نبيا وأبا لخاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهذا النص الأخير يرويه ابن قتيبة فيقول: كانت أم مسلم بن عقيل نبطية من آل فرزندا(٢) ويقول بعض المؤرخين: أن النبط كانوا في جبل شمر(٣) في أواسط بلاد العرب ثم نزحوا الى العراق لما فيه من الخصب والرخاء(٤) فأقاموا في سواد العراق(٥) أو في خصوص البطائح بين العراقين(٦) البصرة والكوفة.

ولم ينكر أحد ممن كتب عنهم أن لغة النبط عربية كأسماء ملوكهم البالغين ثمانية عشر، وفيهم امرأتان في القرن السابع قبل الميلاد(٧) ، نعم يرتئي المسعودي أنهم من الكلدانيين المجاورين مع الفرس سكان فارس والأهواز وعاصمتهم « كلواذي »(٨) وبعد تغلب الفرس عليهم تفرقوا(٩) ويوافقه على ذلك بعض المستشرقين الواقفين على النقوش من

__________________

٢) المعارف ص٨٨.

٣) يعرف بجبل أجا وسلمى منزل لطي وقع ذكره في كلام الطرماح لسيد الشهداء أنظر ما كتبناه في مقتل الحسين، وفي أواخر القرن الثالث عشر والرابع عشر كان منزلا لآل رشيد حتى تغلب عليهم عبد العزيز آل سعود.

٤) جرجي زيدان في العرب قبل الاسلام ج١ ص٧٨.

٥) تاج العروس للزبيدي ج٥ ص٢٢٩.

٦) القاموس للفيروزآبادي بمادة نبط.

٧) العرب قبل الاسلام ص٧٨.

٨) في القاموس بلدة في أسفل بغداد وفي معجم البلدان ج٧ ص٢٧٦ تبعد عن بغداد فرسخا للمنحدر.

٩) التنبيه والاشراف للمسعودي ص٦٨.

٣٦

آثارهم ويفيد بأن لهم في ذلك التأريخ دولة في العراق متسعة الأطراف حتى شملت معظم جزيرة العرب واستوزروا الوزراء وضربوا النقود بأسماء ملوكهم ولهم قوانين(١٠) .

وعلى هذا فليس مبتعدا عن الواقع من يرتئي أن عقيلا خطب لنفسه من بعض عشائر النبطيين الذين يجمعهم واياه الوقوف بتلك المشاعر المعظمة التي حث الله تعالى العباد إليها ذللا، أو الواردين للتجارة في مكة، أو الزائرين مرقد الرسول الأمين الذي استضاء العالم بنوره المتألق.

أما النص الأول فقول أبي الفرج اسم أمه « علية » اشتراها عقيل من الشام(١١) ولذلك حديث لاتخفى تفكك أطرافه على من أعطاه حق النظر يقول ابن أبي الحديد في الرواية المرسلة عن المدائني: ان معاوية قال لعقيل: هل لك من حاجة فأقضيها لك؟ قال: نعم جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين الفا، فأحب معاوية أن يمازحه فقال: ما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى؟ تجتزي بجارية قيمتها خمسون درهما، قال: أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما اذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف، فضحك معاوية وقال: مازحناك يا أبا يزيد، وأمر فابتعيت له الجارية التي أولد منها مسلما.

فلما أتت على مسلم ثمان عشرة سنة وقدمات عقيل أبوه قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة، وإني أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه.

فبلغ ذلك الحسينعليه‌السلام فكتب الى معاوية: أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد إلينا أرضنا.

فبعث معاوية على مسلم فأخبره بذلك وأقرأه كتاب الحسين وقال: اردد علينا مالنا وخذ أرضك فإنك بعت مالا ما لاتملك فقال مسلم: أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا، فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه وقال: يا بني هذا والله كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك.

ثم كتب الى الحسينعليه‌السلام اني قد رددت عليكم الأرض وسوّغت

__________________

١٠) العرب قبل الاسلام ص٧٩.

١١) مقاتل الطالبيين.

٣٧

مسلماً ما أخذ، فقال الحسينعليه‌السلام : أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما(١٢) .

من الصعب جدا الإستناد إلى هذه الرواية لأسباب عديدة نأتي على المهم منها:

الأوّل: أنها منقطعة الاسناد وطرح رجال الحديث مما يحظ من قيمته لما فيه من الجهالة بمعرفة أحوال أولئك المتروكين والتدليس الشائن.

الثّاني: أن المدائني لا يوثق بأحاديثه مهما تكثرت في الجوامع بعد ما ضعفه ابن عدي في الكامل(١٣) ويؤيده أنه أموي النزعة من جهة ولائه لآل عبد شمس والولاء كالتربية حاكم على النفوس والعقائد فهو ممن يحب للبيت الأموي التحلي بالصفات الكريمة لتهوى لهم الأفئدة وتخضع لهم الأعناق ويكونوا في صف من طهرهم الذكر المجيد بقوله «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » كما أثبت سبحانه لهم اشرف الخصال المحبوبة له إذ يقول: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ».

والسّند في ولائه لهذا البيت نص ياقوت فإنه قال: كان علي بن عبدالله ابن أبي سيف البصري المدائني البغدادي مولى سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف(١٤) . ويقول ابن حجر أنه مولى عبد الرحمن بن سمرة(١٥) وعدم موافقة ولادة المدائني التي هي في سنة ١٣٥ هـ لوفاة عبدالرحمن بن سمرة الواقعة في سنة ٥٠ هـ لا يبعد هذا الولاء بعد ما ينص ابن كثير على أن لعبد الرحمن أولادا كثيرين(١٦) ويسمى ابن حجر بعضهم عبيدالله وأنه تغلب على البصرة في فتنة ابن الأشعث(١٧) فاطلاق الولاء لأبيهم عبدالرحمن أو لجدهم سمرة بملاحظة أولاده لاضير فيه.

وإذا أفهمتنا الجوامع أن عبدالرحمن من « الشجرة » التي أنتجت معاوية وكان

__________________

١٢) شرح النهج الحديدي ج٣ ص٨٢ مصر.

١٣) لسان الميزان لابن حجر ج٤ ص٢٥٣.

١٤) معجم الادباء ج١٤ ص١٢٤.

١٥) لسان الميزان ج٤ ص٢٥٣.

١٦) البداية والنهاية ج٨ ص٤٧ حوادث سنة ٥٠.

١٧) الإصابة ج٢ ص٤٠١ بترجمة عبدالرحمن.

٣٨

من عمّاله على سجستان وغزالة خراسان(١٨) وبلخ وكابل(١٩) وفتح الرخج وبست(٢٠) وضح لنا أنه يسير على أثره وأنه حائد عن كل من ناوأ معاوية وهذه قضايا قياساتها معها.

ولاريب أن الموالي يرثون هذه النزعة كالأنساب، اللهم إلا أن يكبح هذا الجماح الخضوع لقانون الاسلام فيقف عند حدوده، ولكن أين هذا من « المدائني » المكثر من خلق الأحاديث الرافعة للبيت الأموي، الواضعة من قدر رجالات بيت الوحي والنبوة، وانها لشنشنة مضى عليها الأولون نعرفها من منافسة عبد شمس أخاه هاشما مطعم الطير والوحوش ومنافسة حرب بن أمية عبدالمطلب الذي كفأ عليه إناءه واستعبده عشر سنين(٢١) ومنافسة أبي سفيان للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي من عليه يوم الفتح وأطلق له، جاهد ونافس ابن آكلة الأكباد أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي اصطفاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم المؤاخاة بالأخوة ومنحه الخلافة الإلهية إذ قال له: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي. »

الثالث: أن المتأمل في هذه المحاورة الواقعة بين عقيل ومعاوية في أمر الجارية يظهر له مغزى المدائني فانه أراد أن يسجل صحيفة من حلم معاوية واناته وكرمه مع المس في الذوات القدسية من آل الرسول الأطهر وقد فاته أن المستقبل يكشف عن واياه.

قال في تلك المحاورة:

« ولما أتت على مسلم بن عقيل ثمان عشرة سنة وقد مات أبوه عقيل قال لمعاوية: ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة الف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه ».

وفي هذه الجملة خلل واضح فإنه أثبت بيع مسلم الأرض وعمره ثمان عشرة سنة وأبوه ميت، وعلى ما يقوله ابن حجر أن عقيلا مات سنة ستين وقيل بعدها(٢٢) يكون

__________________

١٨) لسان الميزان ج٤ ص١٩٠.

١٩) تاريخ اليعقوبي ج٢ ص١٩٣ طبع النجف.

٢٠) ابن الأثير ج٣ ص١٧٤.

٢١) شرح النهج الحديدي ج٣ ص٤٦٦.

٢٢) تقريب التهذيب ص٣٦٦٦ لكنهؤ، والإصابة ج٢ ص٤٩٤.

٣٩

عمر مسلمعليه‌السلام ثمان عشرة سنة عند شهادته في سنة ستين، وهذا لا يتفق مع ما أثبته المؤرخون من تزويجه بثلاث نساء أو أكثر وأن له أولادا خمسة وبنتا، فإنه وإن لم يكن من المحال في هذه المدة القصيرة التي هي عبارة عن ثلاث سنين بعد بلوغه أن يتزوج من ثلاث نساء ويستولد هذا العدد لكن العادة المطردة تأباه.

ثم هناك شيء آخر وهو أن كلا من عقيل ومسلم ومعاوية ماتوا في ستين: استشهد مسلمعليه‌السلام في ذي الحجة، وهلك معاوية في رجب، وموت عقيل لم يتعين قبل رجب أو فيه أو بعده فعلى الأخيرين لاتتم دعوى سفر مسلم الى الشام وبيعه الأرض، وعلى الأول أعني موته قبل رجب المتردد بين أن يكون في المحرم أو ما بينه وبين رجب، فالعقل وإن لم يمنع صدور البيع في هذا الزمن إلا أن من البعيد جدا أن يشد مسلمعليه‌السلام الرحال من المدينة إلى الشّام ويتحمل وعثاء السفر لبيع الأرض من معاوية بالمقدار الذي دفعه اليه الرجل المدني كما يفيده قول لمعاوية: « ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة ألف وأحببت أن أبيعك إياها ».

فان كل أحد يعد اتخاذ هذه الطريقة سفها وحاشا « داعية السبط » أن يرتكب خطة لا يصادق عليها العقل ويكون مرمى لسهام اللوم إلا أن يكون قد تزلف الى معاوية ببيعه الأرض، والشمم الهاشمي الذي انحنت عليه أضالعه يأباه له كيف، وهو يشاهد دماءهم الطاهرة، ودماء من شايعهم تقطر من سيفه وأنديتهم تلهج بانحرافه عن خطة سلفه الطيب، وغدره بالإمام الحسنعليه‌السلام تدرسه ناشئة هذا البيت كل يوم.

والتحيل لاستخلاص أموالهم من يد معاوية كما يراه البعض لا يتوقف على هذه الطريقة المشوهة لبيتهم المنيع، ومقامهم الرفيع مع أنهم بعيدون عن أمثالهم لأن نفوسهم الزاكية تكبر بهم عما فيه الضعة والخسة ولو عند العامة. هذا اذا كان موت عقيل في سنة ستين وأما اذا كان بعدها كما هو القول المحكى في نص ابن حجر كما عرفت، فالكذب في هذا البيع واضح، والمسافة للتصحيح بعيدة لأنه عليه يكون بيع مسلم الأرض بعد موت أبيه كما في الرواية، ومعاوية بين أطباق الثرى وقد فاز مسلم بالشهادة يومئذ.

ولو ذهبنا الى رأي الصفدي وابن كثير من تعيين وفاة عقيل في سنة خمسين(٢٣)

__________________

٢٣) نكت الهميان للصفدي ص٢٠١، والبداية لابن كثير ج٨ ص٤٧.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186