الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل20%

الشهيد مسلم بن عقيل مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 186

  • البداية
  • السابق
  • 186 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64832 / تحميل: 7561
الحجم الحجم الحجم
الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل

مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بعض ما يرومونه، فقال له ابن الأشعث: أنت آمن، إلا عبيد الله بن العباس السلمي فغنه تنحى وقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل(١٧) .

أما ابن عقيلعليه‌السلام فلم تفته خيانتهم ونقضهم العهود وأنهم لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فلم يعبء بأمانهم فقال: « لا والله لا أؤسر وبي طاقة، لايكون ذلك أبداء » وحمل على ابن الأشعث فهرب منه، ثم تكاثروا عليه وقد اشتد به العطش فطعنه رجل من خلفه فسقط الى الأرض وأسر(١٨) .

وقيل: أنهم عملوا حفيرة وستروها بالتراب وانكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه(١٩) .

ولما أركبوه البغلة وانتزعوه سيفه دمعت عينه، فقال له عمرو بن عبيدالله بن العباس السلمي: ان الذي يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ، فقالعليه‌السلام :

« ما على نفسي أبكي ولكن أبكي لأهلي المقبلين اليكم، أبكي للحسين وآل الحسين(٢٠) . »

تفيدنا هذه الجملة درسا آخر من نفسية مسلم وقوة ايمانه وثبات جأشه وقداسة نفسه؛ فان هذا البكاء لم يكن لجروحه الدامية أو عطشه المبرح لما ألم به من الضرب والطعن وهو في الحالة نفسها مكثورة وأنه سوف يؤدّي به الظلوم الغاشم في منتأى عن أهله وولده.

لكن الذي أبكاه أمام ذلك الجمع المحارب أمر ديني وطاعة للمولى نظير الغاية التي أوقفته هذا الموقف وهو ما سيجري على حجة الوقت الواجب على العباد الإنقياد له والخضوع لأمره، وان سيد شباب أهل الجنة سيرد هذا المورد متى حلّ بين ظهراني أهل الكوفة الطغاة وهو لايريد أن تشوك سيدة شوكة ولا يستهين أن يصيبه أي أذى، وإنما وقف هذا الموقف للحصول على مرضاة إمامه والدعوة إليه والذّب عنه، ولم يبرح هذه نواياه حتى نسي نفسه ولم ينس أبي الضيمعليه‌السلام فطفق يبكي لما يصيبه وهو

__________________

١٧) ابن الأثير ج٤ ص١٣.

١٨) ابن شهر آشوب في المناقب ج٢ ص٢١٢.

١٩) المنتخب للطريحي.

٢٠) تاريخ الطبري ج٦ ص٢١١.

١٤١

مرتثّ بالجراح وفي آخر رمق من الحياه الله من شهم سيط الإيمان بلحمه ودمه، وعاد مزيج نفسه الكريمة.

وفي نص سبط ابن الجوزي: أن ابن الأشعث سلب مسلم بن عقيل درعه وسيفه فقال بعض الشعراء يؤنّبه على فعلته هذه وتركه نصرة هاني(٢١) :

وتركت عمك لم تقاتل دونه

فشلا ولـوا أنت كان منيعا

وقتلت وافد آل حزب محمد

وسلبت أسيافـا له ودروعا

ولمّا جيء به الى القصر تساند الى الحائط وقد أخذ الضعف لنزف الدم وشدة الظماء فرأى قلة مبردة فطلب منها ما يبلّ غلّته، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم!

فكبرت هذه الكملة على ابن عقيل أن تصدر من رجل يدّعي الإسلام ويتشهّد الشهادتين ثم لا تسمح نفسه يبذل الماء الذي هو مباح لعامة الحيوانات ولا يمنع منه حتى الكافر، والشريعة تنادي بأعلا صوتها:

« الناس شرع سواء في الماء والنار والكلاء »

 ثم أي رجل يحمل أقل شيء من العاطفة يشاهد إنسانا بتلك الحالة المشجية ثم يضن عليه بشربة من ماء، أنه لخارج عن الحدود البشرية ومستوى الانسانية.

ومن هنا تعجب مسلمعليه‌السلام واستفهم عن حسبه فقال له: من أنت؟ قال: أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي!

فقال ابن عقيل:

« لامك الثكل ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظه أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم. »

وعلى هذا الحوار بعث عمرو بن حريث غلاما له يدعي سليما فأتاه بالماء(٢٢) وفي نص آخر أرسل عمارة بن عقبة بن أبي معيط غلامه قيسا وأتاه بالماء(٢٣) وهل شرب ابن عقيل من الماء فيخفف من الغلوب ويطفئ أوار الظمأ؟ لا! فإنه كلما أدنا القدح منه

__________________

٢١) تذكرة الخواص ص١٣٩.

٢٢) الإرشاد للشيخ المفيد.

٢٣) الطبري ج٦ ص٢١١.

١٤٢

امتلأ دما للضربة التي على شفتيه، وفي الثالثة امتلأ دما وسقطت في القدح ثناياه فتركه وقال:

« لو كان من الرزق المقسوم لشربته(٢٤) »

 وهذا من أشد تمكن القداسة في ذاته الملكوتية التي هي قطعة ذلك الجامع المنبسط على رجالات بيت الوحي، وهو روح الطهارة والعصمة عن الرذائل. فتلك ذات لم تمازجها دنيّة ولا ألمّت بها ضعة ولا وصمت برذيلة فراق داعية السبط الشهيدعليه‌السلام أن لا يعلق به شيء لا يتفق مع عنصره الزاكي وذاته المطهرة ولم يقاربه طيلة عمره، ألا وهو شرب الماء المشوب بالدم وان كان يجوز له ذلك.

لأن الله تعالى اختار لهذه النفوس القدسية المتفانية في نيل مرضاته الداعية الى كلمته وبرهانه حتى قاست ما لا يدركه العقل من كوارث ومحن في سبيل طاعته أشر الموت وهو القتل ممنوعين من الورود لتكون الحجة ألزم على اولئك المتمرّدين على قدس المولى سبحانه الخارجين على حدود سننه وتعاليمه.

__________________

٢٤) المصدر ص٢١٢.

١٤٣

في قصر الإمارة

لقد جرى من الكفـور الملحـد

نغـل زيـاد الظلـوم المعتدي

ما قد جرى من فاحش الخطاب

ومن قبيح ألـرد والجواب

وغير ضائـر عـواء الكلـب

إذا عـوى على النجوم الشهب

وكيف يرجـى من عدو الله في

وليه شـيء من التعسـف

اُدخل ابن عقيلعليه‌السلام على ابن زياد وهو على سرير الطغيان والجور ومسلم أسير مكتوف لايجد أحدا ينجده ولا من يقف دونه، فلم يتظاهر بالخضوع لابن مرجانة ولا استلان له واستعطفه بالسلام عليه، ولما اعترضه الشرطي بقوله: ألا تسلم على الأمير؟ قال: « إنه ليس لي بأمير(٢) » ويقال: انه قال:

« السلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الرّدى، وأطاع الملك الأعلى(٣) ».

أراد بهذه الكلمة تعريف الحضور بأنه مقاوم للسلطة الغاشمة ومناوى لهذا الجائر حتى عند تضائل قواه وانفلات الأمر من يده وعند منصرم العمر، ولعل بذلك يتجدّد المقت من الأمة على ابن مرجانة، وتحتدم القلوب عليه، وعلى من ولاه أمر البلاد، فيستطيع حينئذ أن يقول القائل: ان داعية الصلاح رافض لحكومة الضلال

____________

١) المقبولة الحسينية ص١٤ لشيخنا الحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء.

٢) اللهوف لابن طاووس٣٠.

٣) المنتخب للطريحي.

١٤٤

حتّى في أحرج المواقف، ولا يهون عليه شيء من أمرها، فلا يفوت أهل الكوفة العلم بمشروعية هذه الولاية، وأن الأخوة التي شرّفه بها سيد الشهداء أخوة شرف وإيمان والثقة التي فاز بها كما في صك الولاية لايدرك مداها.

ولم يقتنع مسلمعليه‌السلام بكل ذلك حتى أخذ يعرّف الناس في ذلك المجلس نفسية عبيدالله وأبيه ومن أجلسه هذا المجلس لتتمّ الحجة فلا يعتذر أحد بالغفلة والجهل، وأن لقوة الجور مفعولا آخر.

فإنه لما قال له ابن زياد: إيهاً يا ابن عقيل أتيت الناس، وأمرهم واحد فشتّت أمرهم، وفرّقت كلمتهم،وحملت بعضهم على بعض! قال:

« كلا لست أتيت لذلك، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمل كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو الى حكم الكتاب. »

قال ابن زياد: ما أنت وذاك يا فاسق أو لم نكن نعمل فيهم بذلك وأنت بالمدينة تشرب الخمر.

قال مسلم:

« أأنا أشرب الخمر؟ ان الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك تقول بغير علم، وإني لست كما ذكرت، وأنت أحق بشرب الخمر منّي، من ولغ في دماء المسلمين ولغا، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا. »

 فقال ابن زياد: إن نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله.

فقال مسلم: فمن أهله؟

فقال ابن زياد: أميرالمؤمنين يزيد.

قال مسلم: الحمدلله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم.

فقال ابن زياد: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا.

فقال مسلم: والله ما هو الظن ولكنه اليقين.

فقال ابن زياد: قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام!

فقال مسلم:

١٤٥

أما أنك أحق من أن تحدث في الإسلام ما لم يكن، وأنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحق بها منك.

فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليا وعقيلا!

لقد نضحت آنية ابن مرجانة بما فيها من فحش وخنا، وأسمع مسلما ما لاتحمله الجبال الرواسي، فما إستهان، ولا استلان ولا تكعكع عن ابداء الحقيقة للناس، وايقافهم على مخازيه، ومخاريق أبيه، وبوائق من استعملهما حتى أحرج الموقف وسدّ المذاهب عليه فلم ير الدعي وسيلة لمقابلة ابن عقيل إلا بسب أميرالمؤمنين ذلك الذي يقول فيه رسول الله:

« يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت وما عرفك إلا الله وأنا(٤) . يا علي من سبّك فقد سبّني ومن سبني فقد سب الله(٥) ».

ههنا لم يطلق مسلم صبرا وان صبر قبل ذلك على مثل حز المدى فقال لابن مرجانة: « فاقض ما أنت قاض يا عدو الله. »

كتم السّرّ:

كم السر من لوازم المروءة، فإن في إفشائه اما فضيحة على من أذيع عنه ان كان ذلك المذاع من الرذائل غير متجاهر بها،والله سبحانه يحب الستر على المؤمنين ابقاء لحيثيّاتهم في الجامعة، وكلاءة لعضويّتهم فيها، فإن الحط من الكرامة يوجب سقوط محله بين الناس، ويعود منبوذا بينهم فلا يصغى لقوله، ولا يحترم مقامه، فيختل التكاتف، والتعاون على حفظ النظام، ويكون ذلك مبدأت لتجري الغير كما هو مقتضى الجبلة البشرية، ومثالا لنفرة أناس ممن يترفّعون عن أمثالها، فتسود المنابذة، وتحتدم البغضاء، واذا كان المولى سبحانه وهو القابض على ازمّة الخلق القادر على كشف ما انطوت عليه ضمائرهم يستر عليهم ويفيض ألطافه مع التناهي، وينادي كنابه العزيز: «ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ».

__________________

٤) دار السلام للنوري ج٢ ص٣٣٨.

٥) تقدم في الأبحاث السابقة رد سعد على معاوية لما أراد منه أن يسب عليا.

١٤٦

ولمّا سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربه جل شأنه أن لا يحاسب أمته بحضرة الملائكة والأنبياء فيطلعوا على عيوبهم قال تعالى:

« يا حبيبي أنا ارأف بعبادي منك وإذا كرهت كشف عيوبهم عند غيرك، فأنا أكره أن أكشفها عند فأحاسبهم وحدي بحيث لا يطلع على عثراتهم غيري(٦) ».

فافشاء السر وإذا عته ممنوع منه سواء كان فيه العيب والنقص على الشخص بخروجه عن قانون الشريعة أو لم يكن فيه العيب؛ لأن في غذاعة السر إيذاء له وهتكا لحرمته وخيانة لما استودع له، فإن الحديث بين الناس أمانة.(٧) غذا فهو محرم بجميع أقسامه سواء كان بالغيبة أو النميمة أو بالإفضاء لمن لا يرضى صاحب السر عليه غيره لكونه إيذا له، فلا يوصف به مؤمن فاضل، ولا انسان كامل إلا من ضربت الخسة في عنصره، ومدت الدناءة فيه عروقها.

ومن هذا تعرف كيف بلغ اللؤمن ورداءة المنبت بعمر بن سعد حين أفضى بالسر الذي أودعه عنده مسلم بن عقيل، وذلك أن ابن عقيل طلب من ابن زياد أن يوصي الى بعض قومه، فأذن له، فنظر الى الجلساء فرأى فيهم ابن سعد فقال له: « أن بيني وبينك قرابة، ولي اليك حاجة، ويجب عليك نجح حاجتي وهي سر » فأبى أن يمكّنه من ذكرها، فقال ابن زياد: لا تمتنع من النظر في حاجة ابن عمك، فقام معه بحيث يراهما ابن زياد فأوصاه مسلمعليه‌السلام أن يقضي من ثمن سيفه ودرعه، دينا استدانه منذ دخل الكوفة يبلغ ستمائة درهم(٨) ، وأن يستوهب جثّته من ابن زياد، ويدفنها، وأن يكتب الى الحسين بخبره.

فأفشى ابن سعد جميع ذلك الى ابن زياد فقال ابن زياد: لا يخونك الأمي ولكن قد يؤتمن الخائن(٩) .

لم يفت مسلما ما عليه ابن سعد من لؤم العنصر، وأنه سيفشي بسره بين الملأ،

__________________

٦) جامع السعادات ص٣٣٩ طبع إيران.

٧) المصدر ص٣٤٠.

٨) في الأخبار الطوال ص٢٤١ يبلغ ألف درهم، وفي تاريخ الطبري ج٦ ص٢١٢ يبلغ سبعمائة درهم.

٩) الإرشاد.

١٤٧

لكنه اراد تعريف الكوفيين بأن هذا الذي يعدون من كبرائهم ويتبجح بأن أباه فاتح البلاد هذا حده من المروءة، وموقفه من الحفاظ فلا يغتر به أحد إذا تحيّز الى فئة أو جنح الى جانب، فأنه لا يهوى إلا مثله.

وهناك دقيقة اخرى لاحظها مسلم في هذه الوصية، وهي الإرشاد الى أنه ومن يعقبه منالرهط الهاشمي لم يقصد هذا المصر لاستنزاف أموالهم، وإنما جاؤا منقذين وملبّين لدعوتهم، ونشر الإصلاح فيهم، وأول شاهد على ذلك أنه أيام إقامته بالكوفة لم يمدّ يده الى بيت المال على أنه جاء واليا يتصرف كيف شاء وتحت يده ما يجمع من المال إلا أنه قضى أيامه البالغة أربع وستين يوما بالإستدانة، وهكذا ينبغي أن يسير أولياء الأمور فلا يتخذون مال الفقراء مغنما، وأين من يفقه هذه الأسرار؟

الشهادة:

لمّا أكثر مسلمعليه‌السلام من الطعن على ابن زياد في حسبه ونسبه أمر رجلا شاميا(١٠) أن يصعده الى أعلا القصر، ويشرف به على موضع الجزّارين(١١) ، ويضرب عنقه، ويرمي بجسده ورأسه الى الأرض. فأصعده الشامي، ومسلم يسبّح الله ويكبّره ويستغفره ويقول:

« اللهم أحكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا(١٢) »

ثم صلى ركعتين(١٣) وتوجه نحو المدينة وسلم على الحسين(١٤) فضرب الرجل عنقه ورمى بجسده الى الأرض كما أمره ابن زياد(١٥) ونزل مذعورا فسأله ابن زياد عما دهاه قال: رأيت ساعة قتله رجلا أسود سيّء الوجه حذائي عاضّا على اصبعه، فقال له: لعلك دهشت!(١٦) قصدا لتعمية الأمر على الجالسين حوله لئلا يفشوا الخبر فتزداد عقيدة الناس

__________________

١٠) مقتل الخوارزمي. ومنه يعرف الإضطراب في نقل ابن جرير فإنه نص على أن بكير الأحمري هو الذي أصعده الى أعلا القصر، وقبل هذا ذكر أن مسلما ضربه على عاتقه حتى كاذت أن تطلع الى جوفه، ومثل هذا الجريح هل يستطيع القيام بقتله.

١١) في ارشاد الشيخ المفيد موضع الحذائين.

١٢) الطبري ج٦ ص٢١٣.

١٣) رياض المصائب ص٦٨.

١٤) أسرار الشهادة ص٢٥٨.

١٥) ابن الأثير ج٤ ص١٥.

١٦) اللهوف لابن طاووس ص٣١.

١٤٨

بداعية الحسينعليه‌السلام ، ولعل الأمر ينتكث عليه لأن النفوس متكهربة بولائهم ولهم العقيدة الراسخة بفضلهم الكثار.

وهنا نقل آخر في قتله أنه دفعه الى الأرض على أمّ رأسه فتكسّر وكانت فيها شهادته،(١٧) ولأنفراد ناقله ونص المورخين على الأول مما يبعّده.

ثم أمر ابن زياد بهاني بن عروة فأخرج مكتوفا الى مكان من السوق يباع فيه الغنم فنادى:

« وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم، وامذحجاه ولامذحج لي اليوم. »

فلما رأى أن أحدا لا ينصره انتزع يده من الكتاف ونادى:

« ألا عصا أو سكّين أو عظم أو حجر يذبّ به رجل عن نفسه. »

فوثبوا عليه وأوثقوه كتافا فقيل له: مدّ عنقك قال:

« ما أنا بسخيّ بها ولا معينكم على نفسي! »

فضربه رشيد مولى لابن زياد تركي فلم تعمل فيه فقال هاني:

« الى الله المعاد، اللهم الى رحمتك ورضوانك. »

 ثم ضربه أخرى فقتله.

وهذا العبد رآه عبدالرحمن بن حصين المرادي مع ابن زياد في وقعة « الخازر » فثأر بهاني وحمل عليه بالرمح فقتله(١٨) .

__________________

١٧) تظلّم الزهراء ص٢٦٨.

١٨) الطبري ج٦ ص٢١٤.

١٤٩

بعد الشهادة

غير خاف أن الغاية العقلية من الحرب والقتل، محصورة بكف ضرر المودّى به، واتّقاء شرّه، والتقصير من مدى تأهبّه لايذاء المقاتل، ونصب العراقيل دون مسعاه، فمتى غلب عليه بازهاق نفسه أمن القاتل من بلواه، واطمأن مما كان يحذر منه، وحينئذ تكون الزيادة على القتل بالهتك والمثلة، خروج عن ناموس المروءة والعاطفة البشرية، ولا يأتي به إلا من كان دنيّ الأصل لئيم العنصر؛ لأن الضرورات تقدّر بقدرها ولا شيء أوفى لقمع الخطر والضرر من القتل، إذا فالزيادة مذمومة عند العقلاء، مبغوضة عند الشارع حتى في الحيوانات، ففي حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور »

بل جاء النثي عن ضرب وجه الدابة لكون الزجر يحصل بما دونه.

ولذلك لم يذكر أحد من المؤرخين أن النبي في مغزيه مثّل بالمشركين ولما تمكّن أميرالمؤمنينعليه‌السلام من عمرو بن عبدود لم يمثّل به كما لم يسلبه مع ما عليه من الكفر والإلحاد، وفي وصيته للحسنعليه‌السلام لما ضربه ابن ملجم:

« ولئن قتلت فضربة مكان ضربة، ولئن عفوت فأنت ولي الدم، ولا تمثّلنّ بالرجل؛ فإني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور! »

 هذه وصايا الشريعة المطهرة باحترام الميت ولكن هل من مسلم يفقه هذه الدرر

__________________

١) كتاب سليم الهلاليّ.

١٥٠

الثمينة. والعجب ممن يتسنّم منبر الدعوة الإلهية ثم يمشي مترددا في حنادس الظلم ما شاء له الهوى، ولا عجب من الامويين وعمالهم إذا خالفوا قوانين الإسلام، فإنهم متى أسلموا ليهتدوا، وإنما استسلموا فرقا من البوار أو تحكما في الأموال والنفوس.

وليس بالغريب إذا أمر ابن زياد بسحب مسلم وهاني من أرجلهما في الأسواق(٢) ، ثم صلبهما في الكناسة منكوسين(٣) ، وأنفذ الرأسين الى يزيد بن معاوية مع هاني بن أبي حية الوداعي والزبير بن الأروح التميمي وكتب معهما:

أما بعد فالحمدلله الذي أخذ لأميرالمؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه وأخبر أميرالمؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ الى دار هاني بن عروة المرادي، وإني جعلت عليهم العيون ودسست اليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدّمتهما وضربت عنقيهما، وبعثت اليك برأسيهما مع هاني بن أبي حية الوداعي، والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أميرالمؤمنين عما أحب من أمر فإن عندهما علما وصدقا وفهما وورعا، والسلام.

فكتب اليه يزيد:

أما بعد فإنك لم تعد أن كنت كما أحب عملت عمل الحازم، وصُلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيرا، وانه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس على الظن وخُذ على التهمة غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إليّ في كل ما يحدث من الخبر، والسلام عليك(٤) .

ثم أمر يزيد بالرأسين فنصبهما في درب من دروب دمشق(٥) .

__________________

٢) المنتخب للطريحي.

٣) ابن شهر آشوب ج٢ ص٢١٢.

٤) الطبري ج٦ ص٢١٤.

٥) مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص٢١٢.

١٥١

تاريخ الشهادة

الأقوال في يوم شهادة مسلمعليه‌السلام على ثلاثة:

( الأول ) يوم الثالث من ذي الحجة سنة ستين؛ نص عليه أبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ص٢٤٢، ويظهر من ابن طاووس الموافقة له فإنه قال في اللهوف ص٣٣ طبعة صيدا: توجه الحسين من مكة يوم الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجة، وقال بعد ذلك: كان خروجه من مكة في اليوم الذي قتل فيه مسلم.

( الثاني ) يوم الثامن من ذي الحجة؛ قال بن الوطواط في غرر الخصائص ص٢١٠ وهو الظاهر من تذكرة الخواص ص١٣٩ وتاريخ أبي الفدا ج١ ص١٩٠ قالا: قتل مسلم لثمان مضين من ذي الحجة، وتذكير العدد يراد منه الليلة لنص أهل العربية أن العدد يذكّر مع المؤنث ويؤنّث مع المذكّر.

( الثالث ) يوم عرفة؛ نص عليه المفيد في الإرشاد، والكفعمي في المصباح، والمجلسي في مزار البحار ص٩٩ وهو الظاهر من ابن نما في مثير الأحزان، وتاريخ الطبري ج٦ ص٢١٥، ومروج الذهب ج٢ ص٩٠. قالوا: وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثامن من ذي الحجة والمفروض أنه قُتل في ثاني يوم خروجه.

وحكى المسعودي قولا في مروج الذهب أنه خرج يوم التاسع من ذي الحجة واذا كان قتله في ثاني يوم خروجه تكون شهادته يوم الأضحى.

وعلى كل فمدة بقائه بالكوفة أربع وستين يوما تقريبا، لأنه كما مر عليك دخل الكوفة في الخامس من شهر الشوال.

١٥٢

١٥٣

المرقد الأخير

لقد عرف الناس مسلم بن عقيلعليه‌السلام في بيته وحسبه ومروءته وفضائله منذ عهد الصبا الى أن بلغ مبالغ الرجال المحنّكين، وقد وعوا كلمة الحسينعليه‌السلام في صكّ ولايته لكن ابن مرجانة من جراء ما تردى به من لؤم العنصر، وخبث المنبت، ودعارة الطبع حسب أنه سوف يحط شيئا من كرامته الصوريّة عساه يتوصل به الى تحطيم مبدئه، وإخماد ذكره، فأمر بمسلم وهاني بعد القتل أن يُسحبا من أرجلهما في الأسواق والجواد قضية لؤم الغلبة ودناءة المحتد، وبعد أن بلغ الغاية فيما حسب، أمر بدفنهما بالقرب من « دار الإمارة » لتستمر رقابة الشرطة عليهما فلا يقصدهما أحد بالزيارة، ولا يحضر هناك مؤبّن لهما ولا تلم بهما النوادب لأنه يعلم أن الكوفة بطبعها الأولي علويّة الرأي على العكس من البصرة والشام فإن الاولى عثمانية والثانية أموية.

والكوفة وان تأثرت بالسياسات الزمنية لكنها في نفس الحالة قد تراجعها نفسها بمرتكزاتها الاولية فيعروها الندم فتتحول تلكم الهواجس ندبا وتأبينا ويتسبب منهما فك عرى الطاعة للسلطان، ويعود القبول فيما ارتكبه « الوالي » هياجا في الأفئدة وحراب وجلادا فينتقض فتله ويتلاشى كل ما دبره من إطفاء النائرة والحصول على الغاية.

ولقد خاب الدعي وفشل لئن أخمد فورة مسلم أوقل ونهضة سيد الشهداء فيما زعم ذلك اليوم ولم يقف في وجه المنكر الذي ارتكبه أيّ أحد غير العقيلة زينب وبنات أميرالمؤمنينعليه‌السلام فلقد وافاه المستقبل بما كشف عن بوادره وبوار من دعا اليه من

١٥٤

طواغيت الشام يوم قام التوابون في وجهه، ويوم وثبة غلام ثقيف الذي أخبر سيد الشهداء يوم الطف عنه إذ قال: « وكأني بغلام ثقيف يسقيكم كأسا مصبرة » فأجهزت عليه ضربة ابن الأشتر وألحقته بأميره الذي دعا إليه.

وان ما ذكرناه من الهاجسة التي حسب لها الوالي حسابه ولها وضع القبرين بالقرب من قصره شيء مطّرد عنه الولاة والحكام فإنهم لايدعون أحدا يقرب ممن نكّلوا بهم إذا كان لهم شأن بين الأمة حذرا من تأثر النفوس واحتدام القلوب بتذكّر ما جرى عليهم فتثور العواطف وتصبح الحالة مضطربة من جميع جهاتها.

ويشهد لذلك حديث الحسين بن بنت أبي حمزة الثمالي فإنه يعطينا صورة واضحة عما عليه الأمويون من الجد في منع الناس من اتيان قبر الحسين، ولو لم يكن السبب الوحيد ما أشرنا اليه من خوف الأمراء من اضطراب الحالة عليهم وهياج الأمة عندما يتذكّرون الفوادح الجارية عليه وإلا فأين الحسين واين خلافة المروانيين.

قال الحسين:

خرجت في آخر دولة بني مروان الى زيارة الحسينعليه‌السلام مستخفيا من أهل الشام ولما وصلت كربلاء وأردت الدخول على القبر خرج إليّ رجل ومنعني منه فقلت: يا هذا لا تحل بيني وبين القبر فغني أخاف إذا طلع الصبح يقتلوني أهل الشام فقال الرجل: ان موسى بن عمران استأذن ربه في سبعين ألفا من الملائكة لزيارة الحسين فهم من أول الليل الى طلوع الفجر، وبعد الفجر جئت الى الزيارة فلم أر أحدا(١) .

وجاء دور الرشيد فزاد على ما عليه المروانيون فإنه قطع السدرة التي هي عند قبر الحسين والزوار يستظلون تحتها وقد لعن النبي قاطع السدرة ثلاث مرات، فلم يفهم الناس معنى الحديث الى أن قطعها الرشيد(٢) .

وحديث المتوكل العباسي متواتر عند المؤرخين فقد وضع المسالح لذلك وفي سنة ٢٤٧ أرسل قائدا ومعه جند لمنع الناس من اتيان قبر الحسين فرأى خلقا مجتمعين عنده و

__________________

١) كامل الزيارة ص١١١.

٢) أمالي ابن الشيخ الطوسي.

١٥٥

لهم سوق كبير فنادى: برئت الذمة ممن بقى هنا؛ فتفرق الناس، وفي هذه السنة أجرى الماء على القبر لاطفاء نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فحار الماء واستدار على قبل المنحور على مجزرة الدعوة الإلهية ممنوعا من الورود.

وهذا كله حذرا على الدست الذي اغتصبوه من آل رسول الله، فإنهم علموا أن ذلك الاجتماع يوجب التعريف بمبدأ الحسين وسلفه أما بكلمة تلقى أو قريض يرتل، أو انشودة يصدح بها، أو نوادب تجيش الأفئدة وتستفزّ الحلوم، وفي خلال ذلك يعرف فضل العترة الطاهرة، ووصايا الرسول بهم وأوامره بالأخذ بحجزتهم، والتنديد بظالمهم، والبراءة منهم، فيعتكر حينئذ صفو الخلفاء، ويقلقجوّهم الهادئ وربما تكلّفهم الحالة مقاسات معارك دامية.

هكذا صوّرت لهم أحلامهم وما صوّرت إلا حقيقة ناصعة كفلق الصباح فمنعوا الناس من المثول في « مجزرة الحقائق » ومشهد الطف.

لكن شيعة الحسين من ناحية تحفّظهم على المبدأ القويم، وتهالكم في القيام بوصايا النبي بآله الأطهرين، وظنوا أنفسهم على كل ما يجري عليهم من القتل، وقطع الأيدي، الارهاب دون مقصدهم الراقي، وضالتهم المنشودة، فلم يتركوا المثول عند المرقد الأقدس.

وقد روى الشيخ الطوسي في « الأمالي »: ان في سنة ٢٣٧ أنفذ المتوكل قائدا من قوّاده، ومعه جند يمنع الزائرين، فرأى خلقا كثيرا، وثار اليه الناس وقالوا: لو قتلتنا بأجمعنا لما أمسك من بقى منا زيارته، فكتب بذلك الى المتوكل فأمره بالكف عنهم مخافة أن يتسبّب ما لا يحمد عقباه.

ثم أن الشيعة لم يقتصروا على أداء حق الحسين في الزيارة فقط، بل طفقوا يعقدون الأندية والمحتشدات سرية وعلنية حسب مقتضيات الظروف والأحوال لتذكّر ما جرى على آل الرسالة من القساوة الشائنة فلاقوا من أعدائهم القتل والنهب والحرق، فلم يبالوا بكل ذلك حتى تسنى لهم الحصول على طلبتهم من تدمير صروح النعرة الأموية في شتى الوسائل.

ثم لاتزال الشيعة يكثر عددها، ويقوى أمرها حتى جاء منهم ملوك ووزراء وولاة وعلماء مجاهدون، فتفننوا في توسيع دائرة الذكريات الى حفلات تعقد في الأفراح والأحزان، ومواكب تجول في الطرقات فيها تمثيل تلك المأسات الدامية الى أن نمت بذرة

١٥٦

الحق فأثمرت الولاء الأكيد لأهل البيت وفي القولب عداء محتدم للأمويين نسبا ومذهبا، فنسيتهم الأمة إلا عند كل سبة، فكأن وعاء الدهر لم يقل منهم أحدا أو أنهم حديث أمس الدابر.

وهذا الذي ذكرناه في دفن مسلم وهاني حول القصر اعتبار لم يبعد عن الحقيقة، ولسنا نعتمد عليه فقط في إتيان هذا المشهد المطهر، وإنما المستند الوحيد هو سيرة العلماء والصلحاء، والشيعة عامة المتصلة بزمان المعصومين في المثول بهذا الموضع المقدس الذي لم تزل الكرامات تصدر ممن ثوى فيه، فلم يؤمّه مريض إلا عوفي ولا طالب حاجة إلا قضيت، ولا تجرأ عليه متمرد باليمين الكاذبة إلا عاد بالخيبة والخسران وهذه السيرة دليل قطعي في كل مشهد ولولاها فأي مشهد يمكننا تعيينه من دون نقاش.

١٥٧

زوجاته وأولاده

تزوج مسلمعليه‌السلام رقية بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام فولدت له عبدالله وعليا(١) ، ومحمد من أم ولد(٢) ، وأما مسلم وعبدالعزيز لم يعيّن ابن قتيبة أمهما، وله بنت اسمها حميدة أمها أم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين(٣) ، وحيث لا يصح الجمع بن الاختين فلابد من فراق احداهما أو موتها، وتزوج حميدة ابن عمها وابن خالتها عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وأمه زينب الصغرى بنت أميرالمؤمنين، وكان شيخا جليلا محدثا فقيها عده الشيخ الطوسي من رجال الامام الصادقعليه‌السلام وجزم الترمذي بصدقه ووثاقته، وخرّج حديثه في جامعه، كما احتج به أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود وابن ماجة القزويني مات سنة ١٤٢(٤) وولدت حميدة محمدا أعقب من خمسة القاسم وعقيل وعلي وطاهر وابراهيم(٥) .

فأولاد مسلم الذكور خمسة؛ عبدالله ومحمد استشهدا يوم الطف، واثنان قتلا بالكوفة، ولم نقف على شيء من أمر الخامس.

وكان من حديث المقتولين بالكوفة ما يحدث به الشيخ الصدوق عن رجاله قال: اسر طفلان من عسكر الحسين، فجيء بهما الى ابن زياد، فدفعهما الى رجل، وأوصاه

__________________

١) المعارف ص٨٨.

٢) مقاتل أبي الفرج ص٣٧ ط ايران.

٣) عمدة الطالب ص١٦ ط نجف.

٤) تهذيب التهذيب ج٦ ص١٥.

٥) عمدة الطالب ص١٧.

١٥٨

بالتضييق عليهما حتى في الطعام والشراب، فمكثا في الحبس سنة فقال أحدهما للآخر: لقد طال الحبس بنا ويوشك أن تفنى أعمارنا، فاذا جاء الشيخ، فأعلمه بمكاننا من رسول الله لعله يوسّع علينا.

ولما جاء الرجل سألاه هل تعرف محمد بن عبدالله؟ قال: هو نبيي. ثم سألاه عن جعفر الطيار، قال: إنه الذي أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة. فسألاه عن علي بن أبي طالب، قال: إنه ابن عم رسول الله.

فقالا له: نحن من عترة رسول الله نبيك، ومن أولاد مسلم بن عقيل وقد ضيّقت علينا حتى في الطعام والشراب.

فانكبّ الرجل عليهما يقبّلهما، ويعتذر من التقصير معهما مع مالهما من المنزلة من رسول الله، ثم قال لهما: اذا جنّ الليل أفتح لكما باب السجن، وخذا أيّ طريق شئتما، ولما أن جاء الليل أخرجهما وقال: سيرا في الليل، واكمنا في النهار حتى يجعل الله لكما من أمره فرجا.

فهرب الغلامان، ولما أن جن عليهما الليل انتهيا الى عجوز كانت واقفة على باب دارها تنتظر ختنا لها، فوقفا عليها وعرفاها بأنهما غريبان من عترة رسول الله لا يهتديان الى الطريق واستضافاها سواد هذه الليلة.

فأدخلتهما البيت وقدّمت لهما الطعام والشراب فأكلام وشربا وباتا راجيين للسلامة، واعتنق أحدهما الآخر وناما، وفي تلك الليلة أقبل ختن العجوز وقد أجهده الطلب للغلامين وقص على العجوز هرب الغلامين من سجن ابن زياد، وانه نادى عسكره من أتاه برأسيهما فله ألفا درهم.

فحذّرته العجوز من العذاب الأليم، ومخاصمة جدهما محمد، وأنه لافائدة في دنيا ولاآخرة معها، فارتاب الرجل من هذا الوعظ، وظن الغلامين عندها، ولما ألح على أن تخبره بما عندها وهي كاتمة عليه أمرهما أخذ يفحص البيت عنهما فوجدهما نائمين، فقال لهما: من أنتما؟ قالا: إن صدقناك فلنا الأمان؟ قال: نعم، فأخذا عليه أمان الله وأمان رسوله ثم جعلا الله عليه شهيدا ووكيلا فأوقفاه على حالهما.

وعند الصباح أمر غلاما له أسود أن يأخذهما الى شاطئ الفرات ويذبحهما ويأتيه برأسيهما.

فلما أخذهما الغلام قالا له: يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول

١٥٩

الله أتقتلنا ونحن عترة نبيك، وقصّا عليه قصّتهما في السجن وما لاقياه من النصب حتى أضافتهما العجوز.

فرقّ الغلام لهما واعتذر منهما ورمى السيف وألقى نفسه في الفرات وعبر الى الجانب الآخر فصاح به مولاه: عصيتني؟ فأجابه: أنا في طاعتك ما دمت لا تعصي الله فاذا عصيت الله فأنا بريء منك.

فلم يتّعظ الرجل ولا رقّت لهما بل دعا ابنه وقال له: إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرص عليها فاضرب عنقي الغلامين لأحضى برأسيهما عند ابن زياد، ولما وقف عليهما الولد قالا له: يا شاب أما تخاف على شبابك من نار جهنم ونحن عترة رسول الله محمد. فرقّ الولد لهما وفعل مثل العبد.

فقال الرجل: أنا أتولى ذبحكما، فقالا له الغلامان: إن كنت تريد الال فانطلق الى السوق وبعنا ولا تكن ممن يخاصمك محمد في عترته، فما ارعوى عن غيّة، قالا له: انطلق بنا الى ابن زياد ليرى فينا رأيه، فأبى. قالا: ألم ترع حرمة رسول الله في آله، فأنكر قرابتهما من النبي، فاستعطفاه لصغر سنهما فلم يرقّ قلبه.

فطلبا منه أن يصليا لربهما سبحانه فقال: صليا إن نفعتكما الصلاة، وبعد أن فرغا رفعا أيديهما الى الله سبحانه وهما يقولان: يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين إحكم بيننا وبينه بالحق.

فقدّم الأكبر وذبحه فتمرّغ الأصغر بدمه وقال: هكذا ألقى رسول الله وأنا مخضّب بدم أخي، ثم ضرب عنقه ورمى ببدنهما في الفرات وأقبل بالرأسين الى ابن زياد وقصّ عليه ما شاهده منهما.

فاستجاب الله تعالى دعاءهما وحرمه الدنيا والآخرة إذ قال ابن زياد له: إن أحكم الحاكمين حكم بقتلك، وأمر به فأخذ الى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فضربت عنقه ونصب رأسه على قناة والصبيان يرمونه بالحجارة ويقولون: هذا قاتل ذرية رسول الله(٦) .

وحكى في رياض الأحزان ص٣ عن المناقب أنهما من ولد جعفر الطيار اسم أحدهما محمد والآخر ابراهيم.

__________________

٦) أمالي الصدوق ص٥١ مجلس ١٩.

١٦٠

وانّ السيرة بين الشيعة على المثول بمشهدهما الواقع بالقرب من « المسيب » تفيد القطع به، وبناء على ما أفادته الرواية من القاء بدنهما في الفرات يكون هذا الموضع أما محل القتل وأما انهما فدفنا هناك.

والتأمل في الرواية يفيد بأنهما لم يأتيا دار العجوز في الليلة التي هربا فيها من السجن، فإن غاية ما تنص عليه أن ختن العجوز قال لها: ان ابن زياد نادى في عسكره يهرب الغلامين، وجعل لمن أتاه برأسيهما ألفي درهم، وقطعا لم يعلم ابن زياد يهربهما في تلك الليلة فلابد أن يكون في صاحبها، كما لم يعلم مجيء ختن العجوز الى الدار هل هو في الليلة الثانية أو بعدها لأنه كان بصدد التفتيش عنهما، فالتشكيك في الرواية من جهة بعد الموضع الذي قتلا فيه عن الكوفة التي هي محل حبسهما إنما يتجه لو فرض قبض الرجل عليهما في الليلة التي هربا فيها، وأما احتمال عثوره عليهما فيما بعها بأكثر فلا.

ثم أن الرواية لم تنص أيضا على كون الحبس في نفس البلد فاحتمال بعض العلماء على أن يكون ابن زياد دفعهما الى الرجل على أن يحبسهما ولو في بيته الخارج عن الكوفة وانه لم يكن بعيدا عن موضع قتلهما بكثير متجه.

ولو انا ماشينا من ينكر هذه الرواية لبعض الاحتمالات فلا نوافقه على الإلتزام ببطلان نسبة هذا المشهد الى ولدي مسلمعليه‌السلام ، فإن سيرة الشيعة، والشهرة بينهم تحقق كون المشهد المعروف لولدي مسلم على الاجمال ولم يحصل الشك في أدوارهم اتباعا للخلف على طريقة السلف حتى كثرت زرافات الزائرين لهما تقربا الى الله تعالى مع النذور المهداة إليهما، والعمارة المتجددة حول القبرين على نحو غير واحد من المشاهد المحقق ثبوتها، وكل هذا بمشهد من العلماء فلا يعتنى حينئذ بمن تأخذه الوسوسة الى مناحي ممقوتة كما هو شأنه في جملة من المظاهر والمشاعر.

١٦١

الاحتفال بأمر مسلم

انّ الاشادة بذكر عظماء الرجال مما جرى عليه العقلاء شكرا لجميلهم الذي أسدوه الى الأمة وتنشيطا لمن بعدهم وتشويقا لهم على أن ينهضوا بمثل أعمالهم، وحتى يكون ذلك فاتحة لنشر تعاليهمهم، وتلقي علومهم، واقتفاء آثارهم في الأخلاق والحكمة والتذكير بمبادئهم الملائمة للإصلاح، وتوطيد السلام والوئام، وما فيه جمام النفس وهدوء المجتمع، وسعادة البشر دنيا وآخرة.

ولو علم الناس ما في الأخذ بالتعاليم الأحمدية، وأن الاحتذاء على أثر آل محمد يعود عليهم بالزلفى المباركة لسروا اليهم، وانسابوا الى ساحتهم ولو حبواً على الركب فإن عندهم المثل العليا، والحكم البالغة، والغرائز الكريمة والتعاليم الكافلة لرقي الجامعة الإسلامية، وتهذيب أفراد المجتمع الحافظ لها عن الملاشاة والتقهقر، ولعادت أمة الإسلام أرقى الأمم، وأطولها باعا، وأبسطها يدا، غير أن خسة الطباع، وقصر النظر وضؤولة التفكير وقفت بهم عن السعادة في الحياة.

وغير خفيّ أن داعية الحسين مسلم بن عقيل من أولئك الرجال الذين يجيب أن يخلّد ذكرهم ويقتصّ أثرهم فهو صريخة هاشم، وسريّ من سروات المجد من آل محمد، وقد استصلحه سيد الشهداء للنيابة عنه في الكوفة ثقة منه بعلمه وتقواه وعقله وبسالته وكرمه، فأقبلعليه‌السلام ناشرا لواء العدل ليكتسح الجور ويكبح جماح الضلال بيد أن نزعات الباطل حالت دون إقامته الأمت وتثقيفه الإود، فاستشهد دون إكمال رسالته، ولكنه خلف من بعده هتافا عاليا يسمع الصخر الأصم، وعقيرته مرتفعة بين لابتي العالم تعيها إذن واعية بأن الحق في دعوة سيد الشهداء، وأن الباطل فيمن ناوأه،

١٦٢

وانّ مبدأ صحيحا كهذا يجب أن يضحى دونه النفس والنفيس، ويرخص في سبيله ذلك الدم الغالي الزاكي « دم مسلم بن عقيل » ومن يحذو حذوه من المجاهدين أعضاد الحفاظ الديني وراود الصالح المدني.

المأتم:

فمن الاحتفال بأمره الكاشف عن الخضوع لخطّته والمصافقة على ارتياد مبدئه عقد المأتم له، وتذكار ما تلفع به من مكارم الأخلاق، وما جرى عليه من الكوارث على حد فضله الكثار، وقد قابل تلكم المحن بالصبر والثبات فلم يعط سرىّ هاشم وليث أبي طالب المقادة عن ذلة، ولا نكص على عقبه فرقا، ولم يفتأ مكافحا كما شاء له الحفاظ حتى أمسى رافلا بحلة الشهادة بين ذلك الجيل القدسي الزاهر.

فعلى مثل مسلم فليبك الباكون، وليضجّ الضاجون، كيف لا وقد بكى عليه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يُقتل وعد البكاء عليه من علائم الإيمان كما في حديث ابن عباس:

انّ أميرالمؤمنين علياعليه‌السلام قال لرسول الله: « أتحب عقيلا؟ » قال:

« اي والله أحبه حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول الله وقال: « الى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي(١) ».

وهذا النص كاف في رجحان البكاء عليه لمن يتطلبه بالخصوص فإن إخبار النبي عن بكاء المؤمنين عليه وارد لبيان كونه محبوبا له لأنه رتّبه على شهادة مسلم المسببة عن محبة الحسين، ثم قرن البكاء بصلاة الملائكة المقربين، وهل يصح القول بأن صلاة الملائكة عليه غير محبوبة لله سبحانه؟ فإذا بكاء المؤمنين وصلاة الملائكة على مسلم المترتّان على شهادته مما يرغب فيه الرسول وهو محبوب لله سبحانه.

ولفظ الحديث وان لم يذكر فيه مسلم صريحا لكنا نعلمه من أفراد لفظ القتل في قوله « وان ولده لمقتول » ولو كان يريد أولاد أجمع لقال: « وان ولده لمقتولون » ثم

__________________

١) المجالس، مجلس ٧٧ ص٢٧.

١٦٣

تعقيبه بالضمائر المفردة شاهد آخر.

على أن النبي بكى عليه قبل شهادته وبكاؤه حجة في الرجحان ولو لم يقترن براجح آخر، فكيف وقد قرنه بالشكوى الى الله تعالى مما تلقاه عترته من بعده.

ثم أن الأحاديث العامة في البكاء لمن تذكّر مصابهم وما جرى عليهم من الظلم كافية في رجحان البكاء عليه؛ ففي بعضها عن الصادقعليه‌السلام :

« من دمعت عينه فينا دمعة لدم سُفك لنا أو حق لنا نقصناه، أو عرض انتهك منا أو لأحد من شيعتنا بوّأه الله بها في الجنة حقبا. »

ويقول لفضيل:

« من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له »

وفي حديث الأربعمائة أن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال:

« إن الله تعالى اطلع الى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، يبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا والينا. »

ومن هذا العموم نستفيد رجحان البكاء على أولاد المعصومين أيضا ممن كانت نهضته وهتافه بين الأمة لإحياء أمر الأئمة والدعوة اليهم حتى جرى عليهم من الظلم بازهاق النفوس والتنكيل بالحبوس ما تسيخ له الجبال. فاستدرار الدموع لمظلومية هؤلاء المتسببة عن مظلومية أهل البيت يكون مشمولا لهذه الأحاديث قطعا.

الزيارة:

ومن الإحتفال بأمر مسلمعليه‌السلام قصد مشهده بالزيارة خصوصا يوم مقتله وهو التاسع من ذي الحجة وتلاوة ألفاظ الزيارة المأثورة التي نص عليها العلماء الثقات كابن المشهدي الذي هو من أعيان القرن السادس، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس الذي هو من أعيان القرن السابع. فقد ذكر الأول في « المزار الكبير » والثاني في « مصباح الزائر » اذنا للدخول في الحرم المطهر وأوله:

« الحمدلله الملك الحق المبين، المتصاغر لعظمته جبابرة الطاغين، المعترف بربوبيته جميع أهل السموات والأرضين، المقر بتوحيده سائر

١٦٤

الخلق أجمعين، وصلى الله على سيد الأنام وأهل بيته الكرام صلاة تقرّبها أعينهم، ويرغم بها أنف شانئهم من الإنس والجن أجمعين.

سلام الله العلي العظيم، وسلام ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وأئمته المنتجبين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، - الى قوله -: قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن.

وأما الزيارة في داخل الحرم فأولها:

السلام عليك أيها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله ولأميرالمؤمنين والحسن والحسينعليهم‌السلام ، الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله، - الى قوله -: فجمع الله بيننا وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين فإنه أرحم الراحمين.

وبعد الفراغ من الزيارة يصلي ركعتين ويهديهما له. ويقول بعد الفراغ منهما:

اللهم صل على محمد وآل محمد، ولا تدع لي ذنبا إلا غفرته - الى قوله -: إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.

 وعند وداعه يقف على القبر ويقول:

أستودعك الله وأسترعيك، وأقرأ عليك السلام - الى قوله -: فإني قد رضيت بذلك يا رب العالمين.

وقد اتفق هذان العالمان على هذه الآداب والسنن في مزاريهما اللذين لم يزالا مخطوطين حتى اليوم، إلا في إبتداء سلام الإذن فقد ابتدأ ابن المشهدي من قوله: سلام الله العلي العظيم وسلام ملائكته المقربين.

ومن أراد الوقوف عليهما فلينظر مزار البحار للمجلسي - أعلا الله مقامه - فقد طابقنا « المزارين » مع ما نقله عنهما فلم يكن فيه تغيير(٢) .

وإن في ذلك من التّنوية بمقامه الرفيع وموقفه الشامخ وفضله الجم، ومصائبه المؤلمة ما يلين الأفئدة ويستدرّ الدموع، ويوصل إلى ما وصفناه من الغايات الكريمة، وظاهر تلكم الآداب والسنن كونها مأثورة لأن سردها مرتّبة كما في زيارات المعصومينعليهم‌السلام لا يمكن صدوره من علماء الدين بلا تخريج عن الأئمة بحيث يكون

__________________

٢) تقدم في العنوان المتعلق بهاني بن عروة ما ذكراه من الزيارة المتعلقة به والصلاة بعدها.

١٦٥

الداعي الى ترتيب تلك الآداب محض الإستحسان والمناسبة، لأن في الإقدام على هذا بعنوان أنه من الشريعة يستلزم الوقوع في ورطة البدعة التي لا تقال عثرتها، وحاشا علماء المذهب الصحيح ارتكاب ما لم يرد من الشرع؛ كيف وهم يقرؤون ليلهم ونهارهم قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. »

ومما يشهد لذلك أن الشيخ الكليني يقول في خطبة كتاب « الكافي »: وقلت أنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع جميع فنون الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقينعليهم‌السلام ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنة نبيه، وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت.

وقال الشيخ الصدوق في أول « من لا يحصره الفقيه »: إني لم أقصد قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه بل قصدت الى ايراد ما أفتى به، وأحكم بصحته، وأعتقد أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع.

وقال ابن الشمهديّ في أول « المزار الكبير »: إني جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهدة، وما ورد من الترغيب في المساجد المباركة والأدعية المختارة، وما يدعى به عقيب الصلوات، وما يناجى به القديم تعالى من لذيذ الدعوات، وما يلجأ اليه من الأدعية عند المهمات مما اتصلت به من ثقات الرواة الى السادات الأطهارعليهم‌السلام .

وقال الشريف النقيب ابن طاووس في آخر « مصباح الزائر »: ان ما وقع اختياره عليه في الكتاب وصل على الوجه الذي استحسنته وأعتمد عليه من جهة الرواية.

وان ما ذكرناه في ترجمة الشريف المطبوعة في كتابه « الملاحم » تفيد القارئ معرفة بجلالته وسعة اطلاعه ومقامه عند العلماء، واما ابن المشهدي فهو أبو عبدالله محمد ابن جعفر بن جعفر المشهدي الحائري، ووصفه بهما صاحب المعالم في إجازته الكبيرة، كان - أعلا الله مقامه - جليلا في الطائفة، متبحّزا في أخبار أهل البيت، واسع الرواية، عظيم المنزلة بين العلماء، متكرر الذكر في الإجازات.

روى عن جماعة يزيدون على اثنين وعشرين منهم يحيى بن البطريق، والشيخ

١٦٦

ورّام صاخب « تنبيه الخاطر »، وهبة الله بن نما الحلي، والسيد عز الدين ابن زهرة، وشاذان بن جبرئيل القمي الى غيرهم.

وروى عنه محمد بن جعفر بن هبة الله بن نما بن علي بن حمدون الحلي المعروف بابن نما على الإطلاق، وذكر أن والده أجاز له أن يروي كتاب المقنعة للشيخ المفيد عنه، عن محمد بن جعفر بن المشهدي، وكان ابن المشهدي يقول: قرأتها ولم أبلغ العشرين على الشيخ ابي منصور محمد بن الحسن بن منصور النقاش الموصلي، وهو طاعن في السن وأخبره: أنه قرأها في أول عمره على الشريف النقيب المحمدي الموصلي وهو طاعن في السن، وأخبره: أنه قرأها في أول عمره على المصنف الشيخ المفيد - أعلا الله مقامه -.

ولم نقف على تحديد عمر ابن المشهديّ بالتحقيق غير أنه أرّخ سماعه في مجلس عماد الدين الطبري بسنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في مشهد أميرالمؤمنين، وإجازته من ابن الحمد النحوي في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وقراءته على الشيخ عربي بن مسافر، وهبة الله بن نما بن علي بن حمد في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة في ربيع الأول فهو من علماء القرن السادس.

له كتاب المصباح وايضاح المناسك والمزار الكبير الذي ينقل عنه السيد ابن طاووس في كتبه، والسيد عبدالكريم في « فرحة الغريّ »، وصاحب المزار القديم وهو من مصادر « بحار الأنوار » لشيخنا المجلسي - أعلا الله مقامه -.(٣)

الشعر:

ومن الاحتفال بأمر مسلمعليه‌السلام تأبينه بسرد مآثره وبث فوادحه لتكون خالدة مع الدهر يرتل سطور نهضته الجديدان، وتسير بها الركبان وتضمها طيّات الكتب وصحائف المجاميع، وتشدو بها خطباء المنابر، وتصيخ إليها الأسماع، وتعيها إذن واعية، فتتأثر بها النفوس، وترقّ لها القلوب، وبها يكون الولاء لمسلمعليه‌السلام مزيج روحية الملأ المستتبع لتحرّي مبادئه الصحيحة التي ضحّى نفسه لانتشارها، وتمهيد الطريق اليها، وأول من وقفنا عليه مما رُثي به قول شاعره:

__________________

٣) المستدرك للنوري ج٣ ص٣٦٥ وص٤٧٧ وإجازة صاحب المعالم الكبيرة في البحار ج٢٥ كتاب الإجازات.

١٦٧

فإن كن تَ لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانىء في السوقَ وابن عقيلَ

إلى بطل قد هشّم السيف أنفهُ

وآخر يهوي من طمار قتيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل

ترى جسدا قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

فتى هو أحيا من فتاة حييّة

وأقطع من ذي شفرتين قتيل

أيركب أسماء الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول

تطوف حواليه مراد وكلهم

على رقبة من سائل ومسولِ

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا بغايا أرضيت بقليل

وهذه الأبيات نسبها في رياض المصائب ص٢٦٨ الى الفرزدق، وفي اللهوف ص٣٢ صيدا، وكامل ابن الاثير ج٤ ص١٥ قيل: أنها للفرزدق، وزاد في اللهوف: أن بعضهم يراها لسليمان الحنفي، ونسبها الدينوري في الأخبار الطوال ص٢٤٢ الى عبدالرحمن بن عبدالله الأسدي، وفي البداية والنهاية لابن كثير ج٨ ص١٥٧ نسبها إلى الشاعر، وفي نقله أنها قصيدة ولكنه ذكر منها خمسة أبيات، وعند ابن الأثير في الكامل، وأبي الفرج في المقاتل، والشيخ المفيد، وابن نما: أنها لعبد الله بن الزبير الأسدي(٤) .

ولكن في نص الأغاني ج١٣ ص٣١: أن عبدالله بن الزبير من شيعة بني أمية وذي الهوى فيهم والتعصب والنصرة على عدوهم،وأنه لايمالئ أحدا عليهم ولا على عمالهم، وكان عبيدالله بن زياد يصله ويكرمه ويقضي ديونه وله فيه مدائح منها:

اليك عبيدالله تهوى ركابنا

تعسّف مجهول الفلاة وتدأب

وقد ضمرت حتى كأن عيونها

نطاف فلاة ماؤها متصبّب

فقلت لها لا تشتكي الأين أنه

أمامك قرم من أمية مصعب

إذا ذكروا فضل امرئ كان قبله

ففضل عبيدالله أثرى وأطيب

وإنك لو نشفي بك القرح لم يعد

وأنت على الأعداء ناب ومخلب

تصافى عبيدالله والمجد صفوة

الحليفين ما أرسى ثبير ويثرب

وأنت إلى الخيرات أول سابق

فأبشر فقد أدركت ما كنت تطلب

__________________

٤) في كامل ابن الأثير ج٤ ص١٥ الزبير بفتح الزاء المعجمة وكسر الباء الموحدة.

١٦٨

ويقول في مدح اسماء بن خارجة وكان يكرمه ويصله:

فمن مثل أسماء بن حصن اذا عدتْ

شآبيبه أم أي شيء يعادله

وكنت إذا لاقيت منهم حطيطة

لقيت ابا حسان تندى أصائله

تضيّفه غسان يرجون سيبه

وذو يمن اجيوشهُ ومقاوله

فتى لا يزال الدهر ما عاش مخضبا

ولو كان بالموتان يجدي رواحله

فأصبح ما في الأرضِ خلق علمتِه

من الناسِ إلا باعُ أسماء طائُله

تراهُ اذا ماجئتَه متهلّلاً

كأنّك تعطيهِ الذي أنتَ نائلُه

ولوْ لمْ يكنْ في كفّهِ غيرُ روحهِ

لجادَ بها فَلْيتّقِ الله سائله

ترى الجندَ والأعرابَ يغشونَ بابَهُ

كما وردتْ ماء الكلاب نواهلهُ

اذا ما أتوا أبوابَهُ قالَ مرحباً

لجوا البابَ حتّى يقتلَ الجوعَ قاتلُه

ترىَ البازلَ البختى فوقَ خوانِه

مقطّعةً أعضاؤهُ ومفاصلُه

إذا ما أتوا أسماءَ كان هوَ الذي

تحلّبُ كفاهُ الندَى وأناملُه(٦)

وهل يستطيع أحد بعد مدائحه وعقيدته وتزعته الأموية أن ينسب الأبيات إليه خصوصا، وقد ذكر أبو الفرج أن أسماء بن خارجة له ذكر قبيح عند الشيعة يعدّونه في قتلة الحسين، ومعاوناً لعبيدالله بن زياد على هاني بن عروة حتى قتله، ونصره على مسلم بن عقيل وذكر ذلك شاعرهم فقال(٧) :

أيركب أسماء الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بقتيل

فنسب هذا البيت وهو في جملة تلك الأبيات الى شاعر الشيعة وقد عرفت أن عبدالله بن الزبير أموي الرأي ومادحا ليزيد بن معاوية وليس من شيعة آل علي.

نعم، نسبة تلك الأبيات الى الفرزدق قريبة جدا لتشيّعه وموالاته الأكيدة لآل عليعليه‌السلام والذّب عنهم وهجاء من عاداهم، وكونه حاجّا بأمه سنة ستين لا يدفع نسبتها إليه؛ إذ من القريب أنه أنشأها بعد رجوعه من الحج وقد بلغه فعل الدعي ابن مرجانة بعترة الرسول ومن آواهم ولبّى دعوتهم.

__________________

٥) الجيشان لقب عبدالرحمن بن حجر بن ذي رعين واليه ينسب الجيشانيون والمقاول جمع مقول كثير يقال لملك اليمين أو ملوك حمير خاصة: القاموس وتاج العروس.

٦) الأغاني ج١٣ ص٣٣ وص٣٧.

٧) الأغاني ج١٣ ص٣٥.

١٦٩

وقد أكثر العلماء والأدباء باللغة الفصحى والعامية في التعريف بما لابن عقيل من نفسية قدسية، وما حواه من فضائل وفواضل أهلته للنيابة الخاصة عن خليفة الله في أرضه، وما أبداه من بسالة حينما كشفت الحرب عن ساقها وكشرت عن نابها فقابل بمفرده أولئك الجماهير من أعدائه « في موقف لو به أرسي سهلان لزالا » حتى أكثر القتلى وضجّت الكوفة بأهلها، وكان لهتافه المعرب عن ثباته وإيمانه دويٌّ في أرجائها.

وممن بادر للفوز بالرضوان الأكبر سيد العلماء المحققين وقدوة الفقهاء الراسخين الآية الكبرى السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي أعلا الله درجته ونوّر ضريحه، فقال(٨) :

عين جودي لمسلم بن عقيل

لرسول الحسين سبط الرسول

لشهيد بين الأعادي وحيد

وقتيل لنصر خير قتيل

جاد بالنفس للحسين فجودي

لجواد بنفسه مقتول

فقليل من مسلم طلُّ دمع

لدم بعد مسلم مطلول

أخبر الطهر أنه لقتيل

في وداد الحسين خير سليل

وعليه العيون تسبل دمعا

هو للمؤمنين قصد السبيل

وبكاه النبي شجوا بفيض

من جوى صدره عليه هطول

قائلاً: إنني إلى الله أشكو

ما ترى عترتي عقيب رحيلي

فابك من قد بكاه أحمد شجوا

قبل ميلاده بعهد طويل

وبكاه الحسين والآل لما

جاءَهُم نعيُهُ بدمعٍ همولِ

كان يوما على الحسين عظيما

وعلى الآل أي يوم مهول

منذرا بالذي يحل بيوم

بعده في الطفوف قبل الحلول

ويح ناعيه قد أتى حيث يرجى

أن يجيء البشير بالمأمول

أبدل الدهر بالبشير نعيا

هكذا الدهر آفة من خليل

فأحثّوا الركاب للثأر لكن

ثأروه بكل ثأر قتيل

فيهم ولْدُه وولْد أبيه

كم لهم في الطفوف من مقتول

خصّه المصطفى بحبّين حبٍّ

من أبيه له وحب أصيل

____________

٨) القصيدة طويلة زادت على الثمانين بيتا تعرض فيها لمدح هاني بن عروة وشهداء الطف، انتخب منها ما اثبتناه الفاضل السيد حسين ابن العلامة السيد محمد تقي آل بحر العلوم.

١٧٠

قال فيه الحسين أي مقال

كشف الستر عن مقام جليل

ابن عمي أخي ومن أهل بيتي

ثقتي قد أتاكم ورسولي

فأتاهم وقد أتى أهل غدر

بايعوه وأسرعوا في النكول

تركوه لدى الهياج وحيدا

لعدو مطالب بذحول

لست أنساه اذ تسارع قوم

نحوه من طغاة كل قبيل

وأحاطوا به فكان نذيرا

باقتحام الرجال وقع الخيول

صال كالليث ضاربا كل جمع

بشبا حد سيفه المسلول

واذا اشتد جمعهم شد فيهم

بحسام بقرعهم مفلول

فنرأى القوم منه كر عليّ

عمه في النزال عند النزول

وقال في الإعتذار عن أداء الحق:

يابن بنت النبي ان فات نصري

يوم طعن القنا ووقع النصول

فولائى دليل إني قتيل

فيك لو كنت بدء كل قتيل

باذلا مهجتي وذاك قليل

في وداد البتول وابن البتول

مقولي صارم وليس كليلا

وهو في ذا المصاب جد كليل

وقصارى فيه جهد مقل

منك يرجو قبول ذاك القليل

ما إلى رزئك الجليل سبيل

فإلى « مسلم » جعلت سبيل

إن يكن لي بكل عضو لسان

ما وفى لي « بمسلم بن عقيل »

ولحجة الإسلام آية الله الشيخ عبدالحسين صادق العاملي المتوفى سنة ١٣٦١هـ بالنبطيّة:

سل كوفة الجند مُذ ماجت قبائلها

تسد ثغر الفضا في سيلها العرم

غداة زلّت عن الإسلام فاتكة

« بمسلم » حين أضحى ثابت القدم

فقام وهو بليغ الوعظ ينذرهم

بالمرهفين غراري صارم « وفم »

لم أنسه وهو نائي الهم حين سرى

من يثرب يملأ البيداء بالهمم

عجلان اقلقل أحشاه البسيطة في

إرقالة من بنات الأينق الرسم

١٧١

طوع « ابن فاطمة » أم العراق على

علم بأن أمام السير سفك دم

جذلان نفس سرى والموت غايته

أفديه من قادم للموت مبتسم

يرى المنية من دون ابن حيدرة

أشتهى له من ورود الماء وهو ظمي

هامت به البيض تقبيلا وهام بها

ضربا وكل بغير المثل لم يهم

فكم تحلب من أخلاف صارمه

موت زؤام وحتف غير منخرم

وكم تلمظ بالأبطال أسمره

غداة أطعمه أحشاء كل كمي

كبا به القدر الجاري وحان له

من الشهادة ما قد خُطّ بالقلم

فراح ملتئما بالسيف مبسمه

أفديه من مبسم بالسيف ملتئم

وحلقت نفسه للخلد صاعدة

غداة في جسمه وجه الصعيد رمي

لله من مفرد أمست توزّعه

جموعهم بشبا الهندية الخذم

أضحى تريب المحيا الطلق ما مسحت

عنه غبار النفا كف لذي رحم

ما الشمس في بهجة الإشراق ناصعة

تحكي محيّاه مخضوبا بفيض دم

ما شد لحييه من عمرو العلى أحد

كلا ولا ندبته الأهل من أمم

نائي العشيرة منبوذ بمصرعه

مترّب الجسم من قرن إلى قدم

من مبلغ السبط أن الدهر فلّ له

من الصوارم أمضى مرهف خذم

لا البيض من بعده حمر مناصلها

ولا القنا بعده خفاقة العلم

لآية الله الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني المتوفي سنة١٣٦١ بالنجف:

يا ربي المحمود في فعاله

صل على محمد وآله

وصل بالإشراق والأصيل

على الإمام من بني عقيل

أول فاد فاز بالشهادة

وحاز أقصى رتب الشهادة

أول رافع لراية الهدى

خص بفضل السبق بين الشهدا

درة تاج الفضل والكرامة

قرة عين المجد والشهامة

غرة وجه الدهر في السعادة

فإنه فاتحة السعادة

كفاه فخرا منصب السفارة

وهو دليل القدس والطهارة

كفاه فخرا شرف الرسالة

عن معدة العزة والجلالة

وهو أخ ابن عمه المظلوم

نائبه الخاص على العموم

١٧٢

وعينه كانت به قريرة

حيث رآه نافذ البصيرة

لسانه الداعي الى الصواب

بمحكم السنة والكتاب

منطقه الناطق بالحقائق

فهو ممثل الكتاب الناطق

له من العلوم ما يليق به

بمقتضى رتبته ومنصبه

يمينه في القبض والبسط معا

فما أجل شأنه وأرفعا

فارس عدنان وليث غابها

وسيفها الصقيل في حرابها

بل هو سيف السبط سيف الباري

وليثُ غاب عترة المختار

أشرق كوفان بنور ربها

مذحل فيها رب أرباب النهى

بايعه من أهلها ألوف

والغدر منهم شائع معروف

ثباته من بعد غدر الغدرة

ثبات عمه أمير البررة

بل هو في وحدته وغربته

كعمه في بأسه وسطوته

له من الشهامة الشماء

ما جاز حد المدح والثناء

أيامه مشهودة معروفة

يعرفها أبطال أهل الكوفة

كم فارس غدا فريسة الأسد

كم بطل فارق روح الجسد

وكم كمي حد سيفه قضى

على حياته كمحتوم القضا

وكم شجاع ذهبت قواه

وذاب قلبه إذا رآه

شد عليهم شدة الليث الحرب

قرت عيون آل عبدالمطلب

بل عين عمه العلي قدرا

إذ هو بالبارق أحيى « بدرا »

ذكر يوم « خيبر وخندق »

بصولة تبيد كل فيلق

تكاثروا عليه وهو واحد

لا ناصر له ولا مساعد

رموه بالنار من السطوح

لروحه الفداء كل روح

حتى إذا أثخن بالجراح

واشتد ضعفه عن الكفاح

لم يظفروا عليه بالقتال

فاتخذوا طريق الإحتيال

فساقه القضا إلى « الحفيرة »

أو ذروة القدس من الحظيرة

أصبح « مسلم » أسير الكفرة

تعسا وبؤسا للئام الغدرة

كان أميرا فغدا اسيرا

كذاك شأن الدهر أن يجورا

أدخل مكتوفا علي ابن العاهرة

عذّبه الله بنار الآخرة

١٧٣

أسمعه سبا وشتما فاحشا

رماه باطلا بما يدمي الحشا

وما اشتفى من مسلم بما لقي

حتى اشتفى منه بضرب العنق

وبعده رماه من أعلا البنا

فانكسرت عظامه وأحزنا

وشد رجلاه ورجلا هاني

بالحبل يا للذل والهوان

فأصبحا ملعبة الأطفال

بالسحب في الأسواق بالحبال

فلْتبكه عين السما دما فما

أجل رزء « مسلم » وأعظما

وقد بكاه السبط حينما نعي

إليه « مسلـم » بقلب موجـع

فارتجت الأرجـاء بالبكاء

على عميد الملـة البيضاء

واهتزّ عرش الملك الجليل

على فقيد الشرف الأصيل

وناحـت العقول والأرواح

لما استحلّـوا منه واستباحـوا

صُبّت دموع خاتـم النبوة

على فقيد المجد والفتوة

بكاه عمه علـى مصابـه

وحق أن يبكي دماً لما به

بكـى على غربته آل العبا

وكيـف لا وهو غريب الغربا

ناحت عليه أهل بيت العصمة

فيا لهـا من ثلمة ملمة

للعلامة الحجة السيد رضا الهندي المتوفى سنة ١٣٦٢(٩) :

لو أن دموعي استهلّت دما

لما أنصفت بالبكا « مسلما »

قتيـل أذاب الصفا رزؤه

وأحـزن تذكاره « زمزما »

وأورى الحجون بنار الشجون

وأبكى المقام وأشجى الحمىَ

أتى أرضَ كوفـانَ في دعوةٍ

لها الأرضُ خاضعـةٌ والسما

فلبوا دعاهُ وأمّوا هداه

لينقذهم من عشاء العمي

وأعطوه من عهدهم ما يكـادُ

إلى السهل يستدرجُ الأعصما

وما كان يحسب وهو الوفـيُّ

أن ينقضوا عهده المبرمَا

فديتُكَ من مفـرد أسلموه

لحكم الدّعيِّ فما استسلما

وألجأه غدرهـم أن يحلّ

في دار « طوعة » مستسلمَا

فمذ أقحموا منه في دارها

عريناً أبى الليث أن يقحمـا

__________________

٩) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الجابري.

١٧٤

أبان لهم كيف يضرى الشجاع

ويشتد بأسا إذا أسلما

وكيف تهبّ أسود الشرى

إذا رأت الوحوش حول الحِمى

وكيف تفرّق شهـب البزاة

بغاثا تطيـف بها حوّما

ولما رأوا بأسه لايطاق

وماضيه لايرتوي بالدما

أطلّوا على شرفـات السطوح

يرمونه الحطب المضـرما

ولولا خديعتُهم بالأمان

لما أوثقـوا ذلـك الضيغما

وكيف يحس بمكر الأثيـم

من ليس يقترف المأثما

لئن ينسني الدهر كل الخطوب

لم ينسني يومك الأيوما

أتوقف بيـن يـدي فاجر

دعي إلى شرهم منتمى

ويشتـم اسرتك الطاهرين

وقد كان أولى بأن يشتمـا

وتقتل صبرا ولا طالب

بثأرك يسقيهم العلقما

وترمى إلى الأرض من شاهق

ولم تـرم أعداك شهب السمـا

فإن يحطموا منك ركن الحطيم

وهدوا من البيت ما استحكمـا

فلست سوى المسك يذكو شذاه

ويـزداد طيبا إذا حطما

فإن تخل كوفـان من نادب

عليـك يقيم لك المأتما

فإن ضبا الطالبيين قـد

غدت لك بالطّف تبكي دما

زهى منهم النقـع في أنجم

أعادت صباح العدى مظلما

وللعلامة السيد باقر نجل آية الله الحجة السيد محمد الهندي - قدس الله تربتهما - أبياتا سبعة، وصدرها الخطيب الفاضل الشيخ قاسم الملا الحلي بثلاثة عشر بيتا وذيّلها بأربعة أبيات، وأتمها العالم الشيخ محمد رضا الخزاعي بتسعة أبيات.

الشيخ قاسم الملآ:

لحيّكم مهجتـي جانحـهْ

ونحوكم مقلتي طامحـهْ

واستنشق الريح إن نسّمـت

فبالأنف من نشركم نافحـهْ

وكم لي على حيّكـم وقفـةً

وعيني في دمعها سـابحـهْ

تعاين أشباح تلك الـوجـوه

فلا برحت نحوكم شابحـهْ

وكم ظبياتٍ بها قـد رعـتْ

بقيصوم قلبي غدت سارحهْ

١٧٥

تقصت ومن لي بها لو تعودُ

فكيف وقد ذهبت رائحهْ

وعدّت غريبا بتلك الديار

أرى صفقتي لم تكن رابحهْ

كما عاد « مسلم » بين العدى

غربيا وكابدهـا جائحهْ

رسـول حسين ونعم الرسول

إليهـم من العترة الصالحهْ

لقد بايعوا رغبة منهمُ

فيا بؤس للبيعة الكاشحهْ

وقد خذلـوه وقد أسلموه

وغدرتهـم لم تزل واضحة

فيا ابن عقيـل فدتك النفوس

لعظم رزيتـك الفادحة

لنبك لها بمـذاب القلوب

فما قـدر أدمعنا المالحة

السيد باقر الهنديرحمه‌الله :

بكتك دمـا يا ابن عم الحسين

مدامع شيعتـك السافحـه

ولا برحت ها طلات العيون

تحييـك غادية رائحه

لأنك لم ترو مـن شربة

ثناياك فيها غـدت طائحه

رموك من القصر إذ أوثقوك

فهل سلمت فيك من جارحـه

وسحبا تجرّ بأسواقهم

ألست أميرهم البارحه

أتقضي ولم تبكك الباكيات

أما لك في المصر من نائحـه

لئن تقضي نحبا فكم في زرود

عليك العشية من صائحة

  الشيخ قاسم الملآ:

وكم طفلة لك قد أعولـتْ

وجمرتها في الحشا قادحهْ

يعززها السبط في حجره

لتغدو في قربه فارحهْ

فأوجعها قلبهـا لوعةً

وحسّتْ بنكبَتِها القارحـهْ

تقول مضى عم منّي أبي

فمن ليتيمتهِ النائحهْ(١٠)

 __________________

١٠) الى هنا من كتاب « سوانح الأفكار في منتخب الأشعار » للخطيب الأستاذ السيد محمد جواد شبّر.

١٧٦

الشيخ محمد رضا الخزاعي(١١) :

ثكول تبيـت بليل اللّسيع

تعج وعن دارهـا نازحهْ

وكم من كميّ بأحشائه

تُركت زناد الأسى قادحَهْ

دريت ابن عمك يوم الطفوف

نعـاك باسرته الناصحهْ

تحفُّ بـه منهم فتيةٌ

صبـاحٌ وأحسابُهُـم واضحَهْ

بكاكَ بماضـي الشّبا والوغَى

وجوهُ المنايا بهـا كالحهْ

أقامَ بضـرب الطلى مأتماً

عليكَ وبيض الضبـا نائحهْ

ونادى عشيرتَكَ الأقربين

خذ الثأرَ يا أسرةَ الفاتحَهْ

وخاضَ بهم في غمار الحتوفِ

ولكنهما بالضّبـا طائحهْ

وقالَ لها: يا نزارُ النّزالِ

فحربُك في جدها مارحَهْ

وقال العلامة الحجة ميرزا محمد علي الأوردباديّ الغرويّ:

وافى بمنقطـع البيـان ثناؤه

بطل على الجـوزاء رفّ لـواؤهُ

وعلى السماك محلهُ شرفاً وإنْ

يكُ فـي الصعيدِ يلفّهُ بوغاؤهُ

الباسـط العدل المهيب جـوارهُ

والواسع الوفر الرحيب فناؤهُ

قد أخضل الوادي بمـرزم سيبـهِ

وأضاء في النادي الرهيب بهـاؤهُ

لم تدر يوم تبلّجتْ أنوارهُ

أذكاً تضيءُ الأفقُ أم سيمـاؤهُ

هو نقطة المجد الأثيل تألّفتْ

منها غدات تكثّـرتْ أجزاؤهُ

ولـه بأعلام النبوة مفخرٌ

قد نيطَ بالإيمان فيه بكاؤهُ

وبعين جبّار السّماء شهادةٌ

خصتْ به وعليه حق جزاؤُهُ

ونيابة عن سبط أحمد حازها

فتقاعستْ عن حملهـا قرناؤهُ

وأخوة قـد شرّفتْهُ بموقف

قد كان مشكورا لديـه إخاؤُهُ

لم يبغِ غيرَ هوى الحسين ورهطهِ

وسواهُ قد شطـت به أهواؤهُ

هو ذاك موئا رأيه وعليه منْ

أمر الإمامةِ ألقيتْ أعباؤهُ

علم تدفّقَ جانباه فلـم يدع

إمّا تدفّـق سـاحلا دئماؤه

__________________

١١) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الشيخ محمد علي الجابريّ.

١٧٧

وندى به وجه البسيط تبلجـتْ

أرجـاؤه وتأرجت أجـواؤهُ

وبسالة موروثـة من حيدر

فكأن موقف زحفـه هيجاؤهُ

وضرائب قدسية ما إن تلحْ

إلاّ أطل على الوجـوه ذكـاؤهُ

وشذيُّ نجر من ذوأبة غالب

تسري على مر الصبـا فيحاؤهُ

ومآثر شعّت سنا تمتـد من

نسب قصير يستطـيـل سناؤهُ

وأمير مصر لم يخنه وإن يكـن

خانته عند الملتقـى أمراؤهُ

يزهو به دست الخلافة مثلـمـا

يزدان من صرح الهدى أبهاؤهُ

لله صفقة رابـح لمـا يبنْ

يوم التغابن بيعـه وشراؤهُ

هو مسلم الفضل الجميـع ومعقد

الشرف الرفيع تقدسـت أسماؤهُ

طابت أواصره فجـم مديحه

وزكت عناصره فجـل ثنـاؤهُ

قرت به عينا « عقيل » مثلمـا

سرت بموقف مجـده آباؤهُ

واحتلّ من كوفان صقع قداسـة

فيه تقدس أرضـه وسماؤهُ

كثرت مناقبه النجوم وكاثـرتْ

قطر الغمام بعدّهِ أرزاؤهُ

سيف لهاشم صاغهُ كـف القضا

فلنصرة الدين الحنيـف مضاؤهُ

شهدت له الهيجاء أن بيمينه

أمر المنايا حكمـه وقضاؤهُ

إذ غاص في أوساطهـا وأليفـه

ماضى الشبا وسميـره سمراؤهُ

في يوم حرب بالقتـام مجلل

أو ليل حرب قـد جـلاه رواؤهُ

وبمأزق فيه النفـوس تدكدكـتْ

من بعدما التقم الرؤوس فضاؤهُ

إن سل عضبا فالجبـال مهيلـة

أو هز رمحـا فالسمـا جرباؤهُ

وانصاع يزحف فيهم مستقصيـا

فأتى على بهم الوفى استقصاؤهُ

يحصي مصاليت الكماة بصارم

لم يبق منهـم مقبلا إحصاؤهُ

وارتجّ كوفان عليه بعاصف

من شره وتغلغلـت أرجاؤهُ

فرأوا هنا لك محمدا ضوضاءهمْ

بكمين بأس هدهمْ بأساؤهُ

ومبيدُ شوكتهم إذا حم الوغى

أضحى يدير الأمر كيـف يشاؤهُ

من فاتق رتق الصفوف وخارق

جمع الألوف غداة عز رفاؤهُ

لولا القضا عرفوه مطفأ عزمهمْ

بمهنـد لاينطفي إيراؤهُ

لكنهم عرفوا الضبارهم خاضعاً

لولي أمر لايرد قضاؤهُ

١٧٨

أمنوا الشقا فتواثبوا لقتاله

فارتثّ من بطـل الهدى أعضاؤهُ

حتى إذا غيل الهزبرُ بمستوىً

لابد أن ترد الـردى أسراؤهُ

بالأمس كان أميرهم واليـومَ

تسحبه إلى ابن سميـة زمـلاؤهُ

وهناك إد من مقالة فاجر

قد كان يسمعه التقيُّ رغـاؤهُ

إن كان أسمعه سبابـاً مقذْعا

فالنضحُ مما قد حواه إنـاؤهُ

ولدين أحمـد مدمع لفوأده

المفطور من ظمـأ ترقرق ماؤهُ

ولقد بكيتُ مقطّعا منهُ الحشا

قد وزّعت بشبا الظبا أشلاؤهُ

ومناولاً قدحا ليروي غلة

قد أجهدتـه فغيّرته دماؤهُ

طلاع كل ثنية طاحـت ثنـا

ياه فأجـج بالصـديّ ظماؤهُ

وأشد ماعاناه من أرزائهِ

إفك الدعـي عليه أو أرزاؤهُ

لم يصعدوهُ له وإن يك قدْ

إلا وثمّـت حلّقت علياؤهُ

قوس الصعود لـه وإن يك قد

هـوى متنازلا حوباؤهُ

يا هـل درى القصر المشيد بان

من ينقض عنه جماله وبهاؤهُ

هو للإمارة وهو مفخر دسته

والمكـرمـات إهابه ورداؤهُ

ألقوه من صعد فكان محطّمـاً

جثمانـه ومعظما برحاؤهُ

ويُجَر في الأسواق منه أخو هدىً

من حادثات الدهر طال عناؤهُ

فكأنه وسريَّ مذحج خدنهُ

في السحب من افق العلا جوزاؤُهُ

لفضيلة العلامة السيد محمد نجل حجة الإسلام آية الله السيد جمال الهاشمي أدام الله ظله:

سار يطوي القفار سهلا ونجدا

ويحث الركاب رملا ووخدا

بعثته رسالة الحـق وحياً

فيه ركب الحياة يحدى ويُهـدى

يتحدّى التاريـخ فردا بعزم

فار غيظا على الزمـان وحقدا

أيزيد يقود قافلة الدين

إلى أين أيها الركـب تُحدى؟!

أترى يترك الحميّا، وقد شبّ

عليها وشـاب حبا ووجدا؟

عاشـر القرد في صباه إلى أنْ

عاد في الطبع والشمائـل قردا

وأراد « ابن هند » أن يمحق الدين

ويعـلى به يعوقا وودا

١٧٩

فارتضـاه للمسلمين إماما

مستجـاراً وحاكما مستبدا

وهنا ثارت العقيدة بركانا

وفارت حقـدا يصلصل وقدا

صهرتها روح الحسين نشيدا

ردّدته القورن فخـرا ومجدا

وتحلى بلحنه « ابن عقيل »

وتحدّى النظام هدما ونقدا

وسرى في القفار يهتف:

عاش الدين في موكب الحسين لنفدى

نثر اُلح في الرمال ففاضت

ربوات الصحراء وردا ورندا

كوفة الجند قابلته بروح

تتندى له ولاء وودا

وهي مهد الهوى لآل علي

فجدير بأن تجدد عهدا

أرسول الحبيب يأتي بشيرا

باللقا فلتذب هناء وسعدا

ولتبايع يد الحسين وتُعلي

ذكره في الجموع مدحا وحمدا

ولتعش جمرة العقيدة والروح

لتصفو لها الموارد وردا

ومشت في القلوب موجة إيمان

غدت تغمر الجماهير بمدا

رفعت للجهاد ألوية الموت

وسارت بها المواكب حشدا

قررت أن تلفّها الحرب أو تنشر

من حكمهـا علـى الدهر بندا

واغتـدى « مسلم » يعبّئ جيشا

علويّـا يفيض بأسا ونجدا

وأثارت « يزيد » احداث « كوفان »

وماجت « دمشـق » برقا ورعدا

وأشار الخنـا إلى « ابن زياد »

أن يدير الأمور حـلا وعقـدا

فسعى مفردا لكوفان لكن

كان من خبثه يساير جندا

أنكرتْـه العيون لما تـرآى

سيدا، وهي فيـه تبصر عبدا

وكما رامه « يزيد » أدار

الوضع في حزمه وعيدا ووعدا

وتلاشى التيار، فا « لمسجـد الأعظمُ »

قد بات فيه « مسلم » فردا

خانه الدهر، فالجماهيـر راحت

تتنائى عنـه شيـوخا ومُـردا

ومشى يقطع الشـوارع حتى

كـل من سيره مراحا ومغـدى

وتسامت أمجاد « طوعـة » لما

ضافهـا « مسلـم » عياء وجهـدا

وأتته أنصاره وهـي أعداء

تـردّت من الخـزاية بردا

تبتغي منه أن يبـايـع نغلاً

أنكرتْـه الأصلاب رسمـا وحـدا

فطوى جيشهـا الكثيـف بسيف

يتلقـى الالوف نثرا وحصـدا

١٨٠

181

182

183

184

185

186