الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل20%

الشهيد مسلم بن عقيل مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 186

  • البداية
  • السابق
  • 186 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64927 / تحميل: 7577
الحجم الحجم الحجم
الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل

مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فمنعها عليعليه‌السلام وهو في بطنها.

وقد فات المسكين أن في هذه الكرامة التي حسبها طعنا بتلك الذات المبرأة من رجس الجاهلية ودنس الشرك، وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبياء المتكون من النور الآلهي مودعا في وعاء الكفر والجحود.

كما أنهم أبعدوها كثيرا عن مستوى التعاليم الآلهية ودروس خاتم الأنبياء الملقاة عليها كل صباح ومساء وفيها ما فرضه المهيمن سبحانه على الأمة جمعاء من الايمان بما حبا ولدها الوصي بالولاية على المؤمنين حتى اختص بها دون الأئمة من أبناءه وإن كانوا نورا واحدة ولقد غضب الإمام الصادقعليه‌السلام على من سماه أمير المؤمنين وقال: « مه لا يصلح هذا الإسم إلا لجدي أمير المؤمنين ».

فرووا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على قبرها وصاح: « ابنك علي لا جعفر ولا عقيل » ولما سئل عنه أجاب: « ان الملك سألها عمن تدين بولايته بعد الرسول فخجلت أن تقول ولدي »(٣٨) .

أمن المعقول أن تكون تلك الذات الطاهرة الحاملة لأشرف الخلق بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيدة عن تلك التعاليم المقدسة؟، وهل في الدين حياء، نعم أرادوا أن يزحزحوها عن الصراط السّويّ ولكن فاتهم الغرض وأخطأوا الرمية.

فإن الصحيح من الآثار ينص على أن النبي لما أنزلها في لحدها ناداها برفيع صوت:

« يا فاطمة أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر فإذا أتاك منكر ونكير فسألاك من ربّك، فقولي: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وإبني إمامي ووليي، ثم خرج من القبر وأهال عليها التراب ».(٣٩)

ولعلّ هذا خاص بها ومن جرى مجراها من الزاكين الطيبين كفاطمة الزهراءعليها‌السلام فإن الحديث ينص على أنها لما سألها الملكان عن ربها قالت: الله ربي، قالا: ومن نبيك؟ قال: أبي، قالا: ومن وليك؟ قالت: هذا القائم على شفير قبري

__________________

٣٨) خصائص أمير المؤمنين للسيد الرضي وفي طريق الحديث محمد بن جمهور العمى الضعيف بنص النجاشي والكشي وابن الغضائري والعلامة الحلي.

٣٩) مجالس الصدوق ص١٨٩ مجلس٥١.

٢١

علي أبي طالب(٤٠) .

وإلا فلم يعهد في زمان الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعد النبي فإن غاية ما جاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنها تهدم الخطايا ».

والخدشة في هذا الحديث واضحة فإنالاعتراف بالرسالة كالإعتراف بالتوحيد متلازمان، وتلقين الأموات إنما هو لأجل أن يكون العبد الراحل عن هذه الدنيا باقيا على ما هو عليه فيهاحتى في آخر المنازل، فالإقرار بأحدى الشاهداتين لا ينفك عن الأخرى، فهذا الحديث الناص على الإقرار بكلمة التوحيد مع السكوت عن الشهادة بالرسالة لنبي الإسلام لا نعرف سنده ليكون شاهدا ودليلا.

وعلى كل فتخصيص زوج أبي طالب بذلك التلقين كالتكبير عليها أربعين خصائصها لأن التكبير على الأموات خمس.

وبالرغم من هاتيك السفاسف التي أرادوا بها الحط من مقام والدة أمير المؤمنينعليه‌السلام أظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام الأمة ما أعرب عن مكانتها من الدين وأنها بعين فاطر السماء سبحانه حين كفنها بقميصه الذي لا يبلى لتكون مستورة يوم يعرى الخلق، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة لرغبتها فيه عندما حدثها عن أحوال القبر وما يكون فيه من ضغط ابن آدم.

ولولا التنازل لرغبتها لما كان لاضطجاعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معنى فإن المؤمن المعترف بولاية أمير المؤمنين لا تصيبه الضغطة كما في صحيح الأثر فكيف بالوعاء الحامل لمن تكون من النور الأقدس.

فتحصل أن هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب بيت توحيد وايمان ولهدى ورشاد، وأ، من حواه البيت رجالا ونساء كلهم على دين واحد منذ هتف داعية الهدى، وصدع بأمر الرسالة غير أنهم بين من جاهر باتباع الدعوة وبين من كتم الإيمان لضرب من المصلحة.

وقد لبت هذا الهتاف أم هاني بنت أبي طالب فكانت من السابقات إلى الايمان كما عليه صحيح الأثر وفي بيتها نزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المعراج وهو في السنة الثالثة من البعثة وحدّثها بأمره قبل أن يخرج الى الناس، وكانت مصدقة له غير أنها خشيت تكذيب قريش إياه، وعليه فلا يعبؤ بما زعم من تخر إسلامها الى عام

__________________

٤٠) الإصابة لاب حجر ج٢ ص٤٧٨ بترجمة عروة بن مسعود.

٢٢

الفتح سنة ثمان من الهجرة.

وكانت وفاتها أما في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في مناقب شهر آشوب ج١ ص١١٠، وأما في خلافة معاوية كما في تقريب التهذيب لابن حجر ص٦٢٠، وحينئذ فليست هي المعينة بما في كامل الزيارة لابن قولويه ص٩٦: وأقبلت إليه بعض عماته تقول: إشهد يا حسين لقد سمعت قائلا يقول:

وإن قتيل الطف من آل هاشم

أذل رقابا من قريش فذلت

٢٣

عقيل

لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيبة وممن رضي عنهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أول الدعوة وكان هذا مجلبة للحب النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء، من رسوخ الإيمان في جوانحه، وعمل الخيرات بجوارحه، ولزوم الطاعة في أعماله، واقتفاء الصدق في أقواله، فقول النبي: « إني أحب عقيلا حبين، حبا له وحبا لحب أبي طالب له(١) » إنما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.

إذا فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنينعليه‌السلام بلسان حديد خلده عارا عليهم مدى الحقب والأعوام.

على أن حب أبي طالب له لم يكن لمحض النبوة فإنه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمة ولا ولده الوحيد، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار وطالب وهو أكبرهم سنا، وإنما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحب له مع وجود ولده « الامام » وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.

__________________

١) نص على هذه الجملة فقط في مستدرك الحاكم ج٣ ص٥٧٦، وتذكرة الخواص ص٧، والسير الحلبية ج١ ص٣٠٤، ونكت الهميان ص٢٠٠، ولها زيادة في حق ولده مسلم نص عليها الصدوق في الأمالي ص٧٨ مجلس ٢٧ سنذكرها في فضل البكاء عليه.

٢٤

وبعد أن فرضنا أبا طالب حجة وقته، وأنه وصي من الاوصياء لم يكن يحابي أحدا بالمحبة وان كان أعز ولده، إلا أن يجده ذلك الانسان الكامل الذي يجب في شريعة الحق ولاءه.

ولا شك أن عقيلا لم يكن حائدا عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الايمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفل تربيته وإعاشته، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجر منه على الاقل وكيف يتظاهر بحبه ويدينه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثق من إيمانه وتيقن من إسلامه غير أنه كان مبطنا له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنا لا نشك في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيار وأمير المؤمنين، وحينئذ لم يكن عقيل بدعا من هذا البيت الطاهر الذي بني الاسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى - صلوات الله عليه وعلى آله -

إلى الشّام:

لقد كانت الروايا في سفر عقيل الى الشام في أنه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج٣ ص٨٢ أنه بعد شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام وجزم به العلامة الجليل السيد علي خان في الدرجات الرفيعة، وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل فلاهم بملومين بشيء من ذلك ولا يحط من كرامتهم عند الملأ الديني؛ فإن للتقية أحكاما لا تنقض ولا يلايم المضطر على أمر اضطر إليه.

على أن عقيلا لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والإحصار بمطاعنه مشفوعة بالإشارة بفضل أخيه سيد الوصيين.

فمن ذلك أن معاوية قال له: يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك، فقال عقيل:

« لقد مررت بعسكر أخي فاذا ليل كليل رسول الله ونهار كنهاره إلاّ أنّ رسول الله ليس فيهم، وما رأيت فيهم إلا مصليا ولا سمعت إلاّ

٢٥

قارئا، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة »(٢) .

وقال له معاوية: إن عليا قطع قرابتك ولم يصلك، فقال عقيل:

« والله لقد أجزل أخي العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنه بالله إذ ساء به مثلك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم فاكفف لا أبالك فإنه عما تقول بمعزل ».(٣)

ثم صاح:

يا أهل الشام لقد وجدت أخي قد جعل دينه دون دنياه، وخشي الله على نفسه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، ووجدت معاوية قد جعل دنياه دون دينه، وركب الضلالة واتبع الهوى، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه، ولم تكدح فيه يمينه، رزقا أجراه الله على يديه، وهو المحاسب عليه دوني لا محمودا ولا مشكورا.

ثم التفت الى معاوية وقال:

أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأنّي بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.

فأطرق معاوية ثم قال: ما الذي يعذرني من بني هاشم، وأنشأ:

أزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا

فيأبوا لدى الإكرام أن يكرموا

وذا عطفتني رقتان عليهم

نأوا حسدا عني فكانوا هُم همُ

وأعطيتهم صفو الأخا فكأنني

معـا وعطاياي المباحة علقم

واُغضي عن الذنب الذي يقيلـه

من القوم إلا الهز بريّ المعمَم

حبا واصطبارا وانعطافا ورقـة

وأكظم غيض القلب إذ ليس يكظم

أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لخرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حويّ الحنظل.

فأجابه عقيل:

__________________

٢) الدرجات الرفيعة بترجمته.

٣) العقد الفريد ج٢ ص١٣٤ في باب الأجوبة المسكتة.

٢٦

غديرك منهـم من يلـوم عليهم

ومن هـو منهـم في المقالة أظلم

لعمرك ما أعطيتهم منـك رأفـة

ولكـن لأسبـاب وحولك علقـم

أبى لهم أن ينزل الـذل عنـوة

إذا ما طغـا الجبار كانوا هُم همُ

فدونك ما أسديت فاشدد يدا بـه

وخيركم المبسوط والشر فالزموا

ثمّ رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية: أما بعد يا بني عبدالمطلب أنتم والله فرع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم، ولكم الصفح الجميل فإن أحلامكم لراسخة، وعقولكم لكاسية، وحفظكم الأوامر، وحبكم العشائر، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن اغيّب الثرى، فكتب اليه عقيل:

صدقت وقلت حقا غير أنـي

أرى ألا أراك ولا تـراني

ولست أقول سوء في صديقي

ولكني أصد إذا جفـانـي

فكتب اليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألح عليه في ذلك فرجع اليه(٤) . فقال معاوية: لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:

وإني امرؤ مني التكرم شيمة

إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا

ثم قال:

يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها، وأظلتك بسرادقاتها، مدت عليك أطناب سلطانها ماذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعا لرهبته.

فقال معاوية: لقد نعتها أبو يزيد نعتا هش له قلبي، ثم قال له: لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة(٥) .

هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلمّ به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لاصحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولا عرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه.

كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما

__________________

٤) ربيع الأبرار للزمخشري في باب المعاتبات.

٥) العقد الفريد ج١ ص١٣٥.

٢٧

والاها وذلك بعد حادثة صفين.

كتاب عقيل

فإنه كتب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب: سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فإني خرجت من مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلا من « قديد »في نحومن أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت في وجوههم المنكر فقلت: إلى أين يا أبناء الشائنين، أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور الله وتبديل أمره؟ فأسمعني القوم واسمعتهم.

فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما، وان الحياة في دهر جرّأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الأفقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أبي برأيك، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك لاهنيء ولامريء ولا نجيع، والسلام.

كتاب أمير المؤمنين:

وكتب اليه أمير المؤمنينعليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يغشاه، وقد وصل إلي كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي، تذكر فيه أنك لقيت عبدالله بن أبي سرح مقبلا من « قديد » في نحو أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين الى جهة المغرب، وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه، وصد عن سبيله وبغاها عوجا، فدع عنك ابن أبي -

٢٨

سرح ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق.

ألا وإن العرب أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النبي قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقه، وجحدوا فضله، وبادروه بالعداوة، ونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه الجهد، وجروا اليه جيش الأحزاب، اللهم فأجز قريشا عني الجوازي؛ فقد قطعت رحمي، وتظاهرت علي، ودفعتني عن حقي، وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابة من الرسول، وسابقتني في الإسلام، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه، والحمدلله على كل حال.

وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل أن يسلب بها وأن يدنو منها، ولكنه قد أقبل في جردة خيل فأخذ على السماوة حتى قربوا من واقصة وشراف، والقطقطانة وما والى ذلك الصقع، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين، فلما بلغه ذلك فرّها ربا، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا فلم يبصر غلا بوقع المشرفية وولى هاربا، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا.

وأما ما سألتني أن أكتب اليك برأي فيما أنا فيه، فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرة الناس عزة، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق، والله مع المحق، ووالله ما أكره الموت على الحق، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.

وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك، فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي أن هلكت، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعا متضرعا « ولا مقرا للضيم واهنا، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد »(٦) ولكنه كما قال أخو بني سليم:

فان تسألينـي كيف أنت فإنني

صبور علي ريب الزمان صليب

يعز عليّ أن ترى بـي كئابـة

فيشمت باغ أو يسـاه حبيب

وهذا الكتاب من عقيل المروي بطرق متعددة(٧) يدلنا على أنه كان مع أخيه

__________________

٦) الجملة بين قوسين في النهج ج٢ ص٦٤.

٧) روى الكتابين أبو الفرج في الأغاني ج١٥ ص٤٤، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج١ ص١٥٥، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج١ ص٤٥، والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة بترجمة عقيل، وفي جمهرة رسائل العرب ج١ ص٥٩٦.

٢٩

أمير المؤمنينعليه‌السلام في حياته غير مفارق له، فإن الكتاب الذي كتبه إليه بعد غارة الضحاك على أطراف الحيرة، وذلك قرب شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إذا فالقول بأن وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعين كما اختاره السيد المحقق السيد علي خان في الدرجات الرفيعة، وجعله ابن أبي الحديد الأظهر عنده، وقد ظهر من ذلك أنه لم يكن مع معاوية بصفين.

حديث الحديدة:

أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنينعليه‌السلام فليس فيه ما يدل على اقترافه إثما أو خروجا عن طاعة، وإنما أراد أمير المؤمنين بذلك تهذيبه بأكثر مما تتهذب به العامة، كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه، فعرفة سيد الأوصياء أن إنسانا بلغ من الضعف إلى أن يئن من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون تمسه كيف يتحمل نار الآخرة في لظى، نزاعة للشوى، وهو مضطرم بين اوارها.

فمن واجب الإنسان الكامل التبعد عنها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمات القاسية، فهي مجلبة لمرضات الرب ومكسبة لغفرانه وان كان غيره من أفراد الرعية يتبعد عنها بترك المحرمات فحقيق بمثل عقيل - وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة - التجنب حتى عن المكروهات وما لا يلائم مقاماه من المباحات ويروض نفسه بترك ذلك كله حتى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه فلا يبعضهم الفقر الملمّ والكرب المدلهم، فرب مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فإن « حسنات الأبرار سيئات المقربين » وأمير المؤمنين أراد أن يوقف أخاه عقيلا على هذا الخطر الممنع الذي حواه وقد ذهل عنه في ساعته وإلا فعقيل لم يقترف مأثما حتى يكون ذلك عقوبة له.

افتراء على عقيل:

قال الصفدي: لقد بغض عقيلا إلى الناس ذكره مثالب قريش، وما أوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب، وكانت تبسط له طنفسة في مسجد رسول الله

٣٠

يصلّي عليها، ويجتمع إليه الناس لمعرفة أنساب العرب وأياهم وأخبارهم فقال أعداؤه فيه ونسبوه الى الحمق(٨) .

واختلقوا عليه أحاديث كان بعيدا عنها حتى وضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحط من كرامته زعما منهم أن في ذلك تشويها لسمعة هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب باخراج أهله عن مستوى الإنسانية فضلا عن الدين، بعد ان أعوزتهم الوقيعة في سيد الأوصياءعليه‌السلام بشيء من تلك المفتريات. فطفقوا يشوهون مقام أبيه وحامته، ولكن لا تنطلي تلكم الزخارف على الجيل المنقب حتى كشف عن نواياهم السيئة وعرف الملأ افتعال الحديث وبُعده عن الصواب.

قالوا في الرواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال: مازلت مظلوما منذ كنت صغيرا، أن عقيلا ليرمد فيقول: لا تذروني حتى تذروا عليا، فأضطجع وأذرى وما بي رمد.

لم أقرأ هذا الحديث إلا ويأخذني العجب. كيف رضى المفتعل بهذه القرية البينة، فإن أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة، وهل يعتقد أحد أو يظن إنسانا له من العمر ذلك المقدار إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء يمتنع منه إلا إذا شرب مثله أخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين، كلا لا يفعله أي أحد وإن بلغ الغاية في الخسة والضعف، فكيف بمثل عقيل المتربى بحجر أبي طالب والمرتضع در المعرفة خصوصا مع ما يشاهده من الآيات الباهرة من أخيه الإمام منذ ولادته.

إن الضّغائن والأحقاد تحبذ لمن تخلّق بها التردد في العمى والخبط في الضلال من دون روية وتفكير؛ «استَحَوَذَ عَلَيهِم الشَّيطانُ فَأَنساهُم ذِكرَ اللهِ اُولئِكَ حِزبُ الشَّيطانِ أَلا اِنَّ حِزبَ الشَّيطانِ هُمُ الخاسِرُونَ ».

نعم كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول غير مرة: « ما زلت مظلوما(٩) » من دون تلك الزيادة، يعني بذلك دفعه عن حقه الواجب على الأمة القيام به والميل عنه وتعطيل أحكام الله بالأخذ من غيره وتقديم من ليس له قدم ثابت في كل مكرمة، ولا نص من صاحب الشريعة، ولا فقه ناجع، ولا إقدام في الحروب، وحيث أن في هذه الكلمة حظا بمن ناوأه زحزحوها عنهم، وألصقوها بالسيد الكريم، وما أسرع أن عاد

__________________

٨) نكت الهميان ص٢٠٠.

٩) الشافي للسيد المرتضى ص٢٠٣.

٣١

السّهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه.

الخلف عن عقيل:

الخلف الصالح يخلد ذكر سلفه فلا يزال ذكره حيا بعمره الثاني من ذكره جميل وثناء جزيل وترحم متواصل واستغفار له منه وممن تعرّف به وفي الحديث: « ان ابن آدم اذا مات انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث » وعد منها الولد الصالح، ومن أجلى الواضحات أن هذا التذكير يختلف حسب تدرج الأولاد في المآثر، فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد، وكذلك الأسلاف فكلما كانوا في الشرف والسودد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع.

إذا فما ظنك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجل، وقد خلّفه في المآثر « شهيد الكوفة » وولده الأطائب شهداء الطف الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق.

ومن هنا كان السجادعليه‌السلام يعطف على ولد آل عقيل أكثر من ولد آل جعفر، فقيل له في ذلك، قال:

« إني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسينعليه‌السلام فأرق لهم(١٠) ».

فلولم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة.

وكم أب قد علا بابن ذرى شرف

كما علا برسـول الله عدنان

فكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كله.

ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين فإنهم بين علماء أعاظم وفقهاء مبرّزين وشعراء ومحدثين واُمراء صالحين ونسّابين، وقد انتشروا في مصر واليمن وحلب وبيروت ونصيبين والمدينة والكوفة والحلة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم واصفهان.

وكان القاسم بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن ابي طالب فاضلا تقيا وأخوه عقيل جليل ثقة، صاحب حديث وعمهما عقيل بن عبدالله نسابة مشجرا، وحفيد

__________________

١٠) كامل الزيارة لابن قولويه ص١٠٧.

٣٢

عقيل هذا جعفر بن عبدالله الاصفهاني عالم نسابة شيخ شبل ابن تكين مات سنة ٣٣٤ هـ.

ومحمد بن مسلم بن عقيل بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب يعرف بابن المزينة كان أمير المدينة قتله ابن أبي الساج.

وابنه أبو القاسم أحمد بن محمد المذكور، له أدب وفضل مات سنة ٣٣٠، والعباس بن عيسى الأوقص ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان وقد أولد بكرمان(١١) .

وعبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي الفح بن محمد بن عقيل العقيلي الطالبي ولد سنة ٦٩٨، وتوفي سنة ٧٦٩، ولي القضاء وقرأ القرءات السبع على الصائغ، وله تفسير القرآن في مجلدين والجامع النفيس(١٢) .

ومن أحفاد عقيل بن أبي طالب السيد إسماعيل بن السيد أحمد المازندراني الطبرسي النوري، فقيه من فقهاء الامامية، متبحّر في العلم، واسع الاطلاع، قيق النظر، وكان من اساتذة سيد الأمة ومجدد المذهب السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، وميرزا حبيب الله الرشتي، سكن النجف، وكانت له الإمامة في الجماعة دخل المشهد المطهر، وله تآليف رائقة في العقائد والأخلاق، منها كفاية الموحدين في أصول الدين، طبعت بالفارسية في ثلاث مجلدات، وله في شرح نجاة العباد لشيخ الطائفة صاحب الجواهرقدس‌سره ، طبع منه مجلدان في الطهارة والصلاة، وله كتاب في أصول الفقه رآه شيخنا الجليل المدقق الشيخ آغا بزرگ صاحب الذريعة عند صهره الشيخ علي المدرس الطهراني توفي غرة شعبان سنة ١٣٢١ هـ في الكاظمية ودفن في الصحن الشريف(١٣) .

وفي كربلاء من أحفاد عقيل بن أبي طالب بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيليين لهم أوقاف كثيرة

__________________

١١) عمدة الطالب.

١٢) طبقات القراء ج١ ص٤٢٨.

١٣) أعيان الشيعة ج١١ ص٢٥٣.

٣٣

حياة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

ولادة مسلمعليه‌السلام :

لقد أشرق الكون بهذا الميلاد المبارك، وتأرج فيه بنجره الشّذيّ يوم برز الى عالم الشهود بعد تقلب متطاول، بين أصلاب طاهرة، وأرحام زاكية، غير مدنسة بدرن الكفر، ولا موصومة بأدناس الجاهلية الأولى في نسب متصل بنسب صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب موروث من « شيخ الأبطح » الآنف ذكر شرفه وشرف بيته الرفيع وبينهما حلقة الوصل مثل عقيل الذي تقدم وصفه وذكر منزلته من العظمة والإيمان والشرف.

ولقد تلقى عقيل دروسا ضافية من صاحب الدعوة الالهية وأخيه الخليفة على الأمة عند انقضاء أمد الوحي المبين، وفيها ما يجب على الرجال من اختيار المحل الصالح لحمل تلكم النطف الزاكية وفي جملتها التحذير من منابت السوء المفسر على لسان المشرع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمرأة الدنيئة الأصل(١) لكون الوراثة حاكمة بطبعها الأوليّ على الفضائل المطلوبة من الولد اللهم إلا مع مزاحمة الكسبيات لها وظهورها عليها كما هو المشاهد من الرجال الذي اتصلوا بالذوات المقدسة فحصل لهم بواسطتها اسمى الخصال الطيبة وفازوا بالرضوان الأكبر.

ومن المقطوع به أن عقيلا مع حيطته بأنساب العرب ومواقع المآثر والمحازي وايمانه بتلكم الدروس الراقية لم يختر لنطفته إلا محلا لائقا تتعداه كل غميزة وتقترب منه الفضيلة ولم يستهسل أن ينبز عقبه بما لا يلائم نسبه الوضاح وبيتهم المنيع كما كان

____________

١) المقنعة للشيخ المفيد ص٧٩، والمجازات النبوية للشريف الرضي ص٦١ طبع مصر.

٣٤

يقال في كثيرين من أهل عصره وذرياتهم.

ويشهد له وقفة أولاده بمشهد الطف يوم التطمت أمواج الضلال وتحزّبت عصب الشرك على سيد شباب أهل الجنة وقطعوا عنه خطوط المدد وحالوا دون الوسائل الحيوية حتى الماء المباح لعامة الحيوانات، يريدون بذلك استئصال شأفة النبوة فكتبوا بدمائهم الزاكية اسطرا نورية على جبهة الدهر تقرؤها الأجيال المتعاقبة، ويتعرفون منها مناهج موتة العز وأن الحياة مع الظالمين ذميمة.

فظهر مسلمعليه‌السلام بين هذه وتلك ألقا وضاءا للحق وشخصية بارزة للدين والهدى متأهلا لحمل أعباء النيابة الخاصة عن حجة الوقت ولذلك اختاره لها سيد الشهداءعليه‌السلام من بين ذويه وحشده الأطايب.

ومن هذا الإستنباط يعلم طهارة « أمه » عن كل ما تغمز به النساء وأنها متحلية بالمفاخر وإن لم يعطها التأريخ حقها كما لم يعط حق ولدها المعظم الثابت له.

نعم للتأريخ والمؤرخين شغل شاغل بذكر أخبار القيان والمغنين وسرد روايات أهل الخلاعة والمعازف عن إثبات أحاديث سروات المجد وقادة الإصلاح من بني هاشم.

وهل النقمة ههنا على الكتاب أو ظروف التدوين أو السياسات القاسية أنا لا أدري، ولهذا كله خفى علينا يوم ولادتها وشهرها وسنتها، وكان من الصعب جدا تحديدها وكلما يقال فهو تقريب واستحسان ولا يغني من الحق شيئا.

وستقف في البحث المتعلق بأم مسلم على شيء ربما يستكشف المتأمل منه مبدأ الولادة.

أمّهعليه‌السلام :

إن غموض التعريف عن أم مسلم بأجلى المظاهر، أوقع الباحث في حيرة السؤال عن اقتران عقيل منها، هل كان بالعقد أم بملك اليمين، وأنها حرة أم جارية؟، والعتب في ذلك على المؤرخين الذين أهملوا الحقائق مع تحفظهم على أمور تافهة لايقام لها وزن، وان من الجدارة التعريف بنواحي هذا الرجل العظيم الذي دخل الكوفة وحده بلا عدة ولا عدد، فدوّى أرجاءها بصرخته الحسينية في وجه المنكر، وأقلق فكر الممثل للزعامة الأموية في الشام ولعل من هذا الإغفال يستطيع الباعث الجزم بأن ما يلم « بابن عقيل » كان على أبعد حد من الفضائل والفواضل سواء من ناحية أمه وأبيه أو من بيته

٣٥

الرّفيع فانه لو كان هناك طريق للغمز فيه ولو من جهة تأريخ امه لتذرع به المنحرفون عنه وعن سلفه الطاهر كما هو ديدنهم فيمن ضمهم هذا البيت أو انضوى إلى رأيتهم ومشى على ضوء تعاليمهم.

وليس للمؤرخين إلا نصان أحدهما بعيد عن الواقع كما ستعرف، والآخر على ما فيه من غموض وإجمال يمكن للمتأمل فيه، وفيما كتب عن أصل النّبط الإذعان بأن « أم مسلم » عربية حرة، ولعل ترك ابن زياد التعرض لها في ما جرى بينه وبين مسلم من المحاورات يشهد له، فإنه كان بصدد اسقاط مسلم عن أعين الناس فنسب له أشياء يقطع بأنه لم يأت بها أصلا فلو كانت أمه جارية لنبزه بها كما فعل هشام بن عبد الملك مع زيد الشهيد - رضوان الله عليه - إذ قال له: زعمت أنك تطلب الخلافة ولست هناك وأنت ابن أمة، فقال له زيد: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة فلم يمنعه أن كان نبيا وأبا لخاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهذا النص الأخير يرويه ابن قتيبة فيقول: كانت أم مسلم بن عقيل نبطية من آل فرزندا(٢) ويقول بعض المؤرخين: أن النبط كانوا في جبل شمر(٣) في أواسط بلاد العرب ثم نزحوا الى العراق لما فيه من الخصب والرخاء(٤) فأقاموا في سواد العراق(٥) أو في خصوص البطائح بين العراقين(٦) البصرة والكوفة.

ولم ينكر أحد ممن كتب عنهم أن لغة النبط عربية كأسماء ملوكهم البالغين ثمانية عشر، وفيهم امرأتان في القرن السابع قبل الميلاد(٧) ، نعم يرتئي المسعودي أنهم من الكلدانيين المجاورين مع الفرس سكان فارس والأهواز وعاصمتهم « كلواذي »(٨) وبعد تغلب الفرس عليهم تفرقوا(٩) ويوافقه على ذلك بعض المستشرقين الواقفين على النقوش من

__________________

٢) المعارف ص٨٨.

٣) يعرف بجبل أجا وسلمى منزل لطي وقع ذكره في كلام الطرماح لسيد الشهداء أنظر ما كتبناه في مقتل الحسين، وفي أواخر القرن الثالث عشر والرابع عشر كان منزلا لآل رشيد حتى تغلب عليهم عبد العزيز آل سعود.

٤) جرجي زيدان في العرب قبل الاسلام ج١ ص٧٨.

٥) تاج العروس للزبيدي ج٥ ص٢٢٩.

٦) القاموس للفيروزآبادي بمادة نبط.

٧) العرب قبل الاسلام ص٧٨.

٨) في القاموس بلدة في أسفل بغداد وفي معجم البلدان ج٧ ص٢٧٦ تبعد عن بغداد فرسخا للمنحدر.

٩) التنبيه والاشراف للمسعودي ص٦٨.

٣٦

آثارهم ويفيد بأن لهم في ذلك التأريخ دولة في العراق متسعة الأطراف حتى شملت معظم جزيرة العرب واستوزروا الوزراء وضربوا النقود بأسماء ملوكهم ولهم قوانين(١٠) .

وعلى هذا فليس مبتعدا عن الواقع من يرتئي أن عقيلا خطب لنفسه من بعض عشائر النبطيين الذين يجمعهم واياه الوقوف بتلك المشاعر المعظمة التي حث الله تعالى العباد إليها ذللا، أو الواردين للتجارة في مكة، أو الزائرين مرقد الرسول الأمين الذي استضاء العالم بنوره المتألق.

أما النص الأول فقول أبي الفرج اسم أمه « علية » اشتراها عقيل من الشام(١١) ولذلك حديث لاتخفى تفكك أطرافه على من أعطاه حق النظر يقول ابن أبي الحديد في الرواية المرسلة عن المدائني: ان معاوية قال لعقيل: هل لك من حاجة فأقضيها لك؟ قال: نعم جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين الفا، فأحب معاوية أن يمازحه فقال: ما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى؟ تجتزي بجارية قيمتها خمسون درهما، قال: أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما اذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف، فضحك معاوية وقال: مازحناك يا أبا يزيد، وأمر فابتعيت له الجارية التي أولد منها مسلما.

فلما أتت على مسلم ثمان عشرة سنة وقدمات عقيل أبوه قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة، وإني أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه.

فبلغ ذلك الحسينعليه‌السلام فكتب الى معاوية: أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد إلينا أرضنا.

فبعث معاوية على مسلم فأخبره بذلك وأقرأه كتاب الحسين وقال: اردد علينا مالنا وخذ أرضك فإنك بعت مالا ما لاتملك فقال مسلم: أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا، فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه وقال: يا بني هذا والله كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك.

ثم كتب الى الحسينعليه‌السلام اني قد رددت عليكم الأرض وسوّغت

__________________

١٠) العرب قبل الاسلام ص٧٩.

١١) مقاتل الطالبيين.

٣٧

مسلماً ما أخذ، فقال الحسينعليه‌السلام : أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما(١٢) .

من الصعب جدا الإستناد إلى هذه الرواية لأسباب عديدة نأتي على المهم منها:

الأوّل: أنها منقطعة الاسناد وطرح رجال الحديث مما يحظ من قيمته لما فيه من الجهالة بمعرفة أحوال أولئك المتروكين والتدليس الشائن.

الثّاني: أن المدائني لا يوثق بأحاديثه مهما تكثرت في الجوامع بعد ما ضعفه ابن عدي في الكامل(١٣) ويؤيده أنه أموي النزعة من جهة ولائه لآل عبد شمس والولاء كالتربية حاكم على النفوس والعقائد فهو ممن يحب للبيت الأموي التحلي بالصفات الكريمة لتهوى لهم الأفئدة وتخضع لهم الأعناق ويكونوا في صف من طهرهم الذكر المجيد بقوله «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » كما أثبت سبحانه لهم اشرف الخصال المحبوبة له إذ يقول: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ».

والسّند في ولائه لهذا البيت نص ياقوت فإنه قال: كان علي بن عبدالله ابن أبي سيف البصري المدائني البغدادي مولى سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف(١٤) . ويقول ابن حجر أنه مولى عبد الرحمن بن سمرة(١٥) وعدم موافقة ولادة المدائني التي هي في سنة ١٣٥ هـ لوفاة عبدالرحمن بن سمرة الواقعة في سنة ٥٠ هـ لا يبعد هذا الولاء بعد ما ينص ابن كثير على أن لعبد الرحمن أولادا كثيرين(١٦) ويسمى ابن حجر بعضهم عبيدالله وأنه تغلب على البصرة في فتنة ابن الأشعث(١٧) فاطلاق الولاء لأبيهم عبدالرحمن أو لجدهم سمرة بملاحظة أولاده لاضير فيه.

وإذا أفهمتنا الجوامع أن عبدالرحمن من « الشجرة » التي أنتجت معاوية وكان

__________________

١٢) شرح النهج الحديدي ج٣ ص٨٢ مصر.

١٣) لسان الميزان لابن حجر ج٤ ص٢٥٣.

١٤) معجم الادباء ج١٤ ص١٢٤.

١٥) لسان الميزان ج٤ ص٢٥٣.

١٦) البداية والنهاية ج٨ ص٤٧ حوادث سنة ٥٠.

١٧) الإصابة ج٢ ص٤٠١ بترجمة عبدالرحمن.

٣٨

من عمّاله على سجستان وغزالة خراسان(١٨) وبلخ وكابل(١٩) وفتح الرخج وبست(٢٠) وضح لنا أنه يسير على أثره وأنه حائد عن كل من ناوأ معاوية وهذه قضايا قياساتها معها.

ولاريب أن الموالي يرثون هذه النزعة كالأنساب، اللهم إلا أن يكبح هذا الجماح الخضوع لقانون الاسلام فيقف عند حدوده، ولكن أين هذا من « المدائني » المكثر من خلق الأحاديث الرافعة للبيت الأموي، الواضعة من قدر رجالات بيت الوحي والنبوة، وانها لشنشنة مضى عليها الأولون نعرفها من منافسة عبد شمس أخاه هاشما مطعم الطير والوحوش ومنافسة حرب بن أمية عبدالمطلب الذي كفأ عليه إناءه واستعبده عشر سنين(٢١) ومنافسة أبي سفيان للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي من عليه يوم الفتح وأطلق له، جاهد ونافس ابن آكلة الأكباد أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي اصطفاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم المؤاخاة بالأخوة ومنحه الخلافة الإلهية إذ قال له: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي. »

الثالث: أن المتأمل في هذه المحاورة الواقعة بين عقيل ومعاوية في أمر الجارية يظهر له مغزى المدائني فانه أراد أن يسجل صحيفة من حلم معاوية واناته وكرمه مع المس في الذوات القدسية من آل الرسول الأطهر وقد فاته أن المستقبل يكشف عن واياه.

قال في تلك المحاورة:

« ولما أتت على مسلم بن عقيل ثمان عشرة سنة وقد مات أبوه عقيل قال لمعاوية: ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة الف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه ».

وفي هذه الجملة خلل واضح فإنه أثبت بيع مسلم الأرض وعمره ثمان عشرة سنة وأبوه ميت، وعلى ما يقوله ابن حجر أن عقيلا مات سنة ستين وقيل بعدها(٢٢) يكون

__________________

١٨) لسان الميزان ج٤ ص١٩٠.

١٩) تاريخ اليعقوبي ج٢ ص١٩٣ طبع النجف.

٢٠) ابن الأثير ج٣ ص١٧٤.

٢١) شرح النهج الحديدي ج٣ ص٤٦٦.

٢٢) تقريب التهذيب ص٣٦٦٦ لكنهؤ، والإصابة ج٢ ص٤٩٤.

٣٩

عمر مسلمعليه‌السلام ثمان عشرة سنة عند شهادته في سنة ستين، وهذا لا يتفق مع ما أثبته المؤرخون من تزويجه بثلاث نساء أو أكثر وأن له أولادا خمسة وبنتا، فإنه وإن لم يكن من المحال في هذه المدة القصيرة التي هي عبارة عن ثلاث سنين بعد بلوغه أن يتزوج من ثلاث نساء ويستولد هذا العدد لكن العادة المطردة تأباه.

ثم هناك شيء آخر وهو أن كلا من عقيل ومسلم ومعاوية ماتوا في ستين: استشهد مسلمعليه‌السلام في ذي الحجة، وهلك معاوية في رجب، وموت عقيل لم يتعين قبل رجب أو فيه أو بعده فعلى الأخيرين لاتتم دعوى سفر مسلم الى الشام وبيعه الأرض، وعلى الأول أعني موته قبل رجب المتردد بين أن يكون في المحرم أو ما بينه وبين رجب، فالعقل وإن لم يمنع صدور البيع في هذا الزمن إلا أن من البعيد جدا أن يشد مسلمعليه‌السلام الرحال من المدينة إلى الشّام ويتحمل وعثاء السفر لبيع الأرض من معاوية بالمقدار الذي دفعه اليه الرجل المدني كما يفيده قول لمعاوية: « ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة ألف وأحببت أن أبيعك إياها ».

فان كل أحد يعد اتخاذ هذه الطريقة سفها وحاشا « داعية السبط » أن يرتكب خطة لا يصادق عليها العقل ويكون مرمى لسهام اللوم إلا أن يكون قد تزلف الى معاوية ببيعه الأرض، والشمم الهاشمي الذي انحنت عليه أضالعه يأباه له كيف، وهو يشاهد دماءهم الطاهرة، ودماء من شايعهم تقطر من سيفه وأنديتهم تلهج بانحرافه عن خطة سلفه الطيب، وغدره بالإمام الحسنعليه‌السلام تدرسه ناشئة هذا البيت كل يوم.

والتحيل لاستخلاص أموالهم من يد معاوية كما يراه البعض لا يتوقف على هذه الطريقة المشوهة لبيتهم المنيع، ومقامهم الرفيع مع أنهم بعيدون عن أمثالهم لأن نفوسهم الزاكية تكبر بهم عما فيه الضعة والخسة ولو عند العامة. هذا اذا كان موت عقيل في سنة ستين وأما اذا كان بعدها كما هو القول المحكى في نص ابن حجر كما عرفت، فالكذب في هذا البيع واضح، والمسافة للتصحيح بعيدة لأنه عليه يكون بيع مسلم الأرض بعد موت أبيه كما في الرواية، ومعاوية بين أطباق الثرى وقد فاز مسلم بالشهادة يومئذ.

ولو ذهبنا الى رأي الصفدي وابن كثير من تعيين وفاة عقيل في سنة خمسين(٢٣)

__________________

٢٣) نكت الهميان للصفدي ص٢٠١، والبداية لابن كثير ج٨ ص٤٧.

٤٠

يكون لمسلمعليه‌السلام عند شهادته في سنة ستين ثمان وعشرون سنة، وتكون ولادته سنة اثنين وثلاثين قبل واقعة صفين الكائنة في سنة ٣٧ بخمس سنين، وهذا وإن التأم مع ذلك العدد من أولاده لكن لا يلتئم مع ما ذكره ابن شهر آشوب الحافظ الثبت الثقة بنص الفريقين من الشيعة والسنة(٢٤) .

فإنه يقول: جعل أمير المؤمنينعليه‌السلام على ميمنته في صفين الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر ومسلم بن عقيل، وعلى الميسرة محمد بن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال(٢٥) .

ومن المعلوم أن من يجعله أميرالمؤمنين في صف أولاد عمّيه البالغين نحوا من خمس وثلاثني سنة لابد وأن يقاربهم في السن كما قرن بين ابن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهما متقاربان في السن فان محمد بن الحنفية ولد سنة ١٦(٢٦) وله يوم صفي احدى وعشرون سنة ومحمد بن أبي بكر ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة أو بالشجرة حين توجه رسول الله للحج وقتل سنة ٣٨ وله يوم صفين ٢٧ سنة(٢٧) .

وحينئذ لا أقل أن يقدر عمر مسلم بن عقيل بالثلاثين أو الثمان وعشرين وتكون ولادته أما سنة سبع أو تسع وله يوم شهادته أكثر من خمسين سنة وعلى هذا التقدير في ولادته أين ولاية معاوية في الشام وأين مسير عقيل اليه، بل أين إسلام معاوية فإنه أسلم بعد سنة تسع قبل وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأشهر.

وإذا أخذنا بنص الواقدي كانت المسافة أبعد، قال: لما دخل المسلمون مدينة « البهنسا » بعد حصار طويل دخل مسلم بن عقيل في جملة الهاشميين وهو يقول:

__________________

٢٤) انظر ترجمته في بغية الوعاة للسيوطي ص٧٧، ولسان الميزان لابن حجر ج٥ ص٣١٠، وطبقات المفسرين لشمس الدين محمد بن علي المالكي، والبلغة للفيروز آبادي، والوافي بالوفيات للصفدي، ومن علماء الشيعة أثنى عليه العلامة الحلي في الخلاصة، وميرزا محمد في منهج المقال، أبوعلي الحائري في منتهى المقال، والتفريشي في نقد الرجال، والأغا البهباني في التعليقة، والحر العاملي في أمل الآمل، والسيد في روضات الجنات.

٢٥) المناقب ج٢ ص٢٦٠.

٢٦) أنظر كتاب قمر بني هاشم ص١٠٣.

٢٧) ما يؤكد حضوره في صفين ما رواه نصر في كتاب صفّين ص٣٣٠: إن منادي أهل الشام نادى: إن معنا الطيب بن الطيب عبدالله بن عمر. فقال عمار بن ياسر: بل هو الخبيت، ثم نادى منادي أهل العراق: ألا ان معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر، فنادى أهل الشام: بل هو الخبيث بن الطيب.

٤١

ضنـا في الحرب والسهر الطويل

وأقلقني التسهـد والعويل

فواثـارات جعفـر مع علـي

وما أبدى جوابك يـا عقيـل

سأقتل بالمهنـد كل كلـب

عسى في الحرب أن يشفى الغليل

وكان فتح البهنسا في أيام عمر بن الخطاب(٢٨) .

فان من يخرج في صف المجاهدين أيام ابن الخطاب لابد وأن يبلغ على الأقل عشرين سنة وحينئذ تكون ولادته في أوائل الهجرة وكان معاوية يومئذ راسبا في بحر الشرك والضلال عابدا للأوثان.

ثم إن رجلا كمسلم يراه عمه أمير المؤمنين -عليه‌السلام جديرا بقيادة الجيش يوم صفين فيجعله على الميمنة في صف ولديه الإمامين السبطينعليهما‌السلام وابن أخيه عبدالله بن جعفر، ويجده سيد الشهداء قابلا لأهلية الولاية على أعظم حاضرة في العراق « الكوفة » فيحبوه بالنيابة الخاصة في الدينيات والمدنيات.

لابد وأن يكون أعظم رجل في العقل والدين والأخلاق حتى لايقع الغمز والطعن فيمن يمثل موقف الإمامة بأنه ارتكب دنيّة أو جاء برذيلة أو فعل محرما أو بدت منه رعونة، ولو في أمس الدابر فينتكث فتله وتتلاشى مقدرته.

على أن تلكم الأحوال لو كان من الجائز صدورها منه في الماضي لجاز عودها إليه أيام ولايته فينتقض الغرض من إرساله مهذبا ومؤدبا وقامعا للريب والشبهات وزاجرا عما يأباه الدين والإنسانية.

فالإمام أبو عبدالله -عليه‌السلام - لم يشرف أحدا بالولاية إلا وهو يعلم بأنه يمضي في أمره كالحديدة المحماة، وإنا لا نشك في أن سيد الشهداء لم يرسل مسلما واليا من قبله، ويزيّنه بتلك الرتبة العظيمة ثم يشفع ذلك بتشريف الأخوة له التي هي أخوّة العلم والدين، وأنه ثقته من أهل بيته إلا وهو يعلم بأنه في كل أدوار حياته منذ نشأته إلى حين تأهّله لهذه الزعامة الكبرى رجل العلم والتّقى، رجل العقل والسياسة، رجل الأخلاق والإيمان.

فلا يصدر من مثله بيع الأرض من معاوية من دون مشاورة سيّد الشّهداء مهما كلّفته الحاجة، وبلغت به الفاقة حدّها، على أنّه في كنف السّبط الشّهيد وذرى عزّه المنيع، ولم تزل سماء نائله هاطلة عليه وعلى محاويج الأمّة.

__________________

٢٨) فتوح الشّام ص ١٨٢.

٤٢

وهناك شيء أغرب من هذا وهو نسبة المدائني كتاب « أبي الضيم » الى معاوية لما بلغه الإعفاء عن الأرض والمال فقال في كتابه: « أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما » وكل أحد تتجلى له هذه الأكذوبة لا تحتاج إلى تدليل لوضوح شهامة أبي عبداللهعليه‌السلام وعدم رضوخه للدّنيّة في قول أو فعل، ومتى أعترف سيد شباب أهل الجنة لآل أبي سفيان بمكارم الأخلاق من يوم منافسة جدهم عبد شمس لأخيه هاشم الى يوم مناوأة معاوية لأمير المؤمنين، وأي مأثرة غريزية حفظت لهذا البيت غير طفائف تخلّقوا بها وقد ظهر أضدادها على فلتات ألسنتهم، أليس معاوية هو القائل ليزيد: عليك بالصفح فإن أمكنت الفرصة عليك بالسيف(٢٩) .

ولم يزل أبو عبدالله الحسينعليه‌السلام يصارح بما أودعه المهيمن جل شأنه فيه من الأنفة وعدم الخضوع للدنايا في مواطن كثيرة، وان كلمته الذهبية في آخر يومه تفيدنا فقها بالفطرة الموهوبة له من المولى سبحانه فإنه قال يوم الطف:

« ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السّلّة والذّلّة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وانوف حمية ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام »(٣٠) .

وانّ عمدة ما يفت في عضد هذه الأكذوبة ويتدهور بها الى هوة البطلان هذه الكلمة التي لا يهيج بها هاشمي ذو شمم، نعم يأبى للهاشمي إباؤه وشهامته يأبى له حفاظه ووجدانه بل يأبى لأي مؤمن إيمانه وعلمه أن يعترف لابن آكلة الأكباد بتلك المأثرة البالغة حدها، وهو يلعم أن ابن هند المقعي على إنقاض الخلافة الإسلامية خلوا من أي حنكة، وإنما أدعم باطله المحض بالتحلم والمحاباة والتزلف يوهم بها الرعرعة من الناس بأن هذه الاناة هي الكافلة لأهلية الخلافة.

والإمام الشهيد العارف بهذه الزخارف مضافا الى نفسيته القدسية وإبائه العلوي جد عليم بأنه إن فاهَ بمثل تلك الكلمة التي نسبها إليه المدائني اتخذها الناس حجة دامغة خصوصا مع مشاهدتهم وفر معاوية وورائهم دسائسه ومعهم سماسرة الشهوات فيكون الإمامعليه‌السلام مغريا بهم الى الهوان ومقرا لهم على الضلال

__________________

٢٩) نهاية الأرب ج٦ ص٥٠.

٣٠) اللهوف للشريف النقيب ابن طاووس.

٤٣

والباطل وحاشا « إمام الحق » أن يرتكب ما فيه إغراء للناس وهو مقيض لإنقاذ البشر من ورطة الجهل المردي.

وأني لا أظن بعد هذا البيان الضافي يبقى الواقف على كلمة المدائني « أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما » مرتابا في افتعال نسبتها إلى سيد الحفاظ والحمية والشهامة سيد الغيارى على المبادئ الصحيحة سيد شباب أهل الجنةعليه‌السلام .

نشأتهعليه‌السلام :

لقد عرفت فيما قدمناه من صفة بيت أبي طالب ومبلغ رجالاته من العلم والمعارف الإلهية وأنهم على الأوضاع والغرر اللائحة في أنسابهم واحسابهم لا تعدوهم الفضائل العصامية من علم وحكمة وأخلاق وبلاغة وأدب وشجاعة وفروسية إلى مآثر جمة ازدانت بسروات المجد من بني هشام، وأن كلام منهم أمة واحدة في المكارم جمعاء.

وإن من قضاء الطبيعة وناموس البيئة أنهم يمرنون وليدهم ويربون الناشئ منهم على ما تدفقت به أوعيتهم، فلا يدرج الطفل إلا والحنكة ملء إهابه، ولا يشب الصغير إلا وهو محتو لفضيلة المشايخ، واذا التقيت بالرجل هكذا بين فواضل وفضائل، ومآثر ومفاخر، ولا سيما ان من جبلة رجالات البيت تغذية ناشئهم بما عندهم من آلاء وتحنيكه بنمير مكارمهم وإروائه بزلال من حكمهم البالغة، وعظاتهم الشافية، وتعاليمهم الراقية، فقضية قانون التربية الصحيحة أن يكون الولد إنسانا كاملا.

نعم، هكذا أرباب الفضائل من آل أبي طالب لا يروقهم في صغيرهم إلا ما يروقهم في الأكابر، ولا يرضيهم ممن يمت بهم إلا أن يزدان به منتدى العلم ودست الإمارة، ويبتلج به صهوة الخيل ومنبر الخطابة، وأن يسير مع الركب ذكره ومع الريح نشره لكي يقتدى به في المآثر، ويقتص أثره في الأخلاق.

وهذا الذي ذكرناه إنما هو مرحلة الإقتضاء التربوي، ويختص بما اذا صادق قابلية المحلّ، وعدم المزاحمة بموانع خارجية تسلب الأثر من كل هاتيك الموجبات من بيئة وبيئة أو مجالس سوء أو شره ثابت، فإن هذه الأمور تستوجب التخلف عن ذلك الإقتضاء كما نسب إلى شذاذ من العلويين، فإنه على فرض صحة النقل لا يصار إليها إلا في الموارد المفيدة للعلم بخروج الناشئ عن ذلك الناموس.

٤٤

وأمّا داعية الحسينعليه‌السلام وسفيره الى العراق فكانت لياقته الذاتية، وتأهله للفضائل، وتأثره بتلك التربية الصحيحة، ونشوؤه في ذلك البيت الممنع، وتخرجه من كلية الخلافة الإلهية قاضية بسيره مع ضوء التعاليم المقدسة، فأينما يتوجه إلى ناحية من نواحي هذا البيت لا يقع نظره إلا إلى أستاذ في العلم أو مقتدى في الأخلاق أو زعيم في الدين أو بطل في الشجاعة أو إمام في البلاغة أو مقنن في السياسة الآلهية.

فكانت نفس مسلم بن عقيلعليه‌السلام تهش الى نيل مداهم منذ نعومة الأظفار كما هو طبع المتربى بهذا البيت، ففي كل حين له نزوع الى مشاكلة كبرائهم، وهذه قاعدة مطردة، فإنك تجد ابن العالم يأنف عن أن يعد في أبناء العامة، وابن الملك يكبر نفسه إلا عن خلائق والده، وولد الزعيم يترفّع عن مشاكلة رعاياه، فكل منهم يرمي الى ما يرفعه عن غرائز الطبقات الواطئة.

إذا فما ظنك بمسلم بن عقيلعليه‌السلام الذي هو أول من وقع بصره عليه عمه أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وابناه الإمامان إن قاما وإن قعدا(٣١) - صلوات الله عليهما -، ورجالات السؤدد والخطر من آل عبدالمطلب وسمع أخبار الغابرين من أهل بيته في المفاخر والمآثر، فهل يمكن أن يكون له هوى إلا مع الفضيلة أو نزوعا إلا الى المحامد؟ نعم نشأ مسلم مع العلم، والتقوى والبطولة، والهدى، والحزم، والحجى، والرشد كما شاء الله سبحانه حتى أحب لقاءه يوم سعادته بشهادته.

ولقد كان من أهم ما يتلقاه مسلمعليه‌السلام من أكابر قومه مناوأة البيت الأموي أضداد الفضيلة، وأعداء الدين، وحضنة الجاهلية الأولي، وناشري ألوية الوثنية، والدعاة الى كل رذيلة بأعمالهم، وأقوالهم، ولهذه كانت تعد تلك المباينة من الهاشميين لهم من أسمى مناقبهم الحال كان « داعية السبط الشهيدعليه‌السلام » وارثا لهذه الظاهرة بأتم ما لها من المعنى.

ومما لا يستسهل العقل قبوله أن يكون ابن عقيلعليه‌السلام متزلفا الى واحد ممن ناوأ آباءه الأطائب أو مجاملا له فيجر الرذيلة الى قومه وتفوته الشهامة

__________________

٣١) هذا حديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواه علي بن عيسى الأربلي من أعيان القرن السابع في كشف الغمة، ومراد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الكلمة الثمينة أن الإمامة منصب الهي لا نزول عنهما مع القعود عن الحرب أو النهوض للجهاد والقاعد هو الإمام المجتبى، والقائم سيد الشهداء، والتثنية في الفعلين للتغليب.

٤٥

الهاشمية والإباء الموروث له والشمم المتأصل كيف وانه:

درة تـاج الفضـل والكرامـة

قـرة عيـن المجـد والشهامة

أول رافع لراية الهدى

خص بفضل السبق بين الشهداء

كفاه فضلا شـرف الرسالة

عن معدن العـزة والجلالة(٣٢)

__________________

٣٢) لشيخنا الحجة آية الله الشيخ محمد حسين الإصفهاني قدس الله تربته.

٤٦

٤٧

المؤامرات في الكوفة

انّ سياسة معاوية القاسية من جراء نقض عهده للإمام الحسنعليه‌السلام تركت الشيعة ترزح تحت نير الإضطهاد، فأوصال تقطع، وأعين تسمل، وبمشهد منهم أرجل مفصولة، وعلى المشانق أنفس مزهقة، وفي أعماق السجون أعناق مغلولة، وبأرجاء الفلوات أناس مشردون، وعلى أطراف الرماح أرؤس مشالة يوم كان ابن سمية عارفا بهم منذ العهد العلوي فتتبعهم تحت كل حجر ومدر، وتحراهم في كل مغارة، فنكل بهم، ونال منهم، وأوقع فيهم، وهو القائل على منبر البصرة:

« إني أقسم بالله لآخذن المقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم »(١)

وقد وصف هذا الحال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام فقال:

« إنا أهل البيت لم نزل نستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونُقتل ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون موضعا يتقربون به الى أوليائهم وقضاة السوء وعمالهم في كل بلدة بالأحاديث المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله، ولم نفعله ليبغضونا الى الناس، وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسنعليه‌السلام فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الايدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكّر بحبنا والانقطاع إلينا يسجن، وينهب ماله

____________

١) تاريخ الطبري ج٦ ص١٢٥.

٤٨

وتهدم داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد الى زمن عبيدالله بن زياد قاتل الحسينعليه‌السلام ثم جاء بعده الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة عليعليه‌السلام وحتى صار الرجل الذي يعمل بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ولم يخلق الله شيئا منها ولا كانت ولا وقع وهو يحسب انها حق لكثرة من رواها ممن لم يعرف بكذب ولا قلة ورع »(٢) .

وفي هذا الحديث الشريف دلالة واضحة على ما نال الشيعة في تلك الأيام المظلمة من الإضطهاد والجور، ومع أي إمام ينهضون مع الزكي المجتبىعليه‌السلام وقد قيّده الأمر الربوي بالتسليم لمجاري المحتوم كما قيّد أباه أمير المؤمنين خمساً وعشرين سنة.

على أن من أخلص له بالمفادات فئة قليلة لا تقاوم من حف بهم من أهل النفاق الذين أضمروا الغدر وضمنوا لمعاوية تسليم الحسنعليه‌السلام إن شمر للحرب، أو مع الحسينعليه‌السلام وهو لا يرى من تكليفه إلا الخضوع لما سلم له إمام الوقت وحجة الزمن بالنص من جده وأبيه - صلوات الله عليهم -.

حتى أن حجر بن عدي دخل على الحسينعليه‌السلام مثيرا لنخوته ومحفزا له على القيام في وجه عدوهماللدود وفيما قال له: لقد اشتريتم العز بالذل، وقبلتم القليل، وتركتم الكثير أطعنا اليوم وعصينا الدهر، دع الحسن وما رأى من الصلح، وأجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وولّني وصاحبي عبيدة ابن عمر والمقدمة فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف.

فأفاض عليه « ريحانه الرسول » من معارفه القدسية ما فيه حياة القلوب واجتماع نظام الأمة، وذلك أن البيعة والعهد اذا صدرا من « إمام الحق » الذي لا يعمل عملا إلا على حسب ما يراه من المصلحة الواقعية التي أدركها بفضل منصبه الإلهي، فلا يجوز له نقض ما أبرمه من العهد لما فيه من الغدر والخيانة الممقوتة فقال أبو عبداللهعليه‌السلام :

__________________

٢) شرح النهج ج٣ ص١٥.

٤٩

« إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا »(٣) .

وهذه المسألة التي أشار اليها سيد الشهداء، وإن لم تلزم المصافق بها واقعا لأن الذي أعطوه الميثاق غاشم لا تحل مصافقته، وقد قال الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه »(٤)

ومن المقطوع به أنه لايريد من المنبر تلك الأعواد المصنوعة من خشب وكان يجلس عليها للإرشاد والهداية وإنما يريد منبر الدعوة الآلهية، فيكون غرض النبي الإيعاز إلى الملأ الديني الواعي لكلمته الثمينة بأن معاوية الداعي باسم الخلافة كافر بما أنزل من الوحي على الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعيين من أقامهم المولى سبحانه أمناء على شرعه القويم، وكافر بقول النبي الذي لم يزل يجاهر مرة بعد أخرى بأسماء من يلي الخلافة من بعده وهم الإثنا عشر من ذريته المعصومين، والراد لما أنزل على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولا أو فعلا من الجاحدين.

ولم تخف هذه الأحوال على معاوية ولا ممن شاهد النبي وسمع حديثه أو كان قريب العهد بزمن تلك النصوص ولو صدقت الأوهام بأنه كاتب النبي اتسع الخرق عليه.

وحيث أن سيد الشهداء لم تسعه المصارحة بما وجب عليهم في الصحيفة الخاصة بالإمام الزكي، وكان فيها أن يسالم خاضعا للقضاء المحتوم، وقد أشار النبي إلى هذه المسألة بقوله:

« إبناي هذان إمامان إن قاما وإن قعدا »

وأكثر العقول لا تتحمل هذه الأسرار الدقيقة كما قال الإمام الصادقعليه‌السلام :

« حديثنا صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مُقرَّب أو مؤمن امتحن الله قلبه بالايمان. »

تلطف أبو عبداللهعليه‌السلام ببيان أقرب الى الأذهان وتتحمله العقول

__________________

٣) الدينوري في الأخبار الطوال ص٢٢٢.

٤) صفين لنصر بن مزاحم ص٢٤٨ مصر، وذكر السيد محمد بن عقيل في « النصائح الكافية » ص٣٥ بمبئي أن ابن عدي أخرجه عن أبي سعيد والعقيلي عن الحسن، وروي عن الصادق عن أبيه عن جابر.

٥٠

فقال: « إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا. »

وهناك دقيقة أخرى كانت ملحوظة للإمام الشهيد أفرغها بهذه الكلمة الموجزة وهي أن الانسان اذا عاهد آخر لا يجوز له نقض عهده ولو كان مشركا ولذا وردت الأخبار وفقا للآية الكريمة: «وان أحد المشركين استجارك فأجره » فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم ولو كان عبدا أو إمرأة » وفسره الصادقعليه‌السلام بأن جيش المسلمين اذا حاصر المشركين فأشرف رجل منهم وقال اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.

وحينئذ يقول أبو عبدالله: ان هذه المسألة التي أعطيناها معاوية على ما فيها من ظلم وغشم بعد أن صدرت منا لا يصح نقضها، إذا فكيف بالبيعة الصادرة لامام الحق المنصوب من قبل الله سبحانه فانها أولى وأجدر بالإلزام وعدم النقض، وان لا تتباطأ الأمة عن القيام بها، وهذا من سيد الشهداء درس راقي وفقه شامل لو كانت هناك آذان صاغية، وقلوب واعية ونفوس زاكية.

ومن هذا الباب ما جرى للحسين مع علي بن بشير الهمداني وسفيان بن أبي ليلى الهمداني النهدي، والمسيب بن نجبة، وعبد الله بن الوراك وسراح بن مالك الخثعمي، فإنهم دخلوا عليه، وخبروه بما رد به عليهم أبو محمدعليه‌السلام واستنهضوا الحسين لمقارعة ابن هند.

فقال لهم الحسين:

« صدق أبو محمّد ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الإنسان حيا ».(٥)

فأبو عبدالله أرجأ هذه النهضة لسد باب المنكر إلى الوقت المعلوم لديهم من جدهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قام بها سيد شباب أهل الجنة يوم جاء ذلك الوقت فدوّى العالم بصرخته الأحمدية، وعرّفت الأجيال المتعاقبة مخازي ابن هند، ويزيد، ومن لاث بهم من جراثيم الفتن، فتوقدت العزائم واحتدمت النفوس من أناس حتى أجهزت على حياتهم، ودمرت ملكهم وعرفت الأمة مبلغ أولئك المتسنّمين منبر النبوة من الشقاء، ومبلغ من ناوأهم من أهل البيت من الحق والسعادة.

وغير خاف أن هذا التذمر من رجالات الشيعة، ومجابهتهم الإمام الزكي بتلك

__________________

٥) الأخبار الطوال ص٢٢٢.

٥١

الكلمات المقذعة لايحط من مقدار اعتقادهم بإمامته، وإنما صدر منهم ذلك لأن علائقهم الدينية، والودية كانت مقصورة على جمال الحق القائم بمجالي الكتاب، والسنة الوضيئة، ومحيا حجة الزمن الأبهج، وحيت أحسوا بما يرام بالدين من الصدع، وبإمام الوقت من الإضطهاد، وبالمؤمنين من استئصال الشأفة ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في أعينهم، ولم يكن يحوون من سعة العلم بالحقائق والعواقب ما يخفف تلك الوطأة، ويخمد فورة أنفسهم الملتهبة من تحكم الضلال بالأمة، واسترداد الجاهلية الأولى، فهنالك انتأت المشاعر عن النفوس، فواجهوا الامام بما عرفت ولهجوا بما لهجوا به وهم غير خارجين عن طاعة،ولا متضعضعين في عقيدة.

ولا ريب أن مقادير الرجال متباينة وقابليتهم لتحمل الأسرار متفوتة ولم تكن أسرار الأئمة يتحملها كل أحد، ولذا كان سيد الشهداء يفيض من علمه المخزون على كل من طلب منه التريّث عن السفر الى العراق بما يسعه ظرفه وتتحمله قابليته، ولم تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره.

وهذا الذي ذكرناه هو الأساس في اجتماع رجالات الشيعة، وعقد أندية المؤامرة لحل أغلال الإستعباد عن أعناقهم باستدعاء أبي الضيمعليه‌السلام لعاصمة الخلافة العلوية لقمع أشواك الظلم المتكدسة في طريق الشريعة، وقمع جراثيم الفساد الوبيئة ليتم الفتح المبين، ويستضيء العالم بألق المبادئ الصحيحة والأنظمة الربوبية التي لاقى المشرع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتاعب في نشرها.

وان الوقت الذي أرجأ أبو عبداللهعليه‌السلام النهضة فيه حيث كان يقول لأولئك الخلّص من الشيعة: « ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الانسان حيا » يعني معاوية، هو يوم نهضته بمشهد الطف.

فكان اجتماع الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي لأنه وجه وجوههم جليل في قومه لا يفتات رأيه ومساعيه في أيام أمير المؤمنينعليه‌السلام الثلاثة مشكورة، فذكروا هلاك معاوية وما لاقته الشيعة في أيامه وأشد منها عهده « ليزيد » الذي وصفه زياد بن أبيه لعبيد بن كعب النمري: بأنه صاحب رسله وتهاون بالدين، وقد أولع بالصيد، وأن أمر الإسلام وضمانه عظيم، فلا يصلح يزيد للخلافة ثم قال له: ألق معاوية وأد هذا عني وخبره بفعلات يزيد وتهاونه بالدين(٦) .

__________________

٦) تاريخ الطبري ج٦ ص١٦٩ وكان ذلك على اثر كتاب معاوية لزياد يطلب منه أخذ البيعة لولده

٥٢

وقد اعترف بذلك ابن مرجانة حين كتب إليه يزيد أن يسير لحرب ابن الزبير فقال لمن حضر عنده: لا والله لا أجمعها للفساق الفاجر أقتل ابن بنت رسول الله وأهدم الكعبة(٧) .

ووصف السبط الشهيد حال زيد في كتابه لمعاوية وفيما قال له:

« لقد دل يزيد من نفسه علىموقع رايه فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب، والحمام السبق، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي تجده ناصرا، ودع ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله تعالى بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص(٨) ».

وبهذا البيان تلطف سيد الشهداء بالنصح الشافي لدحض الضلال لكنه لم يجد أذنا صاغية، ولا قلبا واعيا، فأخذت بوارق الإرهاب وبواعث الطمع من معاوية يسدّان طريق الحق.

فلما هلك معاوية استنشق الكوفيون روح الأمن وأبصروا بصيصا من نور الإمامة فعزموا على أن يكتبوا الى الحسينعليه‌السلام بالمصير الى عاصمة أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ليفتح لهم باب السجن المظلم.

فقام سليمان بن صُرد الخُزاعي خطيبا حمد الله وأثنى عليه ثم قال:

« انّ معاوية قد هلك، وإن حسينا قد تقبض على القوم ببيعته وقد خرج الىمكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل في نفسه ».

فقالوا بأجمعهم: إنا نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه.

__________________

يزيد من الكوفيين.

٧) تاريخ الطبري ج٧ ص٦.

٨) الإمامة والسياسة ج١ ص١٥٤.

٥٣

كتبهم للحسينعليه‌السلام :

ثم كتبوا إلى الحسينعليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليعليه‌السلام من سليمان بن صُرَد، والمسيب بن نَجَبة ورَفاعة بن شداد البجلي، وحبيب بن مظاهر، وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة: سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فالحمد لله الذي قصم ظهر عدوك الجبار العنيد الذي انتز على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضي منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود إنا ليس لنا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق.

والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولانخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت أخرجناه حتى نلحقه بالشام إنشاء الله.

ثم سرحوا الكتاب مع عبدالله بن مِسمَع الهمداني وعبدالله بن وأل وأمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين بمكة لعشر مضين من شهر رمضان.

وبعد يومين كتبوا له مائة وخمسين كتابا من الرجل والإثنين والثلاثة والأربعة وسرحوا ذلك مع قيس بن مسهر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبد الله بن شداد الأزدي وعمارة بن عبدالله السلولي.

وبعد يومين آخرين كتبوا اليه مع هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله

٥٤

الحنفي، ونصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين: أما بعد فحيّهلا فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل ثم العجل العجل، والسلام.

ثم كتب شَبَث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي: أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار فاذا شئت فاقدم على جند لك مجندة، والسلام(١) .

وأخذت الرسل من أهل الكوفة تتوارد عليه بكتبهم حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب واجتمع من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب(٢) والحسينعليه‌السلام متريّث عن الجواب حتى اذا تابع هتافهم بكتبهم التي ملأت خرجين(٣) لم يسعه السكوت فكتب إليهم أجمع صورة واحدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين: أما بعد فإن هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم، وكانت مقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى.

وأنا باعث اليكم بأخي، وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إليّ إنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم عليكم وشيكا إنشاء الله، فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله تعالى، والسلام(٤) .

لم يخف على الإمام الشهيد نيات القوم، ولا ما يقع منهم من التخاذل والتباعد

__________________

١) هذه الكتب ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد.

٢) اللهوف للسيد ابن طاووس ص١٩ صيدا.

٣) الأخبار الطوال ص٢٣١.

٤) نص على هذا الكتاب الشيخ المفيد في الإرشاد، والفتال في روضة الواعظين ص١٤٩، والطبري في التاريخ ج٦ ص١٩٧، وابن الأثير في الكامل ج٤ ص٨.

٥٥

عن نصرة الحق حينما تستعر الحرب، ويتجمع الدهر للوثوب على فئة المجد، وعصبة الخطر من الهاشميين، والصفوة من أصحابهم، وكيف يخفى عليه غدرهم وعدم وفائهم بالوعد وهو يشاهد كل ذلك بواسع علم الإمامة، والتجارب الصحيحة مما جرى منهم مع الوصي، وأخيه المجتبى - صلوات الله عليهم - والأخبار النبوية والعلوية بما يقع من الملحمة الكبرى التي أتت على النفوس الطاهرة وأعقبت الفتح المبين بنهضة رجالات الدين في وجه المنكر والضلال حتى دمّرت مُلك الأمويين واستأصلت شأفتهم من جديد الأرض فأصبحوا عبرة لمن يتجبّر في هذه الدنيا الزائلة.

فكان أبي الضيمعليه‌السلام على علم ويقين ممايجري منهم معه لكنه أراد إتمام الحجة على أولئك الغدرة فأجاب سؤلهم ولبّى طلبتهم بعد التوكيد عليهم بكثرة الكتب والرسل منهم كي لا تكون الحجة لضعفاء العباد على إمام منصوب من قبل الله سبحانه لارشاد الخلق وايقاظهم من رقدة الجهل المردي.

٥٦

٥٧

ولاية مسلمعليه‌السلام

غير خاف أن تمثيل نفسية الإنسان الكامل بأوضح مجاليها إنما هو ببث أفكاره الناضجة والإشادة بنواياه الحسنة، وهي الغاية الفذة من ارسال الرسول سواء في ذلك أن يكون القصد به نشر أخلاق مرضية تتهذب بها النفوس، أو تعليم علوم ناجعة تتكهرب بها العقول، أو إقامة عدل ترتاح به الأمم أو الدعوة إلى دين تعتنقه الأقوام، أو توطيد سياسة تهش غليها الأمة فلا ندحة للمرسل إلا أن يبعث لأي من هذه الغايات الكريمة من هو المثل الأعلى فيها من بين لفيفه وحاشيته فيكون نبوع الرسول مجلبة لرغبات الأمة الموصلة الى مرضات ذلك المصلح ووقوفه على غايته من الإرسال.

ويجب حينئذ أن يكون ذلك الرسول حكيما في عمله بليغا في منطقه ليضع الأشياء في مواضعها، ويكون قوله على وفق رأيه السديد ولا تفوته مقتضيات الأحوال فيكون أدعى لنشور الدعوة وأنم عن عبقرية المرسل.

إذا كنت في حاجة مرسلا

فأرسل حكيما ولا توصه

وإنا لنكتفي عن استعراض الشروط الواجبة في السفير والكلمات التي تنم عما يراد منه بذكر ما اتفق عليه أرباب الحديث والتفسير فيمن أرسل مبلغا لأوائل « برائة » فإن التأمل في هذه الحادثة توقف النبيل على ما يراد من السفير وتلم بالشرائط كلها.

والقصة في ذلك أن جبرئيل هبط على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أول ذي الحجة سنة تسع من الهجرة(١) بالآيات من أول برائة ليقرأها على قريش في الموسم فأرسل

__________________

١) مصباح الكفعمي ص٢٧٢ بمبئي، والإقبال لابن طاووس ص٥٣٣ إيران.

٥٨

رسول الله أبابكر بها ليقرأها في منى على قريش، فلما كان على مراحل من المدينة هبط جبرئيل يأمر النبي أن لا يؤديها إلا هو أو رجل منه(٢) ولما رجع أبوبكر يبكي قال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا عليك وكيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار »(٣) ».

ما أبلغ هذا التركيب وما أبدع هذا الحوار، وأن لهذه الكناية قيمة راقية في سوق البلاغة فلقد أشار رسول الله بكلمته الذهبية الى معرفته بضعفه يوم كان معه في الغار، وأنه لا طاقة له على ملاقاة المشركين من طواغيت قريش فكيف يكون حينئذ مبلغا عنه ومحذرا أولئك الطعاة وقد يجره الخوف والضعف الى الوهن في قدس الرسول الأمين.

واعتذار الخطيب الشربيني في « السراج المنير » في تفسير الآية بحمل فعل النبي على مقتضى قواعد العرب من أن الرئيس اذا أراد أن يحكم عهدا بينه وبين أحد فأما أن يحضر بنفسه، وأما أن يبعث أحد أقاربه، متفكك البرهان باطل القياس فإن تلك القاعدة التي تخيلها لو كانت معروفة لما تخطاها النبي الأعظم في أول الأمر، ولما خاف أبو بكر من نزول شيء في حقه حتى بكى لذلك بل كان يعتقد أن الأمر جرى على أساس معروف بين العرب وأجدر بنبي العظمة أن لا يعدوه.

ولكن المتأمل في الحديث الحامل لهذه الحادثة يعرف منه بجبلاء منزلة كبرى لعلي أمير المؤمنين وامتيازه على غيره من المهاجرين والأنصار حتى أقرباء النبي وخاصته الذين هم بحضرته وليست تلكالمنزلة إلا النيابة العامة والمرجعية لما تحتاج إليه الأمة، وقد أشار إلى هذا التنزيل بقول جبرئيل للنبي « أو رجل منك » فإن تلك الذات المكونة من جوهر القداسة والممتزجة بالعلم الإلهي أليق في تمثيل مقام النبوة فيما يرد عليها من المسائل التي لا يعرفها إلا من استمد من اللوح المحفوظ، وأما غيره فحيث لم ينتهل قطرة من ذلك البحر المتموج بالحكم والأسرار فالخطأ والزلة اليه أقرب من حبل

__________________

٢) حديث عزل أبي بكر وإرسال أمير المؤمنين مكانه في تفسير الطبري، والدر المنثور للسيوطي ج٣ ص٢٠٩، والكشاف ج٢ ص١٣٨، ومسند أحمد ج١ ص٣ وص١٥١ وج٣ ص٢٨٣، ومستدرك الحاكم ج٢ ص٣٣١ ولم يتعقبه الذهبي في التلخيص، وكنز العمال ج١ ص٢٤٧، وخصائص النسائي ص٢٠، والرياض النظرة ج٢ ص١٧٣، وتاريخ الطبري ج٣ ص١٥٤، وكامل ابن الأثير ج٢ ص١١١، وتاريخ الخميس ج٢ ص١٥٦، والروض الآنف ج٢ ص٣٢٨.

٣) الإقبال لابن طاووس ص٥٣٤ وص٥٣٦.

٥٩

الوريد حينما تعرض عليه الأسئلة وتلقى أمامه الشبهات فعندها يعود الفشل على ذلك النبي المعصوم من كل عيب ونقصان لكون الرسول دليل عقل المرسل.

نعم للخطيب أن يقول: إن كان الحال على ما وصف فلماذا لم يبعث النبي عليا من أول الأمر؟ فيقال له: إن النبي لاحظ في ذلك نكتة مهمة وهي تعريف الناس بأن الباعث له على إرسال أمير المؤمنين الوحي الإلهي الذي لابد من إنفاذه ولو تقدم إلى عليعليه‌السلام في أول الأمر وأمره بالمسير بالآيات لكثرت القالة ممن خالطهم الريب والشك بأن القرب والرحم حرّكاه على تقديمه وتمييزه على غيره والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجل من أن يعمل عملا يكون لضعفاء قومه الحجة عليه.

إذا وضح هذا فهلم معي إلى من كان مرسلا الى حاضرة كبرى « الكوفة » ليهتف بالغايات جمعاء المطلوبة من الإمام المعصومين، وكان مبعوثا من إمام عدل وهدى وموئل حكمة وحجى، معصوم من الخطأ مفطوم من الزلل « كمسلم بن عقيل » الذي حظي بالنيابة الخاصة من إمام وقته سبط نبي الهدى لينشر في الملأ العراقي مبادئ الدين القويم ويوقفهم على أمره الحكيم، ويقيم الحلال والحرام ويزيح الشبه والأوهام، ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظمة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن، كل ذلك بعد أن يدير فيهم الشؤون الإدارية والعسكرية لتوطيد السلام وكلاءة الأمن العام.

واذا كان اللازم على الإمام أن يلحظ هذهالمهمات كان الواجب أن ينتخب لها كفؤا يرتصيه من وجهة العلم والدين ومن وجهة التقوى والورع ومن وجهة الفكرة والنظر ومن وجهة السياسة والكياسة.

واذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفق من يرسله الى جهة من الجهات بكتاب يلم بتفاصيل الأحكام الدينية والمدنية فيقول في كتابه لعمرو بن حزم الأنصاري لما ولاه اليمن:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا بيان من الله ورسوله «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » عقد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يأمره بتقوى الله في أمره كله « ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » وآمره أن يأخذ بالحق كما أمر به الله وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقّههم في الدين، وينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم وبالذي عليهم، ويلين للناس

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186