في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 53406
تحميل: 7500

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53406 / تحميل: 7500
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يحصل من ماله هذا إلاّ على حفنة تُراب في فمه ليواجه ربّه بما اقترفه من ظُلمٍ برعيته، وكم من قائدٍ مُصلحٍ في المجتمع يذوب في أهل بلده، فيرعى مصالحهم ويُديم عمرانهم ويسير في أسواقهم ويتفقّد أحوالهم ويعيش معيشتهم، وهو مُخلّد على طول الدهر تُردّد اسمه الأجيال تعاقباً جيلاً بعد جيل، وهذا هو المَثل الصالح الذي يُحبّ الناس ويذود عنهم فأحبّه المجتمع عموماً، بما أعطاه لهم من نفسه فعوّضوه له أضعافاً كثيرةً.

النظرياتُ الاقتصاديّة الحديثةِ والعلاجُ الإسلامي

نتيجةً للتفاوت الاقتصادي والثقافي بين المجتمعات تبرز بين الفينة والأُخرى نظريّاتٌ اقتصاديّةٍ واجتماعية ترمي إلى بناء اقتصاديّات الدول والمُجتمعات، إلاّ أنّها لم تُعالج بصورةٍ جادّةٍ وحقيقيّةٍ مشاكل تَقدّم المجتمع ورفاهيّته، فقد تأتي نظريةٌ تُعطي الأهمية للجُهد المبذول على حساب المُنتِج وصاحب العمل، أو تدفع الثانية قوّتها باتّجاه حجم الإنتاج وحاجة السوق وحجم الضرائب المفروضة، بل تأتي ثالثةٌ لتؤكّد على أهميّة الضرائب العامّة للدولة، في حين يرفضها مُعارضوهم، وهناك تنوّعات في هذا الأمر لا أُريد الخوض فيها، فهناك نظريّاتٌ في هذا المجال للفيلسوف الاسكتلندي ادم سمث وديفيدريكاردو وكارل ماركس وغيرهم ومن تبعهم وسار على نَهجهم، إلاّ أنّنا نتمحور الآن حول نهج البلاغة وما طرحه الإمام (عليه السلام) من أفكار هي من صُلب الشريعة الإسلاميّة المباركة، وكيفية مُعالجة تكدس الثروة ومجالات صرفها ضمن الحدود المشروعة في الإسلام؛ لتحقيق المبدأ الأساس الذي اعتمده الدين الإسلامي الحنيف وهو تحقيق العدالة في المجتمع، (والركن الثالث في الاقتصاد الإسلامي هو

٣٠١

مبدأ العدالة الاجتماعية التي جسّدها الإسلام، فيما زوّد به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات، تكفّل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلاميّة وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها، فإنّ الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضِمن المبادئ الأساسيّة التي يتكوّن منها مذهبه الاقتصادي لم يتبنَّ العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم ينادِ بها بشكلٍ مفتوحٍ لكلّ تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانيّة التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية باختلاف أفكارها الحضاريّة ومفاهيمها عن الحياة، وإنّما حدّد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطّطٍ اجتماعي مُعيّن، واستطاع بعد ذلك أن يُجسّد هذا التصميم في واقعٍ اجتماعيٍّ حيٍّ تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.

فلا يكفي أن نعرف من الإسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية، وإنما يجب أن نعرف أيضاً تصوراته التفصيليّة للعدالة، ومدلولها الإسلامي الخاص.

والصورة الإسلاميّة للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدأين عامّين لكلٍّ منهما خطوطه وتفصيلاته:

أحدهما: مبدأ التكافل العام، والأخر: مبدأ التوازن الاجتماعي، وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي تَحقّق القيم الاجتماعيّة العادلة، ويوجد المَثل الإسلامي للعدالة الاجتماعية... وخطوات الإسلام التي خطاها في سبيل إيجاد المجتمع الإنساني الأفضل عبر تجربته التاريخيّة المُشعّة، كانت واضحةً وصريحةً في اهتمامه بهذا الرُكن الرئيسي من اقتصادنا) (1) .

فالتوزيع العادل في الإسلام هو الضمانة الواقعيّة لتحقيق العدالة الاجتماعية

____________________

(1) نفس المصدر السابق ص 303.

٣٠٢

مع الاهتمام بالموارد الاقتصادية للبلد، وتقسيمها بصورةٍ عادلةٍ وتغطية كافّة الاحتياجات، مع الأخذ بالاعتبار نسبة الضرورات المُهمّة التي يتقدّم بعضها على البعض الآخر، والهدف الرئيس في تنظيم الموارد الاقتصاديّة هو بناء المجتمع بهياكِلِهِ العامّة.

عليٌّ القُدوةُ الحسنةُ في القيادةِ والجِهادِ والعَدلِ

إنّ عليّاً (عليه السلام) خير مثالٍ للقائد القدوة والخليفة الأسوة والمُمَثّل الشرعي لمبادئ السماء في الأرض بعد خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، (وأهميّة عليٍّ في التاريخ الإسلامي... وحضوره المستمر في وجدان الأُمة وذاكرة الأجيال المتعاقبة، لا تنبعان من قرابته للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما يحلو لبعض أن يتعامل مع هذه الشخصيّة المُتكاملة.. على أهميّة وحساسيّة هذا الاعتبار...، بل إنّ هذه الأهميّة تنبع في الدرجة الأولى من حضوره، وإلى جانب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لحظةً بلحظةٍ في مسيرة الإسلام الصعبة، وهو يتصدّى لتغيير مجتمعٍ وثنيٍّ قَبَليٍّ عصبيٍّ مُشرذم...، وما ترك من تراثٍ هائل يدلّ على سعة أُفقٍ، وإيغالٍ في ثقافات الأمم السابقة، وانخراطٍ عريقٍ في مُغامرة الإسلام الكبرى..، ولقد اجتمعت في شخصه بصورةٍ مستمرة صفات المجاهد، والداعية، والحكيم، والرجل الورع، والخليفة العادل الذي يهجس ويعمل لإقامة مملكة العدل والحق، استناداً إلى مبادئ الإسلام التي اعتبرها في كلّ مراحل نضاله وسلطته، المرجع والمصدر والهادي في رؤيته وممارسته، ولم يقبّل إطلاقاً أن يتساهل في تطبيقها حتى في دائرته الخاصّة) (1) .

____________________

(1) عبد الحميد - يوسف - تكامل الحكمة وشموليّتها في فِكر الإمام علي (عليه السلام) ص 133، الجامعة الإسلاميّة - العدد الثاني السنَة الثانية.

٣٠٣

فهو لم يسمح لبؤَر الفساد والخراب بأن تتكاثر وتنمو على حساب الحلقات الطاهرة في المجتمع، أو على حساب مصلحة العامّة من الناس، وكان مثل هؤلاء يُلاحقهم عليٌّ (عليه السلام) ويُشدّد عليهم ويعاقبهم في بعض الأحيان، ففي كتابٍ لبعض عُمّاله في هذا الشأن:

(أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أمر إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الأرض فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَالسَّلامُ). (1)

يذكر إلى عامله بأنّه قد وصلت إليه أخبارٌ عنه، فإن صحّت فقد أغضب الله سبحانه وتعالى لانحرافه عن الدين، ثُمّ عصى ولي الأمر الذي نصبه في هذا المكان لعدم تطبيقه التعاليم التي أعطاها إيّاه، ثُمّ خيانته الأمانة وعدم تطبيقه الشريعة، والتصرف بالأموال وِفقَ الهوى، وبالتالي خراب الضياع، ثُمّ يطلب منه رفع تصفية، ويُعلّمه أنّ حساب الله سبحانه وتعالى هو أشدّ من حساب الناس.

____________________

(1) نهج البلاغة ص 41 تحقق د. صبحي الصالح.

٣٠٤

الفَصلُ الثّاني

بِطانةُ السوءِ والتكالُبِ

على استِحصالِ المنافِع

٣٠٥

٣٠٦

إنّ السلطة إذا استقرّت في بلدٍ ما وسارت الأُمور بدورةٍ طبيعية، وثبت أمر الحاكم، وازدادت الأموال، وكثرت الطلبات على الحاجات، وتفنّن الصُنّاع في صنعتهم، ومُلئت الأسواق بالبضائع، ودرّت الأرض خيرها، وانتشر العمران وتطورت الحياة لدى الناس حضاريّاً ومدنيّاً، واستقدم التجّار البضائع من البلدان بالإسفار والتنقّل، عند ذاك يصبح المجتمع في حالةٍ جديدةٍ من العيش والاستقرار؛ فتزيد متطلّباته، وتشخص العيون الزائغة عن الحق والأنفس المليئة بالشرّ والظُلم إلى الحّوم حول السلطان والدخول إلى قلبه بألف طريق وطريق، حتى تنتهي إلى كسب وِدّه والحصول على مقعدٍ بالقرب منه في مجلسه الخاص لتستحصل النتائج في نهاية المطاف بالإغارة على الأموال والاستئثار بالمنافع، وغاية هؤلاء كسب التَرَف والراحة لهم ولذويهم في الحياة، فما دام هؤلاء في خدمة السلطان فلهم الحقّ في التمتّع بكلّ الألوان على حساب المجتمع، وهذا ما نراه سائداً في أغلب البلدان ومختلف العصور، إلاّ أنّ سيّد الموحدّين عليّاً (عليه السلام) يُحذّر من هؤلاء الخاصّة والبطانة الذين سيلتفّون حول الوالي، ويخوضون في الأُمور خوضاً من أجل الربح غير المشروع، وقد تحدّثنا في الخاصّة والعامّة من الناس، إلاّ أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكّد مَرّةً أُخرى على البطانة بصورةٍ خاصّةٍ (ثُمّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ، فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ، وَلا

٣٠٧

تُقْطِعَنَّ لأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً، وَلا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). (1)

والبطانة التي يقصدها الإمام (عليه السلام) هنا هي حاشية السوء والفتن، والتي لا تَشبع حتى تأكل راعيها وبلاده بأساليبها المُلتوية والخادعة والمحرّفة للحقائق وللكلم، والتي لا يُسعدها أبداً أن تصل حقيقةٌ واحدةٌ إلى الوالي أو يتّصل الوالي بالناس، فهي تشكّل سياجاً بشرّياً حوله، وتصمّ آذانه بالضوضاء المُفتعل، والكذب، والتصوير المعكوس، والتهويل أحياناً، والتسكين أحياناً أُخرى، وبما تقتضيه المصلحة الخاصّة لهم. وإذا كانت هناك خدمةٌ للناس يأمر بها الوالي يتباطؤوا في سيرهم، ثُمّ يعكفون بعد أن يبعد نَظَر الوالي عنهم، وإذا كانت مِنحةً لهم من الوالي يحثّون الخُطى ويُسرعون إليها، وربما يسقطون على الأرض وألسنتهم ممدودةٌ من اللهاث أمامهم وينهضون؛ لأنّ فيها تعبئة أكياس الذهب والفضة والدنانير لصالحهم، ليبنوا قصورهم وبساتينهم الغنّاء، وكأن القَدَر أوجب لهم ذلك، بأن يتملّكوا كلّ ما حوت البلاد لأجل راحتهم وسعادتهم ومَن يلوذ بهم. فالخاصّة والبطانة التي ذكرها إمامنا (عليه السلام) ووضح أنّ مصالحها سوف تصطدم بوجود العامّة وحركتهم وطُرق كسبهم وتطوّر أمورهم الحياتيّة، ثُمّ ينقلب الأمر إلى حركةٍ ثابتةٍ للاستئثار والتطاول على أملاك المجتمع ومنافعهم التي يسترزقون عليها، لأنّ البطانة يأخذها الشعور بالقوة والهيمنة لقربها من الوالي أو السلطان، فتحاول نتيجة مُعتقدها هذا جمع المنافع لأنّها أرفع درجةً وأعلى مرتبةً من الآخرين.

____________________

(1) نص عهد الإمام (عليه السلام) للأشتر.

٣٠٨

بطانةُ السُوءِ في التاريخ

إنّ هؤلاء وجدناهم في التاريخ في العهد الراشدي خلال خلافة عثمان بن عفّان، حيث استئثار بني أُميّة بالأراضي الزراعيّة وتقسيم البلاد الإسلاميّة أقطاعاتٍ وولاياتٍ بينهم، ونهب بيت مال المسلمين بواسطة الأُعطيات الكبيرة التي فرزها الخليفة من بيت المال إلى تلك البطانة، ولهذا يقول الإمام (عليه السلام): (فَلا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلالِ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ) (1) .

وكذلك قرأنا عن ذلك في العهود الأُمويّة والعباسيّة وعصرنا الحاضر، وهذه البطانة تتعاون فيما بينها على إخفاء الحقائق عن الوالي أو السلطان دفعاً منها للضرر الذي قد يحدث لها في حالة عِلم الوالي، وأحياناً بعلمه ورضاه إذا كان لا تقوى له ولا إيمان يمنعه من المحارم، فإنّه يُطلق العنان ودون إغماض عين، بل بتشجيعٍ ودعمٍ مباشرٍ منه على الاستحواذ على الممتلكات والضياع والسيطرة على الأسواق، فيكون هناك ظلمٌ فاحشٌ وعدم إنصافٍ في كلّ شيء، إنّ لذلك آثاره السلبيّة الكبيرة على المجتمع، فاغتصاب الحقوق والاستحواذ على المناصب الحسّاسة في الدولة بدون حقٍّ أو قدرةٍ تؤهّل إلى ذلك يولّد الأضرار الكُبرى للمجتمع والظُلم الفاحش لمَن له الأهليّة الكاملة في تلك المناصب والقادر على إدارة المواقع الحسّاسة في البلد.

وبعلمنا أنّ علماء الاجتماع والسياسة والنفس يدخلون في كافّة تفاصيل الحياة العامّة ليخرجوا بالدرس الأمثل والأحسن لنجاة الشعوب من الضَرر

____________________

(1) نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح ص 235.

٣٠٩

والدمار، والمحافظة على العمران من خلال إقامة المؤسّسات ومراكز الدراسات والبحوث الإستراتيجيّة، سواء كانت اجتماعيّةً أو سياسيةً أو نفسيةً أو عسكريةً، والهدف من ذلك هو الحصول على الطريق الأمثل والأكثر صيانةً ومحافظةً على البلاد والعباد ووضع الخُطط المستقبليّة لذلك. وهذا إمامنا عليٌّ (عليه السلام) قد أعطى كلّ شيءٍ، ووضع الأموال في نصابها الكامل، وقدّم النتائج العظيمة للسير على هداها، وما نحتاجه هو الدراسة والتحليل الصحيح لتلك الدروس الوافية والتي تُغني عن غيرها.

دفع الأضرار وقطع السباب

يطلب الإمام (عليه السلام) من الوالي مُحاربة تلك الفئة ودفع أضرارها عن الأمّة بقوله: (فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ) أي عمل هؤلاء، فيوصي (عليه السلام) بإبعاد شرّهم وأعمالهم الخبيثة عن الناس، والوقوف بوجههم ومنعهم من التعدّي على حقوق المجتمع ومُمتلكاته، فلا عصبيّة ولا استحواذ على منافع الناس بالقهر، فهم تحت رعاية خليفة المسلمين الشرعي وواليه، ولا يُمكن السماح بالتصرّف في أمور العامّة من الناس بالإرادات الشخصيّة، وأمور الناس هي أمانةٌ في عُنق الوالي ومطالَبٌ بإيصالها سالمةً في نهاية الأمر لأنّ الله أمره بذلك، وقد ذكر ابن أبي الحديد أنّه: نهاه (عليه السلام) عن أن يحمل أقاربه وحاشيته وخواصّه على رقاب الناس، أو يُمكّنهم من الاستئثار عليهم والتطاول والإذلال، ونهاه من أن يُقطع أحداً منهم قطيعة، أو يملّك ضِيَعَه بمَن يجاورها من السادة الدهاقين في شرب يتغلّبون على الماء منه، أو ضياع يضيفونها إلى ما ملّكهم إيّاه، وإعفاء لهم، فيكون مؤونة ذلك الواجب عليهم قد أُسقطت عنهم

٣١٠

وحمل ثقلها على غيرهم) (1) ، (فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) أي: أنّهم يأكلون ذلك هنيئاً وهم مُرتاحون؛ لأنّ ذلك يدخل ضمن الحصول على المنافع والمكاسب التي تزيد الثريّ منهم ثراءً والمالك الصغير أملاكاً أكبر، ويستلذّون بطعم تلك الغنيمة المُحمّلة بالآثام والحرام، هذا من ناحيتهم. أمّا من ناحية الوالي - ولا زال الإمام (عليه السلام) يوصي - فإنّ عيب ذلك يعود عليك كوالي للمسلمين وحارسٍ أمينٍ وسائسٍ حكيم، فينفر منك الناس، وتهبط ثقتهم بعدالتك، وتزداد الفاصلة بينك وبينهم، وتصبح على ألسنة العامّة من الناس لقمةً يلوكونها في فمهم، ثُمّ يؤدّي ذلك إلى قضمها وأكلها إذا ما طفح الكيل وتفاقمت الأمور ولم تُعالج وازدادت سوءاً. فلا خيرٌ يُنتظر ولا استقرارٌ يُرجى بعد ما زاد التطاول والاستحواذ بغير حقٍّ، فيكون مرجع ذلك الخزي والعار على الوالي بين الناس، ثُمّ العقاب الإلهي وحمل وزر غيره إضافة إلى وزره يوم الدين، فلا دُنيا فاز بها بحُسن سُمعةٍ عند الأمّة ولا رضاء الله حصل عليه وبالتالي محاسبته في اليوم الآخر، فإنّها خسارةٌ في الدنيا والآخرة.

أمّا لماذا يُؤكّد الإمام (عليه السلام) على هذا الأمر بهذه الصورة ويُحذّر وينهى عنه؟ نعود ونقول: إنّما يؤكّد ذلك لغرض تثبيت العدالة في الحُكم والارتفاع بإيمان الوالي وتقواه؛ لأنّ تلك الانحرافات سوف تؤدّي إلى خراب البُلدان ودمار أهلها، وبالتالي إنّ الأمر كلّه هو رعاية مصالح المجتمع وعدم التجاوز على حرماته، فالإسلام يُريد بناء المجتمعات الإنسانيّة على تلك الأُسس الحيّة التي تُعطي لمسيرة المجتمع تجديداً وشباباً وبالتالي العدل والحضارة والعمران للبُلدان، وإذا حدث العكس من ذلك فمعناه الهرم المُبكّر للدولة وتلاشيها من الوجود بفعل

____________________

(1) شرح نهج البلاغة - م17 - ص97.

٣١١

غزوٍ خارجيٍّ أو فسادٍ اجتماعيٍّ أو خللٍ في الحياة العامّة. ثُمّ لا حُكم بدون رعيّةٍ، ولا رعيّة بدون حاكمٍ، فالاثنان يكونان طَرَفي الموازنة في المعادلة الاجتماعيّة، وبتساوي النظرة العادلة بين الطرفين وتقاربهما باتجاه حفظ كيان المجتمع وعدم تبديد طاقاته يجب القيام بالقبض على الأيادي المُمتدّة للنهب والسرقة وقطعها حتى يستديم الأمر وينعم الجميع بالسعادة والرخاء، ثُمّ قال (عليه السلام): (وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ). (1)

(وألزام الحقّ لمَن لزمه وإن ثَقل على الوالي وعليهم، فهو محمود العاقبة بحفظ الدولة في الدنيا ونيل السعادة في الآخرة). (2)

وقد عَبّر عن ذلك أمير المؤمنين بوصف ذلك الإنسان المُتّقي الذي يُلزِم نفسه الحق والعدل: (فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ، قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا وَلا مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ). (3)

وكذلك في كتابه إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان، فإنّه يحذّر من أنّ الوالي إذا تبع مآرِبه الشخصيّة وأطاع نفسه الشهوانيّة وغريزته الشيطانيّة فإنّ ذلك سيمنعه من إقامة العدل (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْوَالِيَ إذا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

(2) محمد عبده - ج3 - ص105.

٣١٢

كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ، فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ، وَابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ رَاجِياً ثَوَابَهُ وَمُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ). (1)

____________________

(1) المصدر السابق ص 449.

٣١٣

٣١٤

البابُ الخامِس

السُلطَةُ والعِلاقاتُ

العامّة مع الأُمّة

٣١٥

٣١٦

الفصلُ الأوّل

الوالي والرُوحُ الإنسانيّة

٣١٧

٣١٨

إنّ البلاد الإسلاميّة التي امتدّت أطرافها إلى بلاد فارس والروم وما بعدها كانت تضمّ في مملكتها قوميّاتٍ متعددةً وأجناس مختلفةً، وإدارة شؤون هؤلاء الخلق ليس بالأمر الهَيّن الذي يمكن أن نجعل صورته كما نرسمها في أوراقنا وكتبنا، بل من السذاجة العقليّة تصوّر بساطة قيادة هذه الأُمّة؛ إذ إنّ هناك الاختلافات السيوسولوجية (الاجتماعية) والنفسية والعادات والتقاليد والأعراف والمراسم وغيرها، وكلّ تلك جمعها الدين في بوتقةٍ واحدةٍ هو الإسلام. وأعطى الإسلام الحريّة الكافية لتلك الأُمم والشعوب بما لا يُخالف المبدأ الأصلي في الشريعة، وكذلك استوعبت هذه الشعوب الحركة الجديدة والمبادئ الإنسانيّة للإسلام، للروح الحيّة التي تحملها هذه الشريعة التي أهملت الكثير من العادات والتقاليد التي تتنافى والدين وحلّت محلّها روح الإسلام وعظمته، وخلقت منهم روحاً جهاديّةً ثائرةً فتحت البلدان الأُخرى، وبرز منهم العُلماء والمفكّرون ممّا لا يُعد ولا يحصى، بل حتى أنّ أهل الأديان الأخرى كانوا يعيشون بسلامٍ وأمانٍ، وهم (أهل الذِمّة)، فالإمام (عليه السلام) كان ينشر رحمة الإسلام على الأُمّة جمعاء، ويدعو إلى اللُطف والمحبّة في العلاقات والتعامل (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ). (1)

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

٣١٩

العَطفُ على الرَعيّةِ والمُحَصّلة النِهائيّة

التعاطف: شعورٌ إنسانيٌّ يؤثّر في أعماق النفس وينتج الودّ والمَحبّة والإخلاص، ثُمّ إنّه عملٌ عقلائيٌّ وأخلاقيٌّ وأنسانيٌّ، وعليٌّ (عليه السلام) يقول:

(ورفقاً برعيتك) أي: ارفق بهم واعطف عليهم، وطالما كرّر الإمام (عليه السلام) كلمة الرعية وصبّ لذلك جُلّ اهتمامه؛ لأنّ الناس ليسوا أغناماً سائبةً تعلف في البوادي وتشرب الماء الآسن في الوديان، جمعها الوالي أو السلطان في كهفه يحَزُّ رقابها متى شاء، ويأكل من لحمها متى اشتهى، ويبيع جلدها وصوفها متى ما دكّه العَوز والفاقة، وإن ماتت لا يُهمّه أمرها وإن عاشت لا يسعد ببقائها، سيّان عنده أمرها مادام هو على قيد الحياة وينتفع بكل مكوّناتها، فالأمر ليس الأمر هكذا، إنّما الرعيّة بشرٌ مثله، لهم ما له عند الله وعليهم ما عليه، والسلطة في الإسلام ليست تكريماً وتشريفاً، إنّما هي تكليفٌ شرعيٌّ لقيادة الأُمّة وِفق ما أراده الله ورسوله والأئمّة من بعده، وهي ليست حِكراً له ولأولاده من بعده إنّما أمرها واضح، والبلاد ليست أملاكاً مقطوعةً له يتصرّف بها كيفما يشاء، خلافاً لما حدّدته الشريعة في أحكامها والصلاحيّات التي خوّلته بها. ورعاية المجتمع في الإسلام تعني تطبيق الشريعة أوّلاً، وإحقاق الحقّ وإقامة العدل وإنصاف المظلوم ونَظمِ الأمر حتى لا يختلّ التوازن الاجتماعي وتضيع الأمور ويفلت الزمام، ولهذا يُؤكّد الإمام (عليه السلام) على ذلك، ويقول: (فإنّ في ذلك رياضةً منك لنفسك، ورفقاً برعيّتك، وأعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ).

الرياضة: تعني تمرين النفس على الشيء، وما تقدّمه من أعذار أو تُبديه فإنّك تدفعهم إلى العدل وطريق الحقّ الذي هو غايتك، ألم تكن الغاية أمر الناس وتعويدهم على

٣٢٠