في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 53457
تحميل: 7523

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53457 / تحميل: 7523
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقلب الحقائق ( وَقَالُوا مَالِ هذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ... ) (1) .

بالإضافة إلى ذلك كان يحضر مراسمهم ويؤمّهم في صلاتهم، وكذلك عمل الإمام علي (عليه السلام) من بعده على سيرته ونهجه. فمن لم يكن هكذا فإنّه خارج نطاق الشريعة المحمّدية. ثمّ يدعو الإمام (عليه السلام) إلى تعويد النفس على الإصحار، ولا يسمح لحبّ الذات والتفرّد بالرأي بأن يسيطر.

____________________

(1) سورة الفرقان، الآية 7.

٣٤١

٣٤٢

الفصل الثّالث

المظالم في وصايا عليّ (عليه السلام)

٣٤٣

٣٤٤

إنّ الخطأ بحقّ أفراد من المجتمع لا يأتي من العاديين من الناس فقط، إنّما هناك حيف وظلم وغبن قد يصدر من حاكم جائر أو سلطة غاشمة أو قوّة قضائية متنكّرة للحقّ، أو من قبل أصحاب النفوذ والجاه من الطبقات الأرستقراطية في المجتمع، أو أحياناً من جرّاء إهمال قضية اجتماعية مهمّة لها مردودات على اقتصاديات الناس وحياتهم العامة، حينئذٍ لا يستطيع هذا الشخص، أو الجماعة، الذين ارتكب بحقّهم الظلم أو التغاضي عن حقّهم وعدم الانتصاف لهم إلا أن ينظروا إلى الله تعالى ليتظلّموا عنده، وقد قال علي (عليه السلام): (احذر من دمعة المؤمن؛ فإنّها تقصف من دمّعها (أو) (أدمعها) وتطفئ بحور النّيران عن صاحبها). (1)

أو في جانب آخر من كتاب له إلى حذيفة بن اليمان:

(وآمرك بالرّفق في أمورك والدّين، والعدل في رعيتك؛ فإنّك مساءلٌ عن ذلك، وإنصاف المظلوم). (2)

وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: (ونظر المظالم هو قود المتظالمين

____________________

(1) نهج السعادة، المصدر السابق، ص 35.

(2) نفس المصدر السابق، ص 20.

٣٤٥

إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العِفة، قليل الطمع، كثير الورع؛ لأنّه يحتاج إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين [ كالخلفاء أو من فرض إليه الخلفاء نظراً في الأمور العامة... قد نظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المظالم في الشِرب الذي تنازعه الزبير بن العوام (رضي الله عنه) ورجل من الأنصار فحضره بنفسه فقال للزبير: (اسق أنت يا زبير ثمّ الأنصاري، فقال الأنصاري إنّه لابن عمّتك يا رسول الله؟ فغضب من قوله، وقال: يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء إلى الكعبين). وإنّما قال أجره على بطنه أدباً له لجرأته عليه. واختلف لم أمره بإجراء الماء إلى الكعبين، هل كان حقا بيّنه لهما حكما أو كان مباحاً فأمر به زجراً على الجوابين). (1)

(وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بيتٌ سمّاه بيت القصص، يلقي الناس فيه رقاعهم) (2) .

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي

يحدث الظلم أحيانا نتيجة الطمع وحبّ الغلبة، بل البعد عن الله والعمل بما حرّم. إنّ الإنسان يحتاج إلى من يتظلّم عنده بعد الله تعالى، وهذا يحدث حتى في حياتنا اليومية، وهو تظلّم الطفل لدى والده لشعوره بعدالة والده وقوّته وسطوته التي تعيد ما أخذ منه إليه، بالإضافة إلى شعوره بالمحبة والعز والارتباط القلبي بينه

____________________

(1) الماوردي - الأحكام السلطانية - تحقيق الدكتور أحمد البغدادي ص 102، الكويت 1989م.

(2) شرح نهج البلاغة - المجلّد 17 - ص87.

٣٤٦

وبين أبيه حينئذٍ يشكو إليه ما وقع عليه من حيف أو ظلم من أخوته بغيابه، ولولا شعور الطفل وإحساسه واطمئنانه النفسي بأنّ والده سوف يأخذ حقّه لما جرأ وعرض عليه المظلومية، وهذه قضية تتعلّق بالأثر النفسي في ذات الإنسان نعايشها يومياً في مجتمعنا، هذا في الحلقة الأولى المكوّنة للمجتمع، وهكذا يسري الأمر إلى المجتمع كلّه بكافّة طبقاته، فإذا ما أحسّ الإنسان بعدالة ولي أمره واهتمامه باستماع مظالم الناس والإجابة عليها فوراً، قولاً وفعلاً، فإنّ ذلك سوف يدفع الناس إلى الالتفاف حول الأب الأكبر للمجتمع والدفاع عنه في الملمّات والشدائد من الأيام.

وقد اهتمّ إمامنا في ذلك الاهتمام الواسع، فأخذ يفصّل جوانب هذا العمل ويسعى إلى تربية الولاة للأخذ به والعمل طبق دستوره وبصورة لائقة، ونافعة، وعادلة، فهو لم يأمر الوالي بالجلوس للناس والاستماع منهم فقط، بل حدّد لهم معالم النظر في المظالم، وصوره، وكيفيته، ومِلاكاته، ومراعاة حالات الشاكي (المتظلّم)، ومراعاة الجوانب النفسية لديه، وإعادة الحقّ إلى نصابه بالصورة الصحيحة. وعلي (عليه السلام) قال لبعض عمّاله، في كتاب بعثه إليهم من الذين يطأ عملهم الجيوش: (وأنا بين أظهر الجيش فارفعوا إليّ مظالمكم، وما عَراكم ممّا يغلبكم من أمركم، ولا تطيقون دفعه إلاّ بالله وبي، أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله) (1) .

فإذن، قضية النظر في المظالم تعتبر من أهم الأمور في حياة المجتمع لأنّها تثبت العدالة وتجري الأحكام على ضوئها بين الناس بصورة كاملة، وأنّ سلامة المجتمع وصحّته تأتي من رفع المظلومية وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم، وهذا الأمر يحتاج إلى قوّة إيمانية وعدالة سلطانية تعطي الإنسان سلامة أمره واستقراره، وبذلك يتماسك المجتمع بتطبيق الأحكام الشرعية وامتزاج ذلك

____________________

(1) نفس المصدر السابق، ص147.

٣٤٧

بالقيم الأخلاقية التي تحرق كل الصور المأساوية للظلم والظالمين والطامعين والمغتصبين، وهذا علي (عليه السلام) يوصي في أنفاسه الأخيرة، ولديه الحسن والحسين (عليه السلام)، بقوله: (أوصيكما بتقوى الله وحده، ولا تبغيا الدنيا وإن بَغَتكما، ولا تأسفا على شيء منها، قولا الحقّ، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما في الله لومة لائم). (1)

ففي سكرات الموت بعد ضربة اللعين ابن ملجم المُرادي، يوصي علي (عليه السلام) بتقوى الله وترك زينة الحياة الدنيا وما حوت، ثمّ قول الحقّ، فالحقّ عند علي (عليه السلام) معناه إرادة الله وكلمته، ففيها نجاة الأمة وخلاصها واستقامتها. ثمّ أكّد على حماية اليتيم والرأفة والرحمة به، ثمّ إعانة الضعيف الذي لا حيلة له، الذي يرى في علي (عليه السلام) طعامه ولباسه وكرامته وعزّه، بتلك الرأفة، وذلك الحبّ، أطعم الأيتام والضعفاء فعاشت هانئة مطمئنة سعيدة، فالخبز إذ عجن بالذلّة والمنّة لا طعم فيه ولا فائدة منه، فهو هنا لم يوص ولاته بل ولديه الإمامين سيدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليها السلام)، وحبيبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويؤكّد عليهم وهو الذي قد خَبرهم وعرفهم كمعرفته بنفسه، فهما قلب عليٍّ، وروحه ونفسه والنور الذي ينظر فيه، وإنّهم كعلي في خصاله، ومع ذلك يوصيهم ليسمعهم ويبلغ غيرهم ممّن قرب أو بعد، ممّن حضر أو لم يحضر في وقته وفي المستقبل.

إنّه يعطي الدرس الاجتماعي للبشرية، ولتبقى هذه الكلمات خالدة تدقّ أسماع وعقول الناس في كلّ زمان ومكان، لكي يفهموا كيف يبنوا مجتماعاتهم ويقيموا العدل. ثمّ انتقل إلى الشيء الأعظم والأهم ألا وهو: (كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما

____________________

(1) مروج الذهب - م2 - ص41.

٣٤٨

في الله لومة لائم).

حتى في آخر اللحظات يدعو إلى إنصاف المظلومين، كونا معهم، كونا حرباً على الظالمين، فإنّ ذلك أساس العدل والحكم الذي أراده الله، ومهما يكن هذا الظالم كُونا عليه حرباً بلا هوادة حتى يستقيم (ولا تأخذكما في الله لومة لائم) ونستنتج من قوله (عليه السلام) هذا ثلاث قضايا مهمّة، كأنّهن الأعمدة الرئيسية للعدالة والمساواة العامة في المجتمع:

1 - الرحمة.

2 - إعانة الضعفاء، أي: فقراء الأمة ومن لا حيلة ولا قوّة له.

3 - العدالة ومخاصمة الظالم والوقوف إلى جنب المظلوم واخذ حقّه ممّن ظلمه.

لله درك يا أبا الحسن! من أبٍ رؤوفٍ وحاكمٍ عادلٍ ومربٍّ أخلاقي عظيم، واجتماعي فريد، جمعتَ كلَ الخصال وأعطيت كلّ روحك لهؤلاء الناس الأيتام والضعفاء المظلومين فأعطوك كلّ شيء.

شرائط النظر في المظالم

لم يجعل الإمام (عليه السلام) مسألة النظر في المظالم في المستوى الإرشادي فقط، إنّما جعلها الطرف المهم في سلامة الدين وصلاح الأمر، فوضع لهذا الأمر المهم مقوّمات أساسية لا يمكن أن يصلح الانتصاف للمظلوم بدونها، ولا يمكن أن تكون عدالة في هذا التقاضي بعدم الالتزام بهذه الشرائط الذي وضعها أمير المؤمنين في هذا النص: (وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ

٣٤٩

عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ؛ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ). ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ) (1) .

إنّ النظر في المظالم يتطلّب أولاً - وقبل كلّ شيء - أن يجلس الوالي شخصياً للنظر في مظالم الناس ويخصص وقتاً معيناً معلوماً لذلك، ثمّ العمل بالبنود المهمّة التي وضعها علي (عليه السلام) التي تدلل على صحّة عملية النظر في المظالم، وهذه لا يمكن العمل بقسم منها وترك القسم الآخر؛ لأنّها متلازمة في أمرها.

و(تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ) (2) .

إنّ الإنسان بطبيعة وضعه الاجتماعي والآثار النفسية المتبقية في ذهنه، من إرهاب السلطة أو عظمة الحاكم أو الأُبّهة العالية، تجعله متردداً خائفاً ينسيه الوضع الحالي قضيته، وربّما يفرّ ولا يعرض قضيّته وهو معتقداً أنّ سلامة نفسه هي أفضل من الحصول عل ظُلامته. ولهذا يضع أمير المؤمنين (عليه السلام) الموازين الدقيقة والصحيحة لمثل هذه الأعمال، فهو أولاً يطلب أن يجلس الوالي بنفسه وأن لا يوكل غيره لذلك؛ لكي يعالج المشاكل ويحلّ العقد ويباشر الأمور ويطلّع عليها

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

(2) نص العهد للأشتر.

٣٥٠

شخصياً. ثمّ ينصب ميزان العدل لإنصاف المظلوم والأخذ بالظالم وإعادة الحقّ إلى نصابه، ونشر راية الرحمة على رؤوس الأبناء، أي المجتمع؛ لأنّ الراعي يعتبر الأب للقوم، فإذا ما كان أبوهم لا يستمع لهم ولا يُدنيهم ولا يتظلّمون عنده بالحقّ فلا نفع من ذلك إذن، وعند ذاك تصبح الفاصلة بين الناس والوالي كبيرة.

فلا تبطر!. كما قال الإمام (عليه السلام) وكلامه مترابط من بدايته حتى آخره، وكلّه شواهد بعضه على بعض، وعلى معرفة تامّة بأوضاع المجتمع واعتباراته، ومستقرئ للأوضاع والأحداث والسلوك الذي ينتج عن كل نوع من سيرة الولاة، بحيث يعطي النتائج لكلٍّ منها مسبقاً ويضعها بين يدي عمّاله لكي تكون أشبه بالقانون الاجتماعي الحاصل من استقراءات ودراسات تطبيقية على المجتمع، إذ يضع النقاط على الحروف لكلّ مسألة سياسية واجتماعية ونتائجها، لهذا لا نجد بُعداً بين معنىً وآخر وبين رسالة وأخرى، فكلّها نابعة من أساس واحد ومصدر أصيل، بناؤه العدالة الاجتماعية التي هي أصل لبناء كل أمر.

فمرّة يأمر ولاته بتفقد أمور الرعية بإرسال ثقاته من الرجال الذين يخافون الله ولا يتكبّرون على الناس حتى يدوّنوا مشاهدتهم ويرسلوا التقارير الصحيحة والتامّة إلى الولاة دون إضافات أو نواقص متعمّدة من الذين لا يستطيعون المجيء إليه. وكذلك يأمرهم بالأمر التالي: فانشر العدل بنشر أصحابك الثقاة، ومرّة أخرى يكون هناك إنسان مظلوم نهب حقه وهدرت كرامته وطرد من موقع العدالة والحقّ والرحمة بواسطة إنسان ظالم، سواء كان عاملاً من عمّال الولاة، أو قاضياً من القضاة، أو صاحب شَرطة، أو أي إنسان آخر، ولا يجد من يتظلّم عنده في هذه الدنيا ليعيد حقه إلاّ الله والذي بيده ولاية الأمر، وهي بطبيعة الحال أمانة في عنقه من الله لرعاية أمر عباده.

وهذا الأمر قمّة في العدالة الإنسانية ورحمة كاملة للبشرية، فالمجتمعات

٣٥١

التي توجد فيها هذه المبادئ الصالحة تأخذ زخماً معنوياً كبيراً للإخلاص والتفاني والتضحية سواء كان لدينها أو وطنها.

ثمّ يطلب الإمام أن يجلس الوالي بنفسه ويقيم مجلساً عامّاً، ويريد من كلامه أيضاً أنّ لا يجلس جلوس الجبابرة والطغاة والمتكبرين التي لا يفيد فيها ولا يستفيد، بل يجب أن يكون وَقوراً متواضعاً؛ لأنّ الله ينظر إلى حكمه وعدله (فتواضع لله الذي خلقك)، ثمّ لا يتعرّض الحاشية والحرّاس لطالبي الحاجات بحيث يأخذ الخوف والرعب مأخذه منهم رهبةً من سطوة الأعوان الممحلقين أعينهم بشدّة، وفي وجوههم القسوة والشدّة التي تخيف الناس وتمنعهم من الكلام (حتى يكلمك متكلّمهم غير متتعتعٍ (1)) أي: لا يترددون في العرض عندك، ثمّ يقول: فإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ).

فأمير المؤمنين (عليه السلام) استشهد بحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يؤكّد وبوضوح عدم طُهر امةٌ لا يؤخذ فيها حق الضعيف من القوي وبدون تردد أو خوف، إذ لا يستديم الحكم إلاّ بالعدل وإنصاف المظلومين.

وإذا ما طغى الجور والظلم والفساد في بلاد ما فإنّ التغيير آتٍ بحتمية لا ريب فيها، لأنّ الناس لا يمكن أن تستكين للضيم والقهر مدّة طويلة.

وفي التاريخ شواهد وحقائق كثيرة تدلّل على ذلك.

ثمّ يجب أن يتوقع الوالي كلّ شيءٍ من هؤلاء البسطاء من الناس الضعّاف الحال الذي أعياهم الفقر، وأتعبهم الفقر، والدواهي التي أصابتهم من العمّال والأعوان من الذين تحت ظل ورعاية الوالي، ثمّ لا حبيب ولا نصير يقف على حالهم ويعالج أوضاعهم وينصفهم من أعدائهم.

____________________

(1) التعتعة: التردّد. من العجز، أي: غير خائفين من عرض الكلام.

٣٥٢

هؤلاء المتعبون يجب أن تستوعبهم وتحتمل منهم كل جهل يصدر أو كلام ربّما يجرح، أو عنف في كلام غير محسوب أو عجز عن النطق أو ما شابه ذلك من المثيرات في للنفوس المؤجّجات للأحاسيس والمشاعر والتي تثير الغضب وعدم الرضى (وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

هذه الصورة الجميلة والرائعة من المعاملة الإنسانية القيّمة التي يضع مضامينها علي (عليه السلام) ويعطيها جاهزة لولاته حفظاً لأمّته من الضياع والهتك والتسلّط غير المشروع والعبودية. فهو يريد للإنسان أن يعيش ضمن مبدأ الإسلام العظيم الذي يعطي للإنسان حريّته وكرامته، وكذلك يقول للوالي: بأن لا يضيق صدرك من طلباتهم وسوء خلق بعضهم الذي قد يصدر منهم، فتستكبر وتأنف من ملاقاتهم والتحدّث إليهم. إنّ الله يعوض عن ذلك للإنسان الذي يحمل الحبّ والحنان والعطف والرفق، بل كلّ معاني الكلمات التي تبعث في القلب والنفس الروحَ الإنسانية الطاهرة، وبهذه المعاملة سوف يبسط الله رحمته وغفرانه في جميع المواطن التي قد يبتلي فيها الإنسان، إنّ الوالي بهذا العمل أدّى فرائضه وأدّى حقّ عبادته، ومعنى ذلك أنّه أطاع الله من خلال التعاليم الإلهية التي أوجبها على عباده، فالأجر والثواب على تلك الأعمال عند الله، وما تعطيه للخلق يبدله الله خيراً فاعط بمنتهى الإحسان ورضى النفس وبدون منٍّ أو أذى أو استكثار، وإن أردت أن تمنع فامنع بلطفٍ واعتذارٍ؛ فإنّ ذلك أسمى وأرفع وأبلغ أثراً في النفوس وأكثر تقبّلاً وقناعة لدى لناس بحيث تدفعهم إلى مَحالّهم وهم راضين عنك، شاكرين عملك.

٣٥٣

التحصين الاجتماعي

إنّ التحصين عند علي (عليه السلام) من المسائل المهمّة، وهذا يأتي من خلال بناء هيكلية المجتمع وتربيته على الأُسس القرآنية الأخلاقية التي تمنع الظلم والتجاوز وتعطي للحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الساحة الاجتماعية كلّها لكي تسري مبادئها بين الناس، فالغاية - إذن - هو البناء الاجتماعي السليم والمتماسك والمتمحور حول المبادئ الحقيقة للإسلام التي أرادها الله وجاهد من أجل تثبيتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وضحى من أجلها عليّ (عليه السلام). بالإضافة إلى كلّ ذلك التكافل الاجتماعي، كلّ هذه المفاهيم تؤدّي إلى الصورة المثالية التي هيَّأها عليٌّ (عليه السلام) للإنسانية كمنهج عامٍّ تسير عليه، وحينما أقول الصور المثالية لا أعني بذلك (جمهورية أفلاطون) أو (المدينة الفاضلة عند الفارابي)، أو غيرها، إنّما الإنسانية بحاجة إلى مبادئ عامة إنسانية عادلة تصون كرامتها وتحفظ شرفها وتبعد المخاطر عنها وهذا هو الدين وهدف علي (عليه السلام).

إذن فالإنسان هو رأس المال الأساسي عنده، فإذا ضاع أو تلف رأس المال خسرنا كل شيء وإذا ما استثمر في مجالاته الصحيحة زاد ونما وعمّت بركته على الجوانب الأخرى، وهذا يبدأ بتطبيق العدل أولا، لأنّه المربّي هو الأساس والمؤثّر على طبيعة أخلاق المجتمع، فإذا ما شعر المجتمع بأنّ الحاكم إنسان زاهد عابد في العلن وظالم سارق في السر فإنّ آثاره السلبية على المجتمع أعمق ممّا يتصوّر. بحيث يضيع الضعيف تحت أقدام القوي، وتُسلب إرادته وحقّه وحرّيته فيأكل القويُّ الضعيف وأصبحت الشريعة شريعة غابٍ وليست شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحيث يتقادم المجتمع ويهرم قبل أوانه وينهار الكيان الاجتماعي

٣٥٤

والسياسي قبل موعده، وتموت الحضارة والعمران في وقت واحد قبل بلوغ سلّم الأمن والاستقرار.

لكلّ يومٍ عملهُ

(ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا، مِنْهَا: إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ. وَمِنْهَا: إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ. وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ).

(ثمّ بيّن (عليه السلام) أنّه لابدّ له من هذا المجلس لأمر آخر غير ما قدّمه (عليه السلام)، وذلك لأنّه لابدّ من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه، والنّوّاب عنه، فيتعيّن عليه أن يباشرها بنفسه، ولابدّ من أن يكون في كتب عمّاله الواردة عليه ما يعيا كتّابه عن جوابه، فيجيب عنه بعلمه ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلّع الكتّاب عليه، فيجيب أيضاً عن ذلك بعلمه. ثمّ قال: له لا تدخل عمل يوم لآخر فيتعبك ويكدّرك، فإنّ لكل يوم ما فيه من العمل). (1)

(وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَأَجْزَلَ تِلْكَ الأَقْسَامِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ. وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَاعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ، وَلَا مَنْقُوصٍ بَالِغاً - مِنْ بَدَنِكَ - مَا بَلَغَ، وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ لِلنَّاسِ فَلا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ

____________________

(1) شرح نهج البلاغة - م 17 - ص 88.

٣٥٥

الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ كَصَلاةِ أَضْعَفِهِمْ وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).

(هذا ولمّا فرغ (عليه السلام) من وصيته بأمور رعيته، شرع في وصيته بأداء الفرائض التي افترضها الله عليه من عبادته، ولقد أبهر البلغاء في قوله (عليه السلام): (وإن كانت كلّها لله)، أي: النظر في أمور الرعية مع صحة النية وسلامة الناس من الظلم من جملة العبادات والفرائض أيضاً، ثمّ قال له: (كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ) أي: لا يحملنك شغل السلطان أن تختصر الصلاة اختصاراً بل صلّها بفرائضها وسننها وشعائرها، في نهارك وليلك، وإن أتعبك ذلك ونال من بدنك وقوّتك.

ثمّ أمره إذا صلّى بالناس جماعة أن لا يطيل فينفّرهم عنها، وأن لا يخرج الصلاة وينقصها فيضيعها). (2)

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

(2) الراعي والرعية - ص 274.

٣٥٦

الفصل الرّابع

العدل والظلم

٣٥٧

٣٥٨

كان فكر علي (عليه السلام) كله إرساء للعدالة والحقّ في المجتمع الإسلامي، والعمل بهما كما عمل من قبل ابن عمّه النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وقد أعطى ذلك المفهوم جُلّ اهتمامه لارتباطه المباشر أساسا بالشريعة الإسلامية والأمانة الإلهية؛ لتثبيت الهدف الأسمى وهو إنقاذ المجتمع من الظلم والاستغلال.

فالحروب التي واجهها لم تكن إلاّ حروباً على عدله الذي لا يحيف ولا يركن لمداهنة أولئك الذين يخشون أن يضعهم ميزان العدل مع الناس سواء..، وما الحقد الذي تَلَى ذلك على أهل بيته (عليه السلام) إلاّ لعدله، والمساواة التي كسر من خلالها شوكة الظالمين والباغين والطامعين.

فاهتمام الإمام (عليه السلام) جاء لحفظ مكانة الدين وفق النهج السماوي العادل، حيث كان هدفه السير بالعدل و(العدل الواسع الذي يسع الناس جميعاً لينتظموا في ميزان واحد، هو الأمل الذي كان يحدو علياً ويقطع عليه طريق زهده في الحكومة... العدل والمساواة اللذان أقسم على إجرائهما على الجميع سواء، ابتداءً بنفسه وبنيه، لم يكونا فقط مفتاح الخير والرحمة وعودة الحقوق المهدورة، بل كانا أيضاً مفتاح الاختيار الصعب، ومحكّ الإيمان وغربال الرجال:

٣٥٩

(وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ! لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاكُمْ وَأَعْلاكُمْ أَسْفَلَكُمْ) (1) .

الأنبياء ومحاربة الظلم

لقد سار الأنبياء والرسل بالبشرية بالنصّ الصريح في محاربة الظلم والظالمين وقطع دابر المفسدين رغم المعاناة القاسية التي قوبلوا بها من الطغاة وأعوانهم.

ولم يكن الأنبياء والرسل وحدهم في هذه الساحة وهذه المنازلة على مرّ التاريخ، فقد سار على نهجهم أتباعهم وأنصارهم وأصبح الاتجاه والميل إلى مفهوم العدالة اتجاهاً إنسانيا عامّاً حتى اهتمّ به الفلاسفة والعلماء والمفكّرون وأصبح ذلك محور نظرياتهم المتعلّقة بالإنسان والاجتماع العام.

و(قد ذهب بعض الحكماء إلى اعتبار العدل فضيلة قاعدة لجميع الفضائل، وأنّه أساس الجمعية التآنسيّة - أي: المجتمع البشري، والعمران والتمدّن، فهو أصل عمدة الممالك المجتمعات - التي لا يتمّ حسن تدبيرها إلاّ به). (2)

إنّ مسألة حرية الإنسان وكرامته والعدالة الاجتماعية ومنع إقامة أيّ صرح للظلم والظالمين أصبح المنطوق الأوّل لتلك النظريات والأطروحات الاجتماعية.

____________________

(1) عبد الحميد - صائب - تاريخ الإسلام الثقافي ص 418 - الغدير - بيروت، الطبعة الأولى - 1417 - 1997.

(2) التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوّره، ص 295.

٣٦٠