في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 53456
تحميل: 7523

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53456 / تحميل: 7523
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ

لقد كان الحقّ الفيصل الأوّل في المواقف المهمّة خلال حكمه، فقد أعطى نفسه للحقّ ولم يجره الآخرون لأنفسهم طمعاً باستئثار لا يهمّهم آثاره الضارّة أو الحالة الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب ميزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا إلى جلب المنابع المادية لأنفسهم حتى وإن كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إنّ علي (عليه السلام) في إشارة دقيقة ومهمّة يحدّد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول (عليه السلام): (لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ! أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً). (1)

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الإنسانية والمدافعين عن حقوقها، ولإصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ كي يرفعوا به عمود خيمة الإنسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كلّ مظلوم ومستضعف ومن تقتحمه العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً، إنّه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الأرواح الهاربة من حَرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الإنسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف ألوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الإلهية.

٣٦١

ولولا الظلم والجشع والطمع بأنواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقي علينا أن نعرف أن الأمر المهمّ الآن: كيف نعالج الواقع المرّ الذي أفرزته الظروف القاسية؟ ظروف الحيف والجور، حيث تنكفئ موازين العدالة والحقّ.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا إنسانا لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على حقوقهم ينظر إلى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسمّيه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم (العادل).

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوّة والقدرة فإنّه يرجح أفرادا على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الأقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إنّ شخصاً كهذا نعتبره متّصفاً بنوع من (الظلم) ونسمّيه (الظالم). (1)

وقد قال الشاعر الإيراني مولوي في ذلك:

(ما هو العدل؟ هو وضع الشيء في موضعه.

ما هو الظلم؟ هو وضع الشيء في غير موضعه.

ما هو العدل؟ هو إعطاؤك الأشجار ماء.

ما هو الظلم؟ إنّه إعطاؤك الأشواك ماء). (2)

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم، هذا نموذج من بعضها: ( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (3) .

____________________

(1) مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني - بتصرّف -، ص 55.

(2) المصدر السابق، ص72.

(3) سورة الشورى: الآية 15.

٣٦٢

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1) .

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) (2) .

( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ) .

إذن، يجب اتّخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخطب الإمام علي (عليه السلام) مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة، من خلال معرفة وأخذ العبر والدروس من أجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

النظرة العلوية إلى الظلم

إنّ منهج الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي المتعلّق بهذا الموضوع يجسّده كلامه وخطبه (عليه السلام) التي ترسم في الأذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له (عليه السلام) يتبرّأ فيه من الظلم ويقول فيه:

(وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) (5) .

____________________

(1) سورة النحل: الآية 90.

(2) سورة الأنعام: الآية 82.

(3) الحسك: الشوك، والسَّعدَان: نبتة برية كحلمة الثدي يملأها الشوك.

(4) المسهّد: المسهّر.

(5) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج2 - ص216.

٣٦٣

إن الإمام (عليه السلام) يقسم بالله، وأيَّ شيء مهمّ وعظيم هذا لدى الإمام الذي يؤدّي به إلى القسم بالله وهو علي إمام المتقين وسيد الموحدين؟! إن بذلك ينتهي كلّ نقاش، وينتهي كلّ تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا، ويقول (عليه السلام): لأن بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البريّة المدبّبة برؤوس الإبر الشوكية طيلة ليله مسهّراً، أو جرّ على ذلك وهو مقيد بالأغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية، فإنّ ذلك كلّه أحبّ إليه من أن يلاقى الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده.

فالإمام (عليه السلام) يريد بهذه الصورة التهويلية أن يبيّن مدى أثر الظلم ومسؤولية الإنسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثمّ يوضح لنا ولغيرنا أنّ الظلم لأجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك أثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقيل، تبقى مع الإنسان إلى يوم الحشر العظيم...

(وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) فالنفس نهايتا الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في بعض مواعظه على أنّ الظلم أنواع وعدَّد تلك الأنواع، وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض، وحذر من شدّته يوم القيامة، حيث قال (عليه السلام): (أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً؛ الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى، وَ لا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَلا مِمَّنْ بَقِيَ) (1) .

____________________

(1) المصدر السابق، ص 255.

٣٦٤

إنّ الإمام (عليه السلام) يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله وأكّد أنّ قصاصها يوم الحساب شديد وعسير على الإنسان، وهو ليس بصورة جرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال: إنّ أمره هيّن. إنّ عقاب ذلك عند الله اشدّ ما يمكن أن يكون وخاصة إذا كان هذا المظلوم مؤمناً، فالإمام (عليه السلام) في قوله إلى البَجَلي قاضيه على الأهواز يبيّن ذلك: (دارِ المؤمن ما استطعت؛ فإنّ ظهره حُمى الله، ونفسه كريمةٌ على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله، فلا تكن خصمه) (1) .

إذن، من الذي يخاصمه إذا ظلم أحداً من المؤمنين؟ إنّه الباري عزّ وجلّ، وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر أمام الجبّار المتعال.

ثمّ يؤكّد الإمام (عليه السلام) على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود أيدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حقّ صعب تطبيقه ومكروه عندكم، خيرٌ من تفرّق وشِقاق ونِفاق مع باطل محبّب ومرغوب في النفوس.

فإذا ما طَهُرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحمّلت تطبيق الحقّ والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس، هو أصلح وأجدى نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل.

والإمام (عليه السلام) يقول في ذلك: (أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً) (2) .

ولا زالت كلمته (عليه السلام) التي قالها في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) تدقّ أسماع

____________________

(1) نهج السعادة، المصدر السابق، ص 30.

(2) نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح - ص 192.

٣٦٥

العالم لتعطي للإنسانية معنى العدل وإحقاق الحقوق: (وظلم الضعيف أفحش الظلم).

ولهذا كان علي (عليه السلام) لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهمّ أمر المجتمع إلاّ وعالجها بحكمته ومواعظه وإرشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وإدارة أمور البلاد في كل أمر، فكان يتابع القضاء كما يتابع الأسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدّد على قضائه ويقول لأحدهم: (انهَ عن الحِكرة، فمن ركب النّهى فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتكر. أقم الحدود في القريب يجنبّها البعيد، ولا تطلّ الدّماء (1) ولا تعطّل الحدود) (2) .

وكذلك حينما كتب يطلب فيه تأديب (علي) ابن هرمة وكان على سوق الأهواز فخان وظلم: (إذا قرأت كتابي فنحّ ابن هرمة عن السّوق، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه، واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله، وأعزلك أخبث عزلةٍ - وأُعيذك بالله منه -. فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السّجن، واضربه خمسة وثلاثون سوطاً وطف به إلى الأسواق فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهد، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً - أي مشتوماً - ... واكتب إليَّ من اخترت بعد الخائن، واقطع عن الخائن رزقه) (3) .

أو كما جاء في كتابه (عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان: (... وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المُحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرّفق في أمورك

____________________

(1) طلَّ الدماء: أبطله وأهدره.

(2) نهج السعادة - المصدر السابق - ص30.

(3) المصدر السابق، ص34.

٣٦٦

والدّين، والعدل في رعيّتك، فإنّك مساءل عن ذلك، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فإنّ الله يجزي المحسنين... وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم؛ فإنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هم محسنون) (1).

فعليٌّ أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في إدارة الشؤون الإدارية والاجتماعية المهمّة في البلاد، حيث أكدّ على مسألة العدل في الرعيّة وأعطاها الأهمية القصوى، وكان كلّ أمره أن لا يقع حيف أو إجحاف وأن يُنتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم أمر الأمّة: (وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم).

وكما قلنا سابقاً أنّ لا شيء يمنع عن إقامة العدل سوى اتباع هوى النفس، وما أكثر ما أكدّ الإمام (عليه السلام) على ذلك وأشار إليه بالابتعاد عنها وإقامة العدل في الأمة بإحقاق الحقّ، وأن لا يخاف ولا يحاذر من أنّه يريد العمل به إذا كان عائداً إلى الله لإعلاء طريق الحقّ وهو طريق الله تعالى، وان الله مع المتّقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له، يخبره أنّ مدينته احتاجت إلى مرمَّة (أي: إصلاح) فقلت له: أنّ بعض عمال (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتب إليه بمثل هذا، فكتب (عليه السلام) إليه:

(أما بعد فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور؛ فإنّه مرمّتها. والسلام) (2) .

____________________

(1) نهج السعادة - المصدر السابق - ص 20.

(2) المصدر السابق ص145.

٣٦٧

إذن، الهدف الأعلى والسامي عند الإمام (عليه السلام) هو تثبيت أركان العدل في البلاد لأنّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك (ومن هنا، وعلى هذا الأساس، اتّجه الإمام عليّ (عليه السلام) إلى المجتمع يُحي قوانينه ويعمل لها ويريدها صالحةً خيّرة، ثمّ يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه، تدعيما لآرائه وتثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه، وراح لا يُعنى بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أَوَ ليس هو القائل لمهنّئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فإذا هو يرفأ نعله بيديه: (إنّ هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه، إن لم أقم حقاً وأزهق باطلاً).

أما العاملون للآخرة فإنّ الإمام يريد منهم أن يتوسّلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل، لذلك جعل الإمام (عليه السلام) خير الآخرة - لمن يريد - منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً، وفي طليعة هذا العمل: المساهمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامّة، ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين، ثمّ إعلان حقوق الإنسان والدفاع عنها، (ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم: يا كميل، ليس الشأن أن تصلي وتتصدّق، وإنّما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي، وانظر فيمَ تصلّي، وعلام تصلّي، فإن لم تكن من وجهه وحلّه فلا قبول!).

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الأرض، قبل الآخرة، وبخبرهم اليومي أنّه كان يغتدى فجر كلّ نهار ويطوف في أسواق الكوفة، وهو خليفة، ويقف على أهل كل سوق وينادي، قائلاً:

(يا معشر التجار! اتّقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعيثوا

٣٦٨

- أو: تعيشوا - في الأرض مفسدين) (1) .

حتى وإن أدّى أمر العدل وإعادة الحق إلى نصابه ومنع الظلم إلى الحرب والموت، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة الحقّ ودحض الباطل، وإنصاف المظلوم وصدّ الظالم، فأساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الأمور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع أنصار الظلم ومهما كلّفت لا بدّ منها، لِما فرضه الله تعالى على الإمام العادل من إقامة الحدود وردّ الإثم والعدوان، فقد ورد في كتاب وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ما يلي: (قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب عليٌّ إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم:

(السلام عليكم، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد.. فإنّ جهاد من صَدَف عن الحقّ رغبةً عنه وهبّ في نعاس العمى والضلال اختياراً له، فريضةٌ على العارفين، إنّ الله يرضى عمّن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطلّوا الحدود، وأماتوا الحقّ، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وَلِيجة من المؤمنين، فإذا ولىّ لله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه، فقد أصرّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين...) (2) .

إنّ كتاب الإمام (عليه السلام) قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي

____________________

(1) علي صوت العدالة الإنسانية - المجلد الأوّل - ص136.

(2) ابن مزاحم - نصر - وقعة صفّين - ص106.

٣٦٩

وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة، وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنّتها نفوس خلقٍ كثير من المجتمع وخالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مُراً سُحقت فيه كلّ القيم الأخلاقية وابتعدت فيه عن كلّ معاني العدالة الاجتماعية، فازداد المرض وتفاقم أمر المجتمع سوءاً من أثر المرض الذي أصبح عضالاً، وربّما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الأمراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1). والسلام

عقيل المملق في كنف علي الخليفة

العدالة عند علي (عليه السلام) تطبّق على القاصي والداني، البعيد والقريب، وقد جسّد موقفه ذلك في كلامه الذي يقول فيه:

(وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاًَ وَ قَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! يَاعَقِيلُ، أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ؟! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلا أَئِنُّ مِنْ

____________________

(1) سورة الأنفال: الآية 53.

٣٧٠

لَظَى). (1)

هذا عقيل أخو الإمام (عليه السلام) وقصّته معروفة، لكنّ المسألة المهمّة هي القوة الإيمانية أو اليقين التام لدى عليّ (عليه السلام) (والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) فلا دنيا بحملها تقف أمامه، ولا بهرجها وزخرفها يخطف بصره.

رحم تجعله يعبث بمقدرات وأموال المسلمين؟!، فللرحم حقّ، ولكنّه إنّما يوصل بالحقّ، فللمسلمين أيضاً حقوقهم، وليس من العدل أن ترعى تلك على حساب هذه، فتسعد نفس بما تشقى بها أخرى!

إنّ في هذا المثل الرفيع أبلغ رسائل اللوم بسياسة الأمس التي أغدقت على أهل بيت الخليفة بذريعة صلة الرحم، دون الالتفات إلى هذا الذي يغدق على (الرحم) من أين هو؟ ولمن هو؟ ودون الالتفات إلى طبقات واسعة من أبناء الأمة تحرم من حقّها وهي به حقيقة لا لذنبٍ، إلاّ أنّها لم تكن من ذوي الرحم، وكأنّ حقّ الحياة مقرون بالرحم وحده.

العدالة والمجتمع

ما دمنا في موضوع العدل والظلم فقد دوّنت الكثير من كلام الإمام (عليه السلام) في هذا الشأن، ورأيت أن أطرح رسالته إلى عثمان بن حنيف، عامله على البصرة، وقد بلغ سمع الإمام (عليه السلام) أنّه دعي إلى وليمة لجماعة من القوم هناك، فمضى إليها، وقد تبدو مسألةً عاديةً للسامع، لكنّ المسألة العظيمة أنّ ابن حنيف على سدّة الحكم والولاية، عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما أعظمها عند علي وما أشدها على سمعه الذي ائتمنه على رعيته.

____________________

(1) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج2 - ص217.

٣٧١

إنّها دروس العدالة والأخلاق والحقّ وكلّ ما علا من المفاهيم الإنسانية والكلمات ذات العمق والمعنى الحضاري، ودرس وعبره لا مثيل له في التاريخ أبداً وهو القائل (عليه السلام) في ذلك (وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ) (1) .

فما أعظمه من كلام، وما أعظمها من موعظة تتلألأ في ظلام حياتنا وتجذب إليها القلوب ولا تزيغ عنها الأبصار، ما أحكمها من لغة وأروعها من بلاغة، وأفضلها من صور حيّة للواقع الذي نعيش في ظلامه، إنّها قطعه صغيرة من ذلك العقد الكبير الذي يهزّ الألباب وتتعلّق به القلوب ويتناغم مع الأنفس.

فوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) منهج عظيم في علم الاجتماع وعظه للجميع وغير محددة في زمان أو مكان لكنها كتبت باسم عثمان بن حنيف وقد ابتدأ كلامه (عليه السلام) بـ: (أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلا وَإِنَّ

____________________

(1) نهج البلاغة - شرح محمد عبده - ج3 - ص70.

٣٧٢

إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ) (1) .

إنّه عتاب عليّ (عليه السلام) لواليه، على تلك الاستجابة السريعة دون التبصّر بحقائق الأمور، إنّها العدالة التي قاتل خصومه بأسسها وقوائمها، العدالة التي جعلت من عليّ (عليه السلام) نبراساً للأمم، ومن مبادئه قطب الرحى التي تدور حوله أفئدة طلاب الحقّ والعدال الإنساني. ثمّ يسأل الإمام (عليه السلام) ابن حنيف هل تحريّت عن أساس الموارد لهذه الموائد في مجتمعٍ الفقير فيهم مردود والغني مدعو يفترش البساط الفاخر؟!

ثمّ يحذّره من أكل الحرام من هذا الطعام الذي لا يعلم طرق كسبه، هل هو حلال أو حرام؟! هل سرق من حقّ الناس الذين لا حول لهم ولا قوّة أم من الطرق المشروعة للكسب الحلال؟!. ثمّ يذكره بولي أمره كيف يحيا حياته، وابن حنيف عارفٌ جيداً، ألم تكن حياة المجتمع وعليّ سواء إن لم يكن اقل منها؟! ألم يكن قد اكتفى بذلك الثوب البالى؟! ألم يكن قد قنع بأقراص خبز الشعير والماء والملح؟!

وقد ذكّر ابن حنيف بهذا الوضع وهذه الصورة التي يعيشها إمامه، أليس هذا هو عليّ وهذه هي سيرته وحياته إلى أن يقول: (أَلا إنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونى بورعٍ واجتهاد، وعفةٍ وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً. بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كلّ ما أظلّته السّماء، فشّحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونِعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غدٍ جدثٌ تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها

____________________

(1) نهج البلاغة - شرح محمّد عبده - ج3، ص70.

٣٧٣

وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التراب المتراكم، إنّها هي نفسي أرُوْضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق) (1) .

إنّ الذي يروم بل يهدف إلى بناء مجتمع إنساني متكامل تسوده العدالة والمحبّة والتفاني لا بدّ له أن يستعرض هذه الكلمات العظيمة للإمام ويأخذ ما تستطيع قدرته على نفسه بتطبيقها، (ثمّ إنّ ورع الولاة وعفتهم يعين الخليفة على إصلاح شؤون الرعية) (2) . ويوصي طالباً معونة ولاته له في تسديد الأمور على أقل التقدير، ويذكّر بالموت والقبر وتلك الظلمة الموحشة في أروع تصوير حي لمواقع تلك المرحلة ما بعد الموت، بعد أن وضّح لهم وكما يعلمون أنّه لم يخزن ذهباً ولا فضة ولا مالاً من غنائمها و(ما كان يهيئ لنفسه طمراً آخر بدل الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتى يبلى ثمّ يعمل الطمر، والثوب هنا عبارة عن الطمرين فإنّ مجموع الرداء والإزار يعد ثوباً واحداً فيها يكسو البدن لا بأحدهما) (3) .

مفسدة الهدية

إذا كان التهادي بين الناس محبّذ، فهو لأولي الأمر رشوة لا غير...

فقد استعمل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجلاً من الأزد، يقال له ابن اللُبيّة، على الصدقة، فلمّ قدم، قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي. قال: (فهلاّ جلس في بيت أبيه أو بيت

____________________

(1) نفس المصدر السابق ص70.

(2) نفس المصدر السابق ص70.

(3) نفس المصدر السابق ص71.

٣٧٤

أمّه، فينظر يهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إنْ كان بعيراً له رغا، أو بقرة لها خوار أو شاةً تيعر)، ثمّ رفع بيده رأينا عفرة إبطيه: (اللّهمّ هل بلّغت، اللّهمّ هل بلّغت؟! ثلاثاً). (1)

وفي مسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) نلتمس مصاديق هذه الرسالة العظمى؛ لقد جاءه الأشعث بن قيس - وهو كبير قومه بملفوفة (وهي نوع من الحلوى) فتعجب الإمام (عليه السلام) من أمرها فقال له بمنتهى الصراحة والوعظ: (أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟!، أمختبط أنت، أم ذو جنّة أم تهجر؟!).

ذاك أخوه عقيل وهذا الآخر من رعاياه، الأول طلب مالاً ليعينه به على عياله وأسرته المُملقة، والثاني شخصية اجتماعية ورئيس قوم متمكّن مادياً وله صوت مسموع بين أهله جاء ليرشيه، ذكّر الأول بنار الله التي سجّرها للظلمة والمنحرفين، وردّ الآخر على أعقابه بأقسى الكلام وأعظم المواعظ ليبقى يتذكّرها طيلة حياته، حيث رجع خائباً وباعتقاد تامّ من أنّه لا يستطيع أن يأخذ من إيمان عليّ (عليه السلام) أقل شيء ليس بحلوى مصنوعة بل بدنيا عامرة أهلها.

وهنا لا بد من التذكير بأنّ الأشعث بن قيس هذا هو الذي قاد الفتنة بأولئك النفر الذي فتنوا بخديعة معاوية يوم صفين برفع المصاحف، وجاء بهم فأحاطوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) متوعّداً إنّ لم تكف الحرب وترضى بتحكيم المصاحف لنسلمنّك إلى معاوية!!

تلك الهدية التي أعجبت صانعها غاية الإعجاب حتى التمس بها تقرباً إلى أميره قد صيّرتها طبيعتها - كرشوة - في عين علي (معجونة شنئتها كأنّما عجنت

____________________

(1) صحيح البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى البغا - ج2 ص917 حديث 2457 - كتاب الهبة - باب 16.

٣٧٥

بريق حية أو قيئها).

إذن قضية العدالة وارتباط مصير المجتمعات بها تعطي الدافع الكبير لتربية الأفراد من خلال نهج عليّ (عليه السلام) الواضح الجلّي الذي هو نهج الإسلام بعينه، والذي أعطى للإنسانية الصورة المثلى للعمل الصالح، بل كيف يربِّي الرجل أسرته وأهل بيته، وإذا كان قائداً أو إماما أو حاكماً كيف يربّي أمته ويوجّهها نحو الإصلاح؟! فقد روى أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) انّه: (كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضّال، ويعين الضعيف، ويمرّ بالتجار فيفتح القرآن ويقرأ: ( ِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) ، ثمّ يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس) (1) .

كان علي (عليه السلام) هكذا في حياته ونهجه، فهو الصورة الناصعة لرجل الإسلام الأول، فقد كان القائد والخليفة الذي آثر الناس على نفسه ولم تزلزل أقدامه أكداس التبر ورونق السلطان، طبّق الحقّ والعدالة على نفسه أولاً ثمّ سار إلى مجتمعه واعظاً وناصحاً ومُدلاًّ على طريق الحقّ لكسب رضا الله الذي هو فوق كلّ شيء.

فلا خلاف - إذن - في أنّ التربية تبدأ بالنفس الأولى وهو القائد المعني لما تعكسه تلك الصورة من آثار إيجابية عظيمة على نفوس المجتمع أجمع، وبناء الأخلاق لدى الأفراد تنمّي قيم العدالة لديهم ليكون سريان ذلك جارٍ على الأسرة ثمّ المجتمع الأوسع وبالتالي تصبح الطهارة عامّة فلا نجس ولا خبث، فالمجتمع السليم تُصان مفاهيمه بفعل حجم وسعة القيم الأخلاقية المطبّقة على

____________________

(1) علي إمام المتّقين، ج2 ص238.

٣٧٦

سلوك الناس ومفاهيمهم، وما يبرز من خلقٍ سيء أو ظلم فاحش سيرفضه المجتمع ويدحضه، بل سيقف بكلّ وعي وصلابة بوجه كلّ انحراف، وبالتالي لا مجال للدسّ والعبث وصانعي الخلل الاجتماعي، لأنّ الحقّ وسيرة الناس العادلة لا تسمح بذلك الانحراف.

(ولو قسّمنا العدالة إلى قسمين: العدالة الخلقية، والعدالة الاجتماعية. فلا ريب أنّ العدالة الخلقية أساس العدالة الاجتماعية، إذ لو لم يتصف الأفراد فكيف يمكن للمجتمع أن يتصف بها؟ أليس المجتمع مجموعة من الأفراد؟ وعليه فانتظار العدالة الاجتماعية مع عدم تنمية الإيمان والأخلاق والتقوى وخشية الله في الأفراد، وهمٌ من الأوهام، ومن هنا تنشأ مشاكل المجتمعات البشرية المتمثّلة في تسليط الجبّارين، والتمييز وانعدام العدالة، فلا بدّ - أولاً - من بناء الإنسان وتربية أفراد عدول، ثمّ تسليمهم زمام أمور المجتمع بأيديهم، وبذلك يمكن أن نأمل تحكيم العدل واستقرار العدالة الاجتماعية، وهو بالضبط ما عكسه كلام الإمام عليّ (عليه السلام)، فقد قال بشأن الظلم وانعدام العدالة الذي هو من أعظم الكوارث الاجتماعية: (بئس الزّاد إلى المعاد العدوان على العباد). (1)

فالإمام (عليه السلام) يحذّر كلّ التحذير هنا من تلك الميول الشيطانية لأنّ هدفه (عليه السلام) حفظ المجتمع في هذه الدنيا من الظلم والجور، وبعد فالإمام (عليه السلام) بحكم المسؤولية الإلهية وإمامة الأمة تحتم عليه مسؤوليته إمام الله إبراز وإظهار الطرق السليمة والمستقيمة للمسلمين؛ لئلا يسقطوا في حبائل الشيطان وبالتالي خسرانهم في الدنيا والآخرة.

____________________

(1) رهبر - محمّد تقي - دروس أساسية من نهج البلاغة - ص 186.

٣٧٧

٣٧٨

خاتمة الكلام

لقد حاولت في هذا البحث أن أُظهر فكر الإمام عليّ (عليه السلام) الاجتماعي من خلال كلّ ما جاء عنه (عليه السلام) وإبراز ذلك مع إسناده بالحقائق التاريخية، والصور الاجتماعية الواقعية التي نعايشها الآن، ثمّ الاعتماد على الركائز الأساسية في بياناته (عليه السلام) التي فصلّها في أماكن متعدّدة كحقائق بارزة ومهمّة، والتي تعتبر أسس البناء الفكري للمجتمع الإسلامي وهي الأخلاق الإسلامية والعدالة الاجتماعية، وهذا بطبيعة الحال لا يأتي أو لا يقوم إلاّ من خلال العقيدة التي تقوم ببناء الذات الإنسانية وتقويمها بالفكر الإسلامي الحقيقي، وأسندنا ذلك بالآيات القرآنية الشريفة بالإضافة الى السيرة النبوية الطاهرة، وربطنا كل ذلك بحديثنا عن فكر الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي.

فإذن لا مناص من أن نتّخذ هذا الفكر الناضج والواضح كأساس لبناء النظرية الاجتماعية الإسلامية، لأنّه جمع القرآن الكريم والسنة الشريفة، وتفكيره الحي، والتجربة المريرة التي مرّ بها في منهج واحد متكامل الجوانب.

إنّ الذي يريد أن يبني نظرية اجتماعية إسلامية متكاملة لا بدّ له من مراعاة هذا الجانب الحيوي.

والحقيقة التي لا تجافى أنّ مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من الفراغ الواسع في المعرفة التامّة بالفكر الاجتماعي الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بعقيدتنا الإسلامية،

٣٧٩

وحتى لم يكن لدينا لحد الآن صورة واحدة واضحة الجوانب عن أهمية علم الاجتماع ونظرياته وماهيته، والجوانب التي يهتمّ بها، بل لا زلنا بحاجة إلى تبنّي فلسفة تاريخية لتفسير التاريخ وفق المنظور الإسلامي بصورة ناضجة وكاملة لارتباط ذلك بالمسيرة الاجتماعية ارتباطً كاملاً، ومن خلال مناهج تاريخية للتربية وبناء الأفكار لدى الطليعة الشبابية وفي جميع المراحل الدراسية طبقاً للتفسير الإسلامي، وبناء الأمة على ذلك وهذا ليس بالشيء المستحيل أمام مفكّرينا العظام الذين اغنوا كل المجالات الحياتية لمجتمعاتنا بتلك الأفكار والاستقراءات والاستنتاجات التي نستطيع أن نقول بشأنها وبكل فخر أنّها الصالحة لبناء المجتمعات الإنسانية، ما عدا الجوانب التي أهملت ومع كلّ الأسف!

حيث لم تعط الاهتمام اللازم في الحوزات الدينية أو طلاّبها واعتمدوا على بعض المساهمات الناقصة في بعض الأحيان في حين أنّ التخطيط للإنسانية أو المجتمعات البشرية يأتي من خلال علم الاجتماع؛ حيث اهتمّت الدول المتقدمة المستقبلية التي يستهدي بها قوّام الكيانات السياسية في قيادة مجتمعاتهم وبنائها البناء السليم، وهذا ما لا نجده إلاّ في الإسلام العظيم الذي يقوم على القرآن الكريم الذي حفظه الله من كل تحريف أو تزوير، والتراث الفكري الخالد الذي هو قانون يصلح لكل زمان ومكان، وفسحه اجتهادية تعالج كلّ المشاكل المستجدّة التي يواجهها العالم المعاصر التي لم يأت بها نصّ القرآني أو سنّة نبوية، كلّ ذلك يحفّزنا إلى عرض المنهج الإسلامي لمعالجة مشاكل المجتمعات الإنسانية واتّخاذه السبيل الذي يحفظ الإنسانية وحقوقها دون أن تصل إليها أيادي الشرّ والبغي للعبث بها.

٣٨٠