مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 114830
تحميل: 3620

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114830 / تحميل: 3620
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وبين جموع الناس الذين انفضّوا بسرعة عن مسلمعليه‌السلام إلّا فرق واحد وهو الفارق الزمني في الإنفضاض عنه ليس إلّا! بل تُشعر هذه الطريقة بأنّ هؤلاء القلّة أسوأ بكثير من أولئك الذين انفضّوا عنه بسرعة، وذلك لأنّ هؤلاء تفرّقوا في الختام عنه وهو أحوج ما يكون إليهم، كما تفرّقوا عنه خفية في غفلة منه! هذا ما يُشعر به التعبير «فالتفت فإذا هو لايحسُّ أحداً ...».

وهذا مالايقبل به اللبيب المتدبّر، كما أنه لايوافق طبيعة الأشياء وواقعها، إذ لنا أن نتساءل: ما الذي أبقى هؤلاء إلى الأخير مع مسلمعليه‌السلام !؟ أهو الطمع؟ وبماذا يطمع هؤلاء مع قائد قد انفضّ عنه أنصاره وبقي وحيداً غريباً لايدري أين يذهب وإلى أين يأوي!؟

أم هو الخوف من عار الإنصراف عنه بعد مبايعته، لاشجاعة منهم ولاثباتاً!؟

أفلا يعني هذا- في مثل هذا الحدّ الأدنى- أنّ هؤلاء ممن يرعى القيم والأخلاق، ويتجافى عن كلّ ما يعود عليه بالذّم!؟ وهل يُحتمل من مثل هؤلاء مع مثل هذا الحفاظ والأخلاقيّة أن يتفرّقوا في بلدهم خفية وفي لحظة غفلة من صاحبهم الوحيد الغريب في أرضهم!؟

أم أنّ الذي أبقى هؤلاء القلّة مع مسلمعليه‌السلام إلى آخر الأمر هو الشجاعة والإيمان والثبات على البيعة؟ وأنّهم كانوا من صفوة المجاهدين في حركة الثّوار تحت راية مسلمعليه‌السلام ، ومن صناديد أهل الكوفة؟

وهذا هو الحقّ! إذ لايشكُّ ذو دراية وتأمّل أنّ قادة الألوية الأربعة: مسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه وأبا ثمامة الصائديرضي‌الله‌عنه وعبداللّه بن عزيز الكندي (ره) وعباس بن جعدة الجدلي (ره)، وأمثالهم من مثل عبداللّه بن حازم البكري (ره) ونظرائه كانوا من القلّة التي بقيت مع مسلمعليه‌السلام إلى آخر الأمر، ذلك لأنّ من

١٤١

الممتنع على اخلاقية أمثال ابن عوسجةرضي‌الله‌عنه والصائديرضي‌الله‌عنه وإخوانهم أن يتخلّوا عن مسلمعليه‌السلام خصوصاً في ساعة العسرة!

إنّ هؤلاء الصفوة من المجاهدين كانوا ممن اشتهر بالإيمان والإخلاص والشجاعة والثبات، وقد وفّقوا للشهادة في سبيل اللّه، فهذا مسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه ، وهذا أبو ثمامة الصائديرضي‌الله‌عنه قد وفّقا للفوز بالشهادة بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، وهذا العبّاس بن جعدة الجدلي (ره) قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه- أو عبيداللّه بن عمرو بن عزيز الكندي (ره)- قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه بن حازم البكري (ره) المنادي بكلمة السرّ:

يامنصور أمت! ممّن شارك بثورة التوابين وقُتل فيها مما يوحي أنه اختفى أو سجن في أعقاب أحداث الكوفة أيام مسلمعليه‌السلام ، وقِسْ على ذلك نظراءهم من صفوة المجاهدين في حركة الثوّار تحت راية مسلم بن عقيلعليه‌السلام .

أفهل يُعقلُ أن يتخلّى أمثال هؤلاء عن مسلمعليه‌السلام ساعة العسرة ويتفرّقوا عنه في لحظة غفلة منه ويتركوه في الطريق وحيداً غريباً!؟

لاشكّ أنّ التأريخ حينما نقل لنا حادثة تفرّقهم عن مسلمعليه‌السلام كان قد نقلها بظاهرها فقط، أي بطريقة «صورة بلاصوت» كما يعبّر عنها في أيّامنا هذه! وذلك لأنه لم يكن بمقدور التأريخ وهو يشاهد حركة الحدث من بُعد أن ينقل إلينا ما دار من حوار بين مسلمعليه‌السلام ومن بقي معه إلى آخر الأمر!

إنّ التأريخ لايسجّل الهمس والسرار! وإنّ ما يطمئنّ إليه المتتبع والمتأمّل هو أن مسلماًعليه‌السلام اتّفق مع هذه الصفوة على التفرّق فرادى والإختفاء تربّصاً بسنوح الفرصة للإلتحاق بركب الإمام الحسينعليه‌السلام القادم إلى العراق لمواصلة الجهاد بين يديه، فلم يكن تفرّقهم عن مسلمعليه‌السلام إلّا بأمره وإذنه وعن امتثال لأمره! هذا ما

١٤٢

يفرضه التصوّر السليم والتحليل الصحيح على أساس منطق الواقع وطبيعة الأشياء.

القائد المجاهد في ضيافة المرأة الصالحة طوعة

لنعد إلى مواصلة معرفة ما جرى على القائد المفرد الغريب في قلب الكوفة ...

قال الطبري: «طوعة أمُّ ولد كانت للأشعث بن قيس فاعتقها، فتزوّجها أُسيد الحضرمي، فولدت له بلالًا،(١) وكان بلالٌ قد خرج مع النّاس، وأمّه قائمة تنتظره، فسلّم عليها ابن عقيل فردّت عليه.

فقال لها: يا أمةَ اللّه، إسقيني ماءً!

فدخلت، فسقته، فجلس، وأدخلت الإناء ثمّ خرجت.

فقالت: يا عبداللّه، ألم تشرب!؟

قال: بلى.

قالت: فاذهب إلى أهلك.

فسكت! ثم عادت فقالت مثل ذلك، فسكت!

ثمّ قالت له: فىء للّه! سبحان اللّه! يا عبداللّه، فمُرَّ إلى أهلك عافاك اللّه، فإنّه لايصلح لك الجلوس على بابي ولا أُحلّه لك!

____________________

(١) وقال ابن أعثم الكوفي: «كانت فيما مضى أمرأة قيس الكندي، فتزوّجها رجل من حضرموت يُقال له أسد بن البطين، فأولدها ولداً يُقال له أسد» (الفتوح، ٥: ٨٨).

وقال الدينوري: «وكانت ممّن خفَّ مع مسلم» (الأخبار الطوال: ٢٣٩).

و «قيل إنّها كانت مولاة للهاشميين تخدمهم أيّام كانوا في الكوفة خلال خلافة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام» (مبعوث الحسينعليه‌السلام : ١٩٨).

١٤٣

فقام فقال: يا أمة اللّه، مالي في هذا المصر منزل ولاعشيرة، فهل لك إلى أجرٍ ومعروف؟ ولعليّ مكافئك به بعد اليوم!

فقالت: يا عبداللّه، وماذاك؟

قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغرّوني!

قالت: أنت مسلم؟

قال: نعم.

قالت: أُدخل.

فأدخلته بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشَّ.

ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه فقال: واللّه إنه ليريبني كثرةُ دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه! إنّ لك لشأناً!

قالت: يا بُنيَّ الْهُ عن هذا.

قال لها: واللّه لتخبرنّي!

قالت: أقْبِلْ على شأنك ولاتسألني عن شيء.

فألحَّ عليها، فقالت: يا بُنيّ لاتُحدّثنَّ أحداً من النّاس بما أُخبرك به!

وأخذت عليه الأَيْمانَ فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت! وزعموا أنّه قد كان شريداً(١) من الناس، وقال بعضهم كان يشرب مع أصحاب له ...».(٢)

____________________

(١) الشريد: المفرد (لسان العرب، ٣: ٢٣٧) ولعلّ المراد بها الإنطوائي الذي يكره معاشرة الناس، أو الذي يكره الناس معاشرته.

(٢) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٨؛ وفي الفتوح، ٥: ٨٩: «فلم يكن بأسرع من أن جاء ابنها، فلما أتى وجد =

١٤٤

ابن زياد والمفاجأه السارّة عند المساء ...!

قال الشيخ المفيد (ره): «ولما تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل طال على ابن زياد، وجعل لايسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمع قبل ذلك، قال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً؟

فأشرفوا فلم يروا أحداً!

قال: فانظروهم، لعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم!

فنزعوا تخائج المسجد، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون فكانت أحياناً تُضيء لهم، وأحياناً لاتُضيء كما يريدون، فدلّوا القناديل، وأطناب القصب تُشدُّ بالحبال فيها النيران، ثمّ تُدلّى حتى تنتهي إلى الأرض، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها، حتّى فُعل ذلك بالظلّة التي فيها المنبر، فلما لم يروا شيئاً أعلموا ابن زياد بتفرّق القوم.(١)

____________________

= أمَّه تكثر دخولها وخروجها إلى بيت هناك وهي باكية! فقال لها: يا أمّاه، إنّ أمرك يريبني لدخولك هذا البيت وخروجك منه باكية! فما قصّتُك؟ فقالت: يا ولداه، إنّي مخبرتك بشيء لاتُفشِه لاحد.

فقال لها: قولي ما أحببتِ.

فقالت له: يا بُنيّ، إنّ مسلم بن عقيل في ذلك البيت، وقد كان من قصّته كذا وكذا.. فسكت الغلام ولم يقل شيئاً، ثم أخذ مضجعه ونام».

(١) وفي الأخبار الطوال: ٢٣٩: «ثمّ إنّ ابن زياد لما فقد الأصوات ظنّ أنّ القوم دخلوا المسجد، فقال: انظروا، هل ترون في المسجد أحداً؟ - وكان المسجد مع القصر - فنظروا فلم يروا أحداً، وجعلوا يشعلون اطناب القصب، ثمّ يقذفون بها في رحبة المسجد ليضيء لهم، فتبيّنوا فلم يروا أحداً، فقال ابن زياد: «إنّ القوم قد خُذِلوا، وأسلموا مسلماً، وانصرفوا!».

١٤٥

ففتح باب السدّة التي في المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمّة من رجل من الشُرط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد.

فلم يكن إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديه فأقام الصلاة، وأقام الحرس خلفه(١) وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله! وصلّى بالنّاس، ثمّ صعد المنبر: فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال:

أمّا بعدُ: فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق! فبرئت ذمّة اللّه من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، إتقوا اللّه عباد اللّه، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولاتجعلوا على أنفسكم سبيلًا. يا حصين بن نمير(٢) ثكلتك أمّك إنّ ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبح غداً فاستبرء الدور وَجِسْ خلالها، حتّى تأتيني بهذا الرجل- وكان الحصين بن نمير على شرطته وهو من بني تميم- ثم دخل ابن زياد القصر، وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمّره على الناس ..».(٣)

وفي رواية الفتوح: «ثمّ نزل عن المنبر، ودعا الحصين بن نمير السكّوني فقال:

ثكلتك أمّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة لم تُطبق على أهلها أو يأتوك بمسلم

____________________

(١) في تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٨ «فقال الحصين بن تميم: إنّ شئتَ صلّيت بالناس أو يُصلّي بهم غيرك، ودخلت أنت فصلّيتَ في القصر فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فقال: مُرْ حَرَسي فيقوموا ورائي كما كانوا يقفون، ودُرْ فيهم، فإني لست بداخل إذن..».

(٢) في تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٩ «يا حصين بن تميم».

(٣) الإرشاد: ١٩٥.

١٤٦

ابن عقيل! فواللّه لئن خرج من الكوفة سالماً لنريقنّ أنفسنا في طلبه! فانطلق الآن فقد سلّطتك على دور الكوفة وسككها، فانصب المراصد وجُدَّ الطلب حتّى تأتيني بهذا الرجل.».(١)

وفي ذلك الصباح الأسود!

ويواصل الشيخ المفيد (ره) سرد بقية القصة قائلًا: «فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمّد بن الأشعث، فقال: مرحباً بمن لايُستغشّ ولايُتَّهم! ثمّ أقعده الى جنبه.

وأصبح ابن تلك العجوز، فغدا إلى عبدالرحمن بن محمّد بن الأشعث، فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أمّه! فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه، فعرف ابن زياد سراره، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه: قم فأتني به الساعة. فقام، وبعث معه قومه، لأنّه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يُصاب فيهم مسلم بن عقيل، وبعث معه عبيداللّه بن عبّاس السلمي في سبعين رجلًا من قيس، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل.».(٢)

وفي رواية الفتوح: «.. واقبل ابن تلك المرأة التي مسلم بن عقيل في دارها إلى عبدالرحمن بن محمّد بن الأشعث فخبّره بمكان مسلم بن عقيل عند أمّه، فقال له عبدالرحمن: أُسكت الآن ولاتُعلم بهذا أحداً من النّاس!(٣) قال: ثمّ أقبل عبدالرحمن بن محمّد إلى أبيه فسارّه في أذنه وقال: إنّ مسلماً في دار طوعة! ثمّ تنحّى عنه.

فقال عبيداللّه بن زياد: ما الذي قال لك عبدالرحمن؟

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٩٠.

(٢) الإرشاد: ١٩٦.

(٣) لاشك أنّ عبدالرحمن أمره بكتمان ذلك طمعاً في أن تكون الجائزة له ولأبيه!

١٤٧

فقال: أصلح اللّه الأمير، البشارة العظمى!

فقال: وماذاك؟ ومثلك من بشّر بخير!

فقال: إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة، عند مولاة لنا.

قال: فَسُرَّ بذلك، ثمّ قال: قُم فأت به، ولك ما بذلتُ من الجائزة والحظّ الأوفى!

قال: ثمّ أمر عبيداللّه بن زياد خليفته عمرو بن حريث المخزومي أن يبعث مع محمّد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه!

قال: فركب محمد بن الأشعث حتى وافى الدار التي فيها مسلم بن عقيل ..».(١)

وفي رواية الدينوري أنّ عبيداللّه بن زياد أمر ابن حُريث أن يبعث معه مائة رجل من قريش، وكره أن يبعث إليه غير قريش خوفاً من العصبية أن تقع!(٢)

وفي رواية الطبري أنه أمره أن يبعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلّهم من قيس، وإنما كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يُصادف فيهم مثل ابن عقيل!(٣)

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٩١ - ٩٢.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٤٠.

(٣) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٩؛ إنّ قريشاً أو قيساً هم عرب الشمال وهم في الأغلب الأعمّ يبغضون عليّاًعليه‌السلام لأنه قاتلهم على الإسلام والإيمان وقتل صناديدهم (راجع: تفصيل هذه القضية في مقدمة الجزء الثاني من هذه الدراسة)، أمّا عرب الجنوب وأكثر قبائل الكوفة منها فإنهم في الأغلب الأعمّ من محبّي عليّعليه‌السلام خاصة وأهل البيت عامة، وقد كانوا مع عليّعليه‌السلام في حروبه.

١٤٨

المعركة الأخيرة حرب الشوارع!

كان سيّدنا مسلم بن عقيلعليه‌السلام قد أبى أن يأكل شيئاً في ليلته الأخيرة، وحرص على أن يُحييها بالعبادة والذكر والتلاوة فلم يزل قائماً وراكعاً وساجداً يصلّي ويدعو ربّه إلى أن انفجر عمود الصبح، لكنّه لشدّة الإعياء من أثر القتال في النهار كان قد أخذته سِنُةٌ من النوم، فرأى في عالم الرؤيا عمّه أميرالمؤمنين عليّاًعليه‌السلام ، وبشّره بسرعة التحاقه بمن مضى منهمعليهم‌السلام في أعلى عليين.

ففي كتاب نفس المهموم عن كتاب المنتخب للطريحي أنه: «لما أن طلع الفجر جاءت طوعة إلى مسلم بماءٍ ليتوضّأ.

قالت: يا مولاي، ما رأيتك رقدت في هذه الليلة!؟

فقال لها: إعلمي أنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أميرالمؤمنينعليه‌السلام وهو يقول: الوحاء الوحاء، العجل العجل! وما أظنّ إلّا أنه آخر أيّامي من الدنيا!».(١)

يقول الطبري: «فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنّه قد أُتي، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار! ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبُكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بُكير فمَ مسلم فقطع شفته العُليا واشرع السيف في السفلى ونصلت له ثنّيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه مُنكرة وثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه!، فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة ويُلهبون النار في أطناب القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت!، فلما رأى ذلك خرج عليهم مُصلتاً بسيفه في السكّة فقاتلهم!

____________________

(١) نفس المهموم: ٩٩؛ عن المنتخب للطريحي: ٤٦٢، المجلس التاسع من الجزء الثاني.

١٤٩

فأقبل عليه محمّد بن الأشعث فقال: يا فتى! لك الأمان، لاتقتل نفسك!(١) فأقبل يقاتلهم وهو يقول:

أقسمتُ لا أُقتلُ إلّا حُرّا

وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا

كُلُّ امريء يوماً مُلاقٍ شرّا

ويُخلط البارد سُخناً مُرّا

رُدَّ شعاع الشمس فاستقّرا

أخافُ أنْ أُكذَبَ أو أُغَرّا(٢)

فقال له محمّد بن الأشعث: إنّك لاتُكذَب ولاتُخدَع ولاتُغرّ! إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولاضاربيك!

وقد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، وانبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فدنا محمّد بن الأشعث فقال: لك الأمان!

فقال: آمنٌ أنا؟

قال: نعم! وقال القوم: أنت آمن!

غير عمرو بن عبيداللّه بن العبّاس السلمي فإنه قال: لاناقة لي في هذا ولاجمل وتنحّى.

____________________

(١) كان صاحب اقتراح الأمان هو ابن زياد نفسه - كما سوف يأتي - فقد كان يعلم أنّ جنده لايقدرون على مسلمعليه‌السلام إلاّ بأمان! ولذا كان ابن زياد قد أوصى ابن الأشعث قائلاً: «أعطه الإمان، فإنّك لن تقدر عليه إلاّ بالأمان!» (الفتوح، ٥: ٩٤).

(٢) في هذه الأبيات الثلاثة - وهي من بحر الرجز - من البلاغة العالية والصدق والحرارة ما يجعل النفوس إلى اليوم تتأثر تأثراً شديداً بها! فهوعليه‌السلام يقول: إنّه قد صمّم على الإحتفاظ بحريّته ولو أدّى هذا إلى قتله - والموت لاتشتهيه النفوس عامة وتنفر منه - والإنسان كما يرى ما يسرّه يلاقي أيضاً ما يسوءه، هكذا تتقلب الدنيا بأحوالها وأهلها، فالبارد الحلو لابُدّ ان يُخلط بساخن مُرٍّ، وشعاع الشمس الدافق بالحياة والنشاط لابدّ أن يرتدّ في النهاية ويستقرّ إذا حجب الشمس حجابٌ! وكذا الإنسان لابدّ بعد موت أو قتل أن يهداء ويستقرّ بعد حيوية وتدفّق ونشاط.

١٥٠

وقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعتُ يدي في أيديكم! وأُتي ببغلة فحُمل عليها، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه من عنقه! فكأنّه عند ذلك آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أوّل الغدر!

قال محمّد بن الأشعث: أرجو ألّا يكون عليك بأس!

قال: ما هو إلّا الرجاء!؟ أين أمانكم!؟ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون! وبكى، فقال له عمرو بن عبيداللّه بن عبّاس: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك!

قال: إني واللّه ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليَّ! أبكي لحسين وآل حسين!

ثُمَّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال: يا عبداللّه، إنّي أراك واللّه ستعجز عن أماني! فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا على لساني يُبلغ حسيناً، فإنّي لا اراه إلّا قد خرج إليكم اليوم مقبلًا أو هو خرج غداً، هو وأهل بيته، وإنَّ ما ترى من جزعي لذلك! فيقول إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير! لايرى أن تمشي حتّى تُقتل! وهو يقول إرجع بأهل بيتك ولايغرّك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل! إنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لمكذوب رأي.

فقال ابن الأشعث: واللّه لأفعلنَّ، ولأُعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك!(١)

____________________

(١) وروى الطبري قائلاً: «دعا محمّد بن الأشعث إياس بن العثل الطائي من بني مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعراً وكان لمحمّد زوّاراً، فقال له: إلقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب. وكتب فيه الذي أمره ابن عقيل، وقال له: هذا زادك وجهازك ومتعة لعيالك. فقال: من أين لي براحلة فإنّ راحلتي قد أنفضيتها؟ قال: هذه راحلة فاركبها برحلها. ثمّ خرج فاستقبله بزبُالة لأربع ليالٍ، فأخبره الخبر =

١٥١

... وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر فاستأذن فأُذِن له، فأخبر عبيداللّه خبر ابن عقيل وضرب بُكير إياه، فقال: بُعداً له! فأخبره محمّد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إيّاه، فقال عبيداللّه: ما أنت والأمان!؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه!؟ إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكت!

وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناسٌ جلوس يتنظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حُريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب فإذا قُلّة باردة موضوعة على الباب.

فقال ابن عقيل: أسقوني من هذا الماء.

فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها! لا واللّه لاتذوق منها قطرة أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنم!

قال له ابن عقيل: ويحك! من أنت؟

قال: أنا ابن من عرف الحقَّ إذ أنكرتَه! ونصح لإمامه إذ غششته! وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت! أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال ابن عقيل: لإمّك الثُكل، ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك!؟

أنت يا ابن باهلة أولى بالجحيم والخلود في نار جهنّم مني. ثم جلس متسانداً إلى حائط ...

وروى الطبري أيضاً: أنّ عمرو بن حُريث بعث غلاماً له يُدعى سليمان فجاءَه بماءٍ في قُلّة فسقاه ...

____________________

= وبلّغه الرسالة، فقال له حسين: كلُّ ما حُمَّ نازل، وعند اللّه نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا!»، (تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٠).

١٥٢

وروى أيضاً: أن عُمارة بن عقبة بعث غُلاماً له يُدعى قيساً فجاءه بقُلَّة عليها منديل، ومعه قدح، فصبّ فيه ماءً ثمّ سقاه، فأخذ كُلّما شرب امتلأ القدح دماً! فلما ملأ القدح المرّة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيّتاه فيه! فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم شربته!».(١)

ورواية أخرى أشدُّ صدقاً وحرارة ..!

روى ابن أعثم الكوفي: «قال: وسمع مسلم بن عقيل وقع حوافر الخيل وزعقات الرجال فعلم أنّه قد أُتي في طلبه، فبادررحمه‌الله الى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه، وأعتجر بعمامة، وتقلّد بسيفه، والقوم يرمون الدار الحجارة، ويهلبون النّار في نواحي القصب.

قال: فتبسّم مسلمرحمه‌الله ! ثم قال: يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص ولاعنه محيد! ثم قال للمرأة: أي رحمك اللّه وجزاك عنّي خيراً، إعلمي أنّما أُوتيت من قبل ابنك! ولكن افتحي الباب.

قال: ففتحت الباب، وخرج مسلم في وجوه القوم كأنّه أسدٌ مُغضَب!، فجعل يضاربهم بسيفه حتّى قتل منهم جماعة!(٢)

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٩ - ٢٩٠؛ وانظر: الإرشاد: ١٩٧؛ وانظر: مقاتل الطالبيين: ٦٩ - ٧٠.

(٢) نقل المجلسي (ره) عن بعض كتب المناقب أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام كان مثل الأسد، وكان من قوّته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت! (راجع: البحار: ٤٤: ٣٥٤).

وقال ابن شهرآشوب: أنفذ عبيداللّه عمرو بن حريث المخزومي ومحمّد بن الأشعث في سبعين رجلاً حتى أطافوا بالدار، فحمل مسلم عليهم وهو يقول:

هو الموت فاصنع وَيْكَ ما أنت صانعُ

فأنت لكأس الموت لاشكّ جارعُ

فصبرٌ لامر اللّه جلّ جلاله

فحكم قضاء اللّه في الخلق ذائعُ

=

١٥٣

وبلغ ذلك عبيداللّه بن زياد، فأرسل الى محمّد بن الأشعث وقال: سبحان اللّه يا عبداللّه! بعثناك الى رجل واحد تأتينا به فأثلم (بأصحابك هذه الثلمة العظيمة! فكتب) إليه محمد بن الأشعث: أيّها الأمير! أما تعلم أنّك بعثتني إلى أسدٍ ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام من آل خير الأنام!؟

قال: فأرسل إليه عبيداللّه بن زياد: أن أعطه الأمان، فإنك لن تقدر عليه إلّا بالأمان.(١)

فجعل محمّد بن الأشعث يقول: ويحك يا ابن عقيل! لاتقتل نفسك، لك الأمان! ومسلم بن عقيل يقول: لاحاجة إلى أمان الغَدَرَة! ثمّ جعل يقاتلهم وهو يقول:

أقسمت لا أُقتَلُ إلّا حُرّا

ولو وجدت الموت كأساً مُرّا

أكره أنْ أُخدعَ أو أُغَرّا

كلّ امريء يوماً يُلاقي شرّا

أضربكم ولا أخاف ضُرّا

قال: فناداه محمّد بن الأشعث وقال: ويحك يا ابن عقيل! إنّك لاتُكذب ولاتُغَرّ! القوم ليسوا بقاتليك فلاتقتل نفسك!

____________________

= فقتل منهم واحداً وأربعين رجلاً!

(١) ونقل المجلسي (ره) عن كتاب محمد بن أبي طالب أنّه: «لما قتل مسلم منهم جماعة كثيرة وبلغ ذلك ابن زياد، أرسل الى محمّد بن الأشعث يقول: بعثناك الى رجل واحد لتأتينا به، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة! فكيف إذا أرسلناك إلى غيره!؟ فأرسل ابن الأشعث: أيها الأمير أتظنّ أنّك بعثتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقانيّ من جرامقة الحيرة!؟ أو لم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسدٍ ضرغام، وسيف حسام... فأرسل إليه ابن زياد أن اعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلاّ به!»، (البحار، ٤٤: ٣٥٤).

١٥٤

قال: فلم يلتفت مسلم بن عقيلرحمه‌الله إلى كلام ابن الأشعث، وجعل يقاتل حتّى أُثخن بالجراح وضعف عن القتال، وتكاثروا عليه فجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة!

فقال مسلم: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفّار!؟ وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار! ويلكم، أما ترعون حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وذرّيته!؟

قال: ثُمَّ حمل عليهم على ضعفه فكسرهم! وفرّقهم في الدروب! ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دار هناك، فرجع القوم إليه، فصاح بهم محمّد بن الأشعث:

ذروه حتّى أكلّمه بما يُريد.

قال: ثمّ دنا منه ابن الأشعث حتّى وقف قبالته وقال: ويلك يا ابن عقيل! لاتقتل نفسك، أنت آمن ودمك في عنقي!

فقال له مسلم: أتظنّ يا ابن الأشعث أنّي أُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال!؟ لا واللّه لاكان ذلك أبداً!

ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع إلى موضعه فوقف وقال: أللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي! فلم يجسر أحد أن يسقيه الماء ولاقَرُبَ منه!

فأقبل ابن الأشعث على أصحابه وقال: ويلكم! إنّ هذا لهو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! إحملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة!

قال: فحملوا عليه وحمل عليهم، فقصده من أهل الكوفة رجل يُقال له بُكير بن حمران الأحمري، فاختلفا بضربتين فضربه بُكير ضربة على شفته العليا،

١٥٥

وضربه مسلم بن عقيل ضربة فسقط الى الأرض قتيلًا(١)

قال: فطُعن من ورائه طعنة فسقط إلى الأرض، فأُخذ أسيراً، ثمّ أُخذ فرسه وسلاحه، وتقدّم رجل من بني سليمان يُقال له عبيداللّه بن العبّاس فأخذ عمامته!».(٢)

ونُقل «أنّهم ا حتالوا عليه وحفروا له حفرة عميقة في وسط الطريق، وأخفوا رأسها بالدغل والتراب، ثم انطردوا بين يديه، فوقع بتلك الحفرة، وأحاطوا به، فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه، فلعب السيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه حتى بقيت أضراسه تلعب في فمه! فأوثقوه وأخذوه أسيراً الى ابن زياد ..».(٣)

محمد بن الأشعث يسلب مسلماًعليه‌السلام سلاحه!

روى المسعودي قائلًا: «وقد سلبه ابن الأشعث حين أعطاه الأمان سيفه وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمة يهجو فيها ابن الأشعث:

وتركتَ عمّك(٤) أن تقاتل دونه

فشلًا، ولولا أنت كان منيعا

وقتلتَ وافد آلِ بيت محمّد

وسلبتَ أسيافاً له ودروعا».(٥)

____________________

(١) المعروف أنّ بُكير لم يُقتل بضربة مسلم بل جُرح جُرحاً منكراً، وهو الذي أمره ابن زياد بقتل مسلمعليه‌السلام بعد ذلك، كما في تأريخ الطبري والإرشاد، لكنّ الدينوري في الأخبار الطوال: ٢٤١ ذكر أنّ الذي تولّى ضرب عنق مسلمعليه‌السلام هو أحمر بن بُكير وليس بُكير نفسه.

(٢) الفتوح: ٩٢ - ٩٦؛ وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٠٠ - ٣٠٢.

(٣) منتخب الطريحي: ٤٢٧، المجلس التاسع من الجزء الثاني.

(٤) المقصود بعمّك هانيرضي‌الله‌عنه لأنّ هائناً من القبائل اليمنية التي منها ابن الأشعث.

(٥) مروج الذهب، ٣: ٦٨؛ وقال الأخ المحقق محمد علي عابدين: «وليس السلب بأمر مستغرب على محمّد بن الأشعث، أو عائلته المعروفة بهذه الأفعال! فإبنه عبدالرحمن هو (الذي سلب الحسين بن علي قطيفة بكربلأ، فسمّاه أهل الكوفة: عبدالرحمن قطيفة! - مختصر البلدان لابن =

١٥٦

كلمة الحقّ الجريئة تزلزل قصر الخبال والضلال!

روى ابن أعثم الكوفي: «قال: فأُدخل مسلم بن عقيل على عبيداللّه بن زياد فقال له الحرسي: سلّم على الأمير!

فقال له مسلم: أُسكت لا أُمَّ لك! مالك وللكلام!؟ واللّه ليس هو لي بأميرٍ فأسلّم عليه!(١) وأخرى فيما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي!؟ فإن استبقاني فسيكثر عليه سلامي!(٢)

فقال له عبيداللّه بن زياد: لاعليك! سلّمتَ أم لم تسلّم، فإنك مقتول!

فقال مسلم بن عقيل: إن قتلتني فقد قتل شرٌّ منك من كان خيراً منّي!

____________________

= الفقيه: ص ١٧٢، ط.ليدن -).»، (مبعوث الحسينعليه‌السلام : ٢٢٩)؛ ولكنّ المشهور أنّ أخاه قيس بن الأشعث هو الذي فعل ذلك.

وقال الشيخ القرشي: «وعمد بعض أجلاف أهل الكوفة فسلبوا رداء مسلم وثيابه!»، (حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٤٠٩).

(١) نقل الطريحي أنّ مسلماًعليه‌السلام حينما دخل ديوان القصر على ابن زياد قال له القوم سلّم على الأمير! فقال: « السلام على من اتّبع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى..» (المنتخب: ٤٢٧، المجلس التاسع من الجزء الثاني).

(٢) يستشعر العارف بالعزّة الهاشمية أنّ هذه العبارة: «فإن استبقاني فسيكثر سلامي عليه!» كما تتنافى مع الإباء الهاشمي تتنافى أيضاً مع معرفة مسلمعليه‌السلام التامّة بنفسية ابن زياد - كما ستكشف عن ذلك بقيّة المحاورة بينهما - بل إنّ هذه العبارة تجسيد لسذاجة قد افتعلها بعض المؤرخين على مسلمعليه‌السلام ، واين هي من سلامه العزيز الأبيّ: «السلام على من اتبع الهدى وخشي عواقب الردى واطاع الملك الأعلى» الذي نقلناه عن الطريحي!؟ ومن الغريب المؤسف أن تلك العبارة قد رواها أيضاً - أو مايشابهها - الطبري في تأريخه ٣: ٢٩٠؛ والمفيد في إرشاده:١٩٨؛ وابو الفرج في مقاتل الطالبيين: ٧٠ والدينوري في الأخبار الطوال: ٢٤٠ وغيرهم.

١٥٧

فقال له ابن زياد: يا شاقّ! يا عاقّ! خرجتَ على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحتَ الفتنة!

فقال مسلم: كذبتَ يا ابن زياد! واللّه ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة بالغصب، وكذلك ابنه يزيد! وأمّا الفتنة فإنك ألقحتها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف! وأنا أرجو أن يرزقني اللّه الشهادة على يدي شرّ بريّته! فواللّه ما خالفت ولاكفرتُ ولابدّلتُ! وإنّما أنا في طاعة أميرالمؤمنين الحسين بن علي، بن فاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد!

فقال له ابن زياد: يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة!؟(١)

فقال مسلم بن عقيل: أحقُّ واللّهِ بشرب الخمر منّي من يقتل النفس الحرام (ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ) وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً!

فقال له ابن زياد: يا فاسق! منّتك نفسك أمراً أحالك اللّه دونه وجعله لأهله!

____________________

(١) هذه سُنّة الطواغيت وأجهزتهم الإعلامية في تشويه سمعة كلّ ثائر للحقّ في وجوههم، فتهمة الخمر والقمار والزنا وماهو أقبح من ذلك! أوّل قذائف الطغاة لإسقاط سمعة الثائرين وفي رواية الطبري، ٣: ٢٩١ أنّ مسلماًعليه‌السلام أجاب ابن زياد قائلاً: «أنا أشرب الخمر!؟ واللّه إنّ اللّه ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علمٍ، وأني لست كما ذكرتَ، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً فيقتل النفس التي حرّم اللّه قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً!».

١٥٨

فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يا ابن مرجانة!؟(١)

فقال: أهله يزيد ومعاوية!

فقال مسلم بن عقيل: الحمدُ للّه، كفى باللّه حكماً بيننا وبينكم!

فقال ابن زياد لعنه اللّه: أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً!؟

فقال مسلم بن عقيل: لا واللّه ماهو الظنّ ولكنه اليقين!

فقال ابن زياد: قتلني اللّه إن لم أقتلك!

فقال مسلم: إنّك لاتدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة!(٢) واللّه لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم، وقدرتُ على شربة من ماءٍ لطال عليك أن تراني في هذا القصر! ولكنْ إن عزمت على قتلي ولابدّ لك من ذلك فأقم إليَّ رجلًا من قريش أوصي إليه بما أُريد.

فوثب(٣) إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال: أوصِ إليَّ بما تريد يا ابن

____________________

(١) الإنتقال هنا إلى مخاطبة ابن زياد بأمّه مرجانة إلتفاتة ذكية من مسلمعليه‌السلام وفي موضعها تماماً، لما اشتهرت به مرجانة من الزنا وعدم العفاف! حتّى لا يُلحق عبيداللّه نفسه فيمن يدّعي أنهم أهل هذا الأمر!

(٢) في تاريخ الطبري، ٣: ٢٩١ إضافة «ولؤم الغلبة!».

(٣) في تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٠ «قال: فدعني أوصِ إلى بعض قومي. فنظر إلى جلساء عبيداللّه وفيهم عمر بن سعد، فقال: ياعمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك نجح حاجتي وهو سرُّ. فأبى أن يمكّنه من ذكرها! فقال له عبيداللّه: لاتمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك! فقام معه، فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد..».

وفي الإرشاد:١٩٨: «فامتنع عمر أن يسمع منه! فقال له عبيداللّه: لِمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك! فقام معه، فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد..». =

١٥٩

عقيل! ((١) فقال له مسلم: أوصيك بتقوى اللّه، فإنّ التقوى درك كلّ خير، ولي إليك حاجة!

فقال عمر: قل ما أحببت.

فقال: حاجتي إليك أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه، وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا، وأن تستوهب جثّتي إن قتلني هذا الفاسق!، فتواريني في التراب، وأن تكتب للحسين: أن لايقدم فينزل به ما نزل بي!

فقال عمر بن سعد: أيّها الأمير! إنّه يقول كذا وكذا!(٢)

فقال ابن زياد: يا ابن عقيل! أمّا ما ذكرتَ من دَينك فإنّما هو مالك تقضي به دينك، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأمّا جسدك فإنّا إذا قتلناك فالخيار لنا، ولسنا نبالي ما صنع اللّه بجثّتك!(٣) وأمّا الحسين فإنه إن لم يُردنا لم نرده، وإن ارادنا

____________________

= وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٠٥ وهو ينقل عن ابن أعثم الكوفي نفسه، لاتوجد كلمة «فوثب إليه عمر بن سعد..»! بل فيه: «ثمّ نظر مسلم إلى عمر بن سعد بن أبي وقّاص فقال له: إنّ بيني وبينك قرابة فاسمع منّي. فامتنع! فقال له ابن زياد: ما يمنعك من الإستماع لابن عمّك!؟ فقام عمر إليه، فقال له مسلم: أوصيك بتقوى اللّه...».

(١) ما بين القوسين مأخوذ عن مقتل الحسينعليه‌السلام ؛ للخوارزمي، لأنه ينقل ذلك عن كتاب ابن أعثم الكوفي نفسه، ولأنّ ما ينقله اصفى وأنقى من اضطراب نسخة الفتوح التي ننقل عنها.

(٢) في تاريخ الطبري، ٣: ٢٩١: «فقال له: إنّ عليَّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنّي، وانظر جثّتي فاستوهبا من ابن زياد فوارها، وابعث إلى حسين من يردّه فإنّي قد كتبتُ إليه أُعلمه أنّ الناس معه، ولا أراه إلاّ مقبلاً! فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا! قال له ابن زياد: إنه لايخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن!».

(٣) كثيراً ما يُلفتُ الإنتباه أسلوب الأمويين وعمّالهم في التعبير عن أعمالهم بأنها عمل اللّه! =

١٦٠