مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 114867
تحميل: 3620

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114867 / تحميل: 3620
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خروجه من مكّة،(١) ففي أمالي الشيخ الصدوق (ره): «وسمع عبداللّه بن عمر بخروجه، فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعاً، فأدركه في بعض المنازل.

فقال: أين تُريدُ يا ابن رسول اللّه!؟

قال: العراق!

قال: مهلًا، إرجع إلى حرم جدّك!

فأبى الحسينعليه‌السلام عليه، فلما رأى ابن عمر إباءه، قال: يا أبا عبداللّه، إكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّله منك!

فكشف الحسينعليه‌السلام عن سرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى وقال: أستودعك اللّه يا أبا عبداللّه، فإنك مقتول في وجهك هذا!».(٢)

وفي بعض المصادر: أنّه أدركه على ميلين من مكّة،(٣) وفي أخرى: أنّه أدركه على مسير ليلتين أو ثلاث من المدينة،(٤) «فقال: أين تريد؟

____________________

(١) روى التأريخ ثلاثة لقاءات لعبدالله بن عمر مع الإمامعليه‌السلام منذ رفضه البيعة ليزيد، اللقاء الأوّل في الأبواء بين المدينة ومكّة، بين ابن عمر وابن عبّاس (أو ابن عيّاش) من جهة وبين ابن الزبير والإمامعليه‌السلام من جهة (راجع: تأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي: ٢٠٠، رقم ٢٥٤)، وقد مرَّ في الجزء الأوّل من هذه الدراسة أنّ هذا اللقاء لم يقع لأنّ الإمامعليه‌السلام وابن الزبير لم يجتمعا في الطريق بين المدينة ومكّة. أمّا اللقاء الثاني فهو في مكّة. وأمّا الثالث فهو بعد خروجهعليه‌السلام من مكّة. وهو هذا اللقاء الذي نتحدّث حوله الآن.

(٢) أمالي الصدوق، ١٣١، المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

(٣) راجع: إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار: ٢٠٥.

(٤) راجع: أنساب الأشراف، ٣: ٣٧٥ وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي): ٢٨١، رقم ٢٤٧.

١٨١

قال: العراق!- وكان معه طوامير وكتب-

فقال له: لاتأتهم!

فقال: هذه كتبهم وبيعتهم!

فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ خيّر نبيّه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يُرد الدنيا، وإنّكم بضعة من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واللّه لا يليها أحدٌ منكم أبداً! وما صرفها اللّه عز وجلّ عنكم إلّا للذي هو خيرٌ لكم، فارجعوا!

فأبى وقال: هذه كتبهم وبيعتهم!

قال فاعتنقه ابن عمر وقال: استودعك اللّه من قتيل!».(١)

ولم نعثر في مصدر من المصادر التأريخية- حسب متابعتنا- على تشخيص دقيق لمكان هذا اللقاء وتحديده، فقد كان هذا اللقاء في (بعض المنازل!) على رواية أمالي الصدوق، وكانت الإشارة إليه في مصادر أخرى تتحدث عن: ميلين من مكّة! أو مسير ليلتين أو ثلاث من المدينة!

نعم: صرح المحقّق السماوي (ره) ضمن استعراضه لمسير الإمامعليه‌السلام من مكّة الى العراق بأنّ هذا اللقاء كان في (التنعيم) حيث قال (ره): «ثمّ أصبح فسار، فمانعه ابن عبّاس وابن الزبير فلم يمتنع، ومرَّ بالتنعيم فمانعه ابن عمر، وكان على ماءٍ له فلم يمتنع ...».(٢)

غير أنّ السماوي (ره) لم يُشر إلى المصدر الذي أخذ عنه هذا التحديد والتشخيص، ولعلّه (ره) كان قد استنتج- أنّ هذا اللقاء كان في التنعيم- استنتاجاً

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين ٧: ٢٨٠ - ٢٨٢، رقم ٢٤٧.

(٢) إبصار العين: ٢٨.

١٨٢

من أكثر من إشارة ودلالة تأريخية، أو لعلّه (ره) كان قد أراد عبداللّه بن مطيع العدوي بدلًا من عبداللّه بن عمر، لكنّ قلمه الشريف كتب ابن عمر بدلًا من ابن مطيع سهواً وعفواً، ذلك لأنّ ابن مطيع في لقائه الأخير مع الامامعليه‌السلام كان على ماءٍ له وليس ابن عمر! واللّه العالم.

منطق ابن عمر!

«لقد كان عبداللّه بن عمر لساناً من الألسنة التي خدمت الحكم الأموي، بل كان بوقاً أمويّاً حرص على عزف النغمة النشاز في أُنشودة المعارضة! وسعى إلى تحطيم المعارضة من داخلها، ولايُعبأُ بما صوّره به بعض المؤرّخين من أنّه كان رمزاً من رموزها، لأنّ المتأمّل المتدبر لايجد لابن عمرٍ هذا أيَّ حضور في أيّ موقف معارضٍ جادّ! بل يراه غائباً تماماً عن كل ساحة صدق في المعارضة! وإذا تأمّل المحقّق مليّاً وجد عبداللّه بن عمر ينتمي انتماءً تاماً- عن إصرار وعناد- إلى حركة النفاق التي قادها حزب السلطة منذ البدء، ثمّ لم يزل يخدم فيها حتّى في الأيّام التي آلت قيادتها فيها إلى الحزب الأموي بقيادة معاوية، ثمّ يزيد! هذه هي حقيقة ابن عمر، وإنْ تكلّف علاقات حسنة في الظاهر مع وجوه المعارضة عامّة ومع الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة، وحقيقة ابن عمر هذه يكشف عنها معاوية لإبنه يزيد في وصيّته إليه بلا رتوش نفاقية حيث يقول له: «فأمّا ابن عمر فهو معك! فالزمه ولاتدعه!».(١) ».(٢)

وهنا في هذا اللقاء أيضاً نجد ابن عمر يتحدّث عن لسان الأمويين بصورة

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١٢٩، المجلس الثلاثون حديث رقم ١.

(٢) الجزء الثاني من هذه الدراسة ص ٣٠٠، وفيه أيضاً ترجمة وافية لابن عمر، فراجعهافي ص ٢٨٩ - ٢٩٢.

١٨٣

غير مباشرة، فمعاوية الذي أشاع في النّاس الفكر الجبري بأنّ حكمه ومايفعله بالأمّة من قضاء اللّه الذي لايُبدّل! وليس للأمّة إلّا التسليم أمام الإرادة الإلهية في ذلك! أذاع في النّاس أيضاً من خلال كثير من وعّاظ السلاطين- أمثال عبداللّه بن عمر- أنّ اللّه اختار لآل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الآخرة ولم يُرد لهم الدنيا بمعنى أنَّ هؤلاء المصطفين لم يُرد اللّه لهم أن يكونوا حكّاماً!! ولذا فقد صرفها عنهم لما هو خيرٌ لهم!!

والأعجب أنّ ابن عمر في ذروة اندفاعه- امتثالًا لأمر الأمويين- لمنع الإمامعليه‌السلام من مواصلة سفره إلى العراق، ينسى نفسه ويذهل عن أنّه يخاطب أحد أفراد العترة المطهّرة- الذين هم مع القرآن والقرآن معهم لايفارقهم، والذين هم أعلم الخلق بإرادة اللّه في التشريع والتكوين- فيقول له: واللّه لايليها أحدٌ منكم أبداً!! مخالفاً بذلك لصريح الحقائق القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المتواترة، لا أقلَّ في ما أجمعت عليه الأمّة عن نبيّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّ المهديَّعليه‌السلام وهو من ولد فاطمةعليها‌السلام ، ومن ولد الحسينعليه‌السلام ، هو الذي سوف يملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت ظلماً وجورا!

لقد كان منتهى ما يتمنّاه ابن عمر- الأمويّ الهوى- هو أنّ يمنع الإمامعليه‌السلام من أصل القيام والنهضة، لا من السفر إلى العراق فحسب، ولذا نراه يعبّر بعد فشله في مسعاه عن هذه الأمنية الخائبة فيقول: «غلبنا الحسين بن عليّ بالخروج! ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي أن لايتحرّك ما عاش!! وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس!! فإنّ الجماعة خير ..».(١)

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، تحقيق المحمودي): ٢٩٤، رقم ٢٥٦.

١٨٤

لقد كان أفضل ردٍّ على منطق ابن عمر هو ردُّ الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه حيث قال له في محاورته إيّاه في مكّة: «أُفٍّ لهذا الكلام أبداً مادامت السماوات والأرض!».(١)

٣)- الصفاح

«وهو موضع بين حُنينْ وأنصاب الحرم، على يسرة الداخل الى مكّة من مُشاش، وهناك لقي الفرزدق الحسين بن عليرضي‌الله‌عنه لما عزم على قصد العراق، قال:

لقيتُ الحسين بأرض الصفاح

عليه اليلامقُ والدرقُ».(٢)

وروى البلاذري أيضاً قائلًا: «ولما صار الحسين إلى الصفاح لقيه الفرزدق ابن غالب الشاعر، فسأله عن أمر الناس وراءه، فقال له الفرزدق: الخبير سألتَ، إنّ قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء، واللّه يفعل مايشاء. فقال الحسين: صدقت.».(٣)

وكذلك روى الدينوري أنّ الفرزدق لقي الإمامعليه‌السلام في الصفاح(٤) وكذلك روى ابن الأثير،(٥) والطبري،(٦) وابن مسكويه(٧) .

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٤١.

(٢) معجم البلدان، ٣: ٤١٢.

(٣) أنساب الأشراف، ٣: ٣٧٦.

(٤) الأخبار الطوال: ٢٤٥.

(٥) الكامل في التاريخ، ٣: ٤٠٢.

(٦) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٦.

(٧) تجارب الأمم، ٢: ٥٦ - ٥٧.

١٨٥

أين لقي الفرزدق الإمامعليه‌السلام بالضبط؟

من الوقائع التي تفاوتت الروايات التأريخية تفاوتاً غير يسير فيها واقعة لقاء الفرزدق الشاعر مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، خصوصاً في تحديد مكان هذا اللقاء.

نجد مِنَ المؤرّخين من لايذكر المنزل لامن قريب ولابعيد، كالإربلي (ره) حيث يقول: «وقال الفرزدق لقيني الحسين في منصرفي من الكوفة ..»،(١) ومنهم من يذكر أنّ هذا اللقاء كان في أرض الحرم وخارج مكّة، كما مرّ في رواية الشيخ المفيد (ره) والطبري،(٢) ومنهم من يشخّص مكانه في أرض الحرم كسبط ابن الجوزي حيث قال: «فلما وصل بستان بني عامر لقي الفرزدق الشاعر ..»،(٣) ومنهم من روى أنهما التقيا في ذات عرق، كابن عساكر، والبلاذري،(٤) ومنهم من قال في الشقوق، كابن شهر آشوب، والأربلي في قول ثانٍ،(٥) ومنهم من قال في الصفاح، كالبلاذري، وابن الأثير، والطبري، وابن مسكويه، والحموي، والدينوري،(٦) ومنهم من قال إنهما التقيا بعد خروج الإمامعليه‌السلام من منطقة زُبالة، كالسيّد ابن طاووس (ره) حيث قال: «ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام سار من زُبالة قاصداً لما دعاه اللّه إليه فلقيه الفرزدق الشاعر ..».(٧)

____________________

(١) كشف الغمة، ٢: ٣٢.

(٢) الإرشاد: ٢٠١؛ وتاريخ الطبري، ٣: ٢٩٦.

(٣) تذكرة الخواص: ٢١٧.

(٤) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٣٠٣، رقم ٢٦١؛ وأنساب الأشراف، ٣: ٣٧٧.

(٥) مناقب آل أبي طالب، ٤: ٩٥، وكشف الغمّة، ٢: ٤٣.

(٦) أنساب الأشراف، ٣: ٣٧٦؛ وتاريخ الطبري، ٣: ٢٩٦؛ وتجارب الأمم، ٢: ٥٦؛ ومعجم البلدان، ٣: ٤١٢؛ والأخبار الطوال: ٢٤٥.

(٧) اللهوف: ٣٢.

١٨٦

وقول السيّد ابن طاووس (ره)- على فرض أنّ الفرزدق كان في طريقه إلى مكّة- هو أبعد الأقوال، بل لايمكن أن يُؤخذ به! لأنّ الفرزدق لايمكن أن يُدرك الحجّ اذا كان قد التقى الإمامعليه‌السلام - الذي خرج من مكّة يوم التروية- قبل زبالة من جهة الكوفة، وذلك لبُعد المسافة التي تستغرق أيّاماً بين زبالة ومكّة المكرّمة، فعلى هذا تكون أيّام الحجّ قد انتهت والفرزدق عند زُبالة لم يصل بعدُ إلى مكّة!

أمّا أقرب الأقوال وأقواها هو ما رواه الشيخ المفيد والطبري وسبط ابن الجوزي من أنّ هذا اللقاء كان في أرض الحرم أطراف مدينة مكة، وفي بستان بني عامر على حدّ نقل سبط ابن الجوزي، وذلك لأنّ هذا اللقاء كان في يوم التروية، فلابدّ أن يكون مكان اللقاء على هذا القرب- قريباً جدّاً- من مكّة حتّى يستطيع الفرزدق مع أمّه إدراك أعمال الحجّ في وقتها.

نعم، يمكن أن نحتمل إمكان أن الفرزدق لقي الإمامعليه‌السلام ما بعد زُبالة- على قول السيد ابن طاووس (ره)- فقط على فرض أنّ هذا اللقاء كان اللقاء الثاني بينهما- بعد عودة الفرزدق من مكّة بعد أدائه الحجّ- وهو احتمال بعيد، لبعد المسافة بين مكّة وزبالة التي هي قريب من القادسية! نعم، يمكن أن يُقال بإمكان ذلك إذا كان الفرزدق قد ترك مكّة مباشرة بعد انتهاء أعمال الحجّ، وجدَّ في السير على أثر الإمامعليه‌السلام فلم يَلوِ على شيء حتّى أدرك الإمامعليه‌السلام فيما بعد زُبالة، ولكن لم نعثر على إشارة تأريخية تفيد أنّ الفرزدق قد قام بهذا فعلًا!

وإذا صحَّ أنّ هذا اللقاء- على رواية السيّد ابن طاووس (ره)- كان اللقاء الثاني بينهما، بعد عودة الفرزدق من الحجّ، فلايُستبعد عندئذٍ ما رواه السيّد (ره) من أنّ الفرزدق بعد أن سلّم على الإمامعليه‌السلام قال: «يا ابن رسول اللّه كيف تركن إلى أهل

١٨٧

الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟»،(١) ذلك لأنّ خبر مقتل مسلمعليه‌السلام آنئذٍ كان قد شاع في الديار، أو أنّ الفرزدق على الأقلّ كان قد علم خبره من أوساط الركب الحسيني نفسه قبل سلامه على الإمامعليه‌السلام وقد استدلّ بعض المحقّقين(٢) على أنّ الصحيح هو أنّ لقاء الفرزدق مع الإمامعليه‌السلام كان في الصفاح لأنّ الفرزدق نظم في ذلك شعراً، وهو استدلال ساذج لإمكان أن ينظم هذا الشعر غير الفرزدق ثمّ ينسبه إليه!

وفي ختام البحث حول لقاء الفرزدق مع الإمامعليه‌السلام ، يحسن هنا أن ننقل نصّ المحاورة بينهما- على رواية الإربلي (ره)- عن لسان الفرزدق أنه قال: «لقيني الحسينعليه‌السلام في منصرفي من الكوفة، فقال: ما وراءك يا أبافراس؟

قلت: أُصْدِقُك؟

قال: الصدقُ أُريد!

قلت: أمّا القلوب فمعك، وأمّا السيوف مع بني أميّة! والنصر من عند اللّه.

قال: ما أراك إلّا صدقتَ! الناس عبيدالمال! والدّين لغو (لعق) على ألسنتهم، يحوطونه مادرّت به معايشهم! فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون!».(٣)

٤)- ذات عرق

«ذات عرق مَهَلُّ أهل العراق، وهو الحدُّ بين نجد وتُهامة، وقيل: عرق جبل

____________________

(١) اللهوف: ٣٢.

(٢) راجع حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ، ٣: ٦٠.

(٣) كشف الغمة، ٢: ٣٢؛ والمحجّة البيضأ، ٤: ٢٢٨.

١٨٨

بطريق مكّة، ومنه ذات عرق ...».(١)

«ويعتبر السُنّة ذات عرق ميقات العراقيين وأهل الشرق، بينما يحتاط فقهاء الإمامية بالإحرام من المسلخ وهو أبعدُ عن مكّة، وتبعد ذات عرق مرحلتين عن مكّة (أي حوالي ٩٢ كم).».(٢)

لقاء بشر بن غالب الأسدي(٣) مع الإمامعليه‌السلام !

قال السيد ابن طاووس (ره): «ثُمّ سار حتّى بلغ ذات عرق فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق، فسأله عن أهلها، فقال: خلّفت القلوب معك، والسيوف مع بني اميّة! فقالعليه‌السلام : صدق أخو بني أسد، إنّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.».(٤)

____________________

(١) معجم البلدان، ٤: ١٠٨.

(٢) خطب الإمام الحسينعليه‌السلام ، ١: ١٣٢؛ وذكر أنّ وادي العقيق يمتدّ من الجنوب الى الشمال، وفيه ثلاثة مواضع هي: ذات عرق، غمرة، المسلخ.

(٣) بشر بن غالب الأسديّ الكوفي: يُعدُّ في (الإصطلاح الرجالي) من أصحاب الحسين والسجّادعليهما‌السلام .. وعدّه البرقي من أصحاب أميرالمؤمنين والحسنين والسجّادعليهما‌السلام ، وأخوه بشير، وقد رويا هو وأخوه عن الحسينعليه‌السلام دعاءه المعروف يوم عرفة، كما رويا عنهعليه‌السلام سِيَرَ القائمعليه‌السلام ، وقد روى بشر عن الإمام الحسينعليه‌السلام أنه قال: «من أحبّنا لله وردنا نحن وهو على نبيّنا هكذا، وضمّ أصابعه، ومن أحبّنا للدنيا فإنّ الدنيا تسع البرّ والفاجر»، وسائر رواياته عن الحسينعليه‌السلام موجودة في كتاب عدّة الداعي ؛ فضل القراءة ص ٢٦٩. (راجع: مستدركات علم رجال الحديث، ٢: ٣٣، رقم ٢١٣٠).

وقال ابن حجر: «ذكره أبوعمرو الكشّي في رجال الشيعة، وقال: عالم فاضل جليل القدر، وقال: روى عن الحسين بن علي وعن ابنه زين العابدين..» (لسان الميزان: ٢: ٢٩).

(٤) اللهوف: ٣٠؛ وانظر: مثير الأحزان: ٤٢؛ لكنّ الشيخ الصدوق ذكر في أماليه أنّ هذا اللقاء كان في منطقة الثعلبية (أمالي الصدوق: ١٣١، المجلس ٣٠، حديث رقم ١)، وسيأتي في موضعه.

١٨٩

إشارة:

في لقاء الإمامعليه‌السلام مع كلّ من الفرزدق وبشر بن غالب، نلاحظ أنّ كُلًّا من الرجلين كان قد أخبر الإمامعليه‌السلام أنّ القلوب في الكوفة معه وأنّ السيوف مع بني أُميّة! وكان هذا قبل مجيء خبر مقتل مسلم بن عقيلعليه‌السلام ! ونلاحظ أيضاً أنّ الإمامعليه‌السلام قد صدّق كُلًّا من الرجلين! فهذا التصديق من أوثق الدلائل التأريخية على علم الإمامعليه‌السلام منذ البدء بأنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه، وكان عالماً منذ البدء بأنّ مصيره الشهادة.

تأمّل:

أين مضى بشر بن غالب بعد لقائه بالإمامعليه‌السلام !؟ ولماذا لم يلتحق به وينضمّ إلى ركبه!؟ وهو الذي روى عنهعليه‌السلام خاصة من الدعاء، وفي ثمرة حبّ أهل البيتعليهم‌السلام ، وفي الإمامة، وفي أخبار القائمعليه‌السلام ، وفي غير ذلك، مايكشف عن معرفته واعتقاده بأهل البيتعليهم‌السلام وحبّه لهم!؟

هل كان معذوراً في مفارقته الإمامعليه‌السلام وفي عدم نصرته!؟ هذا مالا نعلم عنه شيئاً حسب متابعتنا القاصرة، وهو ممّا سكت عنه المؤرّخون والرجاليون!

والفرزدق مرّة أخرى!؟

روى البلاذري عن الزبير بن الخرّيت قال: «سمعت الفرزدق قال: لقيتُ الحسين بذات عرق وهو يريد الكوفة، فقال لي: ما ترى أهل الكوفة صانعين، فإنَّ معي جُملًا من كتبهم؟ قلت: يخذلونك فلاتذهب، فإنّك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك! فلم يُطعني!».(١)

____________________

(١) أنساب الأشرف، ٣: ٣٧٧؛ وتاريخ ابن عساكر؛ ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٣٠٣، رقم ٢٦١.

١٩٠

وقد مرَّ بنا في الإجابة عن هذا السؤال: أين لقي الفرزدق الإمامعليه‌السلام بالضبط؟

أنّ أقرب الأقوال وأقواها هو أنّ الفرزدق لقي الإمامعليه‌السلام في بستان بني عامر على مشارف مكّة وأوائل الأرض الحرام، لأنّ هذا اللقاء ينبغي أن يكون يوم التروية- يوم خروج الإمامعليه‌السلام من مكّة- وينبغي أن يكون قريباً جدّاً من مكّة، حتّى يستطيع الفرزدق إدراك أعمال الحجّ في وقتها.

هل لقي الإمامعليه‌السلام بذات عرق عون بن عبداللّه بن جعدة؟

وروى البلاذري أيضاً فقال: «قالوا: ولحق الحسين عون بن عبداللّه بن جعدة بن هبيرة بذات عرق بكتاب من أبيه يسأله فيه الرجوع، وذكر ما يخاف عليه من مسيره! فلم يُعجبه!».(١)

يُستفاد من نصّ هذه الرواية أنّ عوناً هذا كان في مكّة وسار حتى أدرك الإمامعليه‌السلام بذات عرق، بدليل كلمة «ولحق»، وأنّ أباه عبداللّه موجود في مكّة المكرّمة، بدليل عبارة «يسأله فيه الرجوع».

فالظاهر أنّ الراوي قد اشتبه فذكر إسم عون بن عبداللّه بن جعدة بدلًا من إسم عون بن عبداللّه بن جعفر!

يؤيّد هذا: أوّلًا: أنّ التأريخ حدّثنا عن التحاق عون ومحمّد ولدي عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب بالإمامعليه‌السلام بعد خروجه من مكّة.

وثانياً: أنّ التأريخ حدّثنا أيضاً أنّ بني جعدة بن هبيرة المخزومي كانوا في الكوفة، وقد كان بنوجعدة ممّن اجتمع من الشيعة في دار سليمان بن صرد الخزاعي بعد شهادة الإمام الحسنعليه‌السلام ، وكتبوا إلى الإمامعليه‌السلام يعزّونه، ويخبرونه

____________________

(١) أنساب الأشراف، ٣: ٣٧٧.

١٩١

بحسن رأي أهل الكوفة فيه، وحبّهم لقدومه، وتطلّعهم إليه(١)

فضلًا عن كلّ هذا، فإنّ هذا الخبر مما تفرّد به البلاذري، ولم نعثر عليه عند مؤرّخ آخر، ليساعدنا على كشف غموضه ورفع اضطرابه.

٥)- الحاجر من بطن الرمّة

«بضمّ الراء، وتشديد الميم وهو وادٍ معروف بعالية نجد، وقال ابن دريد:

الرُمَّةُ قاع عظيم بنجد، تنصبّ إليه أودية.»(٢) و «الحاجرُ: بالجيم والراء، وفي لغة العرب: مايمسكُ الماء من شفة الوادي ..»(٣) و «بطن الرمّة: منزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، وفيه يجتمع أهل الكوفة والبصرة، ويقع شمال نجد ..».(٤)

روى الطبري قائلًا: «ولما بلغ عبيداللّه إقبال الحسين من مكّة الى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شُرطه حتى نزل القادسية، ونظّم الخيل ما بين القادسية إلى خفّان، ومابين القادسية إلى القطقطانة، وإلى لعلع، وقال للناس: هذا الحسين يُريد العراق!».(٥)

ثُمَّ إنّ الحسينعليه‌السلام : «أقبل حتّى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمّة، بعث قيس بن مسهّر الصيداوي إلى أهل الكوفة،(٦) وكتب معه إليهم:

____________________

(١) راجع: أنساب الأشراف، ٣: ٣٦٦.

(٢) معجم البلدان، ١: ٤٤٩.

(٣) معجم البلدان، ٢: ٢٠٤.

(٤) خطب الإمام الحسينعليه‌السلام ، ١: ١٣٢.

(٥) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠١.

(٦) وأضاف الشيخ المفيد (ره) هنا: «ويقال بل بعث أخاه من الرضاعة عبدالله بن يقطر إلى الكوفة، =

١٩٢

(بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعدُ: فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألتُ اللّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء اللّه، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.)،..

وأقبل قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى إذا انتهى الى القادسية أخذه الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيداللّه بن زياد، فقال له عبيداللّه: إصعد إلى القصر، فسُبَّ الكذّاب ابن الكذّاب!

فصعد، ثمّ قال: أيها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق اللّه، ابن فاطمة بنت رسول اللّه، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه. ثم لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب.

قال: فأمر به عبيداللّه بن زياد أن يُرمى به من فوق القصر، فرُمي به فتقطّع فمات.».(١)

____________________

= ولم يكنعليه‌السلام علم بخبر ابن عقيل (ره)..» (راجع: الإرشاد: ٢٢٠).

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠١؛ وانظر: تجارب الأمم، ٢: ٥٧ وفيه «الحصين بن تميم»، وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٧٨ وفيه «الحصين بن تميم» أيضاً، والأخبار الطوال: ٢٤٥ - ٢٤٦؛ وتذكرة الخواص: ٢٢١؛ والإرشاد: ٢٢٠؛ وفيه: «وروي: أنّه وقع الى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه، وبقي به رمق، فجاء رجل يُقال له: عبدالملك بن عمير اللخمي فذبحه! فقيل له في ذلك وعيب عليه! فقال: أردت أن أريحه!».

١٩٣

وقال السيد ابن طاووس (ره): «قال الراوي وكتب الحسينعليه‌السلام كتاباً إلى سليمان بن صُرَد الخزاعي، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وجماعة من الشيعة بالكوفة، وبعث به مع قيس بن مسهّر الصيداوي، فلما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه ليفتّشه فأخرج قيس الكتاب ومزّقه، فحمله الحصين بن نمير إلى عبيداللّه بن زياد، فلما مثل بين يديه قال له: من أنت؟

قال: أنا رجل من شيعة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وابنه!

قال: فلماذا خرقتَ الكتاب!؟

قال: لئلّا تعلم ما فيه!

قال: وممّن الكتاب وإلى من!؟

قال: من الحسينعليه‌السلام إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم!

فغضب ابن زياد وقال: واللّه لاتفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن عليّ وأباه وأخاه! وإلّا قطّعتك إرباً إرباً!

فقال قيس: أمّا القوم فلا أُخبرك بأسمائهم! وأمّا لعن الحسينعليه‌السلام وأبيه وأخيه فأفعل!

فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلّى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكثر من الترحّم على عليّ والحسن والحسين صلوات اللّه عليهم، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، ولعن عُتاة بني أميّة عن آخرهم! ثمّ قال: أيها النّاس، أنا رسول الحسينعليه‌السلام إليكم، وقد خلّفته بموضع كذا فأجيبوه. فأُخبر ابن زياد بذلك، فأمر بإلقائه من

١٩٤

أعالي القصر، فأُلقي من هناك فمات، فبلغ الحسينعليه‌السلام موته فاستعبر بالبكاء ثمّ قال:

أللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلًا كريماً واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك إنّك على كلّ شيء قدير.

وروي أنّ هذ الكتاب كتبه الحسينعليه‌السلام من الحاجر، وقيل غير ذلك.».(١)

قيس بن مُسهَّررضي‌الله‌عنه أم عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه ؟

هناك قضية لم تزل غامضة مبهمة على أكثر المتتبعين لحركة أحداث النهضة الحسينية- والقضايا الغامضة في إطار هذه النهضة المقدّسة كثيرة!- وهي:

هل أن الرسول الذي بعثه الإمامعليه‌السلام أثناء الطريق بعد الخروج من مكّة الى العراق، فأُلقي القبض عليه في القادسية، ثمّ أمر به ابن زياد فأُلقي مكتوفاً من أعلى القصر فقضى نحبه، هو قيس بن مُسهّررضي‌الله‌عنه أم عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه

ولقد عبّر الشيخ المفيد (ره) عن هذا الغموض والإبهام أفضل تعبير بقوله:

«ويُقال بل بعث أخاه من الرضاعة عبداللّه بن يقطر إلى الكوفة ..».(٢)

أم أنّ كلًّا منهما كان رسولًا للإمام أثناء الطريق إلى الكوفة، وكُلًّا منهما أُلقي عليه القبض في القادسية، وكُلًّا منهما أمر به ابن زياد فأُلقي من أعلى القصر فمضى شهيداً!؟

أم أن هناك تفاوتاً بين قصتي هذين الشهيدين العظيمين؟

من أجل استكشاف الحقيقة وإزالة الإبهام والغموض في هذا الصدد نضع

____________________

(١) اللهوف: ٣٢ - ٣٣؛ وانظر: مثير الأحزان: ٤٢.

(٢) الإرشاد: ٢٠٢.

١٩٥

الملاحظات التالية بين يدي القارىء الكريم:

١)- تؤكّد مصادر تأريخية على أنّ كُلًّا من هذين الشهيدين كان رسولًا للإمامعليه‌السلام إلى الكوفة، لكنها تحدّد المكان الذي أرسل الإمامعليه‌السلام منه قيس بن مسهّررضي‌الله‌عنه إلى الكوفة وهو الحاجر من بطن الرمّة، ولاتحدد المكان الذي أرسل الإمامعليه‌السلام منه ابن يقطررضي‌الله‌عنه الى الكوفة ولازمان ذلك، فمثلًا: يقول مؤرّخون: «ثمّ إنّ الحسين لما وصل الى الحاجر من بطن الرمّة كتب كتاباً الى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة وبعثه مع قيس ..»(١) لكنهم بصدد ابن يقطر يقولون: «وكان قد سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لايدري أنه أصيب».(٢)

نعم، هناك ملاحظة مهمة صرّح بها الشيخ السماوي (ره) قائلًا: «وقال ابن قتيبة وابن مسكويه: إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهّر وإنَّ عبداللّه بن يقطر بعثه الحسينعليه‌السلام مع مسلم، فلما أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمَّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين يخبره بالأمر ..»،(٣) فإذا صحّ هذا يكون رسول الإمامعليه‌السلام الى الكوفة أثناء الطريق هو قيس بن مسهّر لاسواه.

٢)- على فرض أنّ عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه كان أيضاً رسولًا من قبل الإمامعليه‌السلام الى الكوفة بعد خروجه من مكّة، فإنّ إرساله الى الكوفة كان قبل إرسال قيس بن مسهّررضي‌الله‌عنه زمانياً، وقبل منطقة الحاجر من بطن الرمّة مكانياً، ذلك لأنه- على الأقلّ- كان قد وصل الى القادسية وأُخذ وقُتل بإلقائه من أعلى القصر قبل

____________________

(١) أبصار العين: ١١٢ وتاريخ الطبري، ٣: ٣٠١ والإرشاد: ٢٠٢ وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٧٨ والأخبار الطوال: ٢٤٥ - ٢٤٦ ومثير الأحزان: ٤٢ وتذكرة الخواص: ٢٢١.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٣ وانظر: أبصار العين: ٩٣.

(٣) أبصار العين: ٩٤.

١٩٦

فترة من وصول قيس بن مسهّررضي‌الله‌عنه الذي قتل بعد مقتل مسلمعليه‌السلام ، بدليل أنّ خبر مقتل عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه كان قد وصل الى الامام الحسينعليه‌السلام - بزبالة- بعد خبر مقتل مسلمعليه‌السلام وهاني بن عروةرضي‌الله‌عنه بقليل، فنعاهم الإمامعليه‌السلام قائلًا:

«أمّا بعدُ، فقد أتانا خبرٌ فظيع! قُتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبداللّه بن يقطر ..»،(١) وأمّا خبر مقتل قيسرضي‌الله‌عنه فقد بلغ الإمامعليه‌السلام - بعد ذلك بفترة- في عذيب الهجانات.(٢)

إذن لامانع من أن يكون كلّ منهما رسولًا للإمامعليه‌السلام إلى الكوفة بعد خروجهعليه‌السلام من مكّة، لكنّ إرسال ابن يقطررضي‌الله‌عنه كان قبل إرسال ابن مسهّررضي‌الله‌عنه ، وقد قُتلا بنفس القتلة بالإلقاء من أعلى القصر، لكنّ ابن يقطررضي‌الله‌عنه قُتل قبل ابن مسهّررضي‌الله‌عنه بفترة.

٣)- هناك مصادر تأريخية تقول إنّ عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه كان رسولًا من قبل مسلمعليه‌السلام ، فقُبض عليه بعد خروجه من الكوفة عند أطرافها قريباً من القادسية، وكان مقتله قبل مقتل مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، فقد ورد في رواية ابن شهرآشوب أنّ عبيداللّه بن زياد بعد أن زار شريك بن الأعور الحارثي في مرضه (في بيت هانيء بن عروة)، وجرى ما جرى من حثّ شريك مسلماًعليه‌السلام على قتل عبيداللّه من خلال رمز «ما الإنتظار بسلمى أن تحييها ..»، فأوجس عبيدالله منهم خيفة فخرج: «فلما دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبداللّه بن يقطر، فإذا فيه: للحسين بن عليّ، أما بعدُ: فإنّي أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل، فإنّ النّاس معك،

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٣.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٨.

١٩٧

وليس لهم في يزيد رأي ولاهوى. فأمر ابن زياد بقتله.»،(١) وكذلك روى السيّد محمد بن أبي طالب في كتابه تسلية المجالس،(٢) فإذا أضفنا إلى هاتين الروايتين ماذكره الشيخ السماوي (ره) عن ابن قتيبة وابن مسكويه من أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد أرسل عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه مع مسلمعليه‌السلام ، فلما أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين يخبره بالأمر(٣)

يتحقّق إذن على أساس ذلك تفاوت بيّن بين قصتي هذين الشهيدينرضي‌الله‌عنه ، إذ يكون عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه مبعوثاً مع مسلمعليه‌السلام إلى الكوفة من مكّة- أو رسولًا من قبل الإمامعليه‌السلام إلى الكوفة بعد خروجه من مكّة- وحين أُلقي القبض عليه كان حاملًا كتاباً من مسلمعليه‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام ، لا كحال قيس بن مسهّررضي‌الله‌عنه الذي أُلقي عليه القبض وهو رسول من الإمامعليه‌السلام يحمل كتاباً منه إلى الكوفة، إلى مسلمعليه‌السلام أو إلى بعض وجوه الشيعة فيها.

والمسألة لاتزال بحاجة الى مزيد من البحث والتنقيب والتحقيق، وباب المعرفة لازال مفتوحاً على مصراعيه، فكم ترك الأول للآخر!

اللقاء الثاني لعبداللّه بن مطيع(٤) مع الامامعليه‌السلام

قال الشيخ المفيد (ره): «ثمّ أقبل الحسينعليه‌السلام من الحاجر يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماء من مياه العرب، فإذا عليه عبداللّه بن مطيع العدوي وهو نازل به، فلما رأى الحسينعليه‌السلام قام إليه فقال: بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه، ما أقدمك!؟

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب، ٤: ٩٤، وعنه البحار: ٤٤: ٣٤٣.

(٢) تسلية المجالس، ٢: ١٨٢.

(٣) راجع: إبصار العين: ٩٤.

(٤) مرّت بنا ترجمته في الجزء الأوّل من هذه الدراسة ص ٤٢١ - ٤٢٣ فراجع.

١٩٨

واحتمله فأنزله فقال له الحسينعليه‌السلام :

كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.

فقال له عبداللّه بن مطيع: أذكرّك اللّه يا ابن رسول اللّه وحرمةَ الإسلام أن تُنتهك! أُنشدك اللّه في حرمة قريش! أنشدك اللّه في حرمة العرب! فواللّه لئن طلبت ما في أيدي بني أميّة ليقتلُنَّك، ولئن قتلوك لايهابون بعدك أحداً أبداً، واللّه إنها لحرمة الإسلام تُنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب! فلاتفعل ولاتأت الكوفة، ولاتعرّض نفسك لبني أميّة.

فأبى الحسينعليه‌السلام إلّا أن يمضي!».(١)

إشارة:

كان هذا هو اللقاء الثاني لعبداللّه بن مطيع العدويّ مع الإمامعليه‌السلام ، إذ كان اللقاء الأوّل بينهما بين المدينة ومكّة، عند بئر لهذا العدوي كان يحفره آنذاك،(٢) وهذا العدوي: «رجل من قريش، همّه العافية والمنفعة الذاتية، وحرصه على مكانة قريش والعرب أكبر من حرصه على الإسلام، وهو ليس من طلّاب الحقّ ولامن أهل نصرته والدفاع عنه، وكاذب في دعوى مودّة أهل البيتعليهم‌السلام مع معرفته

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٣ وتأريخ الطبري، ٣: ٣٠١ والكامل في التاريخ، ٣: ٤٠١ وفي الأخبار الطوال: ٢٤٦ / «وسار الحسينعليه‌السلام من بطن الرمّة فلقيه عبدالله بن مطيع وهو منصرف من العراق، فسلّم على الحسين وقال له: بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول الله، ما أخرجك من حرم الله وحرم جدّك؟ فقال: إنّ أهل الكوفة كتبوا إليَّ يسألونني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء معالم الحقّ وإماتة البدع..».

(٢) راجع: تأريخ ابن عساكر/ ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : ٢٢٢، حديث رقم ٢٠٣، وانظر: الفتوح: ٥: ٣٦ - ٣٧ والأخبار الطوال: ٢٢٨ - ٢٢٩.

١٩٩

بمنزلتهم الخاصة عنداللّه تبارك وتعالى ونرى ابن مطيع هذا يكشف عن كذبه في دعوى حبّه للإمامعليه‌السلام ، حين انضمّ الى ابن الزبير وصار عاملًا له على الكوفة «فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم»،(١) وقاتلهم في مواجهته لحركة المختار! واستعان عليهم بقتلة الإمام الحسينعليه‌السلام أنفسهم، أمثال شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وغيرهم! وفي أوّل خطبة له في الكوفة أعلن عن عزمه على تنفيذ أمر ابن الزبير في السير بأهل الكوفة بسيرة عمر بن الخطّاب وسيرة عثمان بن عفان! لكنّه فوجيء بحنين أهل الكوفة إلى سيرة عليّعليه‌السلام ورفضهم للسير الأخرى ..».(٢)

ولقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام يعرفه تمام المعرفة! ويعرف حقيقة دعاواه! وكان يعامله بأدبه الإسلاميّ السامي، فلا يكذّب له دعواه في المودّة وفي حرصه على ألّا يُقتل، لكنهعليه‌السلام لم يُطلعه على شيء من أمر نهضته إلّا بقدر ما يناسبه، ففي لقائه الأوّل معه لم يكشف له إلّا عن مقصده المرحلي (مكّة)، ولم يكشف له عن شيء مما بعدها إلّا «فإذا صرت إليها استخرتُ اللّه تعالى في أمري بعد ذلك!»(٣)

أو «يقضيّ اللّه ما أَحبَّ!»،(٤) أمّا في لقائه الثاني فكان لابدّ- وقد رآه في الطريق إلى العراق- أن يكشف له عن ظاهر علّة سفره إلى العراق، أي رسائل أهل الكوفة إليهعليه‌السلام ، ويُلاحظ بوضوح أنّ الإمامعليه‌السلام في كلا اللقائين لم يكن يعبأ بمعارضة العدويّ هذا وإصراره وتوسّلاته، بل كانعليه‌السلام يمرّ به مرور الكرام!

____________________

(١) تأريخ اليعقوبي، ٢: ٢٥٨.

(٢) الجزء الأوّل من هذه الدراسة: ص ٤٢١ - ٤٢٢.

(٣) الفتوح، ٥: ٣٦ - ٣٧.

(٤) الأخبار الطوال: ٢٢٨ - ٢٢٩ / وننبّه إلى أنّ ابن عبدربّه الأندلسي قد خلط في روايته بين اللقائين خلطاً فاحشاً، فلايُعباء بروايته! (راجع: العقد الفريد، ٤: ٣٥٢).

٢٠٠