مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 114873
تحميل: 3620

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114873 / تحميل: 3620
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدم علينا إذا شئت، فانّما تقدم على جند مجنّدة لك.»،(١) وكتبوا إليه: «إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فاقدم إلينا فنحن في مائة ألف!».(٢)

لقد شكّلت رسائل أهل الكوفة حجّة على الإمامعليه‌السلام في وجوب الإستجابة لهم، وقد كان الإمامعليه‌السلام قد علّق عزمه في التوجّه إلى الكوفة على التقرير الميداني لمسلم بن عقيلعليه‌السلام عن حال أهل الكوفة، وقد صرّحعليه‌السلام لأهل الكوفة في رسالته الأولى إليهم بذلك حيث قال:

«.. فإنْ كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأتُ في كتبكم، فإني اقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللّه ...».(٣)

وعلى ضوء رسالة مسلمعليه‌السلام عقد الإمام الحسينعليه‌السلام عزمه على التوجّه الى الكوفة محتجّاً برسائلهم إليه، واحتجاجاتهعليه‌السلام برسائل أهل الكوفة إليه كثيرة، نقلتها إلينا كتب التأريخ، منها- على سبيل المثال لا الحصر- جوابهعليه‌السلام لعبد اللّه بن مطيع وكان قد سأله عمّا أخرجه عن حرم اللّه وحرم جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قالعليه‌السلام : «إنّ أهل الكوفة كتبوا إلىَّ يسألونني أن أقدم عليهم ...».(٤)

وقولهعليه‌السلام لعبداللّه بن عمر- وكان قد نهاه عن التوجّه الى أهل العراق- «هذه كتبهم وبيعتهم!».(٥)

وقولهعليه‌السلام ليزيد بن الرشك الذي سأله في منزل من منازل الطريق قائلًا: ما

____________________

(١) اللهوف: ١٥.

(٢) تذكرة الخواص: ٢١٥.

(٣) تأريخ الطبري، ٣: ٢٧٨؛ والإرشاد: ١٨٥؛ والأخبار الطوال: ٢٣١.

(٤) الأخبار الطوال: ٢٤٦.

(٥) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام /تحقيق المحمودي): ١٩٢، حديث ٢٤٦.

٢١

أنزلك هذه البلاد الفلاة التي ليس بها أحد؟! حيث أجابعليه‌السلام :

«هذه كتبُ أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليَّ ..!».(١)

وقولهعليه‌السلام للطرمّاح وقد سأله أن يلجأ إلى جبل أَجَأ: «إنَّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم ..»(٢)

وفي نصٍ آخر: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف ..».(٣)

إشارة:

لاشكّ أنّ حجّة أهل الكوفة على الإمامعليه‌السلام - برسائلهم إليه وببيعتهم- كانت قد انتفت عملياً وانتهت تماماً بعد انقلابهم على مسلم بن عقيلعليه‌السلام وخذلانهم إياه، فلماذا لم يُعرض الإمامعليه‌السلام عن التوجّه إلى العراق، بل أصرَّ على التوجّه إليهم، وواصل الإحتجاج عليهم برسائلهم وببيعتهم؟

وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل قد يُقال إنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام في مستوى تاثيره على أهل الكوفة ليس كالإمامعليه‌السلام في مستوى تأثيره لو دخل الكوفة وكان بين ظهراني أهلها، إذ إنّ المأمول والمتوقّع أنهم سيلتفّون حول الإمامعليه‌السلام ويسارعون الى نصرته، وهذا التصوّر كان قد أشار إليه بعض أصحاب الإمامعليه‌السلام حين قال له: «إنّك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ..»،(٤) ولذا واصل الإمامعليه‌السلام الإصرار على التوجّه إلى الكوفة حتى بعد مقتل مسلمعليه‌السلام !

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي): ٢١١، رقم ٢٦٦؛ وانظر: سير أعلام النبلاء، ٣: ٣٠٥.

(٢) مثير الأحزان: ٣٩.

(٣) تاريخ الطبري،٣: ٣٠٨.

(٤) الإرشاد: ٢٠٤.

٢٢

لكنّ التأريخ يثبت أنّ الإمامعليه‌السلام لم يعتمد هذا النظر ولم يتحرّك على أساسه لعلمهعليه‌السلام بما سيؤول إليه موقف أهل الكوفة من قبل ذلك (لإعتقادنا الحقّ بأنّ الأئمةعليهم‌السلام يعلمون بما كان وبما سيكون الى قيام الساعة)، ودلائل تأريخية عديدة أيضاً تؤكّد أنهعليه‌السلام كان يعلم منذ البدء أنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه،(١) ولأنّ أنباء الكوفة بعد مقتل مسلمعليه‌السلام تدافعت إلى الإمامعليه‌السلام بسرعة مؤكّدة على أنّ أهل الكوفة- إلّا من رحم اللّه- قد أصبحوا إلباً على الإمامعليه‌السلام بعد أن عبّأهم ابن زياد لقتاله.

فلا يبقى إذن إلّا أن نقول: «إنّ الإمامعليه‌السلام واصل التزامه بالوفاء بهذا الموعد والقول، واصرَّ على التوجّه الى الكوفة لا لأنّ لأهل الكوفة حجّة باقية عليه في الواقع، بل لأنّه لم يشأ أن يدع أيّ مجال لإمكان القول بأنّه لم يفِ تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه الى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها، ذلك لأنّ الإمامعليه‌السلام مع تمام حجّته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلى أكمل وجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقى مجال للطعن في وفائه بالعهد.».(٢)

____________________

(١) منها قوله ليزيد بن الرشك: «هذه كتب أهل الكوفة إليَّ ولا اراهم إلاّ قاتليَّ..» (تاريخ ابن عساكر «ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي»:٢١١، رقم ٢٦٦)، ومنها قولهعليه‌السلام : «وخير لي مصرع أنا لاقيه» (اللهوف: ٢٥)، وقولهعليه‌السلام : «الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء» (اللهوف: ٢٨) وقولهعليه‌السلام لأم سلمةرضي‌الله‌عنه : «يا أمّاه، قد شاء اللّه عز وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً..» (بحار الأنوار، ٤٤: ٣٣١ - ٣٣١)، وقولهعليه‌السلام لأخيه محمد بن الحنفيّةرضي‌الله‌عنه : «أتاني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإنّ اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً» (اللهوف: ٢٧)، وهناك غير هذه شواهد كثيرة على علمهعليه‌السلام بمصيره وبخذلان أهل الكوفة له.

(٢) الجزء الأوّل من هذه الدراسة (مقالة: بين يدي الشهيد الفاتح): ١٦١.

٢٣

٤)- تنفيذ أمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله

وفي مجموعة نصوص تصريحات الإمام الحسينعليه‌السلام بصدد علّة اختياره التوجّه الى العراق لا إلى غيره هناك فئة من هذه النصوص يصرّح فيها الإمامعليه‌السلام بأنه إنما يخرج الى العراق بالذات امتثالًا لأمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد تلقّى الإمام الحسينعليه‌السلام أمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق (الرؤيا)، التي تكررّت غير مرّة، وهي رؤيا حقّة لأنَّ الرائي إمام معصومعليه‌السلام ، لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، ولأنَّ المرئيَّ هو رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والثابت في الأثر أنّ من رآه في المنام فقد رآه.(١)

وكان بدء هذه الرؤيا الحقّة في المدينة المنوّرة بعدما أعلن الإمامعليه‌السلام رفضه مبايعة يزيد بعد موت معاوية أمام الوليد بن عتبة والي المدينة يومذاك، تقول الرواية:

«فلما كانت الليلة الثانية خرج الى القبر أيضاً، فصلّى ركعتين، فلما فرغ من صلاته جعل يقول:

«اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمد، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللّهمَّ وإنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه إلّا ما اخترت من أمري هذا ماهو لك رضى.

ثمّ جعل الحسينعليه‌السلام يبكي، حتى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وشماله ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى ضمَّ الحسينعليه‌السلام إلى صدره، وقبّل بين عينيه، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١) راجع: مصابيح الأنوار، ٢: ١؛ المطبعة العلميّة - النجف الأشرف عن الصدوق (ره) في الأمالي والعيون.

٢٤

يا بنيّ يا حسين، كأنّك عن قريب أراك مقتولًا مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي، وأنت في ذلك عطشان لاتُسقى وظمآن لاتُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي!، ما لهم لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة، فما لهم عند اللّه من خلاق.

حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأمّك وأخاك قد قدموا عليَّ، وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة!

فجعل الحسينعليه‌السلام ينظر في منامه الى جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويسمع كلامه، وهو يقول:

يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع الى الدنيا أبداً، فخذني إليك واجعلني معك إلى منزلك!

فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

يا حسين، إنه لابدّ لك من الرجوع الى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنّة.».(١)

وقد أشار الإمامعليه‌السلام إلى هذا الأمر أيضاً في آخر لقاء له مع أخيه محمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه في مكّة المكرّمة في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، تقول الرواية: «سار محمّد بن الحنفية الى الحسينعليه‌السلام في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنَّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإنْ رأيت أن تقيم فإنّك أعزُّ من في الحرم وأمنعه!

فقالعليه‌السلام : يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٢٧ - ٢٩ وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ١٨٦، وبحار الأنوار، ٤٤: ٣٢٨ بتفاوت عن كتاب تسلية المجالس.

٢٥

فقال له ابن الحنفيّة: فإن خفت فَسِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنك أمنع الناس به ولايقدر عليك أحد.

فقالعليه‌السلام : أنظر فيما قُلتَ.

ولما كان السحر ارتحل الحسينعليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخيّ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

قالعليه‌السلام : بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلًا!؟

فقالعليه‌السلام : أتاني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، أخرج فإنّ اللّه قد شاء أن يراك قتيلا!.

فقال له ابن الحنفيّة: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!

فقال لهعليه‌السلام : قد قال لي: إنّ اللّه قد شاء أن يراهنّ سبايا! وسلّم عليه ومضى.».(١)

كما أشار الإمامعليه‌السلام أيضاً الى أمر هذه الرؤيا بعد خروجه عن مكّة، في ردّه على عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه ويحيى بن سعيد حينما ألحّا عليه بالرجوع وجهدا في ذلك، حيث قالعليه‌السلام لهما: «إنّي رأيتُ رؤيا فيها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، عليَّ كان أو لي!»، ولما سألاه: فما تلك الرؤيا؟

قالعليه‌السلام : «ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربّي!».(٢)

ويستفاد من هذا الخبر أنّ هذه الرؤيا التي أخبر الإمامعليه‌السلام عنها عبداللّه بن

____________________

(١) اللهوف: ٢٧؛ وعنه بحار الأنوار، ٤٤: ٣٦٤.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٧ والكامل في التاريخ، ٣: ٤٠٢؛ وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي): ٢٠٢، رقم ٢٥٥ بتفاوت وفيها «حتى ألاقي عملي»، وكذلك البداية والنهاية، ٨: ١٧٦.

٢٦

جعفررضي‌الله‌عنه ويحيى بن سعيد هي غير الرؤيا التي رآها في المدينة وغير الرؤيا التي أخبر عنها أخاه محمّد بن الحنفيّةرضي‌الله‌عنه ، بدليل أنهعليه‌السلام امتنع عن ذكر تفاصيلها، وذكر أنه لم يحدّث بها أحداً ولايحدّث بها.

ولايخفى أنّ الأخيرتين من هذه الرؤى الثلاث صريحتان في أنّ أمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان متعلّقاً بالتوجّه إلى العراق لابأصل الخروج فقط، ذلك لأنّ الإمامعليه‌السلام ذكر أمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ردّه على كلّ من محمّد بن الحنفيّةرضي‌الله‌عنه وعبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه ويحيى بن سعيد الذين نهوه عن التوجه الى العراق.

هلع السلطة الأموية من خبر خروج الإمامعليه‌السلام !

روى ابن قتيبة الدينوري أنّ عمرو بن سعيد بن العاص والي مكّة حينما بلغه خبر خروج الإمام الحسينعليه‌السلام عن مكّة المكرّمة قال: «إركبوا كُلَّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه!»، فكان الناس يعجبون من قوله هذا، فطلبوه فلم يُدركوه!(١)

ومع أنّ لنا تحفّظاً على هذا الخبر من جهة أنّ الثابت تأريخياً أنَّ الإمامعليه‌السلام لم يخرج عن مكّة سرّاً وإنْ كان خروجه في السحر أو في أوائل الصباح، إذ كان الامامعليه‌السلام قد خطب الناس في مكّة ليلة الثامن من ذي الحجة خطبته الشهيرة التي قال فيها:

«من كان باذلًا فينا مهجته، وموطّناً على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا، فإنني راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه تعالى».(٢)

وعلى هذا فإنّ خبر موعد خروجهعليه‌السلام كان قد انتشر بين الناس في مكّة قبل خروجه، أيفي ذات الليلة التي خرج في أواخرها أو في أوائل صباحها، ومن

____________________

(١) الإمامة والسياسة، ٢: ٣؛ والعقد الفريد، ٤: ٣٧٧.

(٢) مثير الأحزان: ٤١؛ واللهوف: ٢٥.

٢٧

الطبيعي ان تكون السلطة الأموية في مكّة قد علمت بهذا الموعد كما علم الناس في مكّة على الأقل من خلال جواسيسها وعيونها.

ومن جهة أخرى فإنّ الركب الحسينيّ الخارج عن مكّة- وكان كبيراً نسبياً أوائل الخروج- لايمكن أن يبعد كثيراً عن مكة فيختفي بهذه السرعة وفي تلك الفاصلة الزمنيّة القصيرة عن الأنظار حتى يُطلب فلايُدرك!

هذا مع أنّ المشهور تأريخياً أنّ رُسل عمرو بن سعيد ورجال شرطته قد أدركوا الركب الحسينيّ في أوائل طريقه نحو العراق!

غير أنَّ الأمر المهمّ الذي يكشف عنه هذا الخبر هو الهلع الكبير والذعر البالغ اللذان انتابا السلطة الأموية لخروج الإمامعليه‌السلام بالفعل، حتى كأنَّ والي مكّة آنذاك أراد أن يُعبّيء كلّ واسطة بين السماء والأرض ويسخّرها لمنع الإمامعليه‌السلام من الخروج عن مكّة!

لقد عظم خروج الإمامعليه‌السلام عن مكّة على السلطة الأموية لأنّ هذا الخروج كان معناه انفلات الثورة الحسينيّة من طوق الحصار الذي سعت السلطة الأموية إلى تطويقها به في المدينة المنوّرة ففشلت، ثمّ جهدت في سبيل ذلك في مكّة أيضاً، طمعاً في القضاء على هذه الثورة في مهدها قبل انفلاتها من ذلك الحصار، من خلال القضاء على قائدها بإلقاء القبض عليه أو اغتياله أو قتله بالسمّ في ظروف مفتعلة غامضة تستطيع السلطة الأموية أن تِلقي فيها بالتهمة على غيرها، وتغطّي على جريمتها بألف ادّعاء، وقد تطالب هي بدمه بعد ذلك فتضللّ الأمّة وتظهر للناس بمظهر الآخذ بثأر الإمامعليه‌السلام ، فتبقى مأساة الإسلام على ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ!

إذن فخروج الإمامعليه‌السلام عن مكّة المكرّمة في ذلك التوقيت المدروس كما فوّت على السلطة الأموية الفرصة للتخلّص من الإمامعليه‌السلام بطريقة تختارها هي، وتتمكن من الإستفادة منها إعلامياً لتضليل الأمّة، كذلك فقد فوّت عليها فرصة

٢٨

تطويق الثورة ومحاصرتها وخنقها، إذ كان «خروجهعليه‌السلام من المدينة- وكذلك من مكة- في الأصل انفلاتاً بالثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الأمويّ، إضافة الى خوفهعليه‌السلام من أن تُهتك حرمة أحد الحرمين الشريفين بقتله».(١)

إذن فقد حقَّ لبني أميّة أن يهلعوا لخروج الإمامعليه‌السلام ، لأنّ هذا الخروج حرمهم من أن يرسموا هم فصول المواجهة مع الإمامعليه‌السلام ، وأن يختاروا هم الظروف الزمانية والمكانية والإعلامية لهذه المواجهة، في وقت «كان الإمامعليه‌السلام حريصاً على أن يتحقّق مصرعه- الذي كان لابدّ منه ما لم يبايع- في ظروف زمانية ومكانية يختارها هوعليه‌السلام ، لايتمكّن العدوّ فيها أنْ يعتّم على مصرعه، أو أنْ يستفيد من واقعة قتله لصالحه، فتختنق الأهداف المنشودة من وراء هذا المصرع الذي أراد منهعليه‌السلام أن تهتزّ أعماق وجدان الأمّة لتتحرك بالإتجاه الصحيح الذي أرادهعليه‌السلام لها.».(٢)

محاولة السلطة الأموية في مكّة لإرجاع الإمامعليه‌السلام

لقد سلكت السلطة الأموية المحلّية في مكّة المكرّمة من أجل إرجاع الإمامعليه‌السلام إلى مكّة مرّة أخرى أسلوبين، كان أحدهما أسلوباً سلمياً عرض فيه عمرو بن سعيد الأشدق الأمان والبرّ والصلة للإمامعليه‌السلام في رسالة وجّهها إليه، وكان الآخر اسلوباً قمعياً وعسكرياً حيث تصدّت جماعة من رجال الشرطة الأموية للركب الحسينيّ لمنع مواصلة حركته في الخروج عن مكّة، ولايخفى أنَّ الأسلوب الأوّل أي اسلوب بذل الأمان والصلة كان قبل الأسلوب القمعي، كما هي عادة الطغاة في مواجهة مثل هذه الوقائع.

____________________

(١) و (٢) الجزء الأوّل من هذه الدراسة: ص ٣٧٦.

٢٩

دور عبداللّه بن جعفر في المحاولة السلميّة!

تقول رواية الطبري: «وقام عبداللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه وقال: أكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع!.

فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتى أختمه. فكتب عبداللّه بن جعفر الكتاب!، ثمّ أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل!».

ويتابع الطبري روايته فيقول: «.. فلحقه يحيى وعبداللّه بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أنّ أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: إنّي رأيتُ رؤيا فيها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأُمرت فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، عليَّ كان أو لي! فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّعليهما‌السلام :

«من عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّ: أمّا بعدُ، فإنّي أسأل اللّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك! بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أعيذك باللّه من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبداللّه بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك اللّه عليَّ بذلك شهيد وكفيل ومُراعٍ ووكيل، والسلام عليك.

وروى الطبري أنّ الإمامعليه‌السلام كتب إليه:

أمّا بعد، فإنّه لم يشاقق اللّه ورسوله من دعا إلى اللّه عز وجلّ وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين، وقد دعوتَ الى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان اللّه، ولن يؤمن اللّهُ يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، نسأل اللّه مخافة في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة فإن

٣٠

كنت نويت بالكتاب صلتي وبريّ فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، والسلام.».(١)

تأمّلٌ وملاحظات:

مضت في الجزء الثاني من هذه الدراسة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ترجمة موسّعة لشخصية عبداللّه بن جعفر الطيّاررضي‌الله‌عنه ، ودراسة مفصّلة لموقفه من النهضة الحسينيّة، وقد استوفت تلك الدراسة الإجابة عن جميع الأسئلة التي يمكن أن تُثار حول هذه الشخصية الهاشميّة.

ومع هذا، فإنّ دخول جزء من تحرّك عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه في إطار متابعتنا هذه يلزمنا أن نذكّر هنا- على سبيل الإختصار- ببعض النقاط المهمّة المتعلّقة بتحرّك عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه :

١)- كان عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه - بعد أن علم بعزم الإمامعليه‌السلام على التوجّه إلى العراق- قد كتب رسالة إليه يناشده فيها عدم التوجّه الى العراق، وقد روى ابن أعثم الكوفي(٢) أنّ عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه قد كتب هذه الرسالة من المدينة إلى الإمامعليه‌السلام في مكّة، أمّا الطبري فإنه قد روى أنه بعث بها الى الإمامعليه‌السلام بعد خروجه عن مكّة، مع ولديه محمد وعون، ونصّ الرسالة على ما في رواية الطبري:

«أما بعدُ، فإنّي أسالك باللّه لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك، إنْ هلكت اليوم طُفيء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين،»(٣) فلا تعجل بالسير

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٧.

(٢) الفتوح، ٥: ١١٥.

(٣) وفي نص الفتوح، فإنّك إنْ قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى، وأميرالمؤمنين.

٣١

فإنّي في أثر الكتاب، والسلام».(١)

ويُلاحظ أنّ متن هذه الرسالة كاشف عن أمور، منها:

أ- الأدب الجمّ الذي يتمتع به عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه في مخاطبة الإمامعليه‌السلام ، الكاشف عن اعتقاده بإمامة الإمامعليه‌السلام ، خصوصاً في قوله على ما في رواية الطبري: إنْ هلكت اليومَ طُفيء نور الأرض، فإنّك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين. أو على ما في رواية الفتوح: فإنّك إنْ قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى، وأميرالمؤمنين.

ومن هنا، فإنّ الرسالة التي بعث بها والي مكّة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمامعليه‌السلام بعد خروجه لايمكن أن تكون من إنشاء عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه - كما روى الطبري!- ذلك لأن هذه الرسالة حوت شيئاً إدّاً من مضامين الجسارة والجهل بمقام الإمامعليه‌السلام ، وسوء الأدب في مخاطبتهعليه‌السلام ، كما في قوله: «أسأل اللّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك وإنّي أُعيذك باللّه من الشقاق!»، وهذا مستبعد جدّاً صدوره من إنسان مؤمن بإمامة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويراه «نور الأرض» و «أميرالمؤمنين» و «روح الهدى».

بل رسالة الأشدق من إنشائه هو، وذلك: أوّلًا لأنها انعكاس تام لنظرة هذا الطاغية الأمويّ المتجبّر، وحاكية عن لسان الإعلام الأمويّ ومفرداته الضالة المضلّة، فالخروج على النظام الظالم فيها من الموبقات! ومن الشقاق! وسعي في تفريق كلمة الأمّة والجماعة! وما إلى ذلك من أسلحة إعلاميّة لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والإصلاح.

ومن الجدير بالذكر هنا: أنّ ابن أعثم الكوفي ذكر أنّ عمرو بن سعيد هو الذي كتب هذه الرسالة وليس عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه ، كما ذكر أنّ حاملها إلى

____________________

(٦٨) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٧؛ والكامل في التاريخ، ٢: ٥٤٨؛ والإرشاد: ٢٠٢.

٣٢

الإمامعليه‌السلام كان يحيى بن سعيد وحده، أي لم يكن عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه معه!(١)

كما أنّ الشيخ المفيد (ره) روى نفس قصة هذه الرسالة- كما رواها الطبري- لكنّه لم يذكر أنّ عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه هو الذي كتبها،(٢) بل قال: «فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً ...»،(٣) فتأمّل!

ب- ويستفاد أيضاً من محتوى رسالة عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه إلى الإمامعليه‌السلام أنّه «يشترك مع ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه وابن الحنفيّةرضي‌الله‌عنه وغيرهم في النظرة الى قيام الإمامعليه‌السلام من زاوية النصر أو الإنكسار الظاهريين، هذه النظرة التي كانت منطلق مشوراتهم ونصائحهم، وخوفهم أن يُقتل الإمامعليه‌السلام في الوجهة التي عزم عليها، ولذا فقد كان الإمامعليه‌السلام يجيبهم بأنّ منطقه الذي يتحرّك على أساسه غير هذا من خلال الرؤيا التي رأى فيها جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه مأمور بهذا النوع من التحرّك امتثالًا لأمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .».(٤)

وجدير بالذكر هنا أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد كتب جواباً إلى عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه قال فيه: «أمّا بعدُ، فإنّ كتابك ورد عليَّ فقرأتهُ وفهمت ما ذكرت، وأُعلمك أنّي قد رأيت جدّي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو عليَّ، واللّه يا ابن عمّي لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني ويقتلوني! واللّه ليعدينّ عليّ كما عدت اليهود على السبت، والسلام.».(٥)

____________________

(١) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣١٢.

(٢) وهكذا أيضاً في الكامل في التأريخ، ٢: ٥٤٨؛ وفي البداية والنهاية، ٨: ١٦٩.

(٣) راجع: الإرشاد: ٢٠٢.

(٤) راجع: الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ٢٧٠، الملاحظة رقم ٢.

(٥) الفتوح، ٥: ١١٥ - ١١٦.

٣٣

٢)- يظهر من أخبار تحرّك عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه ومن رسالته(١) التي بعث بها الى الإمامعليه‌السلام «أنه كان يعتقد أو يأمل- من خلال الوساطة- أن تتحقّق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمامعليه‌السلام إذا انثنى عن القيام والخروج وإنْ لم يبايع!

ولذا فقد ردَّ الإمامعليه‌السلام على هذا الوهم بأنه ما لمْ يُبايعْ يُقتلْ لا محالة! ولأنه لايبايع يزيد أبداً فالنتيجة لامحالة هي: «لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني! ..»، وفي هذا ردٌّ أيضاً على تصوّر عبداللّه بن جعفر- على فرض صحة رواية الفتوح- بأنّه يستطيع أخذ الأمان من الأمويين للإمامعليه‌السلام ولماله وأولاده وأهله!».(٢)

إذن، يتضّح لنا ممّا مرَّ أنّ دور عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه في المحاولة السلمية لم يكن انضواءً منه تحت الراية الأمويّة، أو أنّهرضي‌الله‌عنه كان موالياً للسلطة الأمويّة وممثلًا أو مندوباً عنها، بل كلُّ ما حصل هو أنّ سعيه لتحقيق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمامعليه‌السلام كان قد توافق مع رغبة السلطة الأموية في ثني الإمامعليه‌السلام عن مواصلة التوجّه الى العراق، وإرجاعه مرّة أخرى إلى مكّة المكرّمة، من خلال بذل الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار، فكان سعي عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه وسعي السلطة الأموية في هذا الإطار في طول واحد لاشيئاً واحداً.

ولذا نجد أنّ عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه لما رأى إصرار الإمامعليه‌السلام على مواصلة القيام والتوجّه الى العراق، أنهى سعيه لتحقيق المتاركة، وأظهر ولاءه التام للإمامعليه‌السلام حين أمر ولديه محمّداً وعوناً بالإلتحاق بهعليه‌السلام ، إذ كان هو معذوراً

____________________

(١) لقد ورد في رواية الفتوح، ٥: ١١٥ - ١١٦ أن ابن جعفررضي‌الله‌عنه قال في آخر رسالته: «.. فلاتعجل بالمسير الى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان من يزيد وجميع بني أميّة، على نفسك ومالك وولدك وأهل بيتك، والسلام.».

(٢) الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ٢٧٠، الملاحظة رقم ٣.

٣٤

لإصابته بالعمى على ما في بعض الآثار.(١)

ويحسنُ هنا في ختام بحثنا الموجز عن دور عبداللّه بن جعفررضي‌الله‌عنه أن نذكر هذه الرواية التي رواها الشيخ المفيد (ره)، والكاشفة عن تأييدهرضي‌الله‌عنه لقيام الإمامعليه‌السلام ، تقول هذه الرواية: «ودخل بعض موالي عبداللّه بن جعفر بن أبيطالبعليهم‌السلام فنعى إليه إبنيه، فاسترجع، فقال أبوالسلاسل مولى عبداللّه: هذا مالقينا من الحسين بن عليّ!.

فحذفه عبداللّه بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يا ابن اللخناء! أللحسينعليه‌السلام تقول هذا!؟ واللّه لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتّى أُقتل معه! واللّه إنّه لممّا يسخّي نفسي عنهما ويعزّي عن المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه.

ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمدُللّه، عزّ عليَّ مصرع الحسين، إنْ لا أكن آسيتُ حسيناً بيدي فقد آساه ولداي.».(٢)

المحاولة القمعيّة:

ولما يأس الأشدق من فائدة أسلوب عرض الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار! لجأ إلى ما تعوّد عليه من الأساليب الإرهابية القمعيّة في معالجة المشكلات التي تواجهه- وتلك سُنّة الطغاة- ظنّاً منه أنّ الأسلوب القمعي لابدّ وأنْ يثمر النتيجة المنشودة من وراءه!

روى الطبري عن عقبة بن سمعان قال: «لما خرج الحسين من مكّة اعترضه رُسلُ عمرو بن سعيد بن العاص، عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين

____________________

(١) راجع: كتاب (زينب الكبرى): ٨٧.

(٢) الإرشاد: ٢٣٢؛ والكامل في التاريخ، ٢: ٥٧٦؛ والطبري، ٣: ٣٤٢.

٣٥

تذهب!؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثمّ إنَّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضى الحسينعليه‌السلام على وجهه، فنادوه: يا حسين، ألا تتّقي اللّه! تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة!؟ فتأوّل حسين قول اللّه عزّ وجلّ (لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريء ممّا تعملون).».(١) ».(٢)

وتقول رواية الدينوري: «ولما خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: الأمير يأمرك بالإنصراف، فانصرف وإلّا منعتك!

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط! وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شُرَطِه يأمره بالإنصراف!».(٣)

إشارة:

إنّ التدبّر في هذين النصّين يكشف بوضوح عن أنّ القوّة العسكرية الأموية لم تكن كافية لمنع الإمامعليه‌السلام من الخروج، ذلك لأنّ المفروض أن يستعمل عمرو الأشدق كلّ ما لديه من إمكانيّة وقوّة في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود مدينة مكّة لقهر الركب الحسينيّ الكبير نسبياً حتى ذلك الوقت وإرغامه على الرجوع إلى مكّة، غير أنّ واقع الحال لم يعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وكان امتناع الركب الحسينيّ (امتناعاً قويّاً)، فخاف الأشدق من تفاقم الأمر! وأمر (رُسلَه) أو (جنده) بالإنصراف خائبين، ولاشك أنّ معنى تفاقم الأمر هنا هو خوف الأشدق من انقلاب السحر على الساحر إذا طال التدافع وامتدّت المناوشة بين الفريقين وانتهى الأمر بهما إلى مواجهة حربية صريحة- لم يكن الأشدق قد استعدَّ

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٦.

(٢) سورة يونس: ٤١.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٤٤.

٣٦

لها تماماً- فضلًا عن خوفه من انقلاب جماهير الحجيج الواردين الى مكّة من أقطار العالم الإسلامي على السلطة الأموية وانضمامهم الى راية الإمامعليه‌السلام إذا سمعوا بمثل هذه المواجهة بين السلطة وبين الإمامعليه‌السلام عند مشارف مكّة.

هل كانت هذه المحاولة إجراءً صورياً!؟

ومن الغريب هنا أن يتبنّى سماحة الشيخ المحقّق باقر شريف القرشي ما ذهب إليه الدكتور عبدالمنعم ماجد في كتابه «التاريخ السياسي للدولة العربية»، من أنّ المواجهة بين جند الأشدق وبين الركب الحسينيّ كانت مواجهة صورية أُريد منها إبعاد الإمام عن مكّة! والتحجير عليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه!

يقول الشيخ القرشي: «ولم يبعد الإمام كثيراً عن مكّة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكّة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام عن السفر الى العراق، وجرت بينهما مناوشات، وقد عجزت الشرطة عن المقاومة، وكان ذلك الإجراء فيما نحسب صورياً!، فقد خرج الإمام في وضح النهار من دون أية مقاومة تذكر لقد كان الغرض من إرسال هذه المفرزة العسكرية إبعاد الإمام عن مكّة، والتحجيرعليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه بسهولة، وأكّد ذلك الدكتور عبدالمنعم ماجد بقوله: (ويبدو لنا أنّ عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الى الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله، بل لعلّه قدّر سهولة القضاء عليه في الصحراء بعيداً عن أنصاره، بحيث أنّ بني هاشم فيما بعدُ اتهموا يزيد بأنّه هو الذي دسّ إليه الرجال حتى يخرج.).».(١)

ولعلَّ مردّ الإشتباه في هذا النظر يعود إلى الأمور التالية:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، ٣: ٥٤ - ٥٥.

٣٧

١)- أنّ الدكتور ماجد ومعه الشيخ القرشي قد تصوّرا أنّ الأشدق كان يملك قوّة عسكرية كبيرة في مكّة، ولكنّه لم يرسل منها لمنع الإمامعليه‌السلام من الخروج إلّا (مفرزة!) من الشرطة، وقد عجزت عن مقاومة الركب الحسينيّ وهو كبير نسبياً آنذاك، الأمر الذي يكشف عن أنّ محاولة الصدّ والمنع لم تكن جادة! فتصوّرا أنّ الغرض الحقيقي من وراء هذه المحاولة هو إبعاد الإمامعليه‌السلام عن مكّة والتحجير عليه في الصحراء ليُقضى عليه بسهولة!.

والحقيقة- كما قلنا من قبل- أنّ كُلًّا من مكّة والمدينة المنوّرة مدينتان دينيّتان كان الوالي لايحتاج في كلّ منهما لإجراء أمور ولايته إلّا إلى قوّة محدودة من الحرس والشرطة تكفي لتنفيذ الأمور الإدارية والقضائية وحفظ الأمن الداخلي، فهما ليستا من المدن التي تشكلت للأغراض الحربية أساساً كالكوفة مثلًا، حيث تغصُّ بالجند الكثيف وبالمسالح، ولذا نرى أنّ الإنتفاضات التي شهدتها كلٌّ من مكّة والمدينة كان يُقضى عليها بجيوش تأتيها من خارجها كما في وقعة الحرّة في المدينة، ووقعة القضاء على عبداللّه بن الزبير في مكّة.

٢)- كان الإمامعليه‌السلام ما لم يبايع يزيد بن معاوية يُقتل لامحالة، ولو كان في جحر هامّة من هوامّ الأرض، لكنّ قتله في ظروف زمانية ومكانية وملابسات غامضة تختارها السلطة الأموية ليس كقتله في مواجهة عسكرية علنية يختار ظروفها الزمانية والمكانية الإمامعليه‌السلام نفسه، ذلك لأنَّ السلطة الأموية في الحالة الأولى تستطيع التعتيم على قتل الإمامعليه‌السلام والتغطية عليه بألف ادّعاء وادّعاء، أمّا في الحالة الثانية فسيتحقق للإمامعليه‌السلام استثمار مصرعه لتحقيق جميع أهدافه المنشودة من وراء قيامه المقدّس.(١)

____________________

(١) قد يُلاحظ أنّنا كررنا الحديث في هذه الحقيقة وأكّدنا عليها أكثر من مرّة، ولكنّ ذلك كان منّا عن عمدٍ وقصد! لاننا رأينا أنّ هذه الحقيقة قد خفيت على كثير من الباحثين، الامر الذي =

٣٨

من هنا كان الأمويون يحرصون أشدّ الحرص على قتل الإمامعليه‌السلام في مكّة لا خارجاً عنها، بواسطة الإغتيال في ظروف وملابسات غامضة، وهذا هو السرُّ في قول عمرو بن سعيد الأشدق لرجاله لما بلغه خروج الحسينعليه‌السلام من مكّة: «اركبوا كلَّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه!»، وفي محاولته إغراء الإمامعليه‌السلام ببذل (الأمان الأمويّ!)(١) والصلة والبرّ وحسن الجوار! لإرجاع الإمامعليه‌السلام إلى مكّة، ثمّ في المحاولة القمعيّة التي لم تعدُ الإضطراب بالسياط.

فهذه المحاولة القمعية كانت محاولة جادّة لإرجاع الإمامعليه‌السلام إلى مكّة بالفعل، لا كما ذهب إليه الشيخ القرشي والدكتور ماجد أنها كانت إجراءً صورياً أُريد منها إبعاد الإمامعليه‌السلام عن مكّة!

٣)- قال الشيخ القرشي: «وكان ذلك الإجراء صورياً، فقد خرج الإمام في وضح النهار من دون أيّة مقاومة تُذكر ..»، ولانعلم مصدراً تأريخياً روى أنّ الإمامعليه‌السلام خرج عن مكّة في وضح النهار،(٢) فجلُّ المصادر التأريخية المعتبرة التي

____________________

= حرف استنتاجاتهم عن جادّة الصواب.

(١) إنّ الأمان عند حكّام بني أميّة وولاتهم خدعة من خدع مصائدهم، إذ طالما خان معاوية عهد الأمان الذي بذله لمعارضيه كمثل حُجر بن عديّرضي‌الله‌عنه ، وقد خان ابن زياد الأمان الذي بذله ممثله محمد بن الأشعث لمسلمعليه‌السلام ، وقد ذاق الأشدق نفسه في نهاية مطاف حياته مرارة الغدر الأموي نفسه بعدما بذل له عبدالملك بن مروان (الأمان الأموي!) حيث قتله بيده ذبحاً! (راجع: قاموس الرجال، ٨: ١٠٣).

(٢) ويبدو أنه حتى المصدر الذي استفاد منه الشيخ القرشي هذا المعنى، وهو (جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، لشمس الدين أبي البركات (وهو مخطوط، ومن مصوّرات مكتبة أميرالمؤمنينعليه‌السلام في النجف الأشرف) لم يذكر أنّ الإمامعليه‌السلام خرج في وضح النهار، بل ذكر أنهعليه‌السلام ودّع البيت الحرام وداعه الأخير وصلّى فيه فريضة الظهر ثمّ خرج مودّعاً له (حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، ٣: ٥٣)، وهذا الخروج خروج عن البيت بعد وداعه، ولايعني =

٣٩

تعرّضت لساعة خروجه ذكرت أنّ خروجهعليه‌السلام عن مكّة كان في السحر أو في أوائل الصباح،(١) لا في وضح النهار.

ولو فرضنا أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد خرج فعلًا عن مكّة في وضح النهار، لما تعرّضت له السلطة الأموية داخل مكّة لمنعه من الخروج، لا لأنّ السلطة الأموية كانت راغبة بخروج الإمامعليه‌السلام ، بل لِما في المواجهة معهعليه‌السلام داخل مكّة من خطورة انتفاضة جموع الحجيج الكثيرة جدّاً ضدّها وقد كانت مكّة تغصُّ بهم آنذاك، وهو أمرٌ كانت تتحاشاه السلطة الأموية وتخشى عواقبه.

٤)- في قول الدكتور عبدالمنعم ماجد فضلًا عن الإشتباه الأصل هناك اشتباهان آخران- وقد وافقه الشيخ القرشيّ على ذلك!- وهذان الإشتباهان هما:

أ قوله: «ويبدو لنا أنَّ عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الى الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله!».

وهذه دعوى غريبة! لم نعثر على متنٍ تأريخي معتبر- حسب تتبّعنا- يؤيّدها أو يمكن أن تُستفاد منه استنتاجاً، ولانعلم من أين جاء بها هذا الكاتب، بل هناك من الدلائل التأريخية ما يشير إلى عكس هذه الدعوى، كما في قول الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : «ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا!»،(٢) وقول أبي جعفر الإسكافي في هذا الصدد: «أمّا أهل مكّة فكلّهم كانوا يبغضون عليّاً قاطبة، وكانت قريش كلّها على خلافه، وكان جمهور الخلق مع بني أميّة عليه!».(٣)

ولعلّ منشأ هذا الإشتباه عائد إلى الخلط بين أهل مكّة وبين الوافدين إليها من

____________________

= خروجهعليه‌السلام عن مكّة نفسها، فتأمّل!

(١) راجع مثلاً: اللهوف: ٢٧؛ ومثير الأحزان: ٤١؛ وكشف الغمّة، ٢: ٢٤١.

(٢) الغارات، ٢: ٥٧٣؛ وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد، ٤: ١٠٤.

(٣) شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد، ٤: ١٠٤.

٤٠