مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 114820
تحميل: 3620

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114820 / تحميل: 3620
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكتاب مع قيس بن مسهّر الصيداوي، وأصحبه عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذباً مولاه، وكان نصّ الرسالة:

«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ الناس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأي ولاهوى، والسلام.».(١)

النعمان بن بشير والٍ ضعيف أم يتضعّف!؟

ومع تزياد عدد المبايعين لمسلمعليه‌السلام والتفاف النّاس حوله، كان لابدّ للأمر أن يفشو بين الناس في الكوفة، ويصير موضوع مسلمعليه‌السلام وقضيّة انتظار الناس لمجيء الإمامعليه‌السلام حديث الساعة يومذاك في المساجد والبيوت والأسواق والطرقات، فلما تعاظم الأمر واخترق حجب الستر، علم النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي(٢) والي الكوفة آنذاك بالتحوّلات الجديدة وأحسّ بالخطر الداهم «..

فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فاتقوا اللّه عباد اللّه،

____________________

= ٣: ٢٩٠ ومثير الأحزان: ٣٢ والإرشاد: ١٨٦ وسير أعلام النبلاء، ٣: ٢٩٩ وغيرهم)، ومنهم من ذكر أنّ العدد بلغ ثلاثين ألفاً (العقد الفريد، ٥: ١٢٦ والإمامة والسياسة، ٢: ٤)، ومنهم من روى أنّ عددهم بلغ أربعين ألفاً (مثير الأحزان: ٢٦)، وكان من الممكن أن نقول إنّ جميع هذه الأرقام كانت صحيحة على أساس أنّ كُلاًّ منها كان في وقت من أوقات تحرّك أهل الكوفة مع مسلمعليه‌السلام ، وأنّ العدد كان ثمانية عشر ألفاً بالفعل حين كتب مسلمعليه‌السلام رسالته إلى الإمامعليه‌السلام ويؤيد هذا ما رواه الذهبي أنه جأ في كتاب مسلمعليه‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام «...بايعني الى الآن ثمانية عشر ألفاً...» (سير أعلام النبلأ، ٣: ٢٩٩)،لكنّ الذي يُضعف من إمكان هذا القول ما رواه الطبري عن عبداللّه بن حازم أنّ العدد كان ساعة قيام مسلم ثمانية عشر ألفاً (تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٦).

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٠؛ وانظر: مثير الأحزان: ٣٢.

(٢) مضت له ترجمة مقتضبة في الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ١١٨.

٦١

ولاتسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيهما يهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصبُ الأموال- وكان حليماً ناسكاً يحبّ العافية- قال: إنّي لم اقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لايثب عليَّ، ولا أُ شاتمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فواللّه الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إنّي أرجو أن يكون من يعرف الحقَّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.».(١)

فلّما أتمّ خطبته اعترض عليه أحد حلفاء بني أميّة وعملائهم، وهو عبداللّه بن مسلم بن سعيد الحضرمي، فقال: «إنّه لايُصلح ما ترى إلّا الغشم! إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!!

فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة اللّه أحبُّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللّه. ثم نزل.».(٢)

ومنذ ذلك اليوم توالت التقارير المرفوعة من قبل الأمويين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة(٣) إلى يزيد في الشام تخبره بمستجدّات حركة الأحداث في الكوفة، وبموقف النعمان بن بشير منها، وقد أجمعت هذ التقارير المرفوعة إلى يزيد تقول: «فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلًا قويّاً، يُنفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو(١)

____________________

(١) و (٢) تأريخ الطبري، ٣: ٢٧٩؛ والكامل في التاريخ، ٣: ٣٨٦؛ والأخبار الطوال: ٢٣١؛ والإرشاد:١٨٦.

(٣) مثل: عمارة بن عقبة بن معيط، وعبداللّه بن مسلم بن سعيد الحضرمي، وعمر بن سعد بن أبي وقّاص (راجع: تأريخ الطبري، ٣: ٢٧٩).

٦٢

يتضعّف!».(١)

إشارة:

لم يكن النعمان بن بشير محبّاً لأهل البيتعليه‌السلام ولاذاميلٍ إليهم،(٢) لقد كان له ولأبيه تأريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد رحلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تامّاً وكان النعمان عثمانيَّ الهوى، يجاهر ببغض عليّعليه‌السلام ، ويسيء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفّين، وكان يتبنّى سياسة معاوية في قيادة حركة النفاق تبنيّاً تامّاً، «وكان من معالم هذه السياسة أنّ معاوية كان يتحاشى المواجهة العلنية مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأنَّ معاوية لو اضطُرَّ إلى مواجهة علنية أي إلى قتال ضدّ الإمام الحسينعليه‌السلام وظفر بالإمامعليه‌السلام لعفا عنه، وليس ذلك حبّاً للإمامعليه‌السلام وإنّما لأنّ معاوية- وهو من دهاة السياسة النكراء والشيطنة- يعلم أنَّ إراقة دم الإمامعليه‌السلام علناً وهو بتلك القدسيّة البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأمويّ خاصة أدراج الرياح، خصوصاً الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأمويّة بالإسلام في عقل الأمّة وعاطفتها مزجاً لم يعد أكثر هذه الأمّة بعدها يعرف إلّا (الإسلام الأموي)، حتى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأمويّة إلّا إذا أُريق ذلك الدم

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٠.

(٢) قال ابن قتيبة الدينوري: «فبعث الحسين بن علي مسلم بن عقيل إلى الكوفة يبايعهم له، وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فقال النعمان: لابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبُّ إلينا من ابن بجدل - يعني يزيد - فبلغ ذلك يزيد، فأراد أن يعزله..» (الإمامة والسياسة، ٢: ٤)، ومع تفرّد ابن قتيبة بهذا النقل، فإنّ هذا القول يمكن أن يُحمل على الحزازة التي كانت في صدر النعمان على يزيد، لانّ هذا الأخير كان يستخفّ بالأنصار، ويحرّض الشعراء (الأخطل) على هجائهم، لا أنّ النعمان كان محبّاً للإمام الحسينعليه‌السلام .

٦٣

المقدّس- دم الإمامعليه‌السلام - على مذبح القيام ضدّ الحكم الأموي.».(١)

من هنا كان أسلوب النعمان بن بشير في معالجته لمستجدّات الأمور في الكوفة- بعد ورود مسلمعليه‌السلام - يتّسم باللين والتسامح، لأنّه كان يرى- إيماناً بنظرة معاوية- أنّ المواجهة العلنية مع الإمام الحسينعليه‌السلام ليست في صالح الحكم الأموي.

فلم يكن النعمان ضعيفاً، أو «حليماً ناسكاً يحبّ العافية» كما صوّرته رواية الطبري،(٢) أو «يحبّ العافية ويغتنم السلامة» كما صوّرته رواية الدينوري،(٣) بل كان يتضعّف مكراً وحيلة، معوّلًا على الأسلوب السريّ والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلص من مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، بل التخلّص حتّى من الإمامعليه‌السلام ، فهو- أي النعمان بن بشير- شيطان يحذو حذو معاوية كبيرهم الذي علّمهم الشيطنة في رسم الخطط الماكرة.

لكنّ تسارع حركة الأحداث في الكوفة يومذاك، والتحوّلات الكبيرة في ظاهر حياتها السياسية، أفزعا الأمويين وعملاءهم وجواسيسهم من تجاوب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ورأوا أنّ زمام الأمور سيكون بيد الثوّار تماماً إن لم تبادر السلطة الأموية المحليّة في الكوفة إلى اتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة

____________________

(١) الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ١٢٨؛ وقد كشف النعمان عن معرفته بموقف معاوية من قتل الإمام الحسينعليه‌السلام في محاورته مع يزيد، حينما استدعاه يزيد إلى القصر بعد مقتل الإمامعليه‌السلام وبعد نصب الرأس المقدّس بدمشق، فلمّا جاءه سأله يزيد قائلاً: كيف راء يت ما فعل عبيداللّه بن زياد؟ قال النعمان: الحرب دول. فقال يزيد: الحمدُ للّه الذي قتله! قال النعمان: قد كان أميرالمؤمنين - يعني به معاوية - يكره قتله! (راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ٥٩ - ٦٠).

(٢) راجع: تأريخ الطبري، ٣: ٢٧٩.

(٣) راجع: الأخبار الطوال: ٢٣١.

٦٤

بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق استقراره النسبي، ورأوا أنّ سياسة اللين والتسامح التي كان يمارسها «بتضعّفه» النعمان بن بشير سوف تؤدي إلى سقوط الكوفة فعلًا بيد مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وكان رأيهم أنْ لا خلاص من هذا المأزق إلّا بعزل النعمان ومجيء والٍ جديد ظلوم غشوم، وبهذا بادروا إلى كتابة تقاريرهم السرّية بهذا النظر ورفعوها إلى يزيد في الشام.

عبيداللّه بن زياد والي الكوفة الجديد

فلما تتابعت الكتب (التقارير) التي بعثها من الكوفة الى يزيد أمويون وعملاء وجواسيس بني أميّة، واجتمعت عنده، استدعى يزيد مستشاره ومستشار أبيه من قبل سرجون بن منصور النصراني- وهو من أعلام رجال فصيل منافقي أهل الكتاب العاملين في ظلّ فصائل حركة النفاق الأخرى، الذي كانوا مقرّبين من الحكّام ومستشارين وندماء لهم- وسأله عن رأيه في من يكون الوالي على الكوفة بدلًا من النعمان، فأشار عليه سرجون باستعمال عبيداللّه بن زياد(١) قائلًا بأنّ هذا هو رأي معاوية أيضاً، وأخرج له كتاباً كان معاوية قد كتبه بذلك قبل موته،(٢) فأخذ يزيد بهذا الرأي وضم المصرين (الكوفة والبصرة) الى عبيداللّه بن زياد.

ودعا يزيد مسلم بن عمرو الباهلي،(٣) فبعثه الى عبيد اللّه بن زياد في البصرة بعهده الجديد إليه (اي ضمّ الكوفة الى البصرة) تحت ولايته، وكتب إليه معه: «أمّا بعدُ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع

____________________

(١) مرّت بنا ترجمة مفصّلة وافية لعبيداللّه بن زياد لعنه اللّه في الجزء الثاني من هذه الدراسة، فراجعها في ذلك الجزء: ص ١٣٨ - ١٤٤.

(٢) راجع: تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٠.

(٣) مرّت بنا ترجمة مختصرة لمسلم بن عمرو الباهلي في الجزء الثاني: ص ١٣٢.

٦٥

الجموع لشقّ عصا المسلمين، فَسِر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه، أو تقتله، أو تنفيه، والسلام.».(١)

وفي رواية أخرى أنّ يزيد كتب فيما كتب الى عبيداللّه بن زياد قائلًا: «وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وابتلي بلدك دون البلدان فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع، واعلم أنه لاعذر لك عندي دون ما أمرتك ...».(٢)

وفي رواية أخرى: «.. فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأ منك، فإذا قرأت كتابي هذا فارتحل من وقتك وساعتك، وإيّاك والإبطاء والتواني، واجتهد، ولاتُبق من نسل عليّ بن أبي طالب أحداً!! واطلب مسلم بن عقيل وابعث إليَّ برأسه.».(٣)

القادم المتنكّر في الظلام!

وما إنْ تسلّم عبيداللّه بن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه الباهلي حتّى أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد،(٤) فلم يبق في البصرة بعدها إلّا يوماً واحداً قتل فيه سليمان بن رزينرضي‌الله‌عنه رسول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء أخماسها، وألقى فيه خطاباً هدّد فيه أهل البصرة وحذّرهم من الخلاف والإرجاف وتوعّدهم على ذلك.

«ثمّ خرج عبيداللّه من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠.

(٢) تسلية المجالس، ٢: ١٨٠.

(٣) مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، للشيخ محمد رضا الطبسي (ره)، مخطوط: ١٣٧.

(٤) راجع: الإرشاد: ١٨٧.

٦٦

الأعور الحارثي،(١) وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعياً، وقيل: كان معه خمسمائة، فتساقطوا عنه، فكان أوّل من سقط في الناس شريك، ورجوا أنْ يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحدٍ منهم ...»(٢) .

فلما أشرف عليها نزل حتّى أمسى ليلًا، فظنّ أهلها أنّه الحسين،(٣) وكان معتمّاً بعمامة سوداء وهو متلثم، «والناس قد بلغهم إقبال الحسينعليه‌السلام إليهم فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين رأوا عبيداللّه أنّه الحسينعليه‌السلام ، فأخذ لايمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللّه، قدمتَ خير مقدم، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه ...».(٤)

ولما صار في داخل المدينة في جنح الظلام توهّم الناس أنّه الإمامعليه‌السلام ، «فقالت امرأة: أللّه أكبر! ابن رسول اللّه وربّ الكعبة! فتصايح الناس، قالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً. وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذَنَبِ دابّته، وظنّهم أنّه الحسين ..».(٥)

«وسار حتّى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التفّوا به لايشكون أنه الحسينعليه‌السلام ، فأغلق النعمان بن بشير الباب عليه وعلى خاصّته، فناداه بعض من

____________________

(١) شريك بن الحارث (الأعور) الهمداني: مضت ترجمته في الجزء الثاني: ص ١٥٩.

(٢) الكامل في التأريخ، ٣: ٣٨٨.

(٣) مثير الأحزان: ٣٠؛ وفيه «حتّى أمسى لئلا تظنّ أهلها أنه الحسين...»، ولكننا أخذنا بما نقله صاحب بحار الأنوار، ٤٤: ٣٤٠ عن مثير الأحزان، وهو الصحيح. وقال الشبلنجي في نور الأبصار: ١٤٠، «ولما قرب منها عبيداللّه بن زياد تنكّر ودخلها ليلاً، وأوهم أنه الحسين، ودخلها من جهة البادية في زيّ أهل الحجاز...».

(٤) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨١؛ والإرشاد: ١٨٧.

(٥) مثير الأحزان: ٣٠.

٦٧

كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسينعليه‌السلام ، فقال:

أنشدك اللّه إلّا تنحيت، واللّه ما أنا بمسلّم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من أرب!

فجعل لايكلّمه، ثمّ إنّه دنى وتدلّى النعمان من شُرف القصر، فجعل يكلّمه، فقال: إفتح لافتحتَ! فقد طال ليلك!

وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبّعوه من أهل الكوفة على أنّه الحسينعليه‌السلام ، فقال: يا قوم! ابن مرجانة والذي لا إله غيره!

ففتح له النعمان فدخل، وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا!».(١)

وفي رواية المسعودي: «.. حتّى انتهى الى القصر وفيه النعمان بن بشير، فتحصّن فيه، ثمّ أشرف عليه، فقال: يا ابن رسول اللّه، مالي ولك؟ وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان؟

فقال ابن زياد: لقد طال نومك يا نعيم.(٢) وحسر اللثام عن فيه، فعرفه ففتح له، وتنادى النّاس: ابن مرجانة!

وحصبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر!».»

ممّا مرَّ- من هذه المتون التأريخية التي روت لنا كيف دخل ابن مرجانة الكوفة- تتضح لنا تماماً درجة الضعف المذهل التي كان عليها ممثلوا السلطة الأموية في الكوفة آنذاك، فالنعمان بن بشير يلبد في القصر ويخشى الخروج منه لمقابلة القادم المتنكّر في الظلام الذي ظنّ أنّه الحسينعليه‌السلام ، وعبيداللّه بن زياد

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨١؛ والإرشاد: ١٨٧؛ وعنه بحار الأنوار، ٤٤: ٣٤٠.

(٢) لعلَّ هذا المثل يُضرب لمن طالت غفلته عمّا يجري حوله من حركة الأحداث.

(٣) مروج الذهب، ٣: ٦٦ - ٦٧.

٦٨

وهو بين مجموعة من أهل الكوفة يخشى حتّى من إظهار صوته مخافة أن يُعرف، ويحصبه الناس بالحجارة بعد أن عرفوه فلا يقوى على شيء سوى الهروب الى داخل القصر! ومعنى هذا أنّ الكوفة يومذاك كانت تعيش بالفعل حالة (الإنقلاب) في رفضها النظام الأمويّ، وانتظارها لوصول القيادة الشرعية القادمة إليها من مكّة المكرّمة.

الإجراءات الإرهابية الغاشمة!

وما إنْ دخل ابن مرجانة القصر وهدأت أنفاسه المضطربة من شدّة الخوف والتعب، واطّلع على حقيقة مجريات حركة الأحداث في الكوفة، حتى بدأت قرارات الغشم الإرهابية، وقد مهّد لقراراته وإجراءاته الظالمة بخطاب إرهابيّ توعّد أهل الكوفة فيه بالسوط، والسيف، ورغبّهم بالإنقياد إليه بادّعائه أنّ بزيد أمره بإنصاف المظلوم واعطاء المحروم وبالإحسان إلى السامع المطيع!، قال ابن زياد:

«أمّا بعدُ، فإنّ أميرالمؤمنين أصلحه اللّه ولّاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متّبع فيكم أمره، ومنفّذٌ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البرّ! وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليُبقِ امرؤ على نفسه! الصدق يُنبيء عنك لا الوعيد!».(١)

ثمّ أتبع خطابه بإجراء قمعي رهيب «فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال:

اكتبوا إليَّ الغرباء، ومن فيكم من طلبة(٢) أميرالمؤمنين، ومن فيكم من الحرورية،(٣)

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨١؛ والإرشاد:١٨٨.

(٢) اي الذين يطلبهم يزيد ويبحث عنهم ليعاقبهم.

(٣) أي الخوارج.

٦٩

وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق! فمن كتبهم لنا فبريء، ومن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا ما في عرافته ألّا يخالفنا منهم مخالف، ولايبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذّمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أميرالمؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيت تلك العرافة من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعُمان الزارة.(١) ».(٢)

لقد كان لهذا القرار الجائر أكبر الأثر على مجرى حركة الأحداث في الكوفة، إذ كان العرفاء الواسطة بين السلطة والناس آنذاك، فهم المسؤولون عن أمور القبائل، يوزّعون عليهم العطاء، ويقومون بتنظيم السجلّات العامة، التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال، ويسجّل فيها من يولد ليفرض له العطاء، ويحذف منها الميّت ليحذف عطاؤه، وكانوا أيضاً مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا أيّام الحرب يقومون بأمور تعبئة الناس لها، ويخبرون السلطة بأسماء المتخلّفين عنها، وتعاقب السلطة العرفاء أشدّ العقوبة إذا أهملوا واجباتهم أو قصّروا فيها، ولقد كان للعرفاء بعد هذا القرار دور كبير في تخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الخوف والرهبة بينهم، كما كان لهم بعد ذلك دور كبير في زجّ الناس لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام .

تغيير مقرّ قيادة الثورة!

قال الشيخ المفيد (ره): «ولما سمع مسلم بن عقيل مجيء عبيداللّه إلى الكوفة ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هانيء بن عروة فدخلها، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على

____________________

(١) موضع معروف على ساحل الخليج قرب عمان، شديد الحرارة، يُنفى إليه المخالفون آنذاك.

(٢) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨١؛ والإرشاد: ١٨٨؛ وتذكرة الخواص: ٢٠٠.

٧٠

تستّر واستخفاء من عبيداللّه، وتواصوا بالكتمان ..».(١)

ولعلّ سبب هذا التحوّل عن دار المختار إلى دار هانيء هو ما يمكن أن يسببه بقاء مسلم في دار المختار من خطر قد يتعرض له مسلمعليه‌السلام نفسه والمختار (ره) أيضاً من قبل جلاوزة ابن زياد، خصوصاً وأنّ المختار (ره) ليس له من القوّة القبلية في الكوفة ما يجعله في منعة من اعتداء ابن زياد عليه، بعكس ما عليه هاني بن عروة المراديرضي‌الله‌عنه من العزّة والقوّة القبلية في الكوفة، فقد كان فيما يقول المؤرّخون: إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع،(٢) ثمّ إنّ الحيطة والحذر- بعد التغيرات الجديدة- أوجبا على مسلمعليه‌السلام أن ينتقل إلى مقرّ آخر منيع وخفي بعد أن علمت السلطة الأموية المحلّية في الكوفة بمقرّه الأوّل حسب الظاهر.

خطّة اغتيال ابن زياد في بيت هانيء!

قال ابن الأثير: «ومرض هاني بن عروة ..، فأتاه عبيداللّه يعوده، فقال له عمارة بن عبدالسلولي: إنّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، وقد أمكنك اللّه فاقتله.

فقال هانيء: ما أحبُّ أن يُقتل في داري!

وجاء ابن زياد فجلس عنده ثمّ خرج.

فما مكث إلّا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هانيء وكان كريماً على ابن زياد وغيره من الأمراء، وكان شديد التشيّع، وقد شهد،(٣)

____________________

(١) الإرشاد: ١٨٨.

(٢) مروج الذهب، ٣: ٦٩.

(٣) كان شريك قد قدم من البصرة مع عبيداللّه بن زياد ونزل دار هاني بن عروة (مثير الأحزان: ٣١)، أو دعاه هانيء ليأتي منزله، قال الدينوري: «فانطلق هاني إليه حتّى أتى به منزله، وأنزله مع =

٧١

صفّين مع عمّار، فأرسل إليه عبيداللّه: إني رائح إليك العشيّة. فقال لمسلم: إنّ هذا الفاجر عائدي العشيّة، فإذا جلس أخرج إليه فاقتله، ثم اقعد في القصر، ليس أحدٌ يحول بينك وبينه، فإنْ برئت من وجعي سرتُ الى البصرة حتّى أكفيك أمرها.

فلما كان من العشيّ أتاه عبيداللّه، فقام مسلم ليدخل، فقال ل شريك:

لايفوتنّك إذا جلس! فقال هانيء بن عروة: لا أُحبُّ أنْ يُقتل في داري!.

فجاء عبيداللّه فجلس وسأل شريكاً عن مرضه فأطال، فلما رأى شريكٌ أنّ مسلماً لايخرج خشي أن يفوته، فأخذ يقول:

ما تنظرون بسلمى لاتُحيّوها، اسقونيها وإنْ كانت بها نفسي!(١)

فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فقال عبيداللّه: ما شأنه، ترونه يخلط!؟ فقال له هانيء: نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتى ساعته هذه!

فانصرف، وقيل: إنّ شريكاً لما قال: اسقونيها، وخلط كلامه، فطن به مهران(٢) فغمز عبيداللّه فوثب، فقال له شريك: أيّها الأمير، إنّي أريد أن أوصي إليك! فقال:

أعود إليك.

____________________

= مسلم بن عقيل في الحجرة التي كان فيها (الأخبار الطوال: ٢٣٣)، وكان يحثُّ هانئاً على القيام بأمر مسلم (نفس المصدر).

(١) روى أبوالفرج الاصبهاني: أنّ شريكاً أنشاء يقول:

ما الإنتظار بسلمى أن تحيّوها

حيّوا سليمى وحيّوا من يُحييها

كأس المنيّة بالتعجيل فاسقوها

لله أبوك! إسقنيها وإنْ كانت فيها نفسي. قال ذلك مرتين أو ثلاثة» (مقاتل الطالبين: ٦٥؛ موسسة دار الكتاب للطباعة والنشر - قم).

(٢) مهران: مولى ابن زياد ومقرّب إليه ومعتمد عنده.

٧٢

فقال له مهران: إنّه أراد قتلك! فقال: وكيف مع إكرامي له!؟ وفي بيت هانيء، ويدُ أبي عنده!؟(١) فقال له مهران: هو ماقلت لك.

فلما قام ابن زياد خرج مسلم بن عقيل، فقال له شريك: ما منعك من قتله!؟

قال: خصلتان، أمّا إحداهما فكراهية هانيء أن يُقتل في منزله، وأمّا الأخرى فحديث حدّثه عليٌّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن بمؤمن!

فقال له هانيء: لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً!

ولبث شريك بعد ذلك ثلاثاً ثمّ مات،(٢) فصلّى عليه عبيداللّه!.».(٣)

تأمّل وملاحظات:

١)- هذا النصّ الذي أورده ابن الأثير يفيد أنّ خطّة اغتيال عبيداللّه كانت من وضع شريك وعلى كراهية من هانيء، لكنّ مصادر أخرى ذكرت أنّ هانئاً هو الذي كان مريضاً، وهو صاحب خطّة اغتيال عبيداللّه بن زياد، قال اليعقوبي: «وقدم عبيداللّه بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هانيء بن عروة، وهانيء شديد العلّة، وكان صديقاً لابن زياد، فلما قدم ابن زياد الكوفة أُخبر بعلّة

____________________

(١) ويدُ أبي عنده: أي أنّ لزياد فضلاً على هانيء وإحساناً عنده.

(٢) وبلغ عبيدالله بعدما قتل مسلماً وهانئاً أنّ ذلك الذي كنتَ سمعت من شريك في مرضه إنّما كان يحرّض مسلماً ويأمره بالخروج إليك ليقتلك، فقال عبيدالله: والله، لا اصلّي على جنازة رجل من أهل العراق أبداً، ووالله لولا أنّ قبر زياد فيهم لنبشتُ شريكاً» (تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٢).

(٣) الكامل في التأريخ، ٣: ٣٩٠ وانظر: تجارب الأمم، ٤: ٤٤ وتأريخ الطبري، ٣: ٢٨٢ بتفاوت يسير، وفيه: «فقال هانيء: أما والله، لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً، ولكنْ كرهتُ أنْ يُقتل في داري!» وفيه ايضاً: «إنّ الإيمان قيد الفتك ولايفتك مؤمن» وليس فيه إضافة «بمؤمن» التي أوردها ابن الأثير!.

٧٣

هانيء، فأتاه ليعوده، فقال هانيء لمسلم بن عقيل وأصحابه وهم جماعة: إذا جلس ابن زياد عندي وتمكّن، فإنّي سأقول اسقوني، فاخرجوا فاقتلوه ...».(١)

ويُرجّح أنّ خطّة اغتيال عبيداللّه بن زياد كانت من وضع شريك الحارثي لأنه كان من قبلُ في الطريق من البصرة الى الكوفة قد بادر إلى التساقط هو وجماعة ممن معه ليقف عليهم ابن زياد فيتأخّر عن الوصول إلى الكوفة ويسبقه الإمامعليه‌السلام إليها، كما أنّ شريكاً كان يحرّض هانئاً على مساعدة مسلمعليه‌السلام والقيام بأمره، وقد روى الدينوري: أنّ شريكاً قال لمسلمعليه‌السلام : «إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك اللّه منه، هو صائرٌ إليَّ ليعودني، فقُم فادخل الخزانة، حتّى إذا اطمأنَّ عندي، فاخرج إليه فقاتله، ثم صِرْ إلى قصر الإمارة، فاجلس فيه فإنّه لاينازعك فيه أحدٌ من الناس، وإنْ رزقني اللّه العافية صِرتُ الى البصرة فكفيتك أمرها وبايع لك أهلها. فقال هانيء بن عروة: ما أحبّ أن يُقتل في داري ابن زياد! فقال له شريك: ولِمَ؟ فواللّه إنّ قتله لقربان إلى اللّه!».(٢)

٢)- كانت كراهية هانيء لقتل ابن زياد في بيته لاتختص بابن زياد، بل هي كراهية قتل أي رجل في بيته،(٣) وذلك تمسكاً بالأعراف والعادات العربية التي لاتبيح قتل الضيف والقاصد إليها في بيوتها لما في ذلك من سُبَّة ومعابة تبقى على الألسن مدى الأيام، وهذا لايعني أنَّ هانئاًرضي‌الله‌عنه كان لايتمنى قتل ابن زياد، فقد قال لمسلمعليه‌السلام على ما في رواية الطبري: «أما واللّه، لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً

____________________

(١) تأريخ اليعقوبي، ٢: ٢٤٣؛ وانظر: الإمامة والسياسة:، ٢: ٤.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٣٤.

(٣) جاء في كتاب تجارب الأمم، ٢: ٤٤: «فقال هانيء: إنّي لأكره قتل رجلٍ في منزلي».

٧٤

كافراً غادراً، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري!».(١)

٣)- أساءت بعض المصادر التأريخيّة إلى شخصيّة مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، إساءة منكرة إذ نسبت إليه الجبن والفشل حيث لم يقدم على قتل ابن زياد، فقد قال الدينوري في أخباره الطوال: «ثمّ قام عبيداللّه وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة، فقال شريك: ما الذي منعك منه إلّا الجبن والفشل!؟»،(٢) ومع اعتراف ابن قتيبة وهو دينوري آخر بأنَّ مسلماًعليه‌السلام كان من أشجع الناس إلّا أنّه ادّعى أنّ كبوة قد أخذت مسلماًعليه‌السلام حين لم يقدم على قتل ابن زياد، يقول هذا الدينوري:

«فخرج عبيداللّه، ولم يصنع الآخر شيئاً، وكان من أشجع الناس ولكنه أخذته كبوة ..».(٣)

وهذا غير صحيح، فلم يعرف مسلمعليه‌السلام الجبن، ولم تأخذه كبوة، وقد ذكرت مصادر تأريخية أنّ كراهية هانيء لقتل ابن زياد بل لقتل أي رجل في بيته، كانت واحداً من الأسباب التي منعت مسلماًعليه‌السلام من تنفيذ خطة شريك،(٤) كما ذكرت بعض مصادرنا المعتبرة أنّ أمرأة في بيت هانيء كانت قد تعلّقت بمسلمعليه‌السلام وتوسّلت إليه وهي تبكي ألّا يقتل ابن زياد في دارهم، قال ابن نما (ره): «فخرج مسلم والسيف في كفّه، وقال له شريك: يا هذا، ما منعك من الأمر!؟ قال مسلم: لما هممتُ بالخروج فتعلّقت بي امرأة قالت: ناشدتك اللّه إن قتلت ابن زياد في دارنا! وبكت في وجهي! فرميت السيف وجلستُ.

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٢.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٣٤.

(٣) الإمامة والسياسة، ٢: ٤.

(٤) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٢؛ والكامل في التأريخ، ٣: ٣٩٠؛ وتجارب الأمم، ٢: ٤٤.

٧٥

قال هانيء: يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها، والذي فررتُ منه وقعتُ فيه!».(١)

وهناك سببٌ آخر وهو أنّ مسلماًعليه‌السلام ذكر أنّ السبب الذي منعه من قتل ابن زياد- إضافة إلى كراهية هانيءرضي‌الله‌عنه لذلك- هو حديث سمعه عن عليّعليه‌السلام عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الإيمان قيد الفتك، لايفتك مؤمن»،(٢) والفتكُ لغة هو: «أن يأتي الرجلُ صاحبه وهو غارٌّ غافلٌ حتّى يشدَّ عليه فيقتله، وإنْ لم يكنْ أعطاه أماناً قبل ذلك.».(٣)

وقد علّق هبة اللّه الشهرستاني (ره) على تعليل مسلمعليه‌السلام إحجامه عن قتل ابن زياد بهذا الحديث قائلًا: «كلمة كبيرة المغزى، بعيدة المدى، فإنَّ آل عليّ من قوّة تمسكهم بالحقّ والصدق نبذوا الغدر والمكر حتّى لدى الضرورة، واختاروا النصر الآجل بقوّة الحقّ على النصر العاجل بالخديعة، شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم، وموروثة في أخلاقهم، كأنهم مخلوقون لإقامة حكم العدل والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء، وقد حفظ التأريخ لهم الكراسي في القلوب».(٤)

____________________

(١) مثير الأحزان: ٣١ - ٣٢؛ وهذه الرواية كاشفة عن أنّ هانئاًرضي‌الله‌عنه لم يكن يكره قتل ابن زياد في داره، أو أنه آثر قتله على رغم تلك الكراهية، فتأمّل!

(٢) الأخبار الطوال: ٢٣٥؛ وتأريخ الطبري، ٣: ٢٨٢؛ وتجارب الأمم، ٢: ٤٤؛ وقد ذكر ذلك أيضاً الطبرسي (ره) في كتابه إعلام الورى: ٢٢٣، وقال ابن شهرآشوب في المناقب، ٣: ٣٦٤: «وقال أبوالصباح الكناني: قلتُ لأبي عبداللّهعليه‌السلام : إنّ لنا جاراً من همدان يُقال له الجعد بن عبدالله، يسبُّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام أفتأذن لي أن أقتله؟ قال: إنّ الإسلام قيّد الفتك...».

(٣) لسان العرب، ١٠: ٤٧٢ (فتك)؛ وقال: «ومنه الحديث: أنّ رجلاً أتى الزبير فقال له: ألا أقتلُ لك عليّاً؟ قال: فكيف تقتله؟ قال: أفتك به! قال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: قَيَّدَ الإيمانُ الفتكَ، لايفتك مؤمن».

(٤) نهضة الحسين: ٨٤.

٧٦

ومن الملفت للإنتباه أنّ هناك إضافة مريبة في نقل ابن الأثير لمتن هذا الحديث، وهي «فلايفتك مؤمن بمؤمن!» بدلًا من «فلا يفتك مؤمن»، وكأنَّ ابن الأثير أراد أنّ يطبّق الإيمان على عبيداللّه بن زياد، وأنّ مسلماًعليه‌السلام إنّما امتنع عن قتله لأنّه مؤمن!!

ابن زياد يستبق الأحداث فيقتل وجوه الشيعة

ومن جملة مبادرات ابن زياد للسيطرة على زمام الأمور والقضاء على حركة مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، إسراعه في تقصّي رجال الشيعة في الكوفة وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، وكان ضحيّة هذه المبادرة الإرهابية القمعية عدد كبير من رجالات الشيعة ممن كان يُعوَّلُ عليهم في مهمّات الأمور.

حبس ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه وقتله

كان ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه (١) قد عاد من العمرة(٢) الى الكوفة «فأخذه عبيداللّه بن

____________________

(١) هو ميثم بن يحيى - أبوعبداللّه - التمّار الأسدي الكوفي، وهو من حواريّ أميرالمؤمنين عليّ والحسن والحسينعليهما‌السلام ، والروايات في مدحه وجلالته وعظم شأنه، وعلمه بالمغيّبات كثيرة لاتحتاج الى بيان، ولو كان بين العصمة والعدالة مرتبة وواسطة لأطلقناها عليه. (راجع: مستدركات علم رجال الحديث، ٨: ٤٤ وأنظر: تنقيح المقال، ٣: ٢٦٢)، وقد مرِّ بنا الحديث في حبسه ومقتله في الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ١٧٥ - ١٨٠ فراجع.

(٢) كان الشيخ المفيد (ره) في ذكره لميثمرضي‌الله‌عنه وكيفية قتله قد قال: «وحجَّ في السنة التي قُتل فيها، والراجح أنّ مراد الشيخ المفيد (ره) من قوله «وحجّ» أصل زيارة بيت الله الحرام، وإن كانت هذه الزيارة عمرة، إذ لدينا رواية أخرى يصرّح فيها حمزة وهو ابن ميثم في وصفه لأحداث نفس هذه الزيارة قائلاً: «خرج أبي إلى العمرة...» (بحارالأنوار، ٤٢: ١٢٩)، فهذه الزيارة كانت عمرة، ولو أخذنا قول الشيخ المفيد (ره) على ظاهره لكان مثاراً لمجموعة من الإشكالات التأريخية، منها: كيف يكون قد حجّ في تلك السنة ولم يكن قد رأى الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة أو التقاه =

٧٧

زياد، فأدخل عليه، فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند عليّ!

قال: ويحكم، هذا الأعجمي!؟

قيل له: نعم.

قال له عبيداللّه: أين ربُّك؟

قال: بالمرصاد لكل ظالم، وأنت أحد الظلمة.

قال: إنّك على عجمتك لتبلغ الذي تريد! ما أخبرك صاحبك أنّي فاعل بك!؟

قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة،(١) أنا أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهّرة!

قال: لنخالفنّه!

قال: كيف تخالفه!؟ فواللّه ما أخبرني إلّا عن النبيّ، عن جبرئيل، عن اللّه تعالى، فكيف تخالف هؤلاء!؟ ولقد عرفت الموضع الذي اصلبُ عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق اللّه أُلجمُ في الإسلام!

____________________

= مراراً وهو من خاصّة شيعته وشيعة أخيه وأبيهعليه‌السلام !؟ أو: كيف يكون قد عاد بعد الحجّ إلى الكوفة ولم يُدرك الإمام الحسينعليه‌السلام في منزل من منازل الطريق والإمامعليه‌السلام قد خرج من مكّة قبله بخمسة أيام على الاقلّ - على هذا الفرض - ثمّ كيف يكون ميثمرضي‌الله‌عنه قد سبق الإمامعليه‌السلام في الوصول إلى العراق مُدَّة طويلة سُجن خلالها فترة ثم أخرج وقتل قبل وصول الإمامعليه‌السلام الى العراق بعشرة أيّام على الأقل، وكان قد خرج بعد خروج الإمامعليه‌السلام من مكّة بخمسة أيّام على الأقلّ كما قلنا!؟

(١) وهذا دليل على القتل الجماعي الذي تعرّض له الشيعة في تلك الأيّام، فقد صُلب مع ميثم تسعة آخرون في دُفعة واحدة! وفي هذا تتجلّى لنا الأجواء الإرهابية المرعبة التي تعرّض لها أهل الكوفة تلك الأيّام.

٧٨

فحبسه، وحبس معه المختار بن أبي عبيد.(١)

قال له ميثم: إنّك تفلت، وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا!

فلما دعا عبيداللّه بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد اللّه يأمره بتخلية سبيله فخلّاه،(٢) فأمر بميثم أن يُصلب فأُخرج، فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا!؟

فتبّسم وقال- وهو يوميء إلى النخلة- لها خُلقتُ ولي غُذيتْ! فلما رفُع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حُريث، قال عمرو: كان واللّه يقول: إنّي مجاورك!

فلما صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره.

فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد!

فقال: إلجموه! فكان أوّل خلق اللّه أُلجم في الإسلام.

وكان قتل ميثمرحمه‌الله قبل قدوم الحسينعليه‌السلام إلى العراق بعشرة أيّام، فلما

____________________

(١) وفي هذا مؤيّد على أنّ ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه كان قد حُبس والإمامعليه‌السلام في مكّة المكرّمة، لأنّ حبس المختار (ره) على ماهو ظاهر بعض الأخبار كان في الأيّام الأولى من ولاية ابن زياد على الكوفة، ولعلّ أحد أسباب إنتقال مسلمعليه‌السلام من دار المختار (ره) إلى دار هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه هو اعتقال المختار (ره) وحبسه.

(٢) كان ذلك بسبب توسّط عبداللّه بن عمر زوج أخت المختار (ره) عند يزيد، وفي هذا إشعار بأنّ المختار (ره) كان قد حُبس في الأيام الأولى لولاية ابن زياد على الكوفة، إذا لاحظنا مدّة وصول خبر حبسه إلى ابن عمر في مكّة أو في المدينة، ومدّة وصول كتاب ابن عمر إلى يزيد في الشام، ثمّ مدّة وصول البريد إلى الكوفة يأمر إطلاق سراحه، فتأمّل.

٧٩

كان في اليوم الثالث من صلبه طُعن بالحربة فكبّر! ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً.».(١)

وروي أنه اجتمع سبعة من التمّارين فاتعدوا بدفن ميثم، فجاؤا إليه ليلًا والحرس يحرسونه وقد أوقدوا النار، فحالت النار بينهم وبين الحرس فاحتملوه بخشبته حتى انتهوا به إلى فيض من ماء في مراد، فدفنوه فيه ورموا الخشبة في مراد في الخراب، فلما أصبحوا بعث الخيل فلم تجد شيئاً.(٢)

وروي عن ميثم قال: دعاني أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وقال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعيّ بني أميّة [ابن دعيّها] عبيداللّه بن زياد إلى البراءة منّي؟

فقلت: يا أميرالمؤمنين، واللّه لا أبرأ منك!

قال: إذن واللّه يقتلك ويصلبك.

قلت: أصبر، فذاك في اللّه قليل.

فقال: يا ميثم، إذن تكون معي في درجتي.(٣)

قتل رشيد الهجريرضي‌الله‌عنه

وممّن قُتل من رجالات الشيعة وأعلامها في تلك الأيّام رُشيد الهَجَريرضي‌الله‌عنه (٤) ، فقد روى الكشّي بسندٍ عن أبي حيّان البجلي، عن قنوا بنت

____________________

(١) الإرشاد: ١٥٤؛ وانظر: إعلام الورى: ١٧٦؛ ومجمع البحرين: ٤٩٢؛ ونفس المهموم: ١١٩.

(٢) و (٣) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): ١: ٢٩٥، رقم ١٣٨ و١٣٩.

(٤) قال السيّد الخوئي (ره): «هو ممّن قُتل في حبّ عليّعليه‌السلام ، قتله ابن زياد، ولاريب في جلالة الرجل وقربه من أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وهو من المتسالم عليه بين الموافق والمخالف، ويكفي ذلك في إثبات عظمته..» (معجم رجال الحديث: ٧: ١٩١ رقم ٤٥٨٩)، «وكان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يسمّيه =

٨٠