ديوان صالح الكواز

ديوان صالح الكواز25%

ديوان صالح الكواز مؤلف:
تصنيف: دواوين
الصفحات: 143

  • البداية
  • السابق
  • 143 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18963 / تحميل: 11701
الحجم الحجم الحجم
ديوان صالح الكواز

ديوان صالح الكواز

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ديوان صالح الكواز

١

٢

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

ترجمة صاحب الديوان

أسرته، مولده ووفاته، أولاده، مجمل أحواله، صفاته، ورعه وصلاحه، دراسته وتحصيله، نظرة في شعره، منزلته الشعرية، أقوال مشاهير شعراء عصره في حقّه، معارضة الشعراء لبعض قصائده، اجتماعه بالشاعر الأخرس البغدادي، اجتماعه بالشاعر عبد الباقي العمري، ديوانه.

يعتبر الشيخ صالح الكواز من أبرز شعراء عصره وأدباء دهره، ولعلّني أوّل مَنْ كتب عنه وترجم له، فقد سبق أن نشرت ترجمة لأخيه الصغير الشيخ حمادي الكواز في مجلة الاعتدال النجفية سنة ١٣٥٤ هـ (١) ، وفي ضمنها تعرّضت لذكر أخيه الكبير الشيخ صالح الكواز (صاحب الديوان)، وبعد ذلك ترجمت لهما معاً في كتابنا (البابليات) (٢) .

ولم يكتب عن المترجم أحد من المؤرّخين والباحثين إلاّ العلاّمة الزركلي في كتابه (الأعلام) (٣) الذي نقل كلّ ما كتبه عنه من كتابنا (البابليات)،

____________________

١ - العدد ٩ من المجلد ٣.

٢ - الجزء الثاني الصادر سنة ١٣٧٠ هـ‍‍.

٣ - ص ٢٨٣.

٣

كما وكتب عنه سيدنا الأمين (رحمه الله) في كتابه الكبير (أعيان الشيعة)، ولكنّه اختلطت لديه ترجمته بترجمة أخيه الشيخ حمادي؛ فذكر عن شاعرنا المترجم بأنّه كان كأخيه الشيخ حمادي سليقي النظم، يقول فيعرب، ولا معرفة له بالنحو، في حين أنّ ذلك مخالف للحقيقة والصواب؛ لأنّ المترجم كان على جانب عظيم من الفضل والتضلّع في علمي النحو والأدب - كما سنفصّل ذلك -، بخلاف أخيه الشيخ حمادي الذي كان أُميّاً لا يعرف من النحو والعربية شيئاً، بل كان ينظم على الذوق والسليقة.

وشاعرنا المترجم هو أبو المهدي الشيخ صالح ابن المهدي ابن الحاج حمزة عربي المحتد، يرجع في الأصل إلى قبيلة (الخضيرات)، إحدى عشائر شمّر المعروفة في نجد والعراق، وأُمّه من أُسرة آل العذاري المعروفة بالفضل والأدب.

كانت ولادته سنة ١٢٣٣ ه‍‍ـ، ووفاته في شوال سنة ١٢٩٠ هـ، كما قرأت ذلك بخطّ معاصره الشيخ الأديب علي بن الحسين العوضي؛ فيكون عمره (٥٧) سنة، ودُفن في النجف الأشرف.

وممّا يدلّك على سمو مكانته إقامة مجلس العزاء والفاتحة له من قبل العلاّمة الكبير السيد مهدي القزويني، وقد رثاه نخبة من فطاحل شعراء عصره، وفي مقدّمتهم الشاعر المشهور السيد حيدر الحلّي الذي رثاه بقصيدة مثبّتة في ديوانه المطبوع مطلعها:

كلّ يومٍ يسومني الدهرُ ثكلا

ويريني الخطوبَ شكلاً فشكلا

كما رثاه الشيخ محمّد الملا بقصيدة مطلعها:

قالوا تعزّ فقلتُ أينَ عزائي

والبينُ أصمى سهمهُ أحشائي

ولئن عاش ومات أخوه الشيخ حمادي أُميّاً فقد كان صاحب الديوان يعدّ في طليعة أفاضل الفيحاء في عصره علماً وأدباً، ودرس النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان على خاله الشيخ علي العذاري، والشيخ حسن الفلوجي، والسيد مهدي السيد داود (١) ، وتخرّج في الفقه وعلوم الدين على العلاّمة السيد مهدي القزويني، وبالإضافة

____________________

١ - وقد ترجمنا لكلّ واحد منهم في كتابنا البابليات.

٤

إلى ذلك كلّه فنحن نجد في ثنايا أشعاره ما يستدلّ به على تضلّعه في جملة من العلوم الرياضية وغيرها، كقوله على اصطلاح المنطقيين:

شاركنها بعمومِ الجنسِ وانفردت

عنهنّ فيما يخصّ النوعَ من نسبِ

وعلى اصطلاح الكلاميين قوله:

لو رامهُ العقلُ المجرد

عادَ في طرفٍ حسير

ولكي نرسم للقارئ الكريم صورة تامّة عن شاعرنا المترجم نذكر بأنّه كان خفيف شعر العارضين، أسمر اللون شاحبه، رثّ الثياب، كثير الصمت، وكان يتعاطى مهنة أبيه وهي بيع (الكيزان) والجرار والأواني الخزفية؛ ولذلك أشتهر بـ (الكوّاز).

وكان مع رقّة حاله، وضعف ذات يده يحمل بين جنبيه نفساً أبية تفيض عفةً وشرفاً وعزةً وكرماً، متعففاً عمّا في أيدي الناس، قانعاً بما قُدّر له من الرزق، مترفّعاً عن الاستجداء بشعره، فما ورد عنه في هذا المجال أنّه طلب إليه أحد ذوي الجاه والسلطات الرسمية في الحلّة أن ينظم له أبياتاً في رثاء أبيه، ويؤرّخ فيها عام وفاته؛ لتُنقش على صخرة تُبنى على ضريحه في مقبرة (مشهد المقدّس)، وبذل له على ذلك بتوسّط أحد أصدقائه ما يُقارب الأربعين ليرة عثمانية، فامتنع عن ذلك مع شدّة حاجته وعظيم فاقته؛ لأنّه كان لا يزفّ عرائس أفكاره الأبكار إلاّ لأهل البيت الأطهار (عليهم السّلام)، وإذا تعدّى ذلك فإلى بعض الأُسر العريقة بالعلم والأدب، الشهيرة بالمجد والشرف، كآل القزويني في الحلّة، وآل كاشف الغطاء في النجف الأشرف، وآل كبّة في بغداد، وآل الرشتي في كربلاء وأضرابهم.

وكان يجمع بين الرقة والظرافة، والنسك والورع، والتقى والصلاح، فقد قال عنه علي ابن الحسين العوضي: كان على ما فيه من الظرف ناسكاً ورعاً متهجداً، يحيي أكثر لياليه بالعبادة، طابق اسمه مسمّاه، لطيف المحاضرة، حاضر الجواب، سريع البديهة، لطيفاً في كلّ فصل وباب، وقال عنه أيضاً: كان يسكن محلّة (التعيس) إحدى محلاّت الحلة الشمالية، ويُقيم صلاة الجماعة في أحد مساجد الجباوين بالقرب من مرقد أبي الفضائل

٥

ابن طاووس، وللناس أتمّ وثوق في الائتمام به انتهى.

وإلى ذلك أشار مَنْ رثاه من الشعراء، فقد ورد في مرثية السيد حيدر الحلّي له بقوله:

ثـكلُ أُمِّ القربضِ فيكَ عظيم

ولأُمّ الـصلاحِ أعـظمُ ثكلا

قد لعمري أفنيتَ عمركَ نسكا

وسلختَ الزمانَ فرضاً ونفلا

وطـويتَ الأيامَ صبراً عليها

فـتساوت عليكَ حزناً وسهلا

طالما وجهكَ الكريمُ على اللّه

بـهِ قـوبلَ الـحيا فاستهلا

وإلى ذلك أشار أيضاً الشيخ محمد الملاّ في مرثيته له بقوله:

ذهبَ الردى منهُ بنفسٍ مكرم

ومنزّهٌ عن ريبةٍ ورباءِ

يبكيكَ مسجدكَ الذي هو لم يزل

لكَ في صلاةٍ مزهراً ودعاءِ

وقد أعقب المترجم من الولد ثلاثة: هم الشيخ مهدي، والشيخ عبد اللّه، وعبد الحسين، وقد ذكر الشاعر ابن الملاّ في قصيدته التي رثاه بها اثنين منهم، ولم يذكر الثالث؛ لصغر سنّه يومذاك، وكلّهم توفوا بعد أبيهم بمدّة وجيزة، ولو عاش أصغرهم لأحيى ذكر أبيه وهو عبد الحسين، الذي كان أبوه قد وكل أمر تربيته وتعليمه القرآن إلى المرحوم الشيخ محمد الملاّ يوم كان هذا الشيخ تجتمع إليه تلاميذه في جامع ملاصق لداره، فمرض ابن الكوّاز المذكور يوماً مرضاً عاقه عن الحضور عند مؤدّبه. فلمّا أبلّ من مرضه كتب معه أبوه إلى أُستاذه رقعة هذا نصها: كان عبدك مريضاً، وليس على المريض حرج، وهذا تكليف رفعه اللّه عنه، فارفع تكليفك عنه، وضع العفو مكان العصا.

فأجابه الشيخ محمد الملاّ وذلك سنة ١٢٨٥:

أصالح أنّا قد أردنا صلاحَ مَنْ

أرادَ بطولِ البعدِ عنّا تخلّصا

فإنّ العصا كانت دواهُ وإنّنا

رفعنا العصا عنهُ وإن كانَ قد عصى

ولمّا توفّي والده المترجم صار يدرس ولده عبد الحسين المذكور قواعد اللغة العربية وآدابها على العلاّمة السيد محمد القزويني (طاب ثراه)، وله من العمر (١٥) سنة،

٦

فامتدح أُستاذه السيد بقصيدة تائية - كما حدّثني بذلك السيد القزويني نفسه - وقال: ظننت أنّها من قصائد أبيه، وقد انتحلها لنفسه؛ لرقة ألفاظها، وحسن معانيها، فنظمتُ له هذين البيتين طالباً منه تشطيرهما على سبيل الاختبار والامتحان:

لقد قيلَ لي إنّ عبد الحسين

بنظمِ القريضِ غدا فائقا

فقلتُ النظامُ مع الامتحان

يُرى كاذبا فيهِ أو صادقا

فشطرهما مرتجلاً وقد أحسن كما ترى:

لقد قيلَ لي إنّ عبد الحسين

بـنهجِ أبـيهِ غـدا لاحقا

وهـا هـو قـاربهُ إنّـه

بـنظمِ القريضِ غدا فائقا

فـقلتُ النظامُ مع الامتحان

قـد فضحَ الشاعرَ السارقا

فـدعهُ يـشطّرُ بيتي كي

يُـرى كاذباً فيهِ أو صادقا

قال السيد القزويني: فاعتقدت عند ذلك أنّ القصيدة له فأجزته عليها، وقد توفّى عبد الحسين المذكور حوالي سنة ١٢٩٥ هـ‍‍، وهو ابن نيف وعشرين سنة تقريباً، ولم نعثر على شي‌ء من شعره (١) .

وبعد أن انتهينا من ترجمة حياته لا بدّ لنا من إلقاء نظرة سريعة في أدبه، وإعطاء صورة واضحة للقارئ الكريم عن شاعرية هذا الشاعر الفحل، الذي كانت له مكانة أدبية كبيرة، وشاعرية يُشار إليها بالبنان، وناهيك بمَنْ يطريه شاعر عصره على الإطلاق السيد حيدر الحلّي، فيقول عنه في تصديره إحدى قصائد المترجم في كتابه (دمية القصر) المخطوط ما هذا نصه: أطول الشعراء باعاً في الشعر، وأثقبهم فكراً في انتقاء لئالي النظم والنثر، خطيب مجمعة الأدباء، والمشار إليه بالتفضيل على سائر الشعراء.

وقال عنه أيضاً في الكتاب المذكور وهو في صدر التقديم لإحدى قصائده: فريد الدهر، وواحد العصر، الذي سجدت لعظيم بلاغته جباه أقلامه، واعترفت بفصاحته فضلاء عصره وأيامه، وفاق بترصيع نظامه وتطريز كلامه أرباب الأدب من ذوي الرتب، ومن

____________________

١ - ترجمنا له في كتابنا البابليات ٢ / ١٠٨.

٧

رأيه في النظم على كلّ رأي، أديب راجح الشيخ صالح الحلّي.

وسُئل الحاج جواد بذقت أحد شعراء كربلاء المشهورين في عصر الكوّاز (١) عن أشعر مَنْ رثى الإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) فقال: أشعرهم مَنْ شبّه الحسين بنبيين من أولي العزم في بيت واحد، وهو الكوّاز بقوله:

كأنّ جسمكَ موسى مُذ هوى صعقا

وإنّ رأسكَ روحُ اللّهِ مُذ رُفعا

إلى غير ذلك من أقوال عارفي فضله، ومقدّري مكانته الأدبية وشاعريته اللامعة.

وقد ذاع شعره، واشتهر ذكره، وتناقل المنشدون والخطباء في المحافل الحسينية قصائده في أهل البيت (عليهم السّلام)، فكانت تُتلى وتُنشد في شتى المناسبات، وفي أُمّهات المدن العراقية، كبغداد والحلّة، والنجف الأشرف وكربلاء والبصرة، وأنت حين تُمعن النظر في شعره تجده يمتاز على شعر غيره ممّن عاصره، أو تقدّم عليه، أو تأخّر عنه فيما أودعه من التلميح، بل التصريح على الأغلب إلى حوادث تاريخية، وقصص نبوية، وأمثال سائرة؛ ليتخلّص منها إلى فاجعة الطفّ، ممّا يحوج القارئ إلى الإلمام بكثير من القضايا والوقائع، ومراجعة الكتب التاريخية.

ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ ذلك فنّ من فنون الصناعة البديعية الشعرية، الذي قلّ مَنْ حاكاه فيه من أدباء عصره وغيرهم.

وبالإضافة إلى ذلك كلّه كان يمتاز بالرصانة في التركيب، والرقّة في الألفاظ، والدقّة في المعاني والإبداع في التصوير، وإليك بعض الشواهد على ذلك من قصائده المتفرّقة فمنها قوله:

وهـل تؤمنُ الدنيا التي هي أنزلت

سـليمانَ مـن فـوقِ البناءِ المحلّقا

ولا سـدّ فـيها الـسدّ عـمّنْ أقامه

طـريق الردى يوماً ولا ردماً لقى

مضى من (قصي) مَنْ غدت لمضيّه

كـوجهِ (قصير) شانه جذعٌ منشقا

ومن بائيته في شهداء الطفّ:

تـأسّـى بـهم (آلُ الـزبير) فـذلّلت

(لمصعبَ) في الهيجا ظهورُ المصاعبِ

ولـولاهم (آلُ الـمهلّبِ) لـم تـمت

لـدى واسـطَ مـوتِ الأبيّ المحاربِ

____________________

١ - سيأتي ذكره في آخر هذا الديوان.

٨

و (زيـدٌ) وقـد كـانَ الإبـاءُ سجية

لآبـائـهِ الـغـرّ الـكرامِ الأطـايبِ

كأنّ عـليهِ اُلـقي الـشبحُ الـذي

تـشكّلَ فـيهِ شـبهُ عـيسى لصالبِ

ومن نونيته قوله:

وقفوا معي حتى إذا ما استيأسوا

(خلصوا نجيّاً) بعد ما تركوني

فكأنّ (يوسفَ) في الديارِ محكم

وكأنّني بـ (صواعهِ) اتهموني

ومنها:

نبذتهم الهيجاء فوق تلاعها

كالنون ينبذ في العرا (ذا النون)

فتخال كلا ثم (يونس) فوقه

شجر الفنا بدلا عن (اليقطين)

وقوله:

فليبكِ (طالوتُ) حُزناً للبقيّةِ من

قد نالَ (داودَ) فيه أعظمُ الغلبِ

وقوله:

وهادرُ الدمِ من (هبارٍ) ساعةَ إذ

بالرمحِ هودجَ مَنْ تنمى لهُ قرعا

وتجد في خلال شعره ما هو جدير بان يكون من الامثال السائرة والحكم الخالدة كقوله:

وإنّ امرئً سرنَ الليالي بضعنه

لأسرعَ ممّنْ سارَ من فوقِ أنيقِ

وقوله:

ولو لم تنم أجفانُ عمرو بن كاهل

لما نالت النمرانُ منهُ منالها

وقوله:

والفضلُ آفةُ أهليهِ ويوسف في

غيابةَ الجبِّ لولا الفضلُ لم يغبِ

وحسنُ نصر بن حجّاج نفاهُ وفي

سواهُ طيبة منها العيشُ لم يطبِ

وقوله:

وإذا ما الكريمُ جاءَ بعذر

فالذي منهُ يقبلُ العذرَ أكرمُ

٩

وقوله:

ومَنْ شاطرَ الناسَ أمواله

فقد شاطرتهُ الرضى والغضبُ

وقوله:

ولربما فرحَ الفتى في نيله

أرباً خلعنَ عليهِ ثوبَ حزينِ

وإذا أضلَّ اللّهُ قوماً أبصروا

طُرقَ الهدايةِ ضلّةً في الدينِ

وقوله:

إذا كانتِ الأبناءُ فيها شمائل

لآبائها فالأُمّهاتُ نجائبُ

وحين نظم نونيته العصماء التي رثى بها أهل البيت (عليهم السّلام) ومطلعها:

هـل بـعدَ موقفنا على يبرين

أحـيا بـطرفٍ بالدموعِ ضنين

هم أفضلُ الشهداءِ والقتلى الأُلى

مـدحوا بوحي في الكتابِ مبين

لا عيبَ فيهم غيرَ قبضهم اللوا

عندَ اشتباكِ السمرِ قبضَ ضنين

عارضها جماعة من مشاهير شعراء ذلك العصر وزناً وروياً، وفي مقدّمتهم السيد حيدر بقصيدته التي يندب في أوّلها الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ومطلعها:

إن ضاعَ وتركَ يابنَ حامي الدين

لا قالَ سيفكَ للمنايا كوني

ومنهم الشيخ حسن قفطان النجفي بقصيدته التي رثى فيها العباس بن علي (عليه السّلام) ومطلعها:

هيهاتَ أن تجفوا السهادَ عيوني

أو أنّ داعيةَ الأسى تجفوني

ومنهم الشيخ محسن أبو الحبّ، خطيب كربلاء المتوفّى سنة ١٣٠٥ هـ‍‍ بقصيدة مطلعها:

إن كنت مشفقة علي دعيني

مازال لومك بالهوى يغريني

ومنهم صديقه الحاج جواد بذقت الحائري إلاّ أنّ قصيدته مضمومة القافية وأوّلها:

١٠

فوقَ الحمولةِ لؤلؤ مكنون

زعمَ العواذلُ أنّهنَّ ضعونِ (١)

ومنهم الشيخ عبد الحسين شكر النجفي المتوفّى ١٢٨٥ بقصيدة رثى فيها الإمام

____________________

١ - ممّا يجب التنبيه عليه هو أنّ صاحب كتاب شعراء الحلّة قد ترجم لصاحب الديوان، ونقل ممّا أثبتناه في كتابنا (البابليات) جملة من شعره، ثمّ أراد (الباحث) أن يأتي بشي‌ء جديد لم يأت به غيره؛ فنسب له هذه القصيدة النونية وأورد منها (٢١) بيتاً وهي ليست للكوّاز، وإنّما هي للحاج جواد المذكور كما أثبتها السيد الأمين في الجزء السابع عشر من (الأعيان) ص ١٨٨، نقلاً عن (الطليعة) للسماوي، وهي مدونة في كثير من المجاميع المخطوطة، ومثبّتة بديوان الحاج جواد بذقت الذي كانت نسخة الأصل منه في مكتبة سادن الروضة الحسينية.

ومن الجديد الذي جاء به قوله: إنّ المترجم دخل يوماً على صديقه الشاعر عبد الباقي العمري ولم يعرفه، وكان عنده ساقياً - كذا - للقهوة اسمه مالك قال فيه:

قلتُ ما الاسم فدتك

النفسُ منّي قالَ مالك

فقال الكوّاز:

قلتُ صف لي خدّكَ الزا

هي وصف حسنَ اعتدالك

وليعلم القارئ أنّ هذا الشعر الذي نسبه للكوّاز والعمري ليس لهما، وإنّما البيتان هما من أبيات نظمها شاعر قديم سبق الكوّاز والعمري، وصاحب كتاب شعراء الحلّة بستمئة عام، وقد أوردها صاحب شذرات الذهب ابن عماد الحنبلي المتوفّى (١٠٨٩)، وذكرها في حوادث سنة (٦٥٤)، حيث قال: وفيها توفّى الأمير مجاهد الدين إبراهيم بن أدنبا الذي بنى الخانقاه المجاهدية بدمشق، ومن نظمه في مليح اسمه مالك قوله:

ومـليحٌ قـلتُ مـا الاسـم

حـبـيبي قالَ مـالـك

قـلتُ صـف لـي وجـهك

الزاهي وصف حسنَ اعتدالك

قالَ كـالغصنِ وكـالبدر

وما أشـبـه ذلك

وذكر للكوّاز قطعة مطلعها:

يا ابنةَ العامري هل للمشوق

رشقةً من طلى لماكِ الرحيقِ

ونسى أنّه نسبها لأخيه الشيخ حمادي في الجزء الثاني من كتابه المذكور.

١١

علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) ومطلعها:‍

ماذا أصابَ عوالمَ التكوين

فتجلببت أقمارها بدجونِ (١)

ومنهم الشيخ سالم الطريحي المتوفّى بعد الكوّاز ببضع سنين بقصيدة في رثاء الإمام الحسين (عليه السّلام) مطلعها:

أبدارِ وجرة أمْ على جيرون

عقلوا خفافَ ركائبٍ وضعونِ

وهذه المعارضة لقصيدته تلك من قبل شعراء عصره المشهورين تدلّك - بلا شك - على شهرته ومكانته العالية.

ولشاعرنا المترجم أبيات مشهورة مثبّتة في محلّها من هذا الديوان أوّلها:

وشاعرٌ ملا الأوراقَ قافية

ويحسبُ الشعرَ في تسويدِ أوراقِ

وآخرها بيته المشهور المعروف:

أخرست (أخرس) بغدادَ وناطقها

وما تركت (لباقي) الشعرِ من باقي (٢)

وقد صادف بعد ذلك أن اجتمع بالسيد عبد الغفار الأخرس المشار إليه بهذا البيت، وذلك على ما حدّثنا به سيدنا الأستاذ العلاّمة السيد محمد القزويني (طاب ثراه) من أنّه في سنة ١٢٨٥، وهي السنة التي قُتل فيها السيد رضا الرفيعي والد السيد جواد - سادن الروضة الحيدرية - أمرت الحكومة العثمانية بنفي جماعة من رؤساء النجف الأشرف إلى الحلّة، واتّفق في أثناء ذلك قدوم الشاعر السيد عبد الغفار الأخرس البغدادي

____________________

١ - وهي مثبّتة في ديوانه الذي نشرناه في النجف الأشرف سنة ١٣٧٤.

٢ - أخرس بغداد: المقصود به الشاعر المشهور السيد عبد الغفار الأخرس البغدادي المتوفّى سنة ١٢٩٠. ويقصد بباقي الشعر: الشاعر المشهور عبد الباقي العمري المتوفّى سنة ١٢٧٨، وقد تضمّن سيدنا وأستاذنا العلاّمة السيد محمد القزويني صدر هذا البيت في بيتين خاطب فيهما (حفيد أخيه السيد مهدي ابن الهادي ابن المرزا صالح القزويني)، وكانت في لسانه حبسة وتمتمة، ويسمّيه عمّه المذكور أخرس قزوين:

قولوا لأخرسَ قزوين إذا تُليت

فرائدُ فكرهِ قد صاغَ رائقها

لم تبقَ ناطقُ شعرٍ في الورى ولقد

(أخرستَ أخرسَ بغدادَ وناطقها)

وقذ ذكرنا القصة في ترجمة السيد مهدي في كتابنا البابليات ٤ / ١٦١.

١٢

إلى الفيحاء، فاجتمع في نادي أحد زعماء الشمرت بأحد ظرفاء الحلّة ممّن تجمعه وإيّاه صلة الأدب، وكان من بين الحاضرين شاعرنا الكوّاز - فقال الأخرس البغدادي لصاحبه: أرني (كوّازكم) الذي يقول (أخرست أخرس البغداد وناطقها الخ). فقال: ها هو ذا جليسك. فلمّا رأى (الأخرس) هيئته استصغره وأعرض عنه، وقال: إنّه ليس هذا. فقال له صاحبه: أيّها السيد إنّه هو، هو بعينه، والمرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه. فعند ذلك عاتب الأخرس شاعرنا الكوّاز على ذلك البيت، فقال الكوّاز للأخرس: أما علمت أنّ بمقدار علوّ همّة الشاعر تكون حماسته، وإليك فاسمع الآن ما أقوله وأنشد:

فلو إنّ لبسي قدرَ نفسي لأصبحت

تُحاكُ ثيابي من جناحِ الملائكِ

ولو كانَ فيما أستحقُ مجالسي

نصبنَ على هامِ السماكِ أرائكي

ولمّا بلغ عبد الباقي العمري للوصلي قول الكوّاز المذكور أعلاه وهو (وما تركتُ لباقي الشعرِ من باقي)، قال العمري: إذن أين أضع الباقيات الصالحات؟

ويروى أنّ الكوّاز جاء إلى بغداد ونزل ضيفاً على الحاج عيسى والحاج أحمد آل شالجي موسى من تجار وأدباء بغداد، فأرادوا زيارة عبد الباقي العمري فذهب معهما الكوّاز على تنكّره وجلس في طرف المجلس، فقال عبد الباقي: حضرني شطر وهو: (قيل لي مَنْ سما سماء المعالي)، وجعل يردّده ولا يحضره عجز له، فلمّا طال ذلك على الكوّاز قال: (قلت عيسى سما السماءِ وأحمد)، فقال عبد الباقي: أنتَ الكوّاز بلا شك، وقرّبه وأدناه وكساه.

وقد حدّث جماعة من معاصري شاعرنا المترجم بأنّه جمع المختار من شعره وشعر أخيه الشيخ حمادي في ديوان أسماه (الفرقدان)، وقد حرصت عليه زوجته بعد وفاته كلّ الحرص، ثمّ لا يُدرى أين ذهب بعد ذلك.

وقيل: إنّ ولد المترجم (عبد اللّه) جمع المختارات من شعر والده في ديوان رتّبه على الحروف الهجائية، ثمّ استُعير منه ولم يُعد إليه. وعلى أيّة حال، فقد ضاع ذلك الديوان المجموع مع ما ضاع من النفائس الشعرية والأدبية في ذلك العهد.

وقد بذلت من الجهد الشيء الكثير لجمع ما تيسّر لي جمعه من شعره منذ أمد

١٣

بعيد، من شتى المصادر والمجاميع المخطوطة التي تضمّها مكتبتنا، والتي عثرت عليها في مكتبات النجف والحلّة، وكربلاء وبغداد.

وكان ثمرة تلك الجهود التي بذلناها هذا (الديوان) (١) الذي يضمّ حوالي (١٥٠٠) بيت، والذي يسرّنا أن نقدّمه إلى القرّاء الكرام؛ خدمة للأدب والشعر والتاريخ، وإحياء لذكرى هذا الشاعر الكبير، واللّه من وراء القصد.

النجف الأشرف

محمد علي اليعقوبي

١ شعبان ١٣٨٤ ه‍‍ـ

____________________

١ - ومن هذا الديوان نقل الأستاذ إبراهيم الوائلي بعض الشواهد في شعر الكوّاز في كتابه (الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر ص ١٨٥).

١٤

العلويات

وهي قصائده في رثاء الحسين بن علي وبقيّة الشهداء (عليهم السّلام)، وإليها أشار السيد حيدر الحلّي بقوله:

ولكَ السائراتُ شرقاً وغربا

جـئنَ بعداً ففقنَ ما جاءَ قبلا

كنتَ أخلصتَ نيّةَ القولِ فيها

فـجزاكَ الحسينُ عنهنَّ فعلا

فهي (الصالحاتُ) بعدكَ تبقى

بـلسانِ الزمانِ للحشرِ تُتلى

١٥

١٦

قال المرحوم الشيخ صالح الكوّاز، الحي في رثاء شهيد الطفّ أبي عبد اللّه الحسين وأهل بيته وأصحابه (عليهم السّلام):

بـاسمِ الـحسينِ دعـا نـعاءٌ نعائي

فـنعى الـحياةَ لـسائرِ الأحياءِ (١)

وقضى الهلاكُ على النفوسِ وإنّما

بـقيتْ لـيبقى الحزنُ في الأحشاءِ

يـومٌ بهِ الأحزانُ مازجتِ الحشى

مـثلُ امـتزاجِ الـماءِ بالصهباءِ

لـم أنـسَ إذ تركَ المدينةَ وارداً

لا مـاءَ مـدينَ بـلْ نجيعُ دماءِ

قـد كـانَ موسى والمنيّةُ إذ دنت

جـاءَتـهُ مـاشيةً عـلى اسـتحياءِ

ولـهُ تـجلّى الـلّهُ جـلَّ جلاله

مـن طورِ وادي الطفِّ لا سيناءِ

فـهناكَ خـرَّ وكلُّ عضوٍ قد غدا

مـنـهُ الـكليمُ مـكلّمُ الأحـشاءِ

يـا أيّـها الـنبأ العظيمُ إليكَ في

إبـنـاكَ مـنّي أعـظمُ الأنـباءِ

إنّ الـلذينَ تـسرعا يـقيانكَ الأ

رمـاح فـي صـفينَ بـالهيجاءِ

فـأخذتَ فـي عـضديهما تثنيهما

عـمّا أمـامكَ مـن عـظيمِ بلاءِ

ذا قـاذفٌ كـبداً لـهُ قِـطعاً وذا

فـي كـربلاءَ مـقطّعُ الأعضاءِ

مُـلقى على وجهِ الصعيدِ مجرَّداً

فـي فـتيةٍ بيضُ الوجوهِ وضاءِ

تـلكَ الـوجوهُ الـمشرقاتُ كأنّها الـ

أقـمارُ تـسبحُ فـي غديرِ دماءِ

____________________

١ - نعاء فلاناً (كقطام) أي إنعه وأظهر خبر وفاته، ومنه قول أبي تمام:

نعاءٌ إلى كلّ حي نعى

فتى العربِ اختطَّ ربعَ الغنا

١٧

رقـدوا وما مرّت بهم سِنةُ الكرى

وغـفتْ جـفونُهمُ بـلا إغـفاءِ

مـتوسّدينَ مـن الصعيدِ صخورَه

مـتـمهّدينَ خـشونةَ الـحصباءِ

مُـدثّرينَ بـكربلاءَ سـلبَ القنا

مُـزملينَ عـلى الـرّبى بـدماءِ

خُضبوا وما شابوا وكانَ خضابُهم

بدمٍ مـن الأوداجِ لا الـحنّاءِ

أطـفالهم بـلغوا الـحلومَ بقربهم

شـوقاً مـن الـهيجاءِ لا الحسناءِ

ومـغسّلينَ ولا مـياه لـهم سوى

عـبراتِ ثـكلى حـرّةِ الأحشاءِ

أصـواتها بُـحَّت فـهنَّ نـوائح

يـنـدبنَ قـتـلاهنَّ بـالإيـماءِ

أنّـى التفتّنَ رَأيْنَ ما يُدمي الحشى

مـن نـهبِ أبـياتٍ وسلبِ رداءِ

تـشكو الـهوانَ لـندبها وكـأنّه

مـغضٌ ومـا فـيهِ من الإغضاءِ

وتـقولُ عـاتبةً عليهِ وما عسى

يُـجدي عـتابٌ مـوزّعَ الأشلاءِ

قـد كـنتَ لـلبعداءِ أقربَ منجد

والـيومَ أبـعدهم عـن الـقرباءِ

أدعـوكَ مـن كثبٍ فلم أجدِ الدعا

إلاّ كـمـا نـاديـتُ لـلـمتنائي

قـد كنتَ في الحرمِ المنيعِ خبيئة

والـيومُ نـقعُ الـيعملاتِ خبائي

أُسـبى ومثلكَ مَنْ يحوطُ سرادقي

هـذا لـعمري أعـظمُ الـبرحاءِ

مـاذا أقـولُ إذا الـتقيتُ بشامت

إنّـي سُـبيتُ وإخـوتي بإزائي

حـكمَ الـحمامُ عليكم أن تُعرضوا

عـنّي وإن طـرقَ الهوانُ فنائي

مـا كنتُ أحسبُ أن يهونَ عليكم

ذُلّـي وتـسييري إلـى الـطلقاءِ

هـذي يـتاماكم تـلوذُ بـبعضها

ولـكـم نـساءٌ تـلتجي لـنساءِ

١٨

عـجباً لـقلبي وهـو يألفُ حبكم

لِـمْ لا يـذوبُ بـحرقةِ الأرزاءِ

وعجبتُ من عيني وقد نظرت إلى

مـاءِ الـفراتِ فلم تسل في الماءِ

وألـومُ نـفسي فـي امتدادِ بقائها

إذ لـيسَ تـفنى قـبلَ يـومِ فناءِ

ما عذرُ مَنْ ذكرَ الطفوفَ فلم يُمت

حـزناً بـذكرِ الـطاءِ قبلَ الفاءِ

إنّـي رضيتُ من النواظرِ بالبكا

ومـن الـحشى بتنفّسِ الصُعداءِ

مـا قدرُ دمعي في عظيمِ مصابكم

إلاّ كـشكرِ الـلّهِ فـي الآلاءِ (١)

وكـلاهما لا يـنهضانِ بـواجب

أبداً لدى الآلاءِ والأرزاءِ

زعـمتْ أُمـيّةُ أنّ وقـعةَ دارها

مثلُ الطفوفِ وذاك غيرُ سواءِ (٢)

أيـنَ الـقتيلُ عـلى الفراشِ بذلّة

مـن خائضِ الغمراتِ في الهيجاءِ

شـتّانِ مـقتولٌ عـليهِ عـرسه

تـهوى ومقتولٌ على الورهاءِ (٣)

لـيسَ الذي اتّخذَ الجدارَ من القنا

حـصناً كـمقريهنَّ فـي الأحشاءِ

____________________

١ - الآلاء: النعم.

٢ - يشير إلى مصرع الخليفة الثالث (عثمان بن عفان) حين تألّب المسلمون على قتله في داره سنة ٣٥ هـ‍، بعد أن امتنع عن تنفيذ رغباتهم في خلع نفسه، أو إقصاء أقاربه عن الحكم، وقُتلت معه زوجته نائلة بنت القرافصة، وعمره يومئذ ٨٤ سنة.

٣ - الورهاء: الفرس.

١٩

وقال في رثائه أيضاً (عليه السّلام)، وذكر في آخرها الشهيد زيد بن علي بن الحسين (عليه السّلام):

أغـابـاتُ أُسدٍ أمْ بروجُ كـواكب

أمْ الـطـفُّ فـيهِ اسـتشهدت آلُ غـالبِ

ونـشرُ الـخزامى سـارَ تـحملهُ الـصبا

أمْ الـطيبُ مـن مـثوى الـكرامِ الأطائبِ

وقـفـتُ بـهِ رهـنَ الـحوادثِ أنـحني

مـن الوجدِ حتى خلتني قوسَ (حاجبِ) (١)

تـمـثّلت في أكـنافهِ ركـبُ هـاشم

تـهـاوت إلـيهِ فـيهِ خـوصُ الـركائبِ

أتـوهـا وكـلُّ الأرضِ ثـغرٌ فـلم يـكن

لـهـم مـلـجأ إلاّ حدودُ الـقواضبِ

وسـمـراً إذا ما زعـزعوها حـسبتها

مـن الـلينِ أعـطافَ الـحسانِ الكواعبِ

وإن أرسـلـوها في الـدروعِ رأيـتها

أشدّ نـفـوذاً مـن أخِ الـرملِ واثـبِ

هم الـقـومُ تؤمٌ لـلعلاءِ ولـيدهم

ونـاشـؤهم لـلـمجدِ أصـدقَ صـاحبِ

إذا هو غـنّـتهُ الـمـراضعُ بـالـثنا

صـغـى آنـسـاً بـالمدحِ لا بـالمحالبِ

ومن قـبـلِ تـلـقينِ الأذانِ يـهـزّه

نداءُ صـريـخٍ أو صـهيلُ سـلاهبِ

بـنـفسي هـم مـن مـستميتينَ كـسروا

جـفونَ الـمواضي فـي وجـوهِ الكتائبِ

وصـالوا عـلى الأعـداءِ أُسـداً ضوارياً

بـعـوجِ الـمواضي لا بـعوجِ الـمخالبِ

تـراهـم وإن لـم يـجهلوا يـومَ سـلمهم

أقل ظـهـوراً مـنهم فـي الـمواكبِ

____________________

١ - ويعني حاجب بن زرارة التميمي صاحب القوس التي رهنها عند كسرى إنوشروان وقصّته معروفة.

٢٠

إذا نـكـرّتـهم بـالـغـبارِ عـجـاجـة

فـقـد عـرفـتهم قـضبهم بـالمضاربِ

بـها لـيلٌ لـم يـبعث لـها العتب باعث

إذا قرّطَ الـكـسلان قـولُ الـمعاتبِ

فـحـاشاهم صـرعـى ومن فـتياتهم

بـهم قـد أحـاطَ الـعتبُ مـن كلِّ جانبِ

تـعـاتـبهم وهي الـعـليمةُ أنّـهـم

بـريـئونَ مـمّا يـقتضي قـولُ عـاتبِ

ومـذهولةً فـي الـخطبِ حـتى عن البكا

فـتدعو بـطرفٍ جـامدِ الـدمعِ نـاضبِ

تـلبّي بـنو عـبس بـن غـطفان فـتية

لـهم قـتلت صـبراً بـأيدي الأجانبِ (1)

وصـبيتكم قـتلى وأسـرى دعـت بـكم

فـما وجـدت مـنكم لـها مـن مـجاوبِ

وما ذاكَ مـمّـا يـرتـضيهِ حـفاظكم

قـديماً ولـم يـعهد لـكم فـي الـتجاربِ

عـذرتـكـم لم أتّـهـمكم بـجـفوة

ولا سـاورتـكم غـفـلةٌ فـي الـنوائبِ

شـكت وارعـوت إذ لـم تجد من يجيبها

وما في الحشى ما في الحشى غير ذاهبِ (2)

وبـاكـيةٌ حرى الـفـؤادِ دمـوعـها

تـصعَّدُ عـن قـلبٍ مـن الـوجدِ ذائـبِ

تـصـكُ يـديـها فـي الـترائبِ لـوعة

فـتـلهبُ ناراً من وراءِ الـترائبِ

____________________

11 - تلبي بنو عبس بن غطفان فتية

ويقرأها الذاكرون (تلبي بنو ذبيان أصوات فتية)، وهو غير صحيح؛ لأنّ التلبية كانت لبني عبس حين ثأروا لصبيتهم الثمانية الذين قتلهم بنو ذبيان وكانوا رهائن عند مالك بن شميع، وذلك في الحرب التي دارت بين ابني بغيض (ذبيان وعبس) 40 سنة؛ بسبب تسابق (قيس وحمل) على رهان مئة ناقة، وتفصيلها في الكتب التاريخية الكبيرة.

2 - كلمة (ما) في الجملتين من هذا الشطر اسم موصول.

٢١

ومدت إلـى نـحو الـغريين طـرفها

ونادت أبـاها خـيرَ مـاشٍ وراكـبِ

أبا حـسـنٍ إنّ الـذيـن نـمـاهم

أبو طـالـبٍ بـالطفِّ ثـارٌ لـطالبِ

تـعاوت عـليهم مـن بـني صخر عصبة

لـثاراتِ يـومِ الـفتحِ حـرَّى الـجوانبِ

وسـامـوهـم إمّا الـحـياةَ بـذلـة

أو الـمـوتَ فـاختاروا أعـزَّ الـمراتبِ

فـهـاهم عـلى الـغبراءِ مـالت رقـابهم

ولـمّا تـمل مـن ذلّـةٍ فـي الـشواغبِ

سـجـودٌ عـلى وجـهِ الـصعيدِ كـأنّما

لـها فـي مـحاني الطفِّ بعضُ المحاربِ

مـعـارضـها مـخـضـوبة فـكـأنّـها

مـلاغـمُ أُسدٍ بـالـدماءِ خـواضـبِ

تـفـجّرُ مـن أجـسامها الـسمر أعـيناً

وتـشـتقُّ مـنـها أنـهرٌ بـالقواضبِ (1)

ومـمّا عـليكَ الـيوم هـوّنُ مـا جـرى

ثـووا لا كـمثوى خـائفِ الـموتِ ناكبِ

أُصـيـبوا ولـكـن مـقـبلينَ دمـاؤهم

تـسـيلُ عـلـى الأقـدامِ دون الـعراقبِ

مـمـزّقـةَ الأدراعِ تلقى صـدورهـا

ومـحفوظةً مـا كـانَ بـينَ الـمناكبِ (2)

تـأسّـى بـهـم آلُ الـزبـيرِ فـذلـلت

لـمصعبَ في الهيجا ظهورَ المصاعبِ (3)

____________________

1 - ونظر في معنى بيته إلى قول ابن نباتة السعدي:

خلقنا بأطرافِ القنا في ظهورهم

عيوناً لها وقعُ السيوفِ حواجبُ

2 - تداول هذا المعنى الشعراء، والأصل فيه قول الحصين بن الحمام المري:

ولسنا على الأعقابِ تُدمى كلُومنا

ولكن على أقدامنا تقطرُ الدما

3 - في هذه الأبيات ذكر المشاهير من الأباة؛ ففي الأوّل: أشار إلى مصعب بن الزبير الذي قُتل سنة 71 هـ‍‍، وكان العضد الأقوى في تثبيت ملك أخيه عبد اللّه بالحجاز والعراق، ولاّه أخوه البصرة فزحف على الكوفة وقتل المختار، ثمّ زحف عليه عبد الملك =

٢٢

ولـولاهـم آلُ الـمـهلّبِ لم تـمـت

لـدى واسـطٍ مـوتَ الأبـي المحاربِ (1)

وزيدٌ وقد كانَ الإبـاءُ سـجية

لآبـائـهِ الـغـرِّ الـكـرامِ الأطـائبِ (2)

كأنّ عـلـيهِ أُلـقـي الـشبحُ الـذي

تـشـكّلَ فـيـهِ شـبهُ عـيسى لـصالبِ

فـقل لـلذي أخـفى عـن الـعينِ قـبره

مـتى خـفيتْ شـمسُ الـضحى بالغياهبِ

وهل يـختفي قـبرُ امـرئ مـكرماته

بـزغـنَ نـجـوماً كـالـنجومِ الـثواقبِ

ولـو لـم تـنمُّ الـقومُ فـيهِ إلـى العدى

لـنـمَّت عـلـيهِ واضـحـاتُ الـمناقبِ

كأنّ الـسـما والأرضَ فـيهِ تـنافسا

فـنـالَ الـفضا عـفواً سـني الـرغائبِ

لـئن ضـاقَ بـطنُ الأرضِ فـيهِ فـإنّه

لِـمَنْ ضـاقَ فـي آلائـهِ كـلّ راحـبِ

عـجبتُ ومـا إحـدى الـعجائبِ فـاجأت

بـمـقتلِ زيدٍ بـل جـميعِ الـعجائبِ

____________________

= ابن مروان بجيوش الشام، وعرض عليه الأمان والولاية على العراق، وبذل له ألف ألف درهم فأبى الخضوع للحكم الأموي، وتخاذل عنه أصحابه وقاتل حتى قُتل على نهر (الدجيل) بالقرب من (مسكن) سنة 71 هـ‍‍.

1 - أشار إلى يزيد بن المهلّب ابن أبي صفرة الأزدي من الشجعان الأباة، تنقّل في عدّة ولايات في العهد الأموي، وحُبس مراراً ثمّ أُطلق، ونهض بالبصرة ونازع بني أُميّة الخلافة، فقاتله مسلمة بن عبد الملك وقُتل بين واسط وبغداد سنة 102 هـ.‍‍

2 - أشار إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) الذي نهض سنة 120 هـ‍‍ في الكوفة بعد ما بايعه كثير من أهلها، فجهّز إليه هشام بن عبد الملك جيشاً بقيادة يوسف بن عمرو الثقفي، وقاتل حتى استشهد في السبخة، وأخرجه بنو أُميّة بعد دفنه وصلبوه في كناسة الكوفة أربع سنين، ثمّ أحرقوه بعد ذلك بالنار، وعمره يوم قُتل 42 سنة.

٢٣

أتـطـردُ قـربـى أحـمدَ عـن مـكانه

بـنو الـوزغِ الـمطرودِ طـردَ الـغرائبِ

وتـحـكمُ فـي الـدينِ الـحنيفِ وإنّـها

لأنـصـبُ لـلإسلامِ مـن كـلّ نـاصبِ

وقال أيضاً في رثائه (عليه السّلام):

لـي حـزنُ يـعقوبَ لا ينفكُّ ذا لهب

لـصرعٍ نـصبَ عيني لا الدمِ الكذبِ

وغـلمةٍ مـن بـني عـدنانَ أرسلها

لـلجدِّ والـدها فـي الحربِ لا اللعبِ

ومـعـشرٍ راودتـهم عـن نـفوسهم

بيضُ الضبا غيرَ بيضِ الخرّدِ العربِ

فـأنـعموا بـنفوسٍ لا عـديلَ لـها

حتى لسيلت على الخرصانِ والقضبِ

فـانظر لأجـسادهم قـد قـدَّ من قبل

أعضاؤها لا إلى القمصانِ والأهبِ (1)

كـلّ رأى ضـرَّ أيـوبٍ فما ركضت

رجـلٌ لهُ غيرَ حوضِ الكوثرِ العذبِ

قـامت لـهم رحـمةُ الباري تمرّضهم

جـرحى فـلم تدعهم للحلفِ والغضبِ

وآنـسينَ مـن الـهيجاءِ نـارَ وغى

في جانبِ الطفِّ ترمي الشهبَ بالشهبِ

فـيمّموها وفـي الإيـمانِ بيضُ ضباً

ومـا لـهم غـيرَ نصرَ اللّهِ من إربِ

تـهشُّ فـيها عـلى آسـادٍ مـعركة

هـشَّ الـكليمِ على الأغنامِ للعشبِ (2)

إذا انـتضوها بـجمعٍ مـن عـدوهم

فـالهامُ سـاجدةٌ مـنها عـلى التربِ

ومـولـجينَ نـهـارَ الـمـشرفيةِ في

لـيلِ الـعجاجةِ يـومَ الروعِ والرهبِ

____________________

1 - والأهب بالضم جمع إهاب: الجلد.

2 - في مجمع البيان عند ذكر قوله تعالى: ( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) أي أضرب الشجر ليتساقط الورق فتأكل غنمي منه.

٢٤

ورازقـي الـطيرَ ما شاءت قواضبهم

مـن كـلِّ شـلوٍ من الأعداءِ مقتضبِ

ومـبـتلينَ بـنـهرٍ ما لـوارده

مـن الـشهادةِ غـيرَ البعدِ والحجبِ

فـلـن تُـبلَّ ولا فـي غـرفةٍ أبـداً

مـنهُ غـليلَ فـؤادٍ بـالظما عـطبِ

حـتى قـضوا فـغدا كـلٌّ بمصرعه

سـكينةً وسـطَ تـابوتٍ مـن الكثبِ

فـليبكِ (طـالوتُ) حـزناً للبقيّةِ من

قـد نـالَ (داودَ) فـيهِ أعـظمَ الغلبِ

أضـحى وكـانت لـهُ الأملاكُ حاملة

مـقـيّداً فـوقَ مـهزولٍ بـلا قـتبِ

يـرنوا إلـى الناشراتِ الدمعَ طاوية

أضـلاعهنَّ عـلى جـمرٍ من النوبِ

و (الـعادياتِ) مـن الفسطاطِ ضابحة

و (الـمورياتِ) زنادَ الحزنِ في لهبِ

و (الـمرسلاتِ) مـن الأجفانِ عبرتها

و (الـنازعاتِ) بـروداً في يدِ السلبِ

و (الـذارياتِ) تـراباً فـوقَ أرؤسها

حـزناً لـكلِّ صـريعٍ بـالعرا تربِ

وربَّ مـرضعةٍ مـنهنَّ قـد نـظرت

رضـيعها فاحصَ الرجلينِ في التربِ

تـشـوطُ عـنـهُ وتـأتـيهِ مـكابدة

مـن حـالهِ وظـماها أعـظمُ الكربِ

فـقل (بـهاجرَ) (إسـماعيلُ) أحزنها

مـتى تـشطُّ عنهُ من حرّ الظما تؤبِ

ومـا حـكتها ولا (أُمّ الـكليمِ) أسـى

غـداة فـي الـيمّ ألـقتهُ من الطلبِ

هـذي إلـيها ابـنها قد عادَ مرتضعاً

وهـذه فـي سـقي بـالباردِ الـعذبِ

فـأينَ هـاتانِ مـمّن قد قضى عطشاً

رضـيعها ونـأى عـنها ولـم يؤبِ

بـل آبَ مـذ آبَ مـقتولاً ومـنتهلا

مـن نـحرهِ بـدمٍ كـالغيثِ منسكبِ

شـاركنها بـعمومِ الـجنسِ وانفردت

عـنهنَّ فـيما يخصُّ النوعَ من نسبِ

٢٥

كـانت تـرجى عـزاءً فيهِ بعد أب

لـهُ فـلم تـحظَ بـابنٍ لا ولا بـأبِ

فـأصـبحت بـنـهارٍ لا ذكـاءَ لـه

وبـاتت الـليلَ فـي جـوٍ بلا شهبِ

وصـبيةٌ مـن بـني الـزهرا مربّقة

بـالحبلِ بـينَ بـني حـمالةَ الحطبِ

كأنّ كلَّ فـؤادٍ مـن عـدوهم

صـخرُ بن حربٍ غدا يفريهِ بالحربِ

لـيتَ الأُلـى أطعموا المسكينَ قوتهم

وتـالبيهِ وهـم فـي غـايةِ الـسغبِ

حـتى أتى (هل أتى) في مدحِ فضلهم

مـن الإلـهِ لـهم فـي أشرفِ الكتبِ

يـرونَ بـالطفِّ أيـتاماً لـهم أُسرت

يـستصرخونَ مـن الآبـاءِ كلَّ أبي

وأرؤسٌ سـائـراتٌ بـالرماحِ رمـى

مـسيرها عـلماءُ الـنجمِ بـالعطبِ

تـرى نـجوماً لـدى الآفـاقِ سائرة

غـيرَ الـتي عـهدت بالسبعةِ الشهبِ

كـواكبُ فـي سـما الـهيجاءِ ثابتة

سـارت ولـكن بأطرافِ القنا السلبِ

لم أدرِ والسمرُ مذناءت بها اضطربت

مـن شدّةِ الخوفِ أمْ من شدّةِ الطربِ

لاغـرو إن هـزّها تـيهٌ غداة غدت

مـشـارقاً لـبدورِ الـعزِّ والـحسبِ

وإن تـرعَ فـلمّا وشـكاً لـهُ نظرت

مَـنْ حـطّها بصدورِ القومِ واللببِ (1)

وكـيفَ لـم تضطرب والحاملونَ لها

لـم يـبقَ مـنها فؤادٌ غيرَ مضطربِ

لـعظمِ مـا شاهدوا يومَ الطفوفِ فهم

يـرونهُ فـي بـعيدِ الـعهدِ عن كثبِ

____________________

1 - اللبب واللبّه بالفتح: المنحر، وموضع القلادة من الصدر، وفي بعض النسخ (اليلب) وهي الترس، أو الدروع، أو جلود يخرز بعضها إلى بعض وتلبس على الرؤوس خاصة، وما أثبتناه إلى قصد الشاعر.

٢٦

بُـعداً لـقومٍ أبـادوا خـصبَ ربعهم

فـأصبحوا بـعدهم فـي مربعٍ جدبِ

والـقـاتلينَ لـسـاداتٍ لـهم حـسداً

عـلى عُلا الشرفِ الوضّاحِ والحسبِ

والـفضلُ آفـةُ أهـليه ويـوسفُ في

غـيابةِ الـجبّ لـولا الفضلِ لم يغبِ

وصـفوةُ الـلّهِ لـم يـسجد لهُ حسداً

إبـليسُ لـمّا رأى من أشرفِ الرتبِ

وحـسن نـصر بـن حجاجٍ نفاهُ وفي

سـواهُ طـيبةٌ مـنها العيشُ لم يطبِ

يـا سـادتي يـا بني الهادي ومَنْ لهم

بـثّي وحزني إذا ما ضاقَ دهري بي

نـدبـتكم فـأجـيبوني فـلستُ أرى

سـواكم مـستجيباً صـوتَ مـنتدبِ

فـأنـتم كـاشفوا الـبلوى وعـندكم

صـدقُ الأمـاني فلم تكذب ولم تخبِ

ألـسـتم جـعـلَ الـباري بـيمنكم

رزقُ الـخلائقِ من عجمٍ ومن عربِ

بـل أنـتمُ سـببٌ بـالعرشِ متصل

لـكلِّ ذي سـببٍ أو غـيرِ ذي سببِ

وله في رثائه (عليه السّلام):

يـابنَ بنتِ النبي عذراً فإنّي

قـد رأيـتُ الحياةَ بعدكَ ذنبا

مَـنْ تـراهُ أشـدّ منّي وقاحاً

جـعلَ الـصبرَ بعد قتلكَ دأبا

فـكأنّي لـم يأتني خبرُ الطفّ

أو إنّي استسهلتُ ما كانَ صعبا

أينَ حبّي إن لم أمت لكَ حزناً

أينَ حزني إن لم أمت لكَ حبّا

٢٧

وله في رثائه (عليه السّلام):

لـم أنـسَ وقعةَ كربلاء وإن

أنـسى الرزايا بعضها بعضا

مـن أيـنَ بـعدَ السبطِ مفتقد

فيكونَ عضبَ مصابهِ أمضى

قـالوا الـحسين لأجلكم كرماً

شربَ الحتوفَ فقلتُ لا أرضى

أرضـى بأن أرِدَ الجحيمَ ولا

يـردَ الـردى قتلاً ولا قبضا

بـأبي أُبـاةٌ لـم تـرد أبـداً

ضـيماً سقت بدمائها الأرضا

هـي لا تُـبالي أن يُصاب لها

هـامٌ إذا حـاطت لها عرضا

ولـطالما اضطربَ الشؤامُ إذا

أبـدى الحجازُ بقضبهم ومضا

لـم أنـسَ زينبَ إذ تقولُ وقد

كـضَّ المصابُ فؤادها كضّا

لـلّهِ رزءٌ قـد أصـابَ لـنا

نـدباً فـعطّلَ بـعدهُ الفرضا

ومـضى بـصحةِ ديـننا فغدا

حـتى المعادِ يعد في المرضى

وتـردُّ تـدعو الـقومَ واعظة

إذ لـيسَ يسمعُ كافرٌ وعظا (1)

يـا قـومِ قـتلكم الحسينَ أما

يـكفيكم عـن صدرهِ الرضا

أوَ مـا كفاكم نهبكم خيمَ النسوا

ن عن إبـرادها تـنضى

أبـديـتمُ أصـواتنا جـزعاً

ولـطالما هـي تـألفُ الغضا

أرقـدتمُ عـينَ الـضلالِ بنا

ومـنعتمُ عـينَ الهدى غمضا

مـا كـانَ ذنـبُ مـحمدٍ لكم

حـتـى قـتلتم آلـهُ بـغضا

____________________

1 - وهذه القافية جاءت مخالفة لروي القصيدة فأثبتناها كما وجدت في الأصل.

٢٨

الـخـيلُ واردةٌ وصادرة

مـن فوقِ صدرِ سليلهِ ركضا

ونـسـاؤهُ تـشكو وصـبيتهُ

حـرَّ الـظما وحرارةَ الرمضا

وتـقولُ وهـي لـهم موبّخة

مـا لا يـرونَ لبعضهِ دحضا

بـالأمـسِ أبـرمنا عـهودكم

والـيومَ أسـرعتم لـها نقضا

أكـبـادكم لـلـغيظِ أوعـية

بـالطفِّ ألـفيتم لـها نـفضا

فـلشدِّ مـا ربـضت كلابكم

حـذرَ الأسودِ فلم تطق نهضا

جـئتم بـها شـوهاءَ معضلة

لا تـملكونَ لـعارها رحـضا

وقال في رثائه (عليه السّلام):

مـا ضـاقَ دهركَ إلاّ صدركَ اتسعا

فـهل طـربتَ لوقعِ الخطبِ مذ وقعا

تزدادُ بـشـراً إذا زادتْ نـوائبه

كـالبدرِ إن غـشيتهُ ظـلمةٌ سـطعا

وكـلّما عـثرتْ رجـلُ الزمانِ عمى

أخـذتَ فـي يـدهِ رفـقاً وقلتَ لعا

وكـم رحـمتَ الـليالي وهي ظالمة

ومـا شـكوتَ لـها فعلاً وإن فضعا

وكـيفَ تـعظمُ فـي الأقـدارِ حادثة

عـلى فـتى بـبني المختارِ قد فضعا

أيّـامَ أصـبحَ شـملُ الشركِ مجتمعاً

بـعدَ الـشتاتِ وشملُ الدينِ منصدعا

سـاقتْ عـديّاً بـنو تـيمٍ لـظلمهم

إمـامَها وثـنتْ حـرباً لـها تـبعا

مـا كـانَ أوعرَ من يومِ الحسينِ لهم

لـولا لـنهجِ الـغصبِ قد شرعا

سـلا ظبا الـظلمِ مـن أغمادِ حقدهما

ونـاولاها يـزيداً بـئسَ مـا صنعا

فـقـامَ مـمـتثلاً بـالطفِّ أمـرهما

بـبيضِ قـضبٍ هـما قُدماً لها طبعا

٢٩

لا غـرو إنْ هـو قـد ألفى أباهُ على

هـذا الـضلالِ إذا مـا خلفه هرعا

وجـحفلٌ كـالدبا جـاءَ الـدبابُ به

ومـن ثـنيّةِ هرشى نحوكم طلعا (1)

يـا ثـابتاً فـي مـقامٍ لـو حـوادثه

عـصفنَ فـي يـذبلٍ لانـهارَ مقتلعا

ومـفرداً مـعلّماً فـي ضـنكِ ملحمة

بـها تـعادى عـليهِ الشركُ واجتمعا

لـلّهِ أنـتَ فـكم وتـرٌ طُـلبتَ به

لـلـجاهليةِ فـي أحـشائها زرعـا

قـد كـانَ غرساً خفيّاً في صدورهم

حـتى إذا أمّـنوا نـارَ الوغى فرعا

وأطـلعتْ بعدَ طولِ الخوفِ أرؤسها

مـثلُ الـسلاحفِ فيما أضمرتْ طمعا

واسـتأصلتْ ثـارَ بـدرٍ في بواطنها

وأظهرتْ ثارَ مَنْ في الدارِ قد صُرعا

وتـلكمُ شـبهةٌ قـامتْ بـها عصب

عـلى قـلوبهمُ الـشيطانُ قـد طبعا

ومـذ أجـالوا بـأرضِ الطفِّ خيلهم

والـنقعُ أظـلمَ والـهندي قـد لـمعا

لـم يطلبِ الموتُ روحاً من جسومهم

إلاّ وصـارمكَ الـماضي لـهُ شـفعا

حـتى إذا بـهم ضـاقَ الفضا جعلت

سـيوفكم لـهم فـي الـموتِ متّسعا

وغـصّ فـيهم فـمُ الغبرا وكانَ لهم

فـمُ الـردى بعد مضغِ الحربِ مُبتلِعا

ضـربتَ بـالسيفِ ضرباً لو تساعده

يـدُ الـقضاءِ لـزالَ الشركُ وانقشعا

بـل لو تشاءُ القضا أن لا يكونَ كما

قـد كـانَ غيرُ الذي تهواهُ ما صنعا

____________________

1 - هرشى: ثنية بين مكة والمدينة، قريبة من الجحفة، يُرى منها البحر، ولها طريقان، فكلّ مَنْ سلكهما كان مصيباً (لسان العرب). وفيها حاول جماعة من المنافقين اغتيال النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد رجوعه من حجة الوداع.

٣٠

لـكـنّكم شـئتم مـا شـاءَ بـارؤكم

فـحكمهُ ورضـاكم يـجريانَ مـعا

ومـا قـهرتم بـشيءٍ غيرَ ما رغبت

لهُ نـفوسكم شـوقاً وإن فـضعا

لا تـشـمتنَّ رزايـاكـم عـدوّكـم

فـما أمـاتَ لـكم وحـياً ولا قـطعا

تـتـبّعوكم ورامـوا مـحو فـضلكم

فـخيّبَ الـلّهُ مَـنْ فـي ذلكم طمعا

إنّـي وفـي الصلواتِ الخمسِ ذكركم

لـدى الـتشهّدِ لـلتوحيدِ قد شفعا (1)

فـمـا أعـابكَ قـتلٌ كـنتَ تـرقبه

بـهِ لـكَ الـلّهُ جـمَ الفضلِ قد جمعا

ومـا عـليكَ هـوانٌ أن يُشال على

الـميَّادِ مـنكَ مُـحيّاً لـلدجى صدعا

كـأنّ جـسمكَ موسى مذ هوى صعقاً

وأنّ رأسـكَ روحُ الـلّهِ مـذ رُفـعا

بـكـاكَ آدمُ حـزنـاً يـومَ تـوبته

وكـنتَ نوراً بساقِ العرشِ قد سطعا

كـفى بـيومكَ حـزناً أنّـه بـكيت

لـهُ الـنبيونَ قُـدماً قـبل أن يـقعا

ونـوحُ أبـكيتهُ شـجواً وقـلَّ بـأن

يـبكي بـدمعٍ حـكى طـوفانهُ دفعا

ونـارُ فـقدكَ فـي قـلبِ الخليلِ بها

نـيرانُ نـمرودَ عـنهُ الـلّهُ قد دفعا

كـلّمتَ قـلبَ كـليمِ الـلّهِ فانبجست

عـيناهُ دمـعاً دمـاً كـالغيثِ مُنهمعا

ولـو رآكَ بـأرضِ الـطفِّ منفرداً

عـيسى لـما اختارَ أن ينجو ويرتفعا

ولا أحبّ حـيـاةً بـعد فـقدكم

ومـا أرادَ بـغيرِ الـطفِّ مضطجعا

يا راكـباً شـدقمياً فـي قـوائمه

يـطوي أديـمَ الـفيافي كـلّما ذرعا

يـجتابُ مـتّقدُ الـرمضاءِ مـستعراً

لـو جـازهُ الطيرُ في رمضائهِ وقعا

____________________

1 - الشفع من الأعداد:ما كان زوجاً، تقول: كان وتراً فشفعته بآخر.

٣١

فـرداً يـكذّبُ عـينيهِ إذا نـظرت

فـي الـقفرِ شخصاً وأُذنيهِ إذا سمعا

عـجْ بالمدينةِ واصرخْ في شوارعها

بـصرخةٍ تـملأ الـدنيا بـها جزعا

نـادِ الـذين إذا نـادى الصريخُ بهم

لـبوَّهُ قـبلَ صدى من صوتهِ رجعا

يـكـادُ يـنفذُ قـبلَ الـقصدِ فـعلهم

لـنصرِ مَـنْ لـهم مـستنجداً فزعا

مـن كـلّ آخـذ لـلهيجاءِ أهـبتها

تـلـقاهُ مـعـتقلاً بـالرمحِ مـدّرعا

لا خـيلهُ عـرفتْ يـوماً مـرابطها

ولا عـلى الأرضِ لـيلاً جنبهُ وضعا

يُصغي إلى كلِّ صوتٍ علَّ مصطرخاً

لـلأخذِ فـي حـقهِ مـن ظالميهِ دعا

قـل يـا بـني شيبةَ الحمدِ الذينَ بهم

قـامت دعـائمُ ديـنِ الـلّهِ وارتفعا

قـوموا فـقد عصفتْ بالطفِّ عاصفة

مـالتْ بـأرجاءِ طودِ العزِّ فانصدعا

لا أنـتـمُ أنـتمْ إن لـم تـقم لـكم

شـعواءُ مـرهوبةً مـرأى ومستمعا

نـهـارُها أسودٌ بـالنقعِ مـعتكر

ولـيلها أبـيضٌ بـالقضبِ قد نصعا

إن لـم تـسدّوا الفضا نقعاً فلم تجدوا

إلـى الـعُلا لـكم مـن منهجٍ شرعا

فـلتلطمِ الـخيلُ خـدَّ الأرضِ عادية

فـإنّ خـدَّ حـسينٍ لـلثرى ضرعا

ولـتُملأ الأرضُ نـعياً في صوارمكم

فـإنّ نـاعي حسينٍ في السماءِ نعى

ولـتُذهلُ الـيومَ مـنكم كلُّ مرضعة

فـطفلهُ مـن دمـا أوداجـهِ رضعا

لـئن ثـوى جـسمهُ في كربلاءِ لقى

فـرأسهُ لـنساهُ فـي الـسباءِ رعى

نـسـيتم أو تـنـاسيتم كـرائـمكم

بـعدَ الـكرامِ عـليها الـذلُّ قد وقعا

أتـهجعونَ وهـم أسـرى وجـدّهم

لـعمّهِ لـيلُ بـدرٍ قـطّ مـا هـجعا

٣٢

فـليتَ شـعري مَـنْ الـعباسُ أرقَّه

أنـينهُ كـيفَ لـو أصـواتها سمعا

وهـادرُ الـدمِ مـن هـبارٍ ساعةَ إذ

بـالرمحِ هودجُ مَنْ تُنمى لهُ قرعا (1)

مـا كـانَ يـفعلُ مذ شيلت هوادجها

قسراً على كلِّ صعبٍ في السرى ظلعا

مـا بـينَ كـلّ دعـيٍّ لم يراعِ بها

مـن حـرمةٍ لا ولا حقَّ النبي رعى

بـني عـلي وأنـتم لـلنجا سـببي

فـي يـومِ لا سـببٌ إلاّ وقـد قُطعا

ويـومَ لا نـسبٌ يـبقى سوى نسب

لـجـدّكم وأبـيـكم راحَ مـرتـجعا

لـو مـا أنـهنه وجـدي في ولايتكم

قـذفتُ قـلبي لـما قـاسيتهُ قِـطعا

مَـنْ حـازَ مـن نِعَمِ الباري محبّتكم

فـلا يُـبالي بـشيءٍ ضـرَّ أو نفعا

فـإنّها الـنعمةُ العظمى التي رجحت

وزنـاً فـلو وزُنـت بـالدرِّ لارتفعا

مَـنْ لـي بنفسٍ على التقوى موطنةً

لا تـحفلنَّ بـدهرٍ ضـاقَ أو وسـعا

____________________

1 - هبار بن الأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزّى، من قريش، كان شاعراً، هجا النبي قبل إسلامه، وأباح النبي دمه يوم فتح مكة؛ لأنّه روّع زينب بنت رسول اللّه زوجة أبي العاص بن الربيع حين حملها حموها إلى المدينة؛ ليلحقها بأبيها بعد وقعة بدر، فتبعهما هبار وقرع هودجها بالرمح، وكانت حاملاً فأسقطت ما في بطنها، فقال (صلّى الله عليه وآله): (إن وجدتموه فاقتلوه). وجاء في (الجعرانة) قرب مكة فأسلم، فقال (صلّى الله عليه وآله): (الإسلام يجبُّ ما قبله).

٣٣

وله في رثائه (عليه السّلام):

أمـا فـي بـياضِ الشيبِ حلمٌ لأحمق

بـهِ يـتلافى مـن لـياليهِ مـا بقي

ومـا بـالأُلى بـانوا نـذيرٌ لـسامعٍ

فـإنّ مـناديهم يـنادي الـحقَّ الحقِ

وإنّ امـرأ سـرنَ الـليالي بـظعنه

لأسـرعَ مـمّن سـارَ من فوقِ أينقِ

وسـيانَ عندَ الموتِ مَنْ كانَ مصحراً

ومَـنْ كانَ من خلفِ الخِباءِ المسردقِ

وهـل تُـؤمنُ الدنيا التي هي أنزلت

(سـليمانَ) مـن فـوقِ البناءِ المحلّقِ

ولا سـدَّ فـيها (الـسدَ) عـمّن أقامه

طـريقُ الـردى يوماً ولا ردّ ما لقي

وأعـظمُ مـا يـلقى من الدهرِ فادح

رمـى شـملَ آلِ المصطفى بالتفرّقِ

فـمنْ بـينَ مـسمومٍ وبـينَ مـشرّد

وبـيـنَ قـتـيلٍ بـالـدماءِ مـخلّقِ

غـداة بـني عـبد الـمناف أنـوفهم

أبـتْ أن يُـسافَ الضيمُ منها بمنشقِ

سـرتْ لـم تـنكب عن طريقٍ لغيره

حـذارَ الـعدى بل بالطريقِ المطرقِ

ولا دخـلت تـحتَ الـذمامِ ولا اتقت

بـغيرِ الـقنا أعـداءها يـومَ تـتّقي

إلـى أن أتت أرضَ الطفوفِ فخيّمت

بـأعـلى سـنـامٍ لـلعلاء ومـفرقِ

وأخـلفها مَـنْ قـد دعـاها فلم تجد

سوى السيفَ مهما يعطها الوعدُ يصدقِ

فـمـالت إلـى أرمـاحها وسـيوفها

وأكـرم بـها أنـصارَ صدقٍ وأخلقِ

تـعاطت على الجردِ العتاق دمَ الطلا

ولا كـمـعاطاتِ الـمـدامِ الـمعتقِ

فـما بـرحت تـلقى الـحديدَ بـمثله

قـلـوباً فـتثني فـيلقاً فـوقَ فـيلقِ

إلـى أن تـكسّرنَ الـعواسلُ والضبا

ومـزّقـت الأدراعَ كلّ مـمـزّقِ

٣٤

وتـاقت إلـى لُـقيا الإلـهِ نـفوسها

فـفارقنَ مـنها كـلَّ جـسمٍ مـفرقِ

ومـا فـارقت أيـمانها بيضَ قضبها

وما سـقطت إلاّ بـكفٍّ ومـرفقِ

ومـا ربـحت مـنها العدى بعد قتلها

مـن الـسلبِ إلاّ بـالدلاصِ المخرقِ

ألا (مـتهمٌ) يـنحو الـمدينةَ مسرعاً

لـيوصلها عـنّي رسـالةَ (مـعرقِ)

إذا حـلَّ مـنها مـهبطُ الوحي فلينخ

ويـعولُ كـإعوالِ الـولودِ الـمطرّقِ

أهـاشمُ هـبّي لـلكفاحِ فـلم أخـل

عـلى الـضيمِ يوماً أن تقرّي وتخفقي

فـإنّ دمَ الأنـجابِ مـن آلِ غـالب

أُريـقَ عـلى كـفِّ ابن ضبعٍ مُلفَّقِ

فـلـيسَ بـمجدٍ بـعدَ غـبنكِ فـيهم

بـأنْ تـقرعي سـنّاً عليهم وتصفقي

مـضى مـن قصي مَنْ غدت لمضيَّه

كـوجهٍ قـصيرٍ شانهُ جدعُ منشقِ (1)

وكـم مـن صـبيٍّ لـم يشبَّ ترفّعاً

عـن الـطوقِ ذي جيدٍ بسيفِ مطوّقِ

وطـفلٍ عـلى الـغبراءِ تنظرُ وجهه

كـشـقّةِ بـدرٍ بـالثريا مـقرطقِ (2)

____________________

1 - قصي بن كلاب بن مرّة، سيّد قريش في عصره، وهو الأب الخامس من سلسلة النسب النبوي الطاهر.

وقصير بن سعد اللخمي من خلصاء جذيمة الأبرش، ملك العراق أيّام الطوائف، أحد رجال القصّة المشهورة مع الزباء التي ملكت الجزيرة، وفيه المثل المشهور (لأمر ما جذع قصير أنفه).

2 - وهذه القافية جاء بها للضرورة؛ وذلك لأنّها لا تتّفق والمعنى المقصود؛ لأنّ القرطق كما قالوا قباء ذو طاق واحد فينبغي أن يأتي مكانها بكلمة (مقرط) بقرينة وجود الثريا؛ لأنّهم في الأغلب يشبّهون القرط فيها.

قال الأرجاني:

تذكركمُ ليلٌ لنا سالف

قرطكِ قد كانَ ثُريّاهُ

٣٥

أذاقـوهـمُ حـرّ الـحديدِ عـواطشاً

ومـن عـذبِ مـاءٍ قـطرةٌ لم تذوّقِ

لـو أنّ رسـولَ الـلّهِ يُـرسلُ نظرة

لـردّتْ إلـى إنـسانِ عـينٍ مؤرقِ

وهـانَ عـليهِ يـومَ (حـمزةَ) عـمّه

بـيومِ حـسينٍ وهو أعظمُ ما لقي (1)

ونـالَ شـجى من زينبَ لم ينلهُ من

صـفـيّةَ إذ جـاءتْ بـدمعٍ مُـدفقِ

فـكم بـينَ مَـنْ للخدرِ عادت كريمة

ومَـنْ سـيّروها فـي الـسبايا لجلّقِ

ولـيتَ الـذي أحنى على ولدِ (جعفر)

بـرقّةِ أحـشاءٍ ودمـعٍ مـرقرقِ (2)

رأى بـين أيـدي الـقومِ أيتامَ سبطه

سـبايا تـهادى مـن شقيٍّ إلى شقي

وريّـانةَ الأجـفانِ حـرّانةَ الـحشى

فـفي مـحرقٍ قامت تنوحُ ومغرقِ (3)

فـلا حـرُّ أحـشاها مـجفّفُ دمعها

ولا الـدمعُ ماضٍ عن حشاها بمحرقِ

فـقل لـلنجومِ الـمشرقاتِ ألا اغربي

ولا تـرغبي بـعدَ الـحسينِ بمشرقِ

فـقد غـابَ مـنها في ثرى القبرِ نيّر

مـتى هـي تـستقبلُ مـحيّاهُ تشرقِ

وقـل لـلبحارِ الزاخراتِ ألا انضبي

مـضى مَـنْ نـداه مـدّها بـالتدفّقِ

____________________

1 - يشير إلى مصرع سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب يوم أُحد، وموقف أُخته صفية على جسده ورأته وقد مثّلت به هند بنت عتبة.

2 - يشير إلى عطف النبي (صلّى الله عليه وآله) على ولدي جعفر بن أبي طالب الطيّار، وهما محمّد وعبداللّه بعد مقتل أبيهما في مؤتة سنة (8) هـ‍‍.

3 - الصحيح (ريا الأجفان وحرى الحشا)، ولعلّ الضرورة اضطرته لاستعمالها على غير الوجه اللغوي الصحيح، وذلك غير مغتفر من مثله.

٣٦

وله في رثائه (عليه السّلام):

إذا أنـا لا أبـكي لـمثلكَ حـقَّ لـي

بـكائي عـلى أنّـي لـمثلكَ لا أبكي

وكيفَ يُصانُ الدمعُ من بعدِ ما اجتروا

عـلى حـرماتِ الـلّهِ أعـداكَ بالهتكِ

أأنـسـى دمـوعاً أو دمـاءً تـجاريا

مِـنَ الآلِ يـومَ الطفِّ بالسفحِ والسفكِ

بـنفسي مـلوكُ الـعزّ كافحتِ العدى

على العدلِ ما بينَ الورى لا على الملكِ

إلـى أن مـضوا صرعى فميّزَ قتلهم

إلـى الـناسِ ما بينَ الهدايةِ والشركِ

فـإنْ جـحدوا حـقَّ الـوصي وفاطم

وتمـزيـقُ ذاك... لـلـصـكِ

وسـمَّ سـليلَ المصطفى الحسنَ الذي

بـنكهتهِ اعـتاضَ الـنبي عن المسكِ

فـلم يـجحدوا ذبحَ الحسينِ وما جرى

عـليهِ غـداةَ الـطفِّ من أعظمِ الفتكِ

فـتلكَ رزايـا فـي السماءِ إلى الثرى

فـمن مـلكٍ يـبكي عـليهِ ومن مُلكِ

كـفى حـزناً أنّ الـمحاريبَ أظلمت

غـداةَ توارى في الثرى كوكبُ النسكِ

وقال في رثائه (عليه السّلام):

لـقد حـرّمت سـلمى عليكَ خيالها

فـلـم تـتوقّع بـعدَ ذاكَ وصـالها

فـمَنْ كـلَّ عـن أمـرٍ وحاولَ فوقه

فـقد رامَ مـن بـينِ الأمورِ محالها

ومَـنْ لـم يـنل داني السحابِ فظلّه

إذا رامَ مـن شـهبِ الـسماءِ هلالها

وهـاجرةٌ والـشيبُ عـلّةَ هـجرها

وتـلـكَ لـديها عـثرةٌ لـن تُـقالها

لـقـد كـانَ يُـدنيها إلـيكَ مـودّة

فـتـأمنُ فـيـهِ هـجرها ومـلالها

٣٧

سـوادُ قـذالٍ كـانَ في العينِ أثمدا

فـسرعانَ مـا ولَّـى وأبقى القذا لها

وهـبْ أنّـها من فعلها الهجرُ والجفا

هـلِ الـنومُ من عينيكَ جارى فعالها

لـيالي طـالت بـالصدودِ قصارها

وقـد قـصرَ الـوصلُ القديمُ طوالها

هـي الـغيدُ إنْ دامَ الشبابُ يداً وإنْ

أُزيـلَ فـلا تـأمنْ هـناكَ زوالـها

يـعـذّبنَ قـلبي والـشبابُ شـفيعه

فـكيفَ وساعي الشيبِ فيهِ سعى لها

لـقد كُـنَّ فـي لـيلِ الشبابِ كواكبا

فـلمّا بـدا صـبحُ الـمشيبِ أزالها

ومـا الـشيبُ إلاّ مـثلُ نارِ ضياؤها

بـفودكَ والأحـشاءُ تصلي اشتعالها

وإنّ سـراجَ الـعيشِ حانَ انطفاؤها

فـقد أشـعلت نـارُ الـمشيبِ ذبالها

وكلُّ بـعـيدٍ لـلـحياةِ مـقرّب

إذا مـاحدت فـيهِ الـليالي جـمالها

ألا هـبةٌ لـلنفسِ مـن سِـنَةِ الهوى

إلـى رتـبةٍ مـن حاربِ النومِ نالها

فـلو لـم تنم أجفانُ عمرو بن كاهل

لـما نـالتِ الـنمرانُ مـنهُ مـنالها

فـلمّها عـلى سـوءِ الفعالِ ابتداؤها

لـتختمَ فـي حـسنِ الـمقالِ فعالها

إذا الـنفسُ لـم تـختمْ عواقبَ فعلها

بـمدحِ بـني الهادي أطالتْ ضلالها

ولـم تـبتكر فـيهِ الـمعاني وإنّـما

تـكرّرُ فـي الـقرآنِ مـا اللّهُ قالها

أعزاءُ إلاّ أنّـهـا لـضـيوفها

تـذلُّ فـتنسى الـنازلينَ ارتـحالها

أنـالت بـني الآمـالِ فـوقَ مرامها

ومـا كـدّرتْ بـالمنِّ يـوماً نوالها

فـلم تـكنِ الـدنيا لـها غيرُ دارها

ومـا كـانَ خـلقُ الـلّهِ إلاّ عـيالها

إذا جـاءتِ الـوفّاد تـسألُ رفـدها

كـفتها بـتعجيلِ الـهباتِ سـؤالها

٣٨

وقـد عـلمت أقرانها ولظى الوغى

تـشبُّ إلـى أُمِّ الـسماءِ اشـتعالها

إذا مـا دعت يـوماً نـزالٌ تـبادرت

إلـيـها كـمـاةٌ لا تـطيقُ نـزالها

مـحطمةٌ أرمـاحها فـي صـدورها

ومـغـمدةٌ بـالهامِ مـنها نـصالها

سـرت بـعميدٍ لا تـغضُّ جـفونه

عـلى الضيمِ أو تعلو الصعيدَ جبالها

أخـي هـبواتُ حجبِ الشمسِ ليلها

وأبـدى مـن البيضِ الصفاحِ مثالها

وذي غـزواتٍ تـملأ السمعَ صيحة

وتـخرسُ ذعـراً مَـنْ أرادَ مـقالها

بوادرهُ مـرهـوبةٌ وحـروبـه

تـقاسي ملوكُ الأرضِ منها عضالها

سـما فـاستغاثت فـيهِ مـلّةُ جـدّه

وهـل تـستغيثُ الـناسُ إلاّ ثمالها

غداةَ أحـلَّ الـظالمونَ حـرامها

كـما حـرّموا مـنها عـناداً حلالها

فـسـارَ بـظلِّ الـسمهريةِ فـوقها

مِـنَ الطيرِ ما أضحى العجاجُ ظلالها

إلـى أن أتـى أرضَ العراقينِ هادياً

أُنـاساً أبـت فـي الدينِ إلاّ ضلالها

فـسدت عـليهِ السُبلَ من كفِّ حيدر

أطـاحت بـرغمِ الأنفِ منها سبالها

وأهـلُ قـلوبٍ قـد شـجتها معاشر

عـليها لـدى بـدرِ الـقليبِ أهالها

كـفاها افـتضاحاً حيثُ قامت تسومه

دمـاءً بـسيفِ الـلّهِ قـدماً أسـالها

كـأنّي بـهِ والصحبُ صرعى كأنّها

ضـراغـمةُ غـولِ الـمنيّةِ غـالها

يـكافحُ والـهيجاءُ تـغلي بـخطبها

مـراجـلَها فـرسـانَها ورجـالـها

يريكَ إذا ما أومضَ السيفُ في الوغى

وقـد أخـذت مـنهُ الـدماءُ انهمالها

ومـيضُ حـسامٍ في سحابِ عجاجة

وقـطرُ دمـاءٍ لا تـجفُّ انـهطالها

٣٩

ومـا اشـغلت مـنهُ الـحفاظُ نقيبة

أطـالت بـحفظِ الـكائناتِ اشتغالها

إلـى أن جـرى حكمُ المشيئةِ بالذي

جـرى وعـروشُ الدينِ قسراً امالها

وقـوّضَ بـالصبرِ الـجميلِ فتى به

فـقدنَ حـسانُ الـمكرماتِ جـمالها

لـكَ الـلّهُ مـقتولاً بقتلى لكَ الهدى

أباحَ قـديـماً قـتـلها وقـتالها

فـليتَ رمـاحاً شـجرتكَ صدورها

تـلقّيتُ فـي أحشاءِ صدري طوالها

ولـيتَ قـسيّاً قـد رمـتكَ سـهامها

يُـقاسي فـؤادي فـي فـداكَ نبالها

وبـيضُ صـفاحٍ صـافحتكَ فليتني

وقـيـتُكها فـي صـفحتي صـقالها

وأعـظمُ مـا يرمي القلوبَ بمحرق

وتـهمي لـهُ سحبُ الجفونِ سجالها

عـقائلُكم تـسري بـهنَّ إلى العدى

نـجائبٌ أنـساها الـمسيرُ عـقالها

وزيـنبُ تدعو والشجى ملؤ صدرها

بـمَنْ مـلأت صـدرَ الفضاءِ نوالها

أيـا أخـوتي لا أبـعدَ الـلّهُ مـنكم

وجـوهاً تـودُّ الـشهبُ تُمسي مثالها

نـشـدتكم هـل تـرجعونَ لـحيّكم

فـتحيى عـفاةٌ أتـلفَ الـدهرُ حالها

نـشدتكم هـل تـركزونَ رمـاحكم

بـدارٍ لـها الـوفّادُ شـدّت رحـالها

وهـل أسـمعنَ تصهالَ خيلكم التي

يـودُّ بـأن يُـمسي الهلالُ نعالها (1)

وهـل أنـظرُ البيضَ المحلاّةِ بالدما

تـقـلّدتموها وانـتـضيتم نـصالها

فـيا لـيتَ شـعري هـل أبيتنَ ليلة

بـبحبوحةٍ تُـحمى وأنـتم حمى لها

____________________

1 - وما أظرف قول الأموي الأبيوردي في المعنى:

ولو رأت البدورُ نعالَ خيلي

لصرنَ بها حواسدَ للأهلّه

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143