سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)0%

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف: علي موسى الكعبي
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف:

ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245
المشاهدات: 49901
تحميل: 6859

توضيحات:

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 245 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49901 / تحميل: 6859
الحجم الحجم الحجم
سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: 964-319-218-0
العربية

قسّم عمر خيبر ، فخيّر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُقطَع لهنّ من الماء والأرض ، أو يُمضى لهنّ ، فمنهنّ من اختار الأرض ، ومنهنّ من اختار الوسق ، وكانت عائشة اختارت الأرض(١) .

فهذه خيبر التي طالبت الزهراءعليها‌السلام بنصيبها منها كميراثٍ لها من أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وردّها أبو بكر ، جاء عمر فقسّمها في أيام خلافته على أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فإذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يورث ، فلماذا ترث الأزواج ولا ترث البنت؟

وعن عائشة ، قالت : أمّا صدقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ، فدفعها عمر إلى علي والعباس(٢) ، فلو صحّ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يورث ، وأنّ ما تركه صدقة للمسلمين ، فكيف يدفع عمر ذلك إلى عليعليه‌السلام والعباس؟ ولماذا لم يدفع رجال السلطة هذه الأموال في حياة الزهراءعليها‌السلام ، إنّها السياسة التي تطلبت أن يمنعوا حيث توجب المصالح تثبيت ركائز الدولة وتدعيم أركانها ، وأن يعطوا في وقت الرخاء والاستقرار وبسطة الفتوح.

الثامن : رويت بعض الأخبار التي تعارض حديث منع الإرث ، منها ما جاء في (السيرة الحلبية ) عن سبط ابن الجوزي ، قال : إنّ أبا بكر كتب لفاطمةعليها‌السلام بفدك ، ودخل عليه عمر ، فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال : ممّاذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك

__________________

١) صحيح البخاري ٣ : ٢١١ ـ باب المزارعة ـ بالشطر ونحوه.

٢) صحيح البخاري ٦ : ١٧٨ / ٢ ـ كتاب الخمس. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٢ / ٥٤ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٣ / ٢٩٧٠ ـ باب في صفايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأموال. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠١. ومسند أحمد ١ : ٦.

١٨١

العرب كما ترى؟ ثم أخذ عمر الكتاب فشقّه(١) .

وواضح من الخبر أنّه كتب بفدك لفاطمةعليها‌السلام على أنها إرث من أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يخالف رواية أبي بكر المانعة لتوريث الأنبياء.

ومنها ما رواه أبو الطفيل قال : أرسلت فاطمةعليها‌السلام إلى أبي بكر : أنت ورثت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أم أهله؟ قال : لا ، بل أهله(٢) ، إلى آخر الحديث وسيأتي.

قال ابن أبي الحديد : في هذا الحديث عجب ، لاَنّها قالت له : أنت ورثت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أم أهله؟ قال : بل أهله ، وهذا تصريح بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله موروث يرثه أهله ، وهو خلاف قوله : (لا نورث)(٣) .

التاسع : لو صحّ الخبر لما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام متظلّماً : «اللهمَّ إنّي استعديك على قريش ، فإنّهم ظلموني حقّي ، وغصبوني إرثي »(٤) .

ولما قالت الزهراءعليها‌السلام في قصيدتها المشهورة :

تجهّمتنا رجالٌ واستخفّ بنا

لمّا فُقِدت وكلُّ الإرث مغتصبُ(٥)

أخيراً فإنّ أرض فدك هي حقّ خالص لفاطمةعليها‌السلام لا يمكن المماراة فيه

__________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢.

٢) الرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. ومسند أحمد ١ : ٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. ومسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١٥ عن مسلم وأحمد وأبي داود وابن جرير.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩.

٤) شرح ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٨٦.

٥) سيأتي تخريجها في المبحث الثاني من هذا الفصل.

١٨٢

سواء كان نحلة أو ميراثاً ، وأن الخبر الذي تفرّد به أبو بكر قد جرّ على الاُمّة ولا يزال مزيداً من المحن والإحن ، وفتح عليها باب العداء على مصراعيه ، وأجّج البغضاء والشحناء ، وشقّ عصا المسلمين إلى اليوم.

ثالثاً : اسقاط سهم ذوي القربى :

لقد نصّ الكتاب الكريم على سهم ذوي القربى في قوله تعالى :( واعلموا إنّما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمُسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) (١) وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يختص بسهمٍ من الخمس ، ويخصّ أقاربه بسهمٍ آخر منه ، فلمّا ولي أبو بكر تأوّل الآية ، فأسقط سهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسهم ذوي القربى ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كسائر يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم(٢) .

عن سعيد بن المسيب ، قال أخبرني جبير بن مطعم أنّه جاء هو وعثمان ابن عفان يكلمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب ، فقلت : يا رسول الله ، قسمت لاِخواننا بني المطلب ، ولم تعطنا شيئاً ، وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة؟ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّما بنو هاشمٍ وبنو المُطَّلب شيءٌ واحد ».

قال جبير : ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس ، كما قسّم لبني هاشم وبني المطلب ، قال : وكان أبو بكر يقسّم الخمس نحو

__________________

١) سورة الإنفال : ٨ / ٤١.

٢) راجع : الكشاف ٢ : ٢٢١. وفتح القدير / الشوكاني ٢ : ٣١٠ ـ ٣١٣. وتفسير القرطبي ٨ : ٩ ـ ١٥. وتفسير الطبري ١٠ : ٤ و ٥ و ٧.

١٨٣

قسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير أنّه لم يكن يُعطي قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطيهم ، قال : وكان عمر بن الخطاب يعطيهم منه(١) .

ولم يقبل بنو هاشم ما عرضه عمر عليهم لاَنّه دون حقّهم ، فقد رووا عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ عمر قال : لكم حقّ ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كلّه ، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم ، فأبينا عليه إلاّ كلّه ، فأبى أن يعطينا »(٢) .

وعن يزيد بن هرمز : أن نجدة الحروري حين حجَّ في فتنة ابن الزبير ، أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى ، ويقول : لمن تراه؟ قال ابن عباس : لقربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قسّمه لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقّنا ، فرددناه عليه ، وأبينا أن نقبله(٣) .

وقد نازعت الزهراءعليها‌السلام أبا بكر في سهم ذوي القربى ، كما نازعته في النحلة والإرث ، لكنها لم تجد أُذناً صاغية منه ، حيث تمادى في إصراره على سلب هذا الحقّ الذي فرضه الله تعالى في كتابه وعمل به رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

روى الجوهري بالاسناد عن عروة بن الزبير ، قال : أرادت فاطمةعليها‌السلام أبا

__________________

١) سنن أبي داود ٣ : ٤٥ / ٢٩٧٨ ـ باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى. ومسند أحمد ٤ : ٨٣. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٥ : ٣٤١.

٢) سنن البيهقي ٦ : ٣٤٤. ومسند الشافعي : ١٨٧.

٣) سنن أبي داود ٣ : ١٤٥ / ٢٩٨٢ ـ باب في بيان مواضع قسم الخمس. ومسند أحمد ١ : ٣٢٠ و ٣٢٤. وسنن البيهقي ٦ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥. وفتح القدير / الشوكاني ٢ : ٣١٢.

١٨٤

بكر على فدك وسهم ذوي القربى ، فأبى عليها ، وجعلهما في مال الله(١) .

وعن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال : إنّ أبا بكر منع فاطمةعليها‌السلام وبني هاشم سهم ذوي القربى ، وجعله في سبيل الله ، في السلاح والكراع(٢) .

وعن أنس بن مالك ، قال : إنّ فاطمةعليها‌السلام أتت أبا بكر ، فقالت : لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات ، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى! ثمّ قرأت عليه قوله تعالى :( واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ) الآية.

فقال لها أبو بكر : بأبي أنت وأُمّي ووالد ولدك! السمع والطاعة لكتاب الله ولحقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحقّ قرابته ، وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرأين منه ، ولم يبلغ علمي منه أنّ هذا السهم من الخمس يسلّم إليكم كاملاً.

قالتعليها‌السلام : «أفلك هو ولاَقربائك؟ » قال : لا ، بل أُنفق عليكم منه ، وأصرف الباقي في مصالح المسلمين. قالتعليها‌السلام : «ليس هذا حكم الله تعالى ». قال : هذا حكم الله!! إلى أن قال : وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فاسأليهما عن ذلك ، وانظري هو يوافقك على ما طلبت أحدٌ منهما ، فانصرفت إلى عمر ، فقالت له مثل ما قالت لاَبي بكر ، فقال لها مثل ما قال أبوبكر ، فعجبت فاطمةعليها‌السلام من ذلك ، وتظنّت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه(٣) .

__________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

١٨٥

أقول : ليس هو ظنّاً ، وإنّما اليقين ، إذ كيف يتّفق فعل أولئك على خلاف كتاب الله عزّ وجلّ ، لو لم يكن ثمة اتفاق من قبل؟!

وعن أُمّ هانيء ، قالت : دخلت فاطمةعليها‌السلام على أبي بكر بعدما استخلف ، فسألته ميراثها من أبيها فمنعها ، فقالت له : «لئن متّ اليوم من يرثك؟ » قال : ولدي وأهلي. قالت : «فلِمَ ورثت أنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دون ولده وأهله؟ » قال : فما فعلت يا بنت رسول الله؟ قالتعليها‌السلام : «بلى ، إنّك عمدت إلى فدك ، وكانت صافية لرسول الله فأخذتها ، وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنّا »(١) .

وفي رواية اُخرى عن أُمّ هانيء : قال أبو بكر لفاطمةعليها‌السلام : يا بنة رسول الله ، ما ورث أبوك داراً ولا مالاً ولا ذهباً ولا فضة. قالتعليها‌السلام : «بلى سهم الله الذي جعله لنا ، وصافيتنا التي بيدك؟ » فقال : انّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يطعم أهله ما دام حيّاً ، فإذا مات رفع ذلك عنهم. وفي لفظ آخر : سمعته يقول : إنّما هي طعمة أطعمنيها الله حياتي ، فإذا متّ كانت بين المسلمين(٢) .

وعن أبي الطفيل ، قال : قالت فاطمةعليها‌السلام لاَبي بكر : «أنت ورثت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أم أهله؟ قال : لا ، بل أهله. قالت : فما بال الخمس؟ » فقال : إنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إذا أطعم الله نبيّاً طعمة ثمّ قبضه ، كانت للذي

__________________

١) شرح ابن أبي حديد ١٦ : ٢٣٢. والسقيفة وفدك / الجوهري : ١١٦.

٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٤ ـ ٤٥. والسقيفة وفدك. الجوهري : ١١٧. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٢. ومسند فاطمةعليها‌السلام السيوطي : ١٣.

١٨٦

يليه بعده ، فلمّا وليت رأيت أن أردّه على المسلمين(١) .

التكرم وشرع الإحسان :

لقد ثبت ممّا تقدّم أنّ الزهراءعليها‌السلام طالبت أبا بكر بالنحلة والإرث وسهم ذي القربى ، وأنه لم يعطها شيئاً مما طلبت ، فلو فرضنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لايورث ، وأن جميع متروكاته بما فيها فدك وسهم ذي القربى هي طعمة لولي الأمر بعده ، وليتصرف بها حيثما يشاء ، أو أنها من الأموال العامّة ومن حقّ الحاكم أن يتصرف بها وفقاً لمقتضيات المصلحة الإسلامية العامة.

إذن أليس من الحكمة والتدبير وشرع التكرم والاحسان أن يعطي فاطمةعليها‌السلام شيئاً مما طلبت ولا يردّها خائبة؟! وهي ابنة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي لم يخلف بينهم غيرها ، تطييباً لخاطرها ، وحفظاً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها ، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «المرءُ يحفظ في ولده » ، وقطعاً لدابر الفرقة والاختلاف التي حكمت حياة المسلمين سنين متمادية.

ولو فعل ذلك لم يكن بدعاً منه ، فقد أقطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض أراضي بني النضير لاَبي بكر وعبدالرحمن بن عوف وأبي دجانة(٢) ، وأقطع أرضاً من أرض بني النضير ذات نخلٍ للزبير بن العوّام(٣) .

__________________

١) سنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. والرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. ومسند أحمد ١ : ٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. ومسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١٥ عن مسلم وأحمد وأبي داود وابن جرير.

٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٣١.

٣) فتوح البلدان / البلاذري : ٣٤.

١٨٧

وتنبّه كثير من المحقّقين القدامى والمحدثين لهذه المسألة ، فقد نقل عن القاضي عبدالجبار المعتزلي أنّه قال : قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها ، فضلاً عن الدين.

قال ابن أبي الحديد معلقاً : وهذا الكلام لا جواب عنه ، ولقد كان التكرم ورعاية حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحفظ عهده يقتضي أن تعوّض ابنته بشيء يرضيها ، وإن لم يستنزل المسلمون عن فدك ، وتسلّم إليها تطييباً لقلبها ، وقد يسوغ للاِمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه(١) .

وقال الاُستاذ محمود أبو رية : بقي أمر لابدّ أن نقول فيه كلمة صريحة ، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وما فعل معها في ميراث أبيها ، لاَنّا إذا سلّمنا بأن خبر الآحاد الظنّي يخصّص الكتاب القطعي ، وأنه قد ثبت أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال : إنّه لا يورث ، وأنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر ، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمةعليها‌السلام بعض تركة أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كأنّ يخصّها بفدك ، وهذا من حقّه الذي لا يعارضه فيه أحد ، إذ يجوز للخليفة أن يخصّ من يشاء بما يشاء ، وقد خصّ هو نفسه الزبير بن العوّام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أنّ فدك هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان(٢) .

إذن فالزهراءعليها‌السلام تستحق بمقتضى التكرم والاحسان أن تأخذ شيئاً مما

____ ______________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٦.

٢) مجلة الرسالة المصرية ، العدد (٥١٨ ) السنة (١١ ) الصحفة (٤٥٧ ) ، ونحوه في شيخ المضيرة أبو هريرة : ١٦٩ ، الطبعة الثالثة. والنص والاجتهاد / شرف الدين : ٧٠.

١٨٨

ترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّ أبا بكر منعها وسدّ جميع السبل المؤدية إلى استحقاقها ، حتى ولو كان إحساناً وتكرماً ، فلماذا إذن اتخذ هذا الموقف من بضعة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

هذا السؤال الذي توقّف ابن أبي الحديد عن الإجابة عليه آنفاً ، يحمل أكثر من إجابة تتضح في بيان أهداف السلطة من الاستيلاء على الإرث النبوي.

أهداف السلطة :

أقدمت السلطة على إلغاء امتياز البيت الهاشمي بالموروث النبوي ، وذلك لتقوية مركزها السياسي ، والاستعانة به في دعم الكيان السياسي للسلطة ، ولذا قال عمر لاَبي بكر لمّا كتب بفدك لفاطمةعليها‌السلام : ممّاذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب(١) ؟ ولسلب القدرة الاقتصادية من أهل البيتعليهم‌السلام التي قد تمكّنهم من استعادة سلطانهم المسلوب ، وذلك بقطع الشريان الاقتصادي الذي يغذّي الخلافة الشرعية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والمعارضة المتوقعة من بيت الزهراءعليها‌السلام ، والاطمئنان من أي حركة تستهدف الحكم.

ولو أغضينا عن تركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خيبر وبني النضير والمدينة وسهم ذي القربى ، فإنّ فدك وحدها كان دخلها أربعة وعشرين ألف دينار في كلِّ سنة ، في رواية الشيخ عبدالله بن حماد الأنصاري ، وفي رواية غيره : سبعين ألف دينار(٢) ، وإنّها كانت تغلّ في أيام عمر بن عبد العزيز عشرة آلاف

__________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢.

٢) كشف المحجة / ابن طاووس : ١٨٢.

١٨٩

دينار(١) . وقيل : أربعون ألف دينار(٢) .

ونقل ابن أبي الحديد عن علي بن تقي من بلدة النيل(٣) أنه قال : كانت فدك جليلة جداً ، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمةعليها‌السلام عنها إلاّ ألاّ يتقوى علي بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ، ولهذا أتبَعَا ذلك بمنع فاطمةعليها‌السلام وسائر بني هاشم وبني المطلب حقّهم في الخمس ، فانّ الفقير الذي لا مال له تضعف همّته ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولاً بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة(٤) .

وكانت السلطة تدرك البعد السياسي لمطالبة الزهراءعليها‌السلام بالحقوق المالية لاَهل البيتعليهم‌السلام وعامة بني هاشم ، وأنّهاعليها‌السلام اتخذت من تلك المطالبة عنواناً لثورتها على السلطة التي لا تستمد بقاءها بغير منطق القوة والسطوة ، والزهراءعليها‌السلام إنّما طالبت كي تبيّن الحق وتعرّي السلطة ، وتلقي الحجة على الاُمّة التي انقلبت على تعاليم السماء ، وتنكرت لنهج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصاياه.

ولهذا اجتمع رأي رجال السلطة على منع الزهراءعليها‌السلام من جميع حقوقها المترتبة لها بعد موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى ولو كان إحساناً أو تكرماً ، وبقي أبو بكر لا يحير جواباً أمام منطق الزهراءعليها‌السلام القائم على الكتاب المبين وسُنّة

__________________

١) صبح الإعشى ٤ : ٢٩١.

٢) سنن أبي داود ٣ : ١٤٤ / ٢٩٧٢ ـ باب في صفايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣) بلدة تقع في سواد الكوفة قرب الحلة.

٤) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

١٩٠

النبي الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله غير أن يقول لفاطمةعليها‌السلام : ما كان لك أن تسأليني ، وما كان لي أن أعطيك(١) .

فلو تنازلت السلطة أمام مطالب الزهراءعليها‌السلام وأذعنت لحجّتها البالغة ودليلها الساطع ، كان ذلك بمثابة اعتراف لما بعد فدك من الموروث النبوي الذي منه الخلافة لاَمير المؤمنينعليه‌السلام وعترة النبي المعصومينعليهم‌السلام ، وهذا ما صرّحت به الزهراءعليها‌السلام في خطبتها المشهورة ، وإزاء هذا كان على السلطة أن تبيّن لعامة المسلمين أنّ فاطمةعليها‌السلام تدّعي ماليس لها بنحلة ، وتطالب ماليس لها بميراث ، وتريد لعليعليه‌السلام الملك وليس له بحقّ!

قال ابن أبي الحديد : سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة؟ قال : نعم. قلت : فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها ، لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيءٍ ، لاَنّه يكون قد سجّل على نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود ، وهذا كلام صحيح ، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل(٢) .

ولهذا استباح أبو بكر ردّ دعوى الزهراءعليها‌السلام في النحلة ، ورفض شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام لها ، وادّعى حديث منع الإرث ، ومنع سهم ذي القربى عن

__________________

١) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٣. والعقد الفريد / ابن عبد ربه ٦ : ١٧١.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٤.

١٩١

مستحقيه.

ومن هنا فقد اكتسبت نحلة الزهراءعليها‌السلام بعداً سياسياً ومعنىً رمزياً ، وهو الخلافة المغتصبة ، وتجاوزت كونها أرضاً وادعة في أطراف الحجاز قدّمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هدية لابنته الزهراءعليها‌السلام بأمرٍ إلهي ، لتصبح غاية سياسية تستهدف استرداد حق مسلوبٍ ، وفضح سلطان متجبر غاشم ، وتنبيه أُمّة رجعت على أعقابها القهقهرى ، فوردت غير مشربها ، وسقطت في الفتنة تاركة الكتاب والعترة النبوية وأضواء السُنّة المحمدية.

ويتضح المعنى الرمزي لنحلة الزهراءعليها‌السلام في حديث الإمام الكاظمعليه‌السلام مع هارون الرشيد الذي نقله الزمخشري في (ربيع الأبرار ) قال : كان الرشيد يقول لموسى الكاظم بن جعفرعليه‌السلام : يا أبا الحسن ، حدُّ فَدَكَ حتى أردّها عليك ، فيأبى حتى ألحّ عليه ، فقال : «لا آخذها إلاّ بحدودها ، قال : وما حدودها؟ قال :يا أمير المؤمنين ، إن حددتها لم تردّها . قال : بحقّ جدّك إلاّ فعلت. قال :أما الحدّ الأول : فعدن ، فتغير وجه الرشيد ، وقال : هيه ! قال :والحدّ الثاني : سمرقند ، فاربدّ وجهه ، قال :والحدّ الثالث : أفريقية ، فاسودّ وجهه ، وقال : هيه ! قال :والرابع سِيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينية.

قال الرشيد : فلم يبقَ لنا شيء ، فتحوّل في مجلسي. قال موسىعليه‌السلام :قد أعلمتك أنّي إن حددتها لم تردّها »(١) . فهي إذن رمز لحقّ مغتصب وخلافة مسلوبة.

ويتضح الهدف السياسي جليّاً في اختلاف وجهة النظر السياسية فيها

__________________

١) ربيع الأبرار / الزمخشري ١ : ٣١٦. والمناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٣٢٠. وبحار الأنوار ٤٨ : ١٤٤ / ٢٠.

١٩٢

على مسار التاريخ : «فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين » فتاريخها لا يستقيم على نحو واحد ، وإنّما كان يجري على وفق أهواء السلطات السياسية ، ومطامع الحكام الشخصية ، ومواقفهم من أهل البيتعليهم‌السلام.

فقد أقطعها عثمان بن عفان لمروان بن الحكم(١) ، ولا ندري ما وجه تخصيص مروان بفدك ، فان كانت ميراثاً ففاطمةعليها‌السلام وأولادها أحقّ بها ، وإن كانت فيئاً ، فما وجه تخصيص مروان بها وهو طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وابن طريده؟! هذا مع ما عرف عنه من مكرٍ وخداعٍ وانحرافٍ وعداءٍ لآلمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله !!

وروى الجوهري بالاسناد عن ابن عائشة ، قال : حدثني أبي ، عن عمّه ، قال : لما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ، ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن عليعليه‌السلام ، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته ، فوهبها لعبد العزيز ابنه ، فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة ، كانت أول ظلامة ردّها ، دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، وقيل : بل دعا علي بن الحسينعليه‌السلام فردّها عليه.

وكانت بيد أولاد فاطمةعليها‌السلام مدّة ولاية عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم. فصارت في أيدي بني مروان ، كما كانت يتداولونها ، حتى انتقلت الخلافة عنهم ، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها

__________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٥٠ ، شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦. العقد الفريد ٥ : ٣٣. وتاريخ أبي الفداء ٢ : ٧٩. والسنن الكبرى / البيهقي ٦ : ٣٠١.

١٩٣

على عبدالله بن الحسن بن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث ، ثمّ ردها المهدي ابنه على ولد فاطمةعليها‌السلام ، ثمّ قبضها موسى ابن المهدي وهارون أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون ، فردّها على الفاطميين ، وأنشد دعبل الأبيات التي أولها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمونِ هاشمٍ فَدَكا

فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل ، فأقطعها عبدالله بن عمر البازيار ، وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده ، فكان بنو فاطمةعليها‌السلام يأخذون تمرها ، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم ، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل ، فصرم عبدالله بن عمر البازيار ذلك التمر ، ووجّه رجلاً يقال له بشران بن أبي أُميّة الثقفي إلى المدينة فصرمه ، ثمّ عاد إلى البصرة ففلج(١) .

وجميع هذه التقلّبات التي مرّ بها تاريخ فدك ، تحكي لنا البعد السياسي لمسألة فدك في التاريخ ، وتلقي الأضواء الكاشفة على قيمة الحديث الذي جاء به أبو بكر مضاداً لكتاب الله تعالى وسُنّة رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله . هذا فضلاً عمّا اثبتته الزهراءعليها‌السلام من استحواذ السلطة على ميراثها ولو بالكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

المبحث الثاني : حال الزهراء عليها‌السلام ومواقفها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله :

كان الحزن هو المظهر البارز في حياة الزهراءعليها‌السلام بعد فقدها أباهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦ ـ ٢١٧. والسقيفة وفدك / الجواهري : ١٠٣. وراجع : فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥ ـ ٤٦. ومعجم البلدان / ياقوت ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣. والطرائف / ابن طاووس : ٢٥٢ ـ ٢٥٣. والكامل في التاريخ ٣ : ٣٤٨ و ٤٥٧ و ٤٩٧ ، و ٥ : ٦٣ ، و ٧ : ١١٦.

١٩٤

فهي ابنته الوحيدة التي اُصيبت به ، فكانت أشدّ الناس تأثراً بهذا الخطب الجلل ، وتتّضح لنا سحابة الوجد والحزن التي جلّلت حياة الزهراءعليها‌السلام من ندبتها لاَبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تقول :

اغبرّ آفاق السماء وكـوّرت

شمس النهار وأظلم العصرانِ

فالأرض من بعد النبي كئيبةٌ

أسفاً عليـه كثيـرة الرجفانِ

فليبكه شرق البلاد وغـربها

ولتبكـه مضرٌ وكلّ يمانِ(١)

قال الامام الصادقعليه‌السلام : «عاشت فاطمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمس وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كلّ جمعة مرتين : الاثنين والخميس ، فتقول : هاهنا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهاهنا كان المشركون ».

وفي رواية عنهعليه‌السلام : «أنّها كانت تصلّي هناك وتدعو حتى ماتت »(٢) .

وروي أن عليّاًعليه‌السلام بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة ، يسمى بيت الأحزان ، أو بيت الحزن ، وهو باقٍ الى هذا الزمان ، وهو الموضع المعروف بمسجد فاطمةعليها‌السلام في جهة قبة مشهد الحسنعليه‌السلام والعباس رضي الله عنه ، وإليه أشار الرحّالة ابن جبير بقوله : ويلي القبة العباسية بيت يُنسب لفاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه هو الذي آوت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكره الغزالي وغيره في زيارة

__________________

١) العمدة / ابن رشيق ٢ : ٨١٦ ، إتحاف السائل / المناوي : ١٠٢ ، الثغور الباسمة / السيوطي : ٥٤ ، أعيان الشيعة ١ : ٢٢٣ ، أعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٣.

٢) الكافي / الكليني ٤ : ٥٦١ / ٤ و ٣ : ٢٢٨ / ٣ ، وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٥ / ٢٤.

١٩٥

البقيع ، وقال : ويصلّى في مسجد فاطمةعليها‌السلام (١) .

وقد اتخذت الزهراءعليها‌السلام من هذا المسجد محراباً للعبادة والدعاء كما تقدم ، وموضعاً للحزن والبكاء على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الامام الصادقعليه‌السلام : «أما فاطمة عليها‌السلام فبكت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى تأذى بها أهل المدينة ، فكانت تخرج الى مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف »(٢) .

إن دموع الزهراءعليها‌السلام تجسّد عمق المأساة التي حلّت بالاسلام بعد موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلاريب أن موتهصلى‌الله‌عليه‌وآله خطب جليل ، انقطع به وحي السماء ، وذهب به معلّم الخير والرحمة ، وتكون المصيبة أعظم اذا انقلبت اُمّته على تعاليم السماء ووحيها ووصايا نبيّها ، وكان المتصدّون لمقامه على غير هدىً من نهجه ورسالته ، فذلك هو الموت الأخطر والمرارة الكبرى التي ما انفكّت ترافق حياة الزهراءعليها‌السلام بعد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله فقوّضت بقايا قوّتها ، وهدّت أركانها ، وجعلتها تذوب حتى الممات.

عن أم سلمة : أنها سألت فاطمةعليها‌السلام بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف أصبحت يابنت رسول الله؟ قالت : «أصبحت بين كمد وكرب : فقد النبي ، وظلم الوصيّ »(٣) .

عاشت الزهراءعليها‌السلام في سبيل الاسلام قبل أن تعيش لنفسها منذ عهد طفولتها حيث كانت تذبّ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام طغام قريش وطغاتها ،

__________________

١) راجع رحلة ابن جبير : ١٧٤ ، وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٧ و ٩١٨ ، أهل البيت / توفيق أبو علم : ١٦٧ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٧٧.

٢) الخصال / الصدوق : ٢٧٢ / ١٥. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٩٨. وبحار الانوار ٤٣ : ١٥٥ / ١.

٣) المناقب / ابن شهر آشوب ٢ : ٢٠٥ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٥٦ / ٥.

١٩٦

وتجشّمت في هذا السبيل صنوف المصاعب والمعاناة ، وكان رائدها الصبر والتحمل في أحلك الظروف وأشدها قسوة ، وكان لها بعد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله مواقف سجلت فيها مواقع الريادة والقدوة في بيان الحق ، والدفاع عن المبادئ الاسلامية العليا ، والدعوة إلى التمسك بالمسار الصحيح لامتداد النبوة المتمثل في خط الامامة الأصيل الذي خصّه الله تعالى بعترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتنبيه الأمة على شبح الانحراف الذي تنبأت بوقوعه في خطبتهاعليها‌السلام ، هذا فضلاً عن بيان مظلوميتها وسخطها على من ظلمها ، وفيما يلي نذكر بعض هذه المواقف ونذكر في آخرها خطبتي الزهراءعليها‌السلام :

١ ـ المطالبة بحقوقها وبيان مظلوميتها :

انبرت الزهراءعليها‌السلام للمطالبة بالحقوق المالية المترتبة لها بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وطالبت أيضاً بحقوق بني هاشم عامة ، وذلك حق طبيعي لكل مظلوم أن يدافع عن حقوقه المغتصبة ، وقد ذكرنا جملةً من هذه المطالبات في المبحث الاول.

والذي نودّ الإشارة إليه هنا ، هو هدف الزهراءعليها‌السلام من هذه المطالبات التي أدّت الى مقاطعة رجال السلطة حتى الممات وبعد الممات حسب وصيتهاعليها‌السلام ، فهل كانتعليها‌السلام بحاجة ماسة الى الأموال التي تجبى من فدك ، أو هل اندفعت من أجل هدف مادي رخيص وحطام زائل ، وهي أول الناس لحاقاً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما أخبرها؟!

هذا فضلاً عن أن الزهراءعليها‌السلام كان لديها من الأموال ما يغنيها عن المنازعة في فدك وغير فدك ، فقد أوقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الحوائط السبعة على

١٩٧

فاطمةعليها‌السلام (١) وذلك بعد أن بسط الاسلام نفوذه على سائر أنحاء الجزيرة وعمّت المسلمين حالة من الرخاء.

وقد جاء في وصيتهاعليها‌السلام ما يدل على امتلاكها لتلك الحوائط وأموال أخرى ، فقد روي عن الامام الباقرعليه‌السلام أنّه أخرج حُقاً أو سفطاً ، فأخرج منه كتاباً فقرأه ، وكان فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصت بحوائطها السبعة إلى علي بن أبي طالب ، فان مضى فإلى الحسن ، فان مضى فإلى الحسين ، فان مضى فإلى الأكابر من ولدي ، شهد المقداد بن الاسود والزبير بن العوام ، وكتب علي بن أبي طالب ». وروي نحو ذلك عن الامام الصادقعليه‌السلام (٢) .

وعليه فالزهراءعليها‌السلام أجلّ قدراً وأعلى شأناً من أن تحرص على دنيا فانية أو حطام زائل ، فلابدّ إذن من أن تكون هناك أهداف اُخرى تبتغيها من وراء تلك المطالبة ، وتتجلى تلك الأهداف لمن تمعّن في قراءة خطبة الزهراءعليها‌السلام في المسجد النبوي وأمام الملأ من قريش والأنصار ، فلقد تهيأت لهاعليها‌السلام الفرصة السانحة والمجال الرحب من خلال تلك المطالبات أن تدلي برأيها وتقوم بالمسؤولية الملقاة على عاتقها ، وتؤدي دورها الرسالي على أحسن مايرام وأمام الملأ ، فبيّنت أحقية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في قيادة الاُمة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكشفت عن اجتهاد السلطة في موضع النصّ ، فأظهرت حال السلطة أمام الملأ ، وألقت الحجة على الاُمة لتؤدي

__________________

١) الكافي ٧ : ٤٧ / ١.

٢) الكافي / الكليني ٧ : ٤٨ ـ ٤٩ / ٥ ـ ٦ ، التهذيب / الطوسي ٩ : ١٤٤ / ٥٠ ، وراجع وصيتها ٣) أموالها الاخرى في دلائل الامامة للطبري : ١٢٩ ـ ١٣١ / ٣٩ ـ ٤١. وأوصتعليها‌السلام إلى غير أولادها من بني هاشم وبني المطلب. راجع سنن البيهقي ٦ : ١٦١ و ١٨٣.

١٩٨

مسؤوليتها ، وكادت تلك المطالبة أن تؤدي اُكلها فتصفّي الحساب مع السلطة ، لولا أنهم سدّوا جميع الطرق التي تستحقّ بها تلك الحقوق ، لادراكهم بأنهم لو صدّقوا الزهراءعليها‌السلام في هذه القضية فانها ستبدأ جولة جديدة تطالب فيها بالخلافة.

ثم إن الزهراءعليها‌السلام لو سكتت عن مظلوميتها ولم تطالب بحقها لصار السكوت على الظالمين والتغاضي عن الحق سُنة ، ذلك لاَنهاعليها‌السلام قدوة واُسوة ، وإن فعلها لايتجافى عن الحق لذلك اندفعت الى ميدان الصراع ، وسلكت معترك الطريق ، ووقفت بكل مالديها من قوة بوجه الظلم لاسترداد حقها السليب ، مع ما بها من الضعف والانكسار والحزن والألم ، فأثبتت أن المرأة قادرة على الدفاع عن حقّها بل وحقّ غيرها ، وصارت فاطمة الزهراءعليها‌السلام راية المقاومة للظلم والدفاع عن المظلوم في كلّ زمان ومكان.

٢ ـ سخطها على ظالميها :

بعد أن دُفعت الزهراءعليها‌السلام عن جميع حقوقها المالية في نحلتها وإرثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسهمها من الخمس ، اتخذت موقفاً حاسماً من الشيخين ، يدلّ على ظلامتها وكونها مخاصمة غير راضية عنهما حتى لقيت ربّها وهي في ريعان الشباب وزهرة الصبا.

وقد قدّمنا أن الرواة اتفقوا على أن فاطمةعليها‌السلام غضبت على أبي بكر وعمر وهجرتهما ولم تكلمهما حتى توفيت وهي ساخطة عليهما ، وأوصت أمير المؤمنينعليه‌السلام أن لايحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، وأن يُعفّى قبرها ، فلمّا توفيت دفنها أمير المؤمنين ليلاً ، ولم يؤذن بها أحداً ممن ظلمها.

١٩٩

قال ابن قُريعة :

ولأي حـــالٍ لحّدت

باليـل فاطمـة الشريفه

ولمـا حمـت شيخيكم

عن وطأ حجرتها المنيفه

أوّه لـبنت مـحمـدٍ

ماتت بغصّتها أسيفه(١)

وهكذا جعلتعليها‌السلام من موتها وتشييع جنازتها ودفنها وسيلة جهادٍ وكفاحٍ ، تثير التساؤل عبر الأجيال في نفس كلّ مسلم غيور على الدين ومبادئه الحقّة ، كي يتوصل الى الحقائق المثيرة من تاريخ تلك الحقبة المهمة ، لقد أرادت سلام الله عليها أن تقول إنها غاضبة على كل من لايعرف الحق ، ويتنكر لكتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وحاول الشيخان إرضاء الزهراءعليها‌السلام فقال عمر لاَبي بكر : انطلق بنا الى فاطمة فانا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعاً ، فاستأذنا على فاطمةعليها‌السلام فلم تأذن لهما ، فأتيا علياًعليه‌السلام فكلماه ، فالتمسها فأذنت لهما ، فلمّا قعدا عندها ، حولت وجهها إلى الحائط ، فقالت : «أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعرفانه وتفعلان به؟ » قالا : نعم.

فقالت : «نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ » قالا : نعم سمعناه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قالت : «فاني اُشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن

__________________

١) كشف الغمة / الاربلي ٢ : ١٣١.

٢٠٠