سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)0%

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف: علي موسى الكعبي
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف:

ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245
المشاهدات: 49857
تحميل: 6858

توضيحات:

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 245 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49857 / تحميل: 6858
الحجم الحجم الحجم
سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: 964-319-218-0
العربية

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم من أفاضلها »(١) )(٢) .

وعلى باب هذا البيت كان يمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج إلى صلاة الصبح ويقول : «الصلاة ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (٣) .

ولكرامة هذا البيت الطاهر ومن فيه من شموس الهداية ومنارات التقى وأعلام اليقين ، فقد استثناه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما أمر بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد دونه ، وكان ذلك بأمر من الله تعالى ، ليبين بذلك عظيم منزلتهم ومنتهى درجتهم.

الزفاف والتكبير :

إنّ ذكر اسم الله تعالى في مقدمات الزواج يضفي قيمة معنوية عليه ، ويربطه بخالق الوجود الأكبر ، مما يسهم في استمرار العلاقة الزوجية لاستنادها إلى ركن قويم وتربية روحية صالحة.

وزواج الزهراءعليها‌السلام باركت له السماء قبل الأرض ، وكبرت له الملائكة قبل البشر ، فكبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكبر الصحابة ، ووقع التكبير على العرائس من يوم زفافها ، وجرت السُنّة به إلى يوم القيامة.

روى الشيخ الطوسي وغيره بالاسناد عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه عن جدهعليه‌السلام عن جابر بن عبدالله ، قال : لما كانت ليلة زفاف فاطمةعليها‌السلام أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ببغلته الشهباء ، وثنى عليها قطيفة ، وقال لفاطمة : «اركبي » ، وأمر

__________________

١) الدر المنثور / السيوطي ٦ : ٢٠٣. وروح المعاني / الالوسي ١٨ : ١٧٤.

٢) فضائل الإمام عليعليه‌السلام / الشيخ محمد جواد مغنية : ٢٦ ـ ٢٧ مكتبة الهلال ـ بيروت.

٣) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٢ / ١٠٠٢. ومسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و ٢٨٥. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٨. وسنن الترمذي ٥ : ٣٥٢ / ٣٢٠٦.

٦١

سلمان أن يقودها ، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يسوقها ، فبينا هو في بعض الطريق إذ سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجبةً ، فإذا هو بجبرئيل في سبعين ألفاً ، وميكائيل في سبعين ألفاً. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أهبطكم إلى الأرض؟ » قالوا : جئنا نزفُّ فاطمة إلى علي بن أبي طالب فكبّر جبرائيل ، وكبّر ميكائيل ، وكبّرت الملائكة ، وكبّر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوقع التكبير على العرائس من تلك الليلة(١) .

وروى ابن شهرآشوب عن الخطيب في تاريخه وابن مردويه وابن المؤذن وشيرويه الديلمي بأسانيدهم عن ابن عباس وجابر ، قالا : لمّا كانت الليلة التي زفت فاطمةعليها‌السلام إلى عليعليه‌السلام كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من خلفها ، يسبّحون الله ويقدسونه حتى طلع الفجر(٢) .

وعن كتاب (مولد فاطمة) عن ابن بابويه ـ في خبر ـ قال : أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة ، وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن ، ولا يقلن ما لا يرضي الله ، فارتجزت أُمّ سلمة وعائشة وحفصة ومعاذة أُمّ سعد بن معاذ ، وكانت النسوة يرجعن أوّل بيت من كل رجز ، ثم يكبّرن ، ودخلن الدار ، ثم أنفذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي ودعاه إلى المسجد ، ثم دعا فاطمةعليها‌السلام فأخذ بيدها ووضعها في يده ، وقال : «بارك الله في ابنة رسول الله »(٣) .

وفي حديث أُمّ سلمة : أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ عليّاً بيمينه ، وفاطمة بشماله ،

__________________

١) أمالي الطوسي : ٢٥٨ / ٤٦٤. والفقيه ٣ : ٢٥٣ / ١٢٠٢. ومناقب ابن المغازلي : ٣٤٣ / ٣٩٥. وترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ : ٢٣٤ / ٢٩٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٠٤ / ١٥.

٢) المناقب ٣ : ٣٥٤. وتاريخ بغداد ٥ : ٧. ومقتل الحسينعليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٦. وذخائر العقبى : ٣٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٥.

٣) المناقب ٣ : ٣٥٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٥.

٦٢

وجمعهما إلى صدره ، فقبّل بين أعينهما ، ودفع فاطمةعليها‌السلام إلى عليعليه‌السلام وقال : «ياعلي ، نعم الزوجة زوجتك » ثم أقبل على فاطمةعليها‌السلام وقال : «يافاطمة ، نعم البعل بعلك » ، ثم قام معهما يمشي بينهما حتى أدخلهما بيتهما الذي هيّىء لهما ، ثم خرج من عندهما ، فأخذ بعضادتي الباب. فقال : «طهركما الله وطهّر نسلكما ، أنا سلمٌ لمن سالمكما ، أنا حربٌ لمن حاربكما ، أستودعكما الله واستخلفه عليكما »(١) .

الوليمة :

وفي زواج الزهراءعليها‌السلام دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام لاَن يصنع طعاماً ويدعو الناس عامة لتكون سنة في أُمّته ، روى الشيخ الطوسي بالاسناد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال : «ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، اصنع لاَهلك طعاماً فاضلاً ، ثم قال : من عندنا اللحم والخبز ، وعليك التمر والسمن ، فاشتريت تمراً وسمناً ، فحسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذراعه ، وجعل يشدخ التمر في السمن حتى اتخذه حيساً ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذبح ، وخُبز لنا خبز كثير ، ثم قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ادعُ من أحببت » الحديث(٢) .

وروى الاربلي عن أُمّ سلمة وسلمان الفارسي وعليعليه‌السلام أنهم قالوا : أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدراهم التي سلّمها إلى أُمّ سلمة عشرة دراهم ، فدفعها إلى عليعليه‌السلام وقال : «اشتر سمناً وتمراً وأقطاً ، قال علي عليه‌السلام : فاشتريت وأقبلت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسر عن ذراعيه ، ودعا بسفرة من أدم ، وجعل يشدخ التمر والسمن ويخلطهما بالأقط حتى اتخذه حيساً ، ثم قال : يا علي ، ادعُ من

__________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦١.

٢) أمالي الطوسي : ٤٢ / ٤٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٥ / ٥.

٦٣

أحببت » إلى آخر الرواية(١) .

وروى الطبراني بالاسناد عن ابن عباس : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا بلالاً ، فقال : «يا بلال ، إنّي قد زوجّت ابنتي ابن عمي ، وأنا أحبُّ أن تكون سُنّة أُمتي الطعام عند النكاح ، فائت الغنم فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة ، واجعل لي قصعة ، لعلّي أجمع عليها المهاجرين والأنصار ، فإذا فرغت منها فآذني بها » فانطلق ففعل ما أمره به ، ثم أتاه بقصعة فوضعها بين يديه ، فطعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في رأسها ، ثم قال : «أدخل عليّ الناس زُفّة زُفّة »(٢) .

ولا تعارض بين هذه الأخبار ، لاَنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله شرط في الأول أن يكون التمر والسمن على عليعليه‌السلام ، وهو ما يفسره الخبر الثاني ، وشرط أيضاً أن يكون اللحم والخبز على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ما يفسره الخبر الأخير.

وحسبك من وليمة تجتمع على أطرافها البركة والخير والنماء ، فهي تصنع بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبيده ، وهو الذي يدعو لها ويبارك فيها ، فلابدّ أن تكون أفضل وليمة على رغم بساطتها وتواضعها.

أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس(٣) ، قالت : جهزت فاطمة إلى علي ، وما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلاّ الليف ، ولقد أولم علي على فاطمة ، فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته(٤) .

__________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦١. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٢. والمناقب / الخوارزمي : ٢٥٤.

٢) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١١ / ١٠٢٢. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٩. وإتحاف السائل : ٣٩.

٣) احتمل الاربلي أن تكون أسماء التي حضرت عرس الزهراءعليها‌السلام هي سلمى بنت عميس زوجة حمزة بن عبدالمطلبعليه‌السلام لاَنّ أسماء بنت عميس كانت بأرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام وقال غيره : هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.

٤) الطبقات الكبرى ٨ : ١٤. وذخائر العقبى : ٣٣. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٦ عن الدولابي. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٨ / ٣٤.

٦٤

الدعاء للعريسين :

وحظي زواج الزهراءعليها‌السلام بدعاء خاتم النبيينصلى‌الله‌عليه‌وآله فجرت السُنّة بذلك لتأكيد القيم الروحية والمعنوية في الزواج ، وتأصيلها في العلاقة الزوجية من يومها الأول.

روى أنس بن مالك عن أُمّ أيمن ، قالت : إنّه لما كانت ليلة البناء ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام : «إذا أتتك فلا تحدث شيئاً حتى آتيك » فدخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لفاطمةعليها‌السلام : «ائتيني بماء » فقامت إلى قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به ، فمجّ فيه ثم قال لها : «قومي » فنضح بين ثدييها وعلى رأسها ، ثم قال : «اللهمَّ أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ثم قال لها : «أدبري » فأدبرت ، فنضح بين كتفيها ، ثم قال : «اللهمَّ إني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ثم قال : «ائتيني بماء » فأتته ، فأخذ منه بفيه ، ثم مجّه فيه ، ثم صبّ على رأس علي وبين يديه ، ثم قال : «اللهمَّ إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم » ثم قال : «ادخل على أهلك باسم الله والبركة »(١) .

وزارهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في صبيحة العرس ـ وقيل : في صبيحة اليوم الرابع(٢) ـ فسأل عليّاًعليه‌السلام : «كيف وجدت أهلك؟ » فقال : «نعم العون على طاعة الله » وسأل فاطمةعليها‌السلام فقالت : «خير بعل » فقال : «اللهمَّ اجمع شملهما ، وألّف بين قلوبهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم ، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة ، واجعل في ذريتهما البركة ، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك ، ويأمرون بما يرضيك »(٣) .

__________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٩ / ١٠٢١. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٦. واتحاف السائل : ٣٥ و ٤٧.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٢.

٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٧.

٦٥

وكان من عادة العرب في الجاهلية أن يقولوا للمتزوجين : بالرفاء والبنين ، فنهى عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في زواج الزهراءعليها‌السلام وسنّ فيه غيره ، روى ثقة الإسلام الكليني عن أبي عبدالله البرقي رفعه ، قال : «لمّا زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة قالوا : بالرفاء والبنين. قال : لا ، بل على الخيروالبركة »(١) .

المبحث الرابع : دورها في داخل الاُسرة وخارجها :

انتقلت الزهراءعليها‌السلام من بيت أبيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيت بعلها الوصيعليه‌السلام ، ذلك البيت الذي تحفّه الرحمة ويغمره الايمان ، فتشكلت الاُسرة الطاهرة من سيدين معصومين درجا في أحضان النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ونهلا من نمير علمه وخلقه العظيم ومكارم أخلاقه وكمالات نفسه الكريمة ، فكان عليعليه‌السلام سيد الوصيين النموذج الكامل والقدوة الصالحة للرجل في الإسلام ، وكانت الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين النموذج الكامل للمرأة في الإسلام.

وقد وجدت الزهراءعليها‌السلام نفسها وهي في بيت الإمامعليه‌السلام أمام وظائف جسيمة ، ومسؤوليات عظيمة ، فباعتبارها القدوة الحسنة والاُسوة المثلى للمرأة المسلمة ، كان عليها أن ترسم الطريق لمعالم البيت الإسلامي الأمثل في الإسلام ، وقد استطاعت وبكل جدارة أن تضرب أروع الأمثلة في طاعة الزوج ومراعاة حقوقه والاخلاص له ، والصبر على شظف العيش وقلة ذات اليد ، وفي القيام بمسؤوليات البيت وأداء واجبات الاُسرة في جوّ من المودة والصفاء والتعاون والوفاء ، وفي تربية الأولاد الصالحين ، بما ليس له نظير ،

__________________

١) الكافي ٥ : ٥٦٨ / ٥٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٤٤ / ٤٦.

٦٦

وفي ما يلي بعض معالم تلك الاُسرة الفريدة التي أنعم الله عليها بما يشاء.

١ ـ الطاعة وحسن المعاشرة :

كانت الزهراءعليها‌السلام نعم الزوجة لاَمير المؤمنينعليه‌السلام ما عصت له أمراً وما خالفته في شيء ولا خرجت بغير إذنه ، وكانت تعينه على طاعة الله تعالى ، وتؤثره على نفسها ، وتدخل عليه البهجة والسرور ، حتى إنّه إذا نظر إليها انكشفت عنه الهموم والأحزان.

جاء في روضة الواعظين أن الزهراءعليها‌السلام قالت في مرض موتها لاَمير المؤمنينعليه‌السلام : «يا بن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني » فقالعليه‌السلام : «معاذ الله! أنتِ أعلم بالله ، وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي »(١) .

وبالمقابل كان أمير المؤمنينعليه‌السلام نعم البعل للزهراءعليها‌السلام يغدق عليها من فيض حبّه وعطفه ، ويشعرها باخلاصه وودّه لها ، وما كان يغضبها ولا يكرهها على شيء قطّ ، وإن أرجف المرجفون على هذا البيت الطاهر بأراجيف شتى.

عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : «والله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عزَّ وجلَّ. ولا أغضبتني ، ولا عصيت لي أمراً ، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان »(٢) .

وضربت الزهراءعليها‌السلام أروع الأمثلة في الصبر على ألم المعاناة من العمل في داخل المنزل حتى إنّها كانت تغزل جزة الصوف بثلاثة آصع من شعير.

عن تفسير الثعلبي : أن عليّاًعليه‌السلام انطلق إلى يهودي يعالج الصوف ، فقال له :

__________________

١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩١ / ٢٠.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٤. ومناقب الخوارزمي : ٢٤٧.

٦٧

«هل لك أن تعطيني جزةً من صوف تغزلها لك بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة آصع من شعير؟ » قال : نعم. فأعطاه الصوف والشعير. فقبلت فاطمةعليها‌السلام وأطاعت ، وقامت إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص(١) .

وعن أنس ، قال : إنّ بلالاً أبطأ عن صلاة الصبح ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ماحبسك؟ » فقال : مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي ، فقلت لها : إن شئت كفيتك الرحا وكفيتني الصبي ، وان شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحال. فقالت : «أنا أرفق بابني منك » فذاك حبسني. قال : «رحمتها رحمك الله »(٢) .

وفي مثل هذه الظروف القاهرة كانتعليها‌السلام لا تخرج منها غير كلمة الطاعة ، فحينما سألها أمير المؤمنينعليه‌السلام إطعام المسكين الذي طرق بيت الزهراءعليها‌السلام قالت :

« أمرك سمعٌ يابن عمّ وطاعة

ما بي من لؤمٍ ولا وضاعة »(٣)

ولا تتوانى ابنة الرسالة عن أداء مهامها في البيت طاعةً لزوجها على الرغم من حالة الفقر التي كانت تلفّ حياتها في بيت الزوجية ، حتى أن أمير المؤمنينعليه‌السلام رقّ لحالها من شدّة ما تعانيه من أتعاب منزلية.

أخرج السيوطي في مسند فاطمةعليها‌السلام عن هبيرة ، عن عليعليه‌السلام ، قال :

__________________

١) إحقاق الحق / الشهيد التستري ١٠ : ٢٦٤ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، عن تفسير الثعلبي.

٢) مسند أحمد ٣ : ١٥٠. ومجمع الزوائد ١٠ : ٣١٦. وتاريخ دمشق ١٠ : ٣٣٢ ـ دمشق. ومجموعة ورّام ٢ : ٢٣٠.

٣) تفسير فرات : ٥٢١ ـ طهران ١٤١٠ هـ. ومناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٧٤. وتذكرة الخواص ٣١٤. وتفسير القرطبي ١٩ : ١٣٢. واتحاف السائل : ١٠٥.

٦٨

«قلت لفاطمة عليها‌السلام : لو أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تسأليه خادماً ، فإنّه قد جهدك الطحن والعمل ..؟ »(١) .

وعن الحسين بن علي ، عن أبيه عليعليهما‌السلام ، أنّه قال لفاطمةعليها‌السلام : «اذهبي إلى أبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسليه يعطيك خادماً ، يقيك الرحى وحرّ التنور »(٢) .

وعن علي بن أعبد ، قال : قال لي عليعليه‌السلام : «ألا أُحدّثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت من أحبّ أهله إليه؟ » قلت : بلى.

قالعليه‌السلام : « إنّها جرّت بالرحى حتى أثّرت في يدها ، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها ، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها ، وأوقدتالقدرحتىدكنت ثيابها ، وأصابها من ذلك ضرّ ، فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خدمٌ ، فقلت : لو أتيت أباك فسألتيه خادماً ، فأتته فوجدت عنده حُدّاثاً فاستحيت فرجعت ، فأتاها من الغد ، فقال : ما كان حاجتك؟ فسكتت ، فقلت : أُحدّثك يا رسول الله ، جرّت ندي عندي بالرحى حتى أثّرت في يدها ، وحملت بالقربة حتى أثّرت في نحرها ، وكسحت البيت حتى أغبرّت ثيابها ، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها ، فلمّا جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادماً يقيها حرّ ما هي فيه.

قال : اتقي الله يا فاطمة ، وأدّي فريضة ربك ، وأعملي عمل أهلك ، إن أخذت مضجعك فسبحي ثلاثاً وثلاثين ، وأحمدي ثلاثاً وثلاثين ، وكبّري أربعاً وثلاثين ، فتلك مائة ، فهي خير لك من خادم. فقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ، ولم يُخدمها »(٣) .

__________________

١) مسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١٠٢ عن ابن جرير.

٢) مسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١٠٣ عن أبي نعيم.

٣) مسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١١٠ عن أبي داود ، والعسكري في المواعظ ، وأبي نعيم ، وعبدالله بن أحمد بن حنبل.

٦٩

٢ ـ التعاون وتقسيم العمل :

ومن مظاهرالعظمة في بيت الزهراءعليها‌السلام والتي تستحق أن تكون قدوة لنا في حياتنا وأُسوة في تعاملنا داخل بيوتنا ، هو التعاون بوئامٍ وإخلاص بين الزوج والزوجة على إدارة شؤون البيت وتقسيم العمل في داخله وخارجه.

روى العياشي عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ فاطمة عليها‌السلام ضمنت لعلي عليه‌السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت ، وضمن لها علي عليه‌السلام ما كان خلف الباب : نقل الحطب وأن يجيء بالطعام »(١) .

وعن هشام بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحتطب ويستقي ويكنس ، وكانت فاطمة عليها‌السلام تطحن وتعجن وتخبز »(٢) .

وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام يشاطرها الخدمة في أعمال المنزل الخاصة بها ، فقد جاء عن ابن شاذان أنه دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على عليعليه‌السلام فوجده هو وفاطمةعليها‌السلام يطحنان في الجاروش ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيكما أعيى؟ » فقال عليعليه‌السلام : «فاطمة يا رسول الله » فقال لها : «قومي يابنية » فقامت وجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله موضعها مع عليعليه‌السلام فواساه في طحن الحبّ(٣) .

ومن مظاهر التواضع والعدل في بيت الزهراءعليها‌السلام أنّ تقسيم العمل لا يقتصر على أفراد الاُسرة وحسب ، بل كانت تتناوب بالعمل مع الخادمة يوماً بيوم ، حيث أخدمها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جارية أسمها فضّة بعد أن كثرت الفتوح والمغانم وارتفع الفقر عن أهل الصفّة وسائر ضعفاء المدينة.

__________________

١) تفسير العياشي ١ : ١٧١ / ٤١ المكتبة العلمية ـ طهران. وبحار الأنوار ٤٣ : ٣١ / ٣٨.

٢) الكافي ٥ : ٨٦ / ١. وأمالي الطوسي : ٦٦٠ / ١٣٦٩. والفقيه ٣ : ١٦٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٥١ / ٧.

٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٥٠ / ٤٧. وروى نحوه ورّام في تنبيه الخواطر ٢ : ٢٣٠ ، مكتبة الفقيه ـ قم.

٧٠

روى الخوارزمي بالاسناد عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن أبيه علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه ذكر تزويج فاطمةعليها‌السلام ثم قال : «إنّ فاطمة عليها‌السلام سألت من رسول الله خادماً ـ إلى أن قال : ـ ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ساحل البحر ، فأصاب سبياً فقسمه ، فأمسك امرأتين إحداهما شابة ، والاُخرى قد دخلت في السنّ ليست بشابة ، فبعث إلى فاطمة عليها‌السلام وأخذ بيد المرأة فوضعها في يد فاطمة عليها‌السلام وقال : يا فاطمة ، هذه لك ولا تضربيها ، فإنّي رأيتها تصلي ، وإن جبرئيل نهاني أن أضرب المصلين ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوصيها بها ، فلمّا رأت فاطمة عليها‌السلام ما يوصيها بها التفتت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : يا رسول الله ، عليّ يوم وعليها يوم ، ففاضت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبكاء وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ( ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) »(١) .

وفي الاصابة عن ابن صخر في فوائده وابن بشكوال في كتاب المستغيثين ، بالاسناد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضّة النوبية ، وكانت تشاطرها الخدمة فقالت لها فاطمة عليها‌السلام : أتعجنين أو تخبزين؟ » فقالت : بل أعجن يا سيدتي وأحتطب »(٢) .

وروى الطبري والراوندي بالاسناد عن سلمان رضي الله عنه قال : كانت فاطمةعليها‌السلام جالسة قدامها رحى تطحن بها الشعير وعلى عمود الرحى دم سائل ، والحسين في ناحية الدار يبكي من الجوع. فقلت : يا بنت رسول الله ، دبرت كفاك وهذه فضّة؟

فقالت : «أوصاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تكون الخدمة لها يوماً ، فكان أمس

__________________

١) مقتل الحسينعليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٩.

٢) الاصابة / ابن حجر ٤ : ٣٨٧.

٧١

يوم خدمتها »(١) .

٣ ـ تربية الأولاد :

اضطلعت الزهراءعليها‌السلام بمهمة اُخرى لا تقل عن مهمة مباشرتها لاَعمال المنزل ، تلك هي تربية الأولاد ، فقد وهبها الله كرامة أُمومة الأوصياء ، وأعطاها شرف الربط بين النبوة والإمامة ، وقد استطاعت أن تجني من نتاج تربيتها أقدس الثمار ، فكان الحسن السبطعليه‌السلام أول مولود لفاطمةعليها‌السلام حيث ولد في النصف من شهر رمضان عام ثلاثة من الهجرة ، ثم الحسين السبط الشهيدعليه‌السلام الذي ولد في الثالث من شهر شعبان عام أربعة من الهجرة ، وهما سيدا شباب أهل الجنة ، والإمامان إن قاما وإن قعدا.

وكان المولود الثالث زينب العقيلةعليها‌السلام بطلة كربلاء ، وكان مولدها في السنة الخامسة من الهجرة ، ثم ابنتها الثانية وهي السيدة أُمّ كلثومعليها‌السلام وقد ولدت بعد اختها بعام واحد وقيل : بعامين(٢) ، وابنها الأخير حملت به في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسمّاه قبل أن يولد محسناً ، لكنه أُسقط قبل ولادتهعليه‌السلام فاستشهد مظلوماً بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأيام على إثر حوادث السقيفة والتي سنتعرض لبعضها في الفصل الأخير من هذا البحث.

لقد غرست الزهراءعليها‌السلام في نفوس أولادها خصال الخير ومكارم الأخلاق ومعالي الفضيلة ، وأرضعتهم مبادىء التوحيد والدفاع عن الحقِّ ، فقد روي أنهاعليها‌السلام كانت ترقّص الحسنعليه‌السلام وهي تقول :

__________________

١) دلائل الإمامة : ١٤٠ / ٤٨. والخرائج والجرائح ٢ : ٥٣٠ / ٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٨ / ٣٣.

٢) وقد ذهب بعض الباحثين كالسيد عبدالرزاق المقرم الموسوي إلى أن أم كلثوم هي نفسها زينب العقيلة. وأن (أُمّ كلثوم) لقب من ألقابها ، بخلاف ما ذهب إليه الشيخ المفيد وغيره بأنّ أم كلثوم غير زينبعليهما‌السلام . راجع : مقتل الحسينعليه‌السلام / السيد عبدالرزاق المقرم.

٧٢

أشبه أباك يـا حسـن

واخلع عن الحقّ الرَّسن

واعبـد إلهاً ذا منـن

ولا تُـوالِ ذا الإحن(١)

ونشأ أولاد الزهراءعليها‌السلام في ظل رعاية الاُمّ سيدة النساء والأب وصي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله يحيطهم أشرف الأنبياء والرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله بحنانه وعطفه وتربيته ، فكانوا خيرة البشرية وقدوة الإنسانية.

وحظي الحسن والحسينعليهما‌السلام بمساحة واسعة من حب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحنانه وعطفه ، فهما ريحانتاه يشمهما ويكثر من تقبيلهما ، ويحملهما على عاتقه ، ويضمهما إليه ، ويعوّذهما ، ويعلمهما القرآن ، ويلقنهما العلم والفصاحة والشجاعة والزهد والورع ، فاستوحيا رساليته وروحانيته وأخلاقيته ، وتجسدت فيهما شخصيته ، فكانا اختصاراً لجميع عناصرها الأخلاقية والروحية والإنسانية ، فصارا رمز الفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة وخلقاً كريماً ، عملا بوصاياه وتعاليمه ، وجاهدا في سبيل دينه ومبادئه ، ونهضا من أجل إقامة الاصلاح في أُمته ، فكاناعليهما‌السلام مشعل نور وهداية في حياة الاُمّة.

ولقد حرّم الله سبحانه أولادها على النار كرامة لعفّتها وحصانتها ، وبياناً لمنزلتهم عند الله تعالى ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها الله وذريتها على النار »(٢) .

__________________

١) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٨٩. وأعيان الشيعة ١ : ٥٦٣.

٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٢. والمعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٧ / ١٠١٨. وحلية الأولياء / أبي نعيم ٤ : ١٨٨ ـ دار الكتب العلمية. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٢. وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ : ٦٣ / ٢٦٤.

٧٣

قال الصبان : أخرج الطبراني بسند رجاله ثقات أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمةعليها‌السلام : «إنّ الله غير معذّبك ولا أحداً من ولدك »(١) .

وجاء في كثير من الروايات والأخبار أنّ ذلك خاص بأولادها دون سائر ذريتها ، منها ماروي بالاسناد عن محمد بن مروان ، قال : قلت لاَبي عبداللهعليه‌السلام : هل قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار »؟ قالعليه‌السلام : «نعم ، عنى بذلك الحسن والحسين وزينب وأُمّ كلثوم »(٢) .

قال حسّان بن ثابت :

وإن مريم أحصنت فـرجها

وجـاءت بعيسى كبدر الدجى

فقد أحصنت فاطمُ بعـدها

وجاءت بسبطي نبيّ الهدى(٣)

دورها في خارج المنزل :

إذا تجاوزنا دور الزهراءعليها‌السلام في إدارة أعمال المنزل وتربية الأولاد ، نرى أن سيدة النساء قد سجّلت عناوين مهمة وآفاق جديدة لدور المرأة المسلمة في مجمل النشاطات الاجتماعية والسياسية والحربية وغيرها ، ممّا يتناسب مع واقع وحاجات وظروف ذلك العصر.

فقد كانت تعلّم النساء ما يشكل عليهنّ من الأحكام الشرعية والمعارف

__________________

١) إسعاف الراغبين : ١٨١ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٢) معاني الأخبار : ١٠٦ / ٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٣١ / ٣.

٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٠.

٧٤

الإلهية الضرورية ، وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها(١) ، ويبدو أن بيتها كان المدرسة النسائية الاُولى في الإسلام ، حيث تقبل عليها النساء طالبات للعلم ، فيجدن فاطمة العالمة وهي تستقبلهنّ بصدر رحب لا يعرف الملالة والسأم.

عن الإمام العسكريعليه‌السلام قال : «حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة ، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء ، وقد بعثتني إليك اسألك ، فأجابتها فاطمة عليها‌السلام عن ذلك ، فثنّت فأجابت ، ثم ثلّثت إلى أن عشّرت فأجابت ، ثم خجلت من الكثرة ، فقالت : لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله. فقالت عليها‌السلام : هاتي وسلي عمّا بدا لك إنّي سمعت أبي يقول : إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله ، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور »(٢) .

وعنهعليه‌السلام قال : «قالت فاطمة عليها‌السلام وقد اختصمت إليها امرأتان ، فتنازعتا في شيء من أمر الدين ، إحداهما معاندة ، والاُخرى مؤمنة ، ففتحت على المؤمنة حجتها ، فاستظهرت على المعاندة ، ففرحت فرحاً شديداً ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشدّ من فرحك ، وإنّ حزن الشيطان ومردته أشدّ من حزنها »(٣) .

ومما وصل إلينا من خطبها للنساء ، خطبتها بنساء المدينة في مرض موتها ، وهي غاية في الفصاحة والمعرفة ، وسنوردها في آخر هذا البحث إن

__________________

١) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٩٣.

٢) بحار الأنوار ٢ : ٣ / ٣.

٣) بحار الأنوار ٢ : ٨ / ١٥.

٧٥

شاء الله تعالى.

ولم تقتصر في تعليمها على النساء ، بل كانتعليها‌السلام تطرف القاصدين إليها بما عندها من العلم والمعرفة ، فعن ابن مسعود ، قال : جاء رجل إلى فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا ابنة رسول الله ، هل ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عندك شيئاً تطرفينيه ، فقالت : «يا جارية ، هاتي تلك الحريرة » فطلبتها فلم تجدها ، فقالت : «ويحك اطلبيها ، فانها تعدل عندي حسناً وحسيناً » فطلبتها فإذا هي قد قمّتها في قمامتها ، فإذا فيها : «قال محمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت. إنّ الله يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف ، ويبغض الفاحش الضنين السَّئآل الملحف. إنّ الحياء من الإيمان ، والايمان في الجنة ، وإن الفحش من البذاء ، والبذاء في النار »(١) .

وكان للزهراءعليها‌السلام مشاركة فعّالة ومؤثّرة في الدعوة إلى الله تعالى في مواقع مختلفة أهمها المباهلة مع النصارى ، ونزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة( ونساءنا ونساءكم ) (٢) فكانت سيدة النساءعليها‌السلام هي المختصة بهذا الفضل ولم يشركها فيه أحد من نساء الاُمّة.

وكانت الزهراءعليها‌السلام معيناً للمحتاجين من أبناء المجتمع الإسلامي آنذاك ، تنفق في سبيل الله وتعتق الرقاب وتعين الضعفاء ، فقد توافق أغلب المفسرين على نزول قوله تعالى :( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً

__________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١٣ / ١٠٢٤. ودلائل الإمامة : ٦٥ / ١. وقطعة من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في صحيح البخاري ٨ : ١٩ / ٤٨ و ٤٩. وصحيح مسلم ١ : ٦٨ / ٧٥ و ٧٧. ومصابيح السُنة / البغوي ٣ : ١٦٩ دار المعرفة ـ بيروت. والكافي ٢ : ٦٦٧ / ٦. والزهد / الحسين بن سعيد : ٦ / ١٠ ، و ١٠ / ٢٠ عن الإمام الصادقعليه‌السلام المطبعة العلمية ـ قم.

٢) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

٧٦

ويتيماً وأسيراً *إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً ) (١) في أهل البيتعليهم‌السلام علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام حينما تصدقوا رغم خصاصتهم على المسكين واليتيم والأسير(٢) .

أخرج ابن شهرآشوب عن ابن شاهين في (مناقب فاطمةعليها‌السلام ) وأحمد في مسند الأنصار عن أبي هريرة وثوبان أنّهاعليها‌السلام نزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها ـ أي سواريها ـ ونزعت ستر بيتها ، فبعثت به إلى أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : «اجعل هذا في سبيل الله » فلمّا أتاه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «قد فعلت فداها أبوها ـ ثلاث مرات ـ ما لآل محمد وللدنيا ، فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم » وفي رواية أحمد : «فإنّ هؤلاء أهل بيتي ، ولا أُحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا »(٣) .

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذينك السوارين فكسّرا فجعلهما قطعاً ، ثمّ دعا أهل الصُّفّة ـ وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال ـ فقسّمه بينهم قطعاً ، ثم جعل يدعو الرجل منهم العاري الذي لا يستتر بشيء ، وكان ذلك الستر طويلاً ، ليس له عرض ، فجعل يؤزّر الرجل ، فإذا التقيا عليه قطعه حتى قسّمه بينهم أُزراً ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : رحم الله فاطمة ، ليكسونّها الله بهذا الستر من كسوة الجنة ، وليحلّينها بهذين السوارين من حلية الجنة »(٤) .

__________________

١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٨ و ٩.

٢) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٦٧٠. وتفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٣ دار احياء التراث العربي. ومعالم التنزيل / البغوي ٥ : ٤٩٨ دار الفكر.

٣) المناقب / ابن شهر آشوب ٣ : ٣٤٣. ومسند أحمد ٥ : ٢٧٥. وذخائر العقبى : ٥٢. ومسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ٦. وأمالي الصدوق : ٣٠٥ / ٣٤٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٦.

٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٩٤ الشريف الرضي ـ قم. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٢ / ٦.

٧٧

وفي صحيفة الإمام الرضاعليه‌السلام عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «حدثتني أسماء بنت عميس ، قالت : كنت عند فاطمة جدتك ، إذ دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عنقها قلادة من ذهب ، كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام اشتراها لها من فيءٍ له ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يغرّنك الناس أن يقولوا : بنت محمد ، وعليك لباس الجبابرة؛ فقطعتها وباعتها ، واشترت بها رقبة فاعتقتها ، فسُرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك »(١) .

وفوق ذلك فالمتصفح للسيرة والتاريخ يجد أنّها كانت إلى جنب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض غزوات الإسلام الكبرى تمسح الدم عن وجهه الكريم وتضمد جراحه.

أخرج البخاري ومسلم في الصحيح عن عبدالعزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، أنّه سمع سهل بن سعد يُسأل عن جرح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أُحد ، فقال : جرح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسرت رباعيته وهشمت بيضته على رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالبعليه‌السلام يسكب عليها بالمجَنّ ، فلمّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلاّ كثرة ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً ، ثم ألصقته بالجرح ، فاستمسك الدم(٢) .

وقال الواقدي في حديثه عن معركة أُحد : خرجت فاطمةعليها‌السلام في نساء ، وقد رأت الذي بوجههصلى‌الله‌عليه‌وآله فاعتنقته ، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ،

__________________

١) صحيفة الإمام الرضاعليه‌السلام : ٢٥٦ / ١٨٥ طبع مؤسسة الإمام المهديعليه‌السلام ـ قم. وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ : ٤٤ / ٦١. وذخائر العقبى : ٥١. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٦ / ٢٨.

٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٦ / ١٠١ كتاب الجهاد والسير ـ باب غزوة أُحد. وصحيح البخاري ٥ : ٢٢٦ / ١١٣ كتاب المغازي ـ باب ما أصاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الجراح يوم أُحد. ومغازي الواقدي ١ : ٢٥٠ عالم الكتب ـ بيروت.

٧٨

ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «اشتدّ غضب الله على قومٍ أدموا وجه رسول الله » وذهب عليعليه‌السلام يأتي بماءٍ من المهراس ، وقال لفاطمةعليها‌السلام : «أمسكي هذا السيف غير ذميم » فأتى بماءٍ في مِجَنّهِ فمضمض منه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاه للدم الذي في فيه ، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها(١) .

وجاء في أغلب التواريخ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ناول سيفه ابنته فاطمةعليها‌السلام بعد غزاة أُحد ، وقال لها : «اغسلي عن هذا دَمَهُ يا بنية » وناولها عليعليه‌السلام سيفه وقال :

« أفاطم هاك السيف غيـر ذميـمِ

فلسـت بـرعـديد ولا بلئيــمِ

أفاطم قـد أبليت في نصـر أحمدٍ

ومـرضاة ربّ بـالعبـاد رحيـمِ

أميطي دمـاء القـوم عنه فانّـه

سقى آل عبدالدار كأس حميم »(٢)

وكانت لها إسهامات في حروب الإسلام المصيرية تناسب شخصيتها وقدراتها ، ففي وقعة أُحد كانت قد جاءت مع أربع عشرة امرأة يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ، ويسقين الجرحى ويداوينهم(٣) .

وعندما أُصيب سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلبعليه‌السلام كانت الزهراءعليها‌السلام من المبادرات إلى مصرعه مع صفية بنت عبدالمطلب ، وكانت تبكي وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي لبكائها(٤) .

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، لم تنس ابنة الرسالة دور الشهداء في بناء صرح الإسلام وتشييد عزّته واكتساب ديمومته وسرّ بقائه ، قال الإمام

__________________

١) مغازي الواقدي ٢ : ٢٤٩.

٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٧ دار التراث ـ بيروت. ومستدرك الحاكم ٣ : ٢٤. وتذكرة الخواص : ١٦٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٥ : ٣٥. ومجمع الزوائد ٦ : ١٢٢. وأمالي الطوسي : ١٤٣ / ٢٣٢.

٣) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٩.

٤) مغازي الواقدي ١ : ٢٩٠.

٧٩

الصادقعليه‌السلام : «إنّ فاطمة عليها‌السلام كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت ، فتأتي قبر حمزة وتترحم عليه وتستغفر له »(١) .

وفي مغازي الواقدي : كانت الزهراءعليها‌السلام تأتي قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة ، فتبكي عندهم وتدعو(٢) ، واتخذت من تربة حمزةعليه‌السلام مسبحة على عدد التكبيرات تديرها بيدها فتكبّر وتسبّح بها ، وعملت بعدها التسابيح فاستعملها الناس(٣) .

ولمّا استشهد جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام في مؤتة أمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تتخذ لاَسماء بنت عميس طعاماً ثلاثة أيام ، فجرت بذلك السُنّة ، وأمرها أن تقيم عندها ثلاثة أيام هي ونساؤها لتسليها عن المصيبة(٤) .

وخرجت مع أبيها وبعلها يوم فتح مكة ، وقد ضُرِبَ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خِباء بالبطحاء ، وجلس فيه يغتسل وكانت فاطمةعليها‌السلام تستره ، وقيل : أمرها فسكبت له غسلاً فاغتسل(٥) .

ولم تنس الزهراءعليها‌السلام دورها الاجتماعي حتى في عبادتها ، فقد كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها ، متحلية بالخلق النبوي والأدب الإسلامي الرفيع.

عن الإمام الحسنعليه‌السلام قال : «رأيت أُمي فاطمة عليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها ، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعو

__________________

١) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٥ / ١٦٨.

٢) مغازي الواقدي ١ : ٣١٣.

٣) مزار المفيد : ١٣٢ / ١ مؤسسة الإمام المهديعليه‌السلام ـ قم. وبحار الأنوار ١٠١ : ١٣٣ / ٦٤.

٤) المحاسن / البرقي : ٤١٩ / ١٩١ و ١٩٢.

٥) راجع : أخبار مكة / الأزرقي ١ : ١٦١ الشريف الرضي ـ قم. ومغازي الذهبي : ٥٥٥ دار الكتاب العربي ـ بيروت.

٨٠