وركبت السفينة

وركبت السفينة0%

وركبت السفينة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 665

وركبت السفينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مروان خلفيات
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 665
المشاهدات: 261394
تحميل: 4140

توضيحات:

وركبت السفينة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 665 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261394 / تحميل: 4140
الحجم الحجم الحجم
وركبت السفينة

وركبت السفينة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حديثا في النهي عن المشي بالخف الواحد، فبلغ عائشة ذلك فمشت بخف واحد وقالت:

لاخالفن أبا هريرة "(١) .

وقال إبراهيم النخعي - إمام العراق، وقيل عنه: إنه كان صيرفياً في الحديث -:

" كان أصحابنا يَدَعُون من حديث أبي هريرة. وعنه قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة. وعن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من أحاديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال:

دعني من أبي هريرة إنهم كانوا يتركون كثيرا من أحاديثه "(٢) .

وقد مرت بك أيها القارئ شهادة الإمام أبي حنيفة في أبي هريرة فلا تنسها. وأكَّد ابن قتيبة في رده على النظَّام أنَّ الصحابة والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه، وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه(٣) .

وقال الآمدي: " أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه اختلاط الضبط الذي لا يعرف لمن قلت روايته "(٤) .

وقال ابن الأثير: " أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها "(٥) .

وقال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي فيه: "... كان عمر وعثمان وعلي وعائشة ينكرون عليه ويتهمونه، وهو أول راوية اتهم في الإسلام، وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه "(٦) .

____________

١ - راجع " أبو هريرة "، شرف الدين: ص ١٩٧.

٢ - هذه الأخبار في سير أعلام النبلاء: ٢/٦٠٢، البداية والنهاية: ٤/١٠٩، شرح النهج ١/٣٤٠، العلل ومعرفة الرجال: أحمد بن حنبل، ١/٤٢٨.

٣ - تأويل مختلف الحديث: ٣٩.

٤ - الإحكام: ٢/١٠٦.

٥ - المثل السائر: ص ٨١.

٦ - آداب العرب: ١/٢٨٢.

٢٢١

وقال المحدث رشيد رضا: " لو طال عمر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة "(١) .

وقال أحمد أمين عنه: " وقد أكثر الصحابة من نقده على الإكثار من الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشكوا فيه... "(٢) .

وقد اعترف أبو هريرة بتكذيب الناس له. روى مسلم عن ابن رزين قال:

" خرج علينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته فقال: انكم تقولون اني اكذِّب على رسول الله لتهتدوا وأضل... "(٣) فأهل القرون الأولى كذبوا أبا هريرة باعترافه بنفسه!

فبعد هذا، كيف يمكن لنا الاطمئنان بصحة روايات أبي هريرة الكثيرة؟! وكيف نجعله سفيرا بيننا وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كذبه السلف الصالح باعترافه؟! وهل يعقل أن الله اختار أبا هريرة لتبليغ دينه، بعد أن طعن فيه السلف، وبعد أن نسب أقوالا للنبي هي لكعب الأحبار، وبعد أن رفع للنبي قولا هو من أقوال الجاهلية؟! أفتونا يا أولي الألباب.

الصحابة يروون عن أهل الكتاب

كان هناك من الصحابة من يحدِّث عن أهل الكتاب، وينقل حديثه على أنه من الإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن عمرو بن العاص.

قال ابن حجر عنه: " إنه قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها ويحدث منها، فتجنب الأخذ عنه لذلك كثيرٌ من أئمة التابعين "(٤) .

____________

١ - مجلة المنار ١٠/٨٥١.

٢ - فجر الإسلام: ص ٢٦٢، الفصل الثاني من الباب السادس.

٣ - ٢/٧٥.

٤ - فتح الباري: ١/١٦٧.

٢٢٢

يظهر من كلام ابن حجر هذا أنَّ ابن عمرو كان يحدِّث عن الرسول والزاملتين.

وقد التبس على السامعين مصدر كلامه، لذلك تجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين على حد تعبير ابن حجر. وكان عند عبد الله بن عمرو بن العاص مائتا زاملة وكان يحدث منها لمن نزل عليه من الناس!(١) وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: " إن عبد الله بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما "(٢) . وقال ابن كثير عن الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: " إنَّ الأشبه أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب "!

فكلام ابن كثير هذا يؤكد قولنا: إنَّ عبد الله كان يحدث عن الزاملتين وينسب حديثه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أنَّ الراوي عن عبد الله لا يميِّز مصدر كلامه، أهو من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم من الزاملتين؟ وفي كلا الاحتمالين ضرر فادح على نصوص الإسلام.

تأمل طويلا في هذه العقبة الجديدة؟ فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص أحد العبادلة الأربعة وأحد علماء الصحابة الذين يعتمد عليهم في الرواية ينقل من الزاملتين!

أليس هذا هو الذي فتح باب الاسرائيليات إلى تراثنا الإسلامي وكان سلاحا بيد أعداء الإسلام؟

" والباحث المتثبّت والناقد البصير لا ينكر أنَّ الكثير من الاسرائيليات دخلت الإسلام عن طريق أهل الكتاب الذين أسلموا، وكذلك لا ينكر أثرها السئ في كتب العلوم وأفكار العوام من المسلمين وما جرته على الإسلام من طعون أعدائه "(٣) .

____________

١ - مستدرك الحاكم: ٤/٥٣٣.

٢ - ١/٤ وانظر شيخ المضيرة: ص ١٢٤.

٣ - دفاع عن السنة، محمد أبو شهبة: ص ٨٢.

٢٢٣

ماذا سيفعل المسلم للتأكد من سلامة تعبده ومعرفته بدينه؟ أيعتمد في ذلك على الروايات المنقولة من زاملتي عبد الله بن عمرو؟ ومن يدري؟ فلعل قسما من أحاديثه كان من زاملتيه، إذ ثبت انه كان يتحدث منهما. إنَّ جعل عبد الله واسطةً بيننا وبين النبي تجعلنا في ريب من مروياته، فهل هي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقا أو من الزاملتين؟! فمن يريد لنا أن نأخذ عن عبد الله، عليه أن يفصِّل الروايات التي رواها عبد الله من أهل الكتاب عن الروايات التي رواها عبد الله عن النبي!!

لا أعتقد أنَّ أحدا يستطيع بيان ذلك، وإن فعل فستبقى محاولته ناقصة وظنية...

ولا أعتقد أنَّ الله يريد لنا أن نسلك هذا الطريق الوعر. فالله بلطفه أرسل لنا سفراء معصومين من الخطأ حتى تصل إلينا تعاليم السماء بصورة صحيحة.

فحاشاك ربي أن تترك دينك بين يدي عبد الله الذي يأخذ عن أهل الكتاب وبين يدي أبي هريرة، وأنس الذي اختلط عقله...

الصحابة ينسون

لقد نسي بعض الصحابة ما أخذ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هؤلاء زيد بن أرقم، فعن يزيد بن حيان قال: " انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين:... لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... "(١) .

إنَّ زيد بن أرقم يعترف على نفسه أنه نسي بعض الذي كان يحفظه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو معدود من كبار الصحابة، فلابد من أن مثله الكثير.

____________

١ - صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب.

٢٢٤

الإشكال الذي يرد الآن هو: كيف يختار الله لتبليغ دينه من ينسى ماائتمنه عليه(١) .

إن نظرة واحدة إلى أنبياء الله تكفي لإعطائنا فكرة واضحة عن صفات المبلغين عن الله. فلم يحدث أن عهد الله برسالته إلى إنسان علم أنه سينسى ما هو مأمور بتبليغه، فالله(٢) وحفاظاً على دينه من التغيير والنسيان اشترط العصمة في أنبيائه.

ومن يضمن لنا أن لا يكون زيد بن أرقم قد تحدث بعد أن كبر ونسي؟ أليس من الممكن أن يتحدَّث زيد بعد نسيانه؟ إذا جاز هذا فمن يضمن لنا أن لا تكون رواياته البالغة ٧٠ رواية من هذا القبيل؟ نحن لا نعني جميعها، ولكن كل حديث ليس له شاهدٌ نحتمل فيه أن يكون من نسيانه. فمن يستطيع أن يميز لنا روايات زيد قبل نسيانه من رواياته بعد نسيانه؟!

ولو افترضنا حل هذا الإشكال فماذا نفعل بالروايات المرسلة التي كان يأخذها الصحابة عن بعضهم البعض وينسبونها للنبي دون ذكر لاسم الصحابي الذي أخذوا عنه؟! فكل حديث مرسل - ومراسيل الصحابة حجة - نحتمل فيه أن يكون مأخوذا عن زيد بن أرقم بعد نسيانه فماذا نفعل بهذه المعضلة؟!

الصحابة يخطئون في الجواب

كان الصحابة يخطئون في فهم بعض الآيات القرآنية، وكانوا يخطئون في الإجابة عن المسائل الشرعية، وفي تنفيذ الحدود الشرعية. وكل هذه السلبيات مرفوعةٌ عن حملة دين الله، فمن يتصدَّى لمهمة بيان الدين عليه أن يكون عارفا بجميع أحكام الإسلام، وعدم توفر هذه الصفة في شخص المرجع بعد النبي، فيه ما فيه من الخطورة على

____________

١ - قد يقال: إنَّ النسيان أمرٌ ليس بيد الإنسان بل من الله، قلنا: هذا يعني أنَّ الله قد أنسى زيدا ما حفظ عن النبي!! فلو اختار الله زيدا لتبليغ دينه لما أنساه ما وعى من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو واضحٌ. وهذا مايدفعنا للتأكيد على أنَّ خليفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبليغ منزِّهٌ عن النسيان لكيلا تنسى أحكام الإسلام.

٢٢٥

أحكام الإسلام وحقوق العباد. ولا يأمن المسلم - بدون هذه الصفة - من أن يأتيه الدين صحيحا، والأمثلة القادمة توضح ما قلنا خيرَ توضيح.

سئل أبو بكر عن قول الله تعالى:( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (١) فقال: " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم "(٢) .

وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال: " إني سأقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان... "(٣) .

قال ابن سعد: " إن أبا بكر نزلت به قضيه فلم يجد في كتاب الله منها أصلا، ولا في السنة أثرا، فاجتهد رأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمنِّي واستغفر الله "(٤) .

وعن صفية بنت أبي عبيد أنَّ رجلاً سرق علی عهد أبي بكر مقطوعة يده ورجله، فأراد ابو بكر أن يقطع رجله ويدع يده يستطيب بها ويتطهر بها، وينتفع بها،فقال عمر: والذي نفسي بيده لتقطعنَّ يده الاخری، فأمر به أبوبكر فقطعت يده.

وورد أنَّ عمر بن الخطاب تلا هذه الآية:( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) قال: " كل هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم رفض عصاً كانت في يده، فقال: هذا لعمر الله التكلف! فما عليك أن لا تدري ما الأبّ، اتبعوا ما تبين لكم هداه من هذا الكتاب، وما لم تعرفوه فكلوه إلی ربِّه"(٥) .

وأخرج مسلم في صحيحه أنَّ رجلا أتى عمر، فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال: لا تصلِّ. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سريَّة فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصلَّيت، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : " إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك! "

____________

١ - عبس: ٣١.

٢ - فتح الباري: ١٣/٢٣٠. تفسير القرطبي: ١٩/٢٢٣. مقدمة في اصول التفسير، ابن تيمية: ص ٣٠.

تفسير ابن كثير: ١/٥.

٣ - الدارمي في سننه: ٢/٣٦٥. تفسير ابن كثير: ١/٤٧١. إعلام الموقعين: ١/٨٢.

٤ - راجع إعلام الموقعين: ص ١٩. جامع بيان العلم: ٢/٨٣٠. تاريخ الخلفاء، السيوطي: ٧١.

٥ - المستدرك: ٢/٥١٤ وصححه وأقره الذهبي في تلخيصه. تفسير الطبري: ٣٠/٣٨.

٢٢٦

فقال عمر: اتِّقِ الله يا عمار! قال: إن شئت لم أحدِّث به "(١) .

وعن ابن عباس أنه قال له عمر: يا غلام، هل سمعت رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلَّم) أو من أحد أصحابه إذا شكَّ الرجل في صلاته ما ذا يصنع؟ قال: فبينا هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فقال فيم أنتما؟ فقال عمر: سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلَّم) أو أحد أصحابه إذا شكَّ الرجل في صلاته ما ذا يصنع؟ فقال عبد الرحمن:سمعت رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلّم) يقول إذا شكَّ أحدكم.......

وأخرج البيهقي عن الشعبي، قال: " خطب عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فانه لا يبلغني عن أحدٍ ساق أكثر من شئ ساقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل، فعرضت له امرأةٌ من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين أكتاب الله تعالى أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله؟ فما ذاك؟ قالت: نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه:( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارً‌ا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) (٢) . فقال عمررضي‌الله‌عنه : كل أحد أفقه من عمر. مرتين أو ثلاثا "(٣) .

وفي رواية قال عمر: " امرأة أصابت ورجل أخطأ "(٤) .

وفي رواية أخرى قال: " كل أحد أعلم من عمر "(٥) .

وفي أخرى قال: " إن امرأة خاصمت عمر فخصمته "(٦) .

وأتي عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فتلقاها عليٌّ فقال: ما بال هذه؟ فقالوا: أمر عمر برجمها فردَّها عليٌّ وقال: هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ ولعلك انتهزتها أو أخفتها؟ قال: قد كان ذلك. قال: أوما سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: " لا حدَّ على معترف بعد بلاء ". انه من قيد أو حبس أو

____________

١ - صحيح مسلم: كتاب الحيض، باب التيمم.

٢ - النساء: ٢٠.

٣ - السنن الكبرى: ٧/٢٣٣، وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز: ٨/٢٩٨ نقلا عن سنن سعيد بن منصور والبيهقي، ورواه السندي في حاشية السنن لابن ماجة: ١/٥٨٣، والعجلوني في كشف الخفاء: ١/٢٦٩ و ٢/١١٨.

٤ - تفسير ابن كثير: ١/٤٧٨. تفسير القرطبي: ٥/٩٩.

٥ - شرح صحيح البخاري، القسطلاني: ٨/٥٧. الكشاف: ١/٣٥٧.

٦ - إرشاد الساري: ٨/٥٧، تفسير ابن كثير: ١/٤٧٨.

٢٢٧

تهدد فلا إقرار له ". وخلى سبيلها، ثم قال: عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب، لولا علي لهلك عمر "(١) .

وفي حادثة مشابهة لهذه، قال عمر: كل أحد أفقه مني، ثلاث مرات(٢) .

وعن مجاهد قال: قدم عمر بن الخطاب الشام فوجد رجلا من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة فهم أن يقيده، فقال له زيد بن ثابت: أتقيد عبدك من أخيك فجعله عمر دية "(٣) .

وأخرج البيهقي " إن عثمان بن عفانرضي‌الله‌عنه أتى بإمرأة قد ولدت في ستة أشهر فأمر بها أن ترجم، فقال علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه : " ليس ذلك عليها قال الله تبارك وتعالى( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) (٤) وقال( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) وقال( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) فالرضاعة أربعة وعشرون شهر والحمل ستة أشهر، فأمر بها عثمان أن ترد فوجدت قد رجمت "(٥) (٦) .

وهكذا كان الحال مع بقية الصحابة إلا من جعل منهم امناء على الشريعة، وكانوا يصححون أخطاء الخلفاء بعدما أقصوا عن مراتبهم التي وضعهم الله فيها.

وبعد هذا فلنتأمل في هذه المعضلات. إن أبا بكر لم يعرف معنى كلمة " الأب " مع

____________

١ - الرياض النضرة: ٢/١٩٦. ذخائر العقبى ص ٨٠. مطالب السؤول ص ١٣. مناقب الخوارزمي ص ٤٨. الأربعين، الفخر الرازي: ص ٦٦.

٢ - الرياض النضرة: ٢/١٩٦. ذخائر العقبى: ص ٨١. الكفاية، الكنجي: ص ١٠٥.

٣ - أخرجه عبد الرزاق وابن جرير الطبري، كنز العمال: ٧/٣٠٤.

٤ - الأحقاف: ١٥.

٥ - لقد قلنا من قبل: إذا لم يكن خليفة النبي على علمٍ تام بجميع الأحكام الإسلامية فانَّ الأنفس وحقوق العباد ستتعرض للخطر، وما حدث لهذه المرأة خير دليل على مانقول، وحاشا لله أن يضع لعباده خلفاء لايعرفون أحكام الإسلام الشرعية.

٦ - السنن الكبرى: ٧/٤٤٢، وابن كثير في تفسيره: ٤/١٦٩، وابن الديبع في تيسير الوصول: ٢/٩، والعيني في عمدة القاري: ٩/٦٤٢، والسيوطي في الدر المنثور نقلا عن ابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٢٨

أنَّ الآية نفسها تفسِّر هذه الكلمة، قال تعالى:( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) (١) ! فالفاكهة طعام للإنسان، والأب طعام للأنعام، فهل ترى في هذا أي غموض؟

ويسأل أبو بكر عن الكلالة، فلا يدري ما إذا كان قد أصاب القول فيها أم لا. ولم يعرف أبو بكر حد السرقة بعد قطع اليد والرجل حتى أعلمه عمر بذلك، مع علمنا في أن من المفترض، أن تكون هذه الأمور من البديهيات عند خلفاء المسلمين، فهم المخولون في القضاء بالدماء والأنفس والأعراض.

لقد أشكلت على عمر بن الخطاب كلمة " الأبّ " ومات عمر وفي نفسه أن يعرف معنى الكلالة. كما خفي عليه حكم الجنب فاقد الماء، وبعد أن ذكره عمار بالتيمم، قال:

اتق الله يا عمار. وكأن عمارا ارتكب جرما!

فهل في حكم التيمم غموض ما، حتى يخفى على من لازم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فلا أدري كيف يصدق المسلم بأن الله حمل أمانته العظمى - التي لم يحملها إلا أفضل الخلق - من لا يعرف أوليات الإسلام من التيمم...

أما عثمان فقد أمر برجم أمرأة بدليل أنها وضعت لستة أشهر، وهذا غير جائز شرعا. وقصة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المرأة الغامدية معروفة. فقد تركها النبي حتى بلغ ابنها سنتين ثم رجمها. وتكررت هذه الحادثة في عهد عمر بمحضر الصحابة وعثمان، فلماذا لم يمهلوا المرأة حتى يبلغ ابنها سنتين - هذا مع أنها بريئة -. فهل خفيت هذه الحوادث على عثمان والصحابة؟!

هذه الحقائق لا يستطيع أحد إنكارها؟ إن الصحابة أنفسهم يحتاجون إلى من يدلهم، فهم يفتقرون إلى الجواب في المسائل الواضحة!! وإذا أجابوا قد يخطئون، فكيف يفتون الناس وهم لا يعلمون؟ وكيف يسقون غيرهم وهم عطشى؟

____________

١ - عبس: ٣١ - ٣٢.

٢٢٩

إن الله لا يقبل بهكذا سفراء. ولم يحدث في تاريخ الرسالات الإلهية: أن بعث الله نبيا لا يدري ما يجيب به اتباعه. أو يجيبهم بشكل خاطئ كما كان يفعل الصحابة. ولو قلنا: إن الله رضي أن يبين الصحابة دينه للناس لكان مجيزا أن يأخذ الناس أحكامهم بشكل خاطئ، وهذا هو الباطل عينه.

فعلى المسلم أن يبحث عن قناة سليمة تربطه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإسلام، أما أن يجعل بينه وبين ربه من لايعرف التيمم وحكم الأرنب و الشك في الصلاة والبديهيات، فلن يؤول أمره الی خيرٍ،لأنَّ من لا يعرف القشور لا يستطيع أن يوصلنا إلی اللُّب!!!

بين الصحابة منافقون ومرتدّون

مما لايخفى على كل مسلم أنَّ النفاق انتشر في عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يزداد قوةً بازدياد قوة المسلمين. والقسم الأكبر من هؤلاء المنافقين لا يعلمهم إلا الله، قال تعالى:

( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (١) ، وقال تعالى:

( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ) (٢) .

بالاضافة الى أن هناك عددا غير قليل من الصحابة كانوا قد ارتدوا بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فالإشكال الذي يرد إلينا هنا هو: إنَّ كل صحابي من هؤلاء المنافقين والمرتدين سمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يسمعه صحابي غيره، ولهذا فالسنن التي تفرَّد بها هؤلاء الصحابة قد لا تصل إلينا بسبب حقدهم على الإسلام، فربما حدث أن تعرَّض الصحابة لمسألة مّا، فطرحوها على مسامع الناس لعل عند أحدهم نصّاً من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان النص عند صحابي منافق أو مرتد ولكنه اسره في نفسه ولم يخرجه، أليس هذا من المحتمل حصوله؟!

وكذلك قد لا تصل إلينا بعض السنن التي تفرد بها بعض الصحابة بسبب انشغالهم بالحروب أو بسبب قلة الرواية عنهم، يقول محمد زهو في كتابه الحديث والمحدثون:

" الاشتغال بالخلافة والحروب عاقَّ كثيرا من الصحابة من تحمّل الحديث وروايته، كما

____________

١ و ٢ - التوبة: ١٠١.

٢٣٠

في الخلفاء الأربعة وطلحة والزبير "(١) .

إنَّ هذه السنن التي نحتمل بقاءها في صدور المنافقين والمرتدين والمنشغلين بالحروب، قد يكون فيها الناسخ والمقيد والمخصص والمفسر، وهذا يوقعنا في مشكلة كبيرة. فمن يدري؟ فلعلنا نمارس بعض الأحكام المنسوخة أو المخصصة أو المقيدة بالسنن التي بقيت في صدور هؤلاء الصحابة(٢) .

فهل يقبل الله بهذا؟ هل يرضى أن نمارس حكما منسوخا أو مقيدا أو مخصصا؟

ولعل بعض هذه السنن التي بقيت مع الصحابة المذكورين تعكس جوانب إسلامية مهمة. فكيف يرضى الله بأن يحمل سنة نبيه لكل الصحابة، وفيهم المنافق الذي لا يظهرها أو يزورها وفيهم من سيرتد ويدفن السنن في صدره، وفيهم وفيهم...؟!

لذلك وجب القول في أن الله(٣) حفاظا على دينه وسنة نبيه اتخذ اجراء مناسبا لتلافي هذه الإشكالات التي قد تحدث مستقبلا. والذي ظهر لي: أنَّ الله عهد إلى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يجعل سنته عند شخص يتعهدها ويفهمها، وهذا الشخص ومن خلال موقعه السياسي والديني يقوم بتبليغ السنة للناس. هذا الاحتمال هو الذي يرتضيه العقل والنقل، أما توزيع السنة على مائة وأربعة عشر ألف صحابي ليبلغوها للناس ففيه خطر عظيم على السنة، وحسبك دليلا على ذلك أن هناك مائة وعشرة آلاف صحابي لم يصل إلينا منهم شئ.

أضف إلى ما سبق وجود المنافقين الذين يسعون لهدم الإسلام فكريا وسياسيا... فنسبوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث مكذوبة في حياته وبعد مماته، وهذا ممكن حدوثه، فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات وهم مؤمنون في ظاهرهم فليس هناك ما يمنع الأخذ عنهم( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (٤) !

____________

١ - ص ١٤٧.

٢ - أو الصحابة الذين تفردوا ببعض السنن وماتوا في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الحاجة إلى تبليغها!!

٣ - المنافقون: ٤.

٢٣١

ربما تكون بعض الأحاديث المرسلة المبثوثة في كتب الحديث مأخوذة عن هؤلاء المنافقين الماكرين(١) !! وهذه الفجوة التي تصدعت فيها أحقية مرجعية الصحابة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستطيع المحدثون ردمها وإن اجتمعوا على ذلك، لأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه لم يكن يعلم هؤلاء المنافقين( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (٢) .

ولا يمكن التخلص من هذه المعضلة إلا بالتأكيد على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ولكي يقطع الطريق على هؤلاء الدجالين - جعل سنته بأيدٍ أمينة، أليس هذا هو الحق المبين؟!

صحابة يساقون إلى النار

أخرج مسلم عن عبد الله، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : " أنا فرطكم على الحوض، ولاُنازَعَنَّ أقواما ثم لاُغْلَبَنَّ عليهم، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي: فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك "(٣) .

وأخرج البخاري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: " بينما أنا قائم فإذا زُمرةٌ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلَّص منهم إلاّ مثل همل النعم "(٤) .

____________

١ - يقول السيوطي في تدريب الراوي: " وفي الصحيحين من ذلك - مراسيل الصحابة - ما لا يحصى "!

تدريب الراوي: ١/٢٠٧، وعلى هذا فكل حديث مرسل سنشك فيما اذا كان قد رواه الصحابي عن صحابي عادل أو صحابي منافق لا يعلمه إلا الله!!!

٢ - التوبة: ١٠١.

٣ - كتاب الفضائل، باب اثبات حوض نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاته.

٤ - كتاب الرقاق، باب في الحوض. وهمل النعم: ضوَّال الإبل، قال ابن الأثير: " أي أنَّ الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة " النهاية في غريب الحديث: ٥/٢٤٧.

٢٣٢

لقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنَّ من الصحابة من يدخل النار. ولهذا لا نستطيع أن نجعل الصحابة قَناةً تربطنا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إذ كيف نأخذ ديننا عن أهل النار؟!

فلابد من تمييز الصحابة المساقين إلى النار من الناجين، ثم نفكِّر في مَن يصح الأخذ عنهم. فإن قيل إنَّ المساقين إلى النار هم المنافقون والمرتدون، قلنا: إنَّ القسم الأكبر من المنافقين لا يعلمهم إلا الله. فلا يمكن إحرازهم. فعدم إحرازنا للصحابة المساقين إلى النار يوجب علينا التوقّف في الأخذ عن الصحابة. وليس في هذا تعطيل للإسلام. بل إنَّ البديل موجود. فليحذر العقلاء من أن يجعلوا أهل النار أدلاء لهم في دين الله.

طريقة تلقّي الصحابة

يقول ابن تيمية: " وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحدث، أو يفتي أو يقضي، أو يفعل الشئ، فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا، ويبلغه اولئك - أو بعضهم - لمن يبلغونه فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ثم في مجلس آخر قد يحدث، أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل شيئا، ويشهده بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس، ويبلغونه لمن أمكنهم، فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ماليس عند هؤلاء "(١) .

الإشكال الذي يرد هنا أنّ الصحابي قد يسمع حديثا فيرويه فيما بعد ويعمل به الناس، ولنفترض أنَّ هذا الصحابي في الشام، ولكن بما أنه " عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء "، فقد يكون لهذا الحديث الذي رواه الصحابي للناس في الشام ناسخ مع صحابي آخر، ولنفترضه رواه لأهل العراق، فيصيب

____________

١ - رفع الملام: ص ٦.

٢٣٣

أهل العراق الحكم الإسلامي الصحيح ويخطئه أهل الشام!! وقد يكون للحديث الذي رواه الصحابي في العراق مخصص أو مقيد ولكنه لا يعلم بذلك، فيفتي للناس هناك بما عنده فيعمل الناس بالعام والمطلق، بينما المخصص أو المقيد للحديث نفسه عند الصحابي الذي في الشام مثلا! وهكذا.

إنَّ الله(١) ليس عاجزا عن اختيار طريقة أمثل لتبليغ سنة نبيه. أما نسبة اختيار هذه الطريقة في التبليغ لله ففيها ما فيها من نسبة الظلم والجهل إلى الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فهذه الطريقة قد تمنع المسلم من إصابة الواقع الشرعي، والله قادر على إيصال سنة نبيه بصورة صحيحة بدلا من أن يترك عباده يبحثون في البلدان وفي جبهات القتال عن الناسخ إذا احتمل وجوده أو المقيد أو المخصص منه، وقد يقطعون مسافات طويلة في سبيل الحصول على جواب فيموتون وفي أنفسهم من ذلك شئ.

لذلك نحن نقول: إنَّ هناك شخصا أخذ السنة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاملة، وهو الذي يقوم ببيانها للناس بسهولة ودون عَناء، بعيدا عن الإشكالات السابقة.

الصحابة والرواسب الجاهلية

لقد عاش عددٌ كبير من الصحابة أكثر حياتهم في المجتمع الجاهلي، وشاركوا أهل الجاهلية في جميع أعمالهم، من وَأد البنات وشرب الخمر وأكل الربا و... إلى غير ذلك من المحرمات التي حاربها الإسلام. وهذه الملاحظة وحدها تكفي لأن تجعلنا نقول: إنَّ الله لم يخترهم لبيان دينه.

فالله منذ أوجد الإنسان لم يبعث له نبيا ولا سفيرا قد شارك قومه عاداتهم المنحرفة، بل كان يختار أناسا هم أكمل الناس، خالين من أية رواسب بيئيَّة منحرفة.

هذه سنة الله في خلقه( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا ) (١) .

____________

١ - الأحزاب: ٦٢.

٢٣٤

فالسلوكيات التي مارسها الصحابة في الجاهلية لا توجد في القادة الرساليين، ولم يحدث في تاريخ الرسالات الإلهية أن اختار الله مبلِّغا عنه بعد أن غرق في سلوكيات قومه المنحرفة.

يروي أهل السنة أنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبل بعثته أراد أن يلتحق بإحدى احتفالات قريش ليشاركهم الشرب واللهو... فأنامه الله في الطريق(١) !

ويروون أنَّ الله بعث ملكين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو صبي فاستخرجا عُلقة سوداء من قلبه وغَسَّلاه ونَقَّياه حتى يكون في أعلى درجات الكمال وخاليا من أية رواسب، وتعرف هذه بحادثة شقُّ الصدر(٢) . قال طه عبد الرؤوف سعد في تعليقه على هذه الحادثة: " إنَّ هذا التقديس وهذا التطهير كان مرتين، الأولى في حالة الطفولة لينقى قلبه من مغمز الشيطان، وليطهر ويقدس من كل خُلق ذميم حتى لا يلتبس بشئ مما يعاب عليه الرجال، وحتى لا يكون في قلبه شئ... "(٣) .

ومع موقفنا الرافض لامكانية حصول وصحة وقوع هاتين الحادثتين إلاّ أننا نتساءل: لماذا هذا الاهتمام من الله برسوله وحرصه أن لا يمارس سلوكا جاهليا ولو لمرة واحدة؟!

الجواب واضحٌ، فالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمامه عملية تغيير كبرى، فحتى ينجح في تنفيذها ويتقبلها الناس: لابد أن يكون خاليا من أية أفكار مخالفة لها وحتى يكون مهيّأً لاستقبال الوحي...

وهذ سنة إلهية اتبعها الله مع جميع رسله وسفرائه، فكيف يمكن أن يختار الله لتبليغ دينه أناسا جسدوا الجاهلية قولا وسلوكا، حتى تشبّعت أجسامهم ونمت على الربا وشرب الخمر؟...!

____________

١ - راجع مستدرك الحاكم: ٤/٢٤٥.

٢ - راجع سيرة ابن هشام: ص ١٥٢.

٣ - المصدر السابق: ص ١٥٣.

٢٣٥

قد يقال: إنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله. فنقول: صحيح هذا، ولكن هذا القول مخالف لسنة الله في اختيار رسله( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا ) (١) فلو اختار الله الصحابة لبيان دينه لكان - والعياذ بالله - مخالفا لسنته في اختيار الإنسان الطاهر من أي انحراف في سلوكه وقوله، كالأنبياءعليهم‌السلام تماما. فكيف يقول الله:( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا ) ثم يخالف سنته في اختيار سفرائه ممن عاشوا في مستنقع المحرمات لعشرات السنين؟!!

إن من يستقرئ حياة الصحابة يجد كثيرا من الرواسب الجاهلية قد عاشت معهم بعد الإسلام، كشرب الخمر والزنا وأكل الربا(٢) ، وهذا الأمر يسلب منهم خاصية القيمومة على الدعوة. فالرواسب الجاهلية تؤثر سلبا على الداعية.

أخرج البخاري أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: " من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي " فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحميَّة، فقال:

كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام اسيد بن الحضير، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنَّه فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت(٣) .

وأخرج البخاري " أنَّ رجلا من المهاجرين كسح(٤) رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: ياللأنصار، وقال المهاجري: ياللمهاجرين، فسمع ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________

١ - الأحزاب: ٦٢.

٢ - وهذا أمر قد وثقناه في مبحث عدالة الصحابة.

٣ - ٣/١٥٦، و ٦/٨.

٤ - كسح: بمعنى ضرب.

٢٣٦

فقال: " ما بال دعوى أهل الجاهلية؟! " قالوا: يا رسول الله كسح رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال: " دعوها فإنها منتنةٌ "... "(١) .

نستخلص من هذا " أنَّ من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق أن يكون القائم على تطبيقها - أي الفكرة - شخصا تتجسَّد فيه مبادئ فكرته تجسُّدا مستوعبا لمختلف المجالات التي تكفَّلت الفكرة تقويمها من نفسه. ولا نريد من التجسُّد أكثر من أن يكون صاحبها خليَّا عن الأفكار المعاكسة لها من جهة، وتغلغلها في نفسه كمبدأ يستحق من صاحبه التضحية والفناء فيه من جهة أخرى، ومتى كان الإنسان بهذا المستوى استحال في حقِّه من وجهة نفسية أن يخرج على تعاليمها بحال. وإذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الإيمان بها وكانت لديه رواسب على خلافها، لم يكن بالطبع أمينا على تطبيقها مائة بالمائة، لاحتمال انبعاث إحدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير، واستئثارها في توجيهه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطلها عن التأثير ككل، وربما استجاب الرأي العام له تخفيفا لحدة الصراع في أعماقه بين ما جدَّ من تعاليم هذه الفكرة وما كان معاشا له ومتجاوبا مع نفسه من الرواسب.

على أن الناس - كل الناس - لا يكادون يختلفون - إلا نادرا - في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها... وبما أنَّ الإسلام يعالج الإنسان علاجا مستوعبا لمختلف جهاته - الداخلية والخارجية -، احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه إلى العصمة في الرسول، ثم العصمة في الذي يتولى وظيفته بعده... "(٢) .

____________

١ - ج ٦ باب قوله: سواء عليهم استغفرت لهم.

٢ - الاصول العامة للفقه المقارن: ١٨٥ - ١٨٦.

٢٣٧

الصحابة يفتون بآرائهم

كان الصحابة يفتون بآرائهم في الوقائع الشرعية إذا لم يجدوا نصا في كتاب الله أو سنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ونحن نعلم أنَّ الدين قد كمُل على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيَّن الله كل شئ يحتاجه الناس. قال تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) وقال تعالى:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٢) ،( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٣) .

فكل شئ حسب منطوق هذه الآيات فيه نص. فإذا كان الله قد أكمل الدين وبين كل شئ فلماذا يفتي الصحابة بآرائهم؟!

فهم لم يحرزوا جميع النصوص الصادرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلا لما أفتوا بآرائهم. من هنا نعلم أنَّ الصحابة غير مخوَّلين: بنقل وبيان الدين للناس. فالمفترض بمن يخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون لديه من النصوص ما يكفي لمعرفة أحكام الوقائع الشرعية كلها.

الصحابة يعترفون بأنهم ليسوا نَقَلَةَ الإسلام!!

إنَّ الصحابة لم يكونوا يرون أنفسهم في مرتبة القيمومة على الدعوة التي جعلها أهل السنة لهم.

قال أبو مجلز: شهدت ابن عمر والناس يسألونه، فقال: إيَّاكم عنّي، فإني كنت مع من هو أفقه منّي، ولو علمت أني أبقى حتى يفتقد إليَّ لتعلَّمت لكم!!! "(٤) .

____________

١ - المائدة: ٣.

٢ - الأنعام: ٣٨.

٣ - النحل: ٨٩.

٤ - تذكرة الحفاظ: ١/٤٠.

٢٣٨

فعبارة ابن عمر: " ولو علمت أني أبقى حتى يفتقد لي لتعلمت لكم " أصرح دليل في الرد على الذين جعلوا ابن عمر والصحابة بمرتبة سفراء الله لعباده بعد نبيه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأهل السنة أوجبوا للصحابة ما لم يوجبوه هم لأنفسهم!!

وذكر المناوي  أنَّ ابن عمر كان إذا سئل قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تولَّى أمر الناس، فضعها في عنقه.

وقال: " يريدون أن يجعلونا جسرا يمرون علينا على جهنم "(١) .

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (٢) .

____________

١ - فيض القدير شرح الجامع الصغير: ١/١٥٨. إحياء علوم الدين: ١/٢٣.

٢ - النساء: ١٧٤.

٢٣٩

الفصل الرابع

عدالة الصحابة

٢٤٠