وركبت السفينة

وركبت السفينة0%

وركبت السفينة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 665

وركبت السفينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مروان خلفيات
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 665
المشاهدات: 261638
تحميل: 4143

توضيحات:

وركبت السفينة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 665 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261638 / تحميل: 4143
الحجم الحجم الحجم
وركبت السفينة

وركبت السفينة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حديث الثقلين:

في حديث الثقلين المشهور - ولا داعي لذكره - قرن الله العترة بالكتاب، فدّل هذا على أنهم مراجعٌ للمسلمين، كمرجعية القرآن لهم. ومن لا يفترق عن القرآن فجدير به أن يخلف الرسول.

والمتتبع لروايات الثقلين يجد أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعبر عنهما - أحيانا - ب‍ (خليفتين)(١) - وفي هذه الكلمة ما لايخفى من الدلالة، فالقرآن خليفة المسلمين - الجانب النظري - والعترة خلفاء المسلمين - الجانب العملي!!

حديث السفينة:

وهو قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : " مثَل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق ".

وهذا الحديث يدل ضمنا على أنَّ الخلافة في آل البيت، فالنبي جعل النجاة بركوب سفينة آل البيت. وكل سفينة لا بد لها من قائد (قبطان)، وكان النبي هو القائد لسفينة الإسلام، وحين مات عهد لآل بيته بقيادتها، كما في حديث السفينة.

ولما كان التعبير بالسفينة تعبيرا مجازيا يعبر عن مسيرة الحياة، علمنا أنَّ آل بيته هم خلفاء المسلمين في هذه الدنيا!!

( هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) (٢) .

____________

١ - انظر السنة: ابن أبي عاصم: ٢/٣٣٧، وصححه الألباني.

٢ - آل عمران: ١٣٨.

٥٠١

الأدلة من القرآن

الإمامة منصب إلهي:

قال تعالى مخاطبا نبيه إبراهيمعليه‌السلام : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (١) .

بعد أن أصبح إبراهيم نبيا أعطاه الله منصب الإمامة( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) فاستبشر إبراهيم بهذا وقال( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) هل ستجعل أئمة يا رب؟ قال( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) فاستثنى الله الظالمين ومنعهم من نيل هذا المنصب.

لقد سمى الله الإمامة بالعهد( لَا يَنَالُ عَهْدِي ) وفي هذا أكبر ردٍّ على من يقول:

إنَّ الإمامة من عهود البشر. فهي من عهود ربِّ البشر، فهل سنأخذ بنص القرآن ونسلم له؟!

وفي هذه الآية منع الله الظالمين من نيل عهده " الإمامة " فكل من ظلم نفسه، أو ظلم غيره، ومن أشرك بالله( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (٢) ، لا نصيب له في الإمامة!

وليس هناك من تنطبق عليه مواصفات الآية غير علي بن أبي طالب وولده المعصومينعليهم‌السلام . وكل الذين ادّعوا الخلافة وإمامة المسلمين، من غير أهل البيتعليهم‌السلام لا يخلو أحدهم من ممارسة نوعٍ من أنواع الظلم السالفة.

قال تعالى على لسان موسىعليه‌السلام : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (٣) .

إنَّ نبي الله موسى مع عصمته يسأل الله أن يجعل له وزيرا. والوزارة فرع من الإمامة. فموسى عرف أنَّ الجعل بيد الله لذلك نسب الجعل إلى الله.

____________

١ - البقرة: ١٢٤.

٢ - لقمان: ١٣.

٣ - طه: ٢٩ - ٣٢.

٥٠٢

إنما وليكم...:

قال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (١) .

نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، حين تصدَّق بخاتمة وهو راكعٌ، بإجماع المفسرين.

ففي الدر المنثور: " أخرج الخطيب في المتفق عن ابن عباس قال: تصدق عليعليه‌السلام بخاتمه وهو راكع فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسائل من أعطاك هذا الخاتم؟ قال: ذاك الراكع. فأنزل الله:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) (٢) .

وبعد نزول هذه الآية أنشد حسّان بن ثابت:

____________

١ - المائدة: ٥٥ - ٥٦.

٢ - ٢/٢٩٣ وراجع: تفسير الطبري: ٦/١٨٦. تفسير ابن كثير: ٢/٧٤. تفسير الرازي: ٤/٣٨٣.

تفسير القرطبي: ٦/٢٢١. تفسير الكشاف: ١/٦٢٤. فتح القدير، الشوكاني: ٢/٥٣. زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي: ٢/٣٨٣. التسهيل لعلوم التنزيل، الكلبي: ١/١٨١. التفسير المنير لمعالم التنزيل، الجاوي: ١/٢١٠. فتح البيان في مقاصد القرآن: ٣/٥١. أسباب النزول، الواحدي: ١٤٨.

تفسير النسفي: ١/٢٨٩. شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني: ١/١٦١. مناقب علي، ابن المغازلي:

ص ٣١١ و ٣٥٥ و ٣٥٦ - ٣٥٨. كفاية الطالب، الكنجي الشافعي: ٢٢٨ و ٢٥٠ و ٢٥١. ذخائر العقبى، محب الدين الطبري: ص ٨٨ و ١٠٢. المناقب، الخوارزمي: ص ١٨٧. ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق: ٢/٤٠٩. الفصول المهمة، ابن الصباغ: ص ١٠٨ و ١٢٣. لباب النقول، السيوطي بهامش تفسير الجلالين: ص ٢١٣. تذكرة الخواص: ص ١٨ و ٢٠٨. نور الأبصار: ص ٧١. ينابيع المودة:

ص ١٥١. أحكام القرآن، الجصاص: ٤/١٠٢. مجمع الزوائد: ٧/١٧. أنساب الأشراف: ٢/١٥٠.

كنز العمال: ١٥/١٤٦. منتخب الكنز بهامش المسند: ٥/٣٨. الرياض النضرة: ٢/٢٧٣...

ملحق المراجعات: ٣٨٤.

٥٠٣

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكلّ بطئٍ في الهُدى ومسارعِ

أيذهبُ مدحيكَ المحبّرُ ضائعاً

وما المدحُ في جَنبِ الإلهِ بضائعِ

فأنت الذي اعطيتَ إذ كنتَ راكعاً

زكاة فدتك النفس يا خير راكعِ

فأنزل فيك الله خيرَ ولايةٍ

وبيَّنها في محكمات الشرائعِ(١)

ويشكل البعض: كيف تكون الآية نازلة في علي وقد جاءت بصيغة الجمع( والذين آمنوا ) ؟

يقول الزمخشري: " فإن قلت: كيف صح أن يكون لعليرضي‌الله‌عنه واللفظ لفظ جماعة؟

قلت: جئ به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب الناس في مثل فعله "(٢) .

وهذا الأسلوب موجود في لغة العرب. قال الطبري في تفسير قوله تعالى:( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ) (٣) قال: " إنما عنى بهذه الآيات كلها عبد الله بن أبي سلول "(٤) .

في آية الولاية حصر الله الولاية بنفسه ورسوله وعليٍّ. ولا يخفى على كل بصير - جعل الحق رائده - أنَّ الولاية، المقصودة في الآية ولاية الأمر ولا معنى لكون الولاية هنا المحبة والنصرة، لاشتراك كل المؤمنين بها( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (٥) فلما حصر الله الولاية بنفسه وبرسوله وعلي، علمنا أنها غير المحبة والنصرة.

فيبقى الوجه الثاني وهو ولاية الأمر.

____________

١ - فرائد السمطين: ١/١٨٩. المناقب، الخوارزمي: ص ١٨٦. تذكرة الخواص: ص ١٥ - ١٦.

كفاية الطالب: ص ٢٢٨ - ٢٢٩.

٢ - تفسير الزمخشري: ١/٦٢٤.

٣ - المنافقون: ١.

٤ - تفسير الطبري: ٢٨/٦٨. الدر المنثور: ٨/١٧١.

٥ - التوبة: ٧١.

٥٠٤

عود على بدء:

إنَّ الآيات التي استدللنا بها على إمامة آل البيت الدينية، يستدل بها على إمامتهم السياسية، فأخالني لست بحاجة للإعادة، ونضعها بين أيدي القراء هنا. قال تعالى:

-( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) .

-( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٢) .

-( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣) .

-( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٤) .

-( إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٥) .

-( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ... ) (٦) .

-( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (٧) .

-( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٨) .

-( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) (٩) .

____________

١ - النساء: ٥٩.

٢ - النحل: ٤٣.

٣ - الأحزاب: ٣٣.

٤ - الشورى: ٢٣.

٥ - الأحزاب: ٥٦.

٦ - آل عمران: ٦١.

٧ - آل عمران: ١٠٣.

٨ - الرعد: ٧.

٩ - الصافات: ٢٤.

٥٠٥

الإمامة والعقل

بعد أن عرضنا النصوص من الكتاب والسنة، الدالة على إمامة آل البيت بقيادة عليعليه‌السلام ، بقي أن نسأل عقولنا: هل من الحكمة أن يترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمته دون أن يستخلف عليها أحدا؟!

سيرة العقلاء توجب الاستخلاف:

تؤكد سيرة العقلاء وما جرت به العادة على أن الإنسان إذا شعر بدنو أجله أو أراد السفر، فإنه يعهد لأحد أبنائه أو أقاربه بتولي شؤون عائلته. هذا علىمستوى الأسرة، إحدى لبنات المجتمع.

وكذلك إذا أراد رئيس دائرة أو مؤسسة أو قبيلة أو مدينة أو دولة، السفر فإنه يجعل له نائبا عليها الى حين عودته.

وهذه السيرة لم تخف على الصحابة. فهذا أبو بكر حين شعر بدنو أجله عهد بالخلافة لعمر وقال: " فإنكم إن أمرتم في حياة مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي "(١) .

فتأمل بربك قوله وقل لي: هل كان أبو بكر أحرص على هذه الأمة من نبي الرحمة؟!

وقالت عائشة لابن عمر: " يا بني، أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة "(٢) !!

سبحان الله! فهل هذا يعني أنَّ النبي لا يخشى على أمته الفتنة وتركها بعده هملا؟!

وهل كانت عائشة أحرص على الأمة من سيد الخلق؟!

____________

١ - سيرة عمر، ابن الجوزي: ص ٤٤، وراجع تاريخ الطبري: ٢/٤٢٩. تاريخ ابن خلدون: ٢/٥٨.

٢ - الإمامة والسياسة: ١/٢٣.

٥٠٦

وقال ابن عمر لأبيه: " يا أمير المؤمنين استخلف على أمة محمد، فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله وغنمه بلا راع للمته وقلت له: كيف تركت أمانتك ضائعة؟! فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد؟ "(١) .

نعم فكيف بأمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ هل يعقل أن يتركها النبي ضائعة على حد تعبير ابن عمر أم استخلف عليها؟!

وهكذا سار الخلفاء طوال فترات التاريخ فكل واحد يشعر بدنو أجله يوصي لمن بعده. فهل خفي على سيد الحكماءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه البديهة العقلية؟

ولو صح أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ترك أمته بلا راع، فقد أخطأ حكام المسلمين على مر التاريخ إذ أوصوا لمن بعدهم، خلافا للنبي!

سألني أحد الأصدقاء، أن أثبت له وجوب تعيين النبي لخليفته، فقلت له: لو أنَّ عندك زوجة وأولادا، وأردت أن تسافر بضعة أيام، وتعلم أنَّ هناك من يريد الفتك بك وبعائلتك في أقرب فرصة تسنح له، فهل كنت تتركهم دون قيّم عليهم يهتم بأمورهم ويلم شملهم؟!!

قال: لا أستطيع تركهم دون قيم عليهم.

قلت: لو فعلت ذلك وتركتهم، ألا تكون بفعلك هذا ساعيا في هدم بيتك؟ قال:

نعم.

قلت: كيف توجب على نفسك وضع مسؤول على عدة أفراد ستعود إليهم بعد أيام، ولا توجب أن يضع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسؤولا على أمة لن يعود إليها؟! أليس ذلك في حقه أولى؟! وقد كان النبي يعلم أنَّ أمته على ساحل بحر من الفتن. والمنافقون بين الصفوف يتحينون الفرص، وهاهم قبل فترة حاولوا قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________

١ - مروج الذهب: الجزء الثاني. حلية الأولياء: ١/٤٤.

٥٠٧

وارتدت العرب، والفرس والروم تتجهزان لضرب الإسلام. فكيف يترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمته دون خليفة في مثل هذه الظروف الخطيرة.

لقد جاهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا في سبيل بناء دولته، حتى إذا نشأت ووقفت على قدميها يتركها دون قيّم؟! لو كان قد فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا - حاشاه - ألم يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا؟

النبي يستخلف في غزواته:

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل غزوة يغزوها يستخلف على المدينة أحد أصحابه، وما غاب عنها قط أياما معدودات إلا واستخلف عليها من ينوب عنه. ففي غزوة أحد استخلف ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني المصطلق استخلف زيد بن حارثة، وفي غزوة ذات الرقاع استخلف عثمان بن عفان، وفي غزوة تبوك استخلف عليا. حتى أنَّ جبل أحد كان على بعد ميل من المدينة، فجعل النبي عليه خمسين من الرماة وجعل ابن جبير قيما عليهم ولم يتركهم هملا.

إذا كان هذا هو دأب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غيابه عن المدينة بضعة أيام، فهل يعقل أن يترك أمة بأسرها دون خليفة وهو سيتركها للأبد؟!

يستخلف على مدينة، ويترك أمة!! إنه أمر لا يجوز على أعظم سياسي عرفه التاريخ. أيُتَّهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعل المهم وترك الأهم، من أجل الحفاظ على كرامة السلف؟

لا والله، فمن كان غيورا ومحبا لنبي الإسلام، لا نتصور أنه يوافق على هذا.

وها هو النبي يبعث جيشا لمؤته ويقول: أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبدالله. هذا ما فعله في مؤته. أفتراهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يترك أمته ولم يبين لهم الخليفة من بعده، ليختاروا هم لأنفسهم، وكأن رأيهم واختيارهم أهدى وأرشد لهم من رأيه واختياره!!

النبي الحكيم يضع ثلاثة قواد على جيش مؤته، البالغ ثلاثة آلاف فرد، ويترك أكثر من مئة ألف دون قائد؟!

٥٠٨

قيل لأحد العلماء الذين ينكرون النص: لما خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة ما استخلف عليهم أحدا؟ قال: بلى استخلف عليا، قال: وكيف لم يقل لأهل المدينة اختاروا فإنكم لا تجتمعون على ضلالة، قال: خاف عليهم الفتنة. قال: فلو وقع بينهم فساد لأصلحه عند عودته، قال: هذا أوفق، قال: إذن هل استخلف أحدا بعد موته؟

قال: لا، قال: ثبت أنَّ موته أعظم من سفره، فكيف أمن على الأمة بعد موته ما خافه عليها في سفره وهو حي؟ فسكت!

سئل إمام:

سئل إمام من أئمة آل البيت: أخبرني عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم؟ قال: مصلح أو مفسد؟ قيل: بل مصلح. قال: هي العلة التي أبديها لك ببرهان يقبله عقلك. قيل: نعم. قال: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم الكتاب وأيدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأمم وأهدى إلى الاختيار ومنهم موسى وعيسىعليهما‌السلام .

هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما، إذ هما بالاختيار، أن يقع خيرتهما على المنافق، وهما يظنان أنه مؤمن؟! قيل: لا.

قال: فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ولم يشك في إيمانهم وإخلاصهم. فوقعت خيرته على المنافقين، إذ قال(١) :( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ) (١) فلما وجدنا من قد اصطفاه الله تعالى للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أنَّ الاختيار لمن لا يعلم ما تخفى الصدور، وما تكن الضمائر ولا يعرف السرائر، مفسدةٌ، وأنَّ الأخطر اختيار

____________

١ - الأعراف: ١٥٥.

٥٠٩

المهاجرين والأنصار، بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد، من حيث أرادوا الصلاح(١) .

لا يحل لثلاثة:

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : " لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم "(٢) .

إنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يرضى أن يكون ثلاثةٌ دون أمير، فهل يعقل أن يترك أمة دون أمير؟ مفارقة تستحق التأمل.

تدبير النبي ليؤكد خلافة علي

يوم الخميس:

على الرغم من تصريحات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستخلاف عليعليه‌السلام ، ومع انه أخذ له البيعة من أكثر من ١٠٠ ألف صحابي يوم الغدير، إلاّ أنه كان يعلم أنَّ أغلب صحابته لن يرضوا بعلي إماما.

عن ابن عباس أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : " أما إنك ستلقى بعدي جهدا... "(٣) .

وقال عليعليه‌السلام : " عهد إليَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ الأمّة ستغدر بك من بعدي "(٤) .

____________

١ - الاحتجاج: ٢/٥٣٠ - ٥٣١.

٢ - مسند أحمد: ٢/١٧٧، وهناك لفظ آخر للحديث صححه الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الأول، حديث رقم ١٣٢٢.

٣ - المستدرك: ٣/١٤٠ وقال: صحيح الإسناد.

٤ - المصدر السابق وصححه، وكذا الذهبي. ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق: ٣/١٤٨. دلائل النبوة:

٦/٤٤٠. تذكرة الحفاظ: ٣/٩٩٥. البداية والنهاية: ٧/٣٣٨. تاريخ بغداد: ١١/٢١٦. كنز العمال:

١١/٢٩٧. الخصائص الكبرى: ٢/٢٣٥. شرح النهج: ٦/٤٥.

٥١٠

وعن عليعليه‌السلام : " بينما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة... فلما خلا له الطريق أعتنقني ثم أجهش باكيا.

قلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: " ضغائن في صدور أقوام، لا يبدونها لك إلاّ من بعدي "(١) ".

لكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ذلك العظيم - لا ينحني أمام العاصفة، فأراد أن يقيم الحجة على الناس بأن يكتب خلافة عليعليه‌السلام على الورق.

ففي أخريات حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينما كان على فراشه، قال لأصحابه: " ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي ". فقال عمر: إنَّ رسول الله قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله....

لقد (أشفق) هؤلاء الصحابة بقيادة عمر على النبي ولم يقبلوا بهذه النعمة، لكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشفق عليهم بل طردهم!

وعمر الشفيق علم ما سيكتبه النبي، وأنه سيعهد لهارونه، فحال دون ذلك.

وليس هذا الكلام جزافا بل هناك قرائن تؤيِّد مقالتنا. فعندما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا... علم عمر أنَّ النبي سيذكر كتاب الله وشيئا آخر كان يقرنه معه دائما. فقال فورا: حسبنا كتاب الله. أي يكفينا كتاب الله، ولا نريد ذلك الشئ الملازم له.

أجل إنَّ الرسول أراد أن يكتب شيئين أحدهما: كتاب الله كما فهم عمر وشيئا آخر ملازم له، وهم (آل البيت)، ليؤكد خلافتهم. ومما يؤكد قولنا قول النبي في يوم الخميس ".. أكتب لكم كتابا لن تضلوا.. " وقوله في حديث الثقلين " ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا " فدقق النظر في هذا واحكم.

____________

١ - مسند أبي يعلى: ١/٤٢٧. وقريب منه في المستدرك: ٣/١٣٩ وصححه، ابن أبي الحديد: ٤/١٠٧.

الرياض النضرة: ٣/١٨٤. مجمع الزوائد: ٩/١١٨. المناقب، الخوارزمي: ص ٣٦. كنز العمال: ١٣/١٧٦.

٥١١

وليس هناك تفسير مقنع لمحتوى الكتاب غير هذا. قال الشيخ محمد الغزالي:

" وكان النبي نفسه قد هم بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين في الحكم ". قال الألباني معلقا على هذا الكلام: " يشير إلى حديث ابن عباس مرفوعا: هلموا اكتب لكم كتابا... "(١) .

فالشيخ الغزالي والألباني يوافقاننا بأنَّ الكتاب عهدٌ لمنع شغب الطامعين في الحكم!

ولرب معترض يقول: حتى لو أقرّا بذلك فمن غير المعلوم أنه كان سيعهد لعلي.

قلنا: المهم إنهما أقرّا معنا على الهدف من الكتاب. والقرائن تشير إلى أنّ الكتاب هو تأكيد لحق آل البيت في الخلافة. وعمر يقول لابن عباس في حق علي: " لقد هم النبي أن يصرِّح باسمه في مرضه الذي توفي فيه، فمنعت من ذلك، إشفاقا وحيطة على الإسلام "(٢) !!

بقي إشكال يكرر وهو: لو كان محتوى الكتاب مهما، لأعاد النبي كتابته، لأنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئا.

لقد وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم، هل كان النبي يهذي - والعياذ بالله - أم لا؟

فإذا اعتقدوا أنه يهذي في كلامه وهو حي بينهم، فكذا سيكون اعتقادهم في كتابه، هل هو هذيان أم لا؟ ويدبّ الخلاف...

حقاً لقد كان الكتاب - الذي أراد النبي أن يكتبه - مهمّاً للغاية، لذلك رأينا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طرد أصحابه. وكان ابن عباس يبكي حتى يخضب دمعه الحصباء ويقول:

إنَّ الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وشتان بين موقف عمر هنا وموقفه من كتاب أبي بكر في مرضه. فبحضرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشفق عليه! وقال: غلبه الوجع، أما حين كتب أبو بكر كتابا يوصي له بالخلافة قال: اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله!!(٣) وهاتان الحادثتان يجدر

____________

١ - فقه السيرة: ص ٤٩٨ وكلام الألباني في الحاشية.

٢ - شرح النهج، ابن أبي الحديد.

٣ - تاريخ الطبري: ٢/٦١٨.

٥١٢

بكل باحث التأمل فيهما ويسأل: لماذا أشفق عمر على الرسول، ولم يشفق على أبي بكر؟! ولنعم ما قيل:

أوصى النبي فقال قائلهم

قد ظلَّ يهجر سيّدُ البشر

وأرى أبا بكر أصاب ولم

يُهجر وقد أوصى إلى عمر!!

سرية أسامة:

بعد أن منع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تحقيق ما أراد، عبأ الصحابة تحت قيادة أسامة بن زيد، بما فيهم أبو بكر وعمر وأرسلهم إلى مكان بعيد، وأبقى عنده علي بن أبي طالب.

لكنّ الصحابة تثاقلوا عن المسير، وطعنوا في الأمير، فخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاضبا ووبّخهم وشدّد عليهم في الذهاب، إلى آخر ما كان مما فصلناه سابقا.

لقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم بدنو أجله، ومع هذا يرسل الصحابة دون علي مع أسامة. فماذا يعني هذا؟

لو افترضنا أنَّ الجيش ذهب ومات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فماذا سيكون حال الإسلام ولا قائد له؟! ويروي أهل السنة أنَّ النبي قال: " من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " فماذا يكون مصير من يموت بعد النبي وقبل قدوم الجيش؟! هل يعد موته ميتةً جاهلية؟ ألم يفكِّر النبي بهذا؟ وماذا يكون الحال لو تأخر جيش المسلمين؟

المنافقون بالمرصاد ينتظرون أقرب فرصة للفتك بالإسلام. وقد ارتدت العرب، والفرس والروم يتجهزان لضرب المسلمين. فلو مات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال على ماذكرنا لقضي على الإسلام؟ لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تخفى عليه هذه الأمور، فحتّى لا يموت أحدٌ ميتة جاهلية، وحتى يفوت على الأعداء الفرصة، أبقى هارونه بالمدينة، ولم يبعثه مع الجيش. فإذا عاد الجيش من القتال يكون الأمر قد انتشر أنَّ عليا تسلَّم الخلافة عمليا.

وبذلك يقطع الطريق على الطامعين في الحكم!

٥١٣

وأي تفسير غير هذا، هو اتهام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتضييع أمته، إذ إنه يعلم بموته ويترك أمته بلا راع مع هذا الحال؟

فلا مَندوحة عن القول: إنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتخذ إجراءا إيجابيا إزاء هذه الأخطار، وهو إبقاء علي ليستلم الخلافة.

وبعثُ أبي بكر مع أسامة، فيه دليلٌ لا أقوى منه على أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يفكر بأن يعهد لأبي بكر بالخلافة، كما يزعم بعضهم. فالنبي يعلم أنَّ أبا بكر قد يتعرَّض للقتل، ويعلم بإمكان تأخر الجيش بسبب القتال أو لطول المسافة. فلا يعقل أن يترك أمر الخلافة فارغا حتى يعود الجيش ويبايعوا أبا بكر. هذا على افتراض أنه لم يعيِّن خليفته، وهو مرفوض.

لكنّ هؤلاء الصحابة رفضوا الذهاب لأنهم علموا قصد النبي من بعثهم في هذه الفترة، وإبقاء علي دونهم.

( هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ)

وغابت شمس النبوة

وينتقل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جوار ربه، بعد أن بلَّغ رسالته، حزينا على أمته. وبينما كان الناس وبنو هاشم مذهولين لهول المصيبة، ويحضرون لتجهيز النبي، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليختاروا من بينهم خليفةً. ولم يكن اجتماعهم في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان ملتقى المسلمين السياسي والديني. فلماذا لم يجتمعوا في المسجد يا ترى؟ ألأنَّهم أرادوا الأمر لأنفسهم ولكي يسبقوا المهاجرين إليه؟!!

ولكنَّ الأمر لم يتم لهم فقد علم عمر بن الخطاب بخبر السقيفة، فأرسل إلى أبي بكر وحده! وأخبره باجتماع السقيفة(١) .

____________

١ - راجع تاريخ الطبري: ٢/٤٥٦.

٥١٤

فلماذا اختار عمر أبا بكر من دون الصحابة ليعلِّمه بالأمر وفيهم السابقون وذوو الفضل؟! ويهرع أبو بكر وعمر يتقاودان إلى السقيفة. ولكنهما لم يخبرا المهاجرين بأمر السقيفة! وكأنهما أرادا إخفاء الأمر عنهم. ويصلان السقيفة ولكن مع أبي عبيدة الذي رافقهم في الطريق!

ويأخذون الأمر من يد الأنصار ويتداولون أمر الخلافة فيما بينهم. فعمر يرشح أبا بكر وأبو بكر يرشح عمر(١) .

قيل: إنَّ اجتماع السقيفة كان ضروريا في هذا الوقت، لأنه لا يجوز أن يكون المسلمون بحال من الأحوال دون خليفة. هكذا يقال.. ولكن هل كان هدف المجتمعين تعيين شخص الخليفة - أيا كان - أم أنَّ كل فريق أراد الأمر لنفسه؟! والجواب الأخير هو ما نذهب إليه، وإلا فلماذا يحصر أبو بكر وصاحباه الأمر بأنفسهم دون سائر المهاجرين؟ ولماذا اعرضوا عن مرشحي الأنصار؟!

وهذا الحباب بن المنذر يجلي الصورة ويبين لنا هدف الاجتماع. فقد قال كما في تاريخ الطبري: " يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا - أي عمر - وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر!! "(٢) .

فالأنصار كانوا يطمعون في أن يكون لهم نصيب من هذا الأمر! لقد اتضح الحق لذي عينين.

وسعد بن عبادة المرشِّح عن الخزرج لم يعط صوته لأبي بكر، فلهذا عُرض للسب والإهانة، ففي حقه قال عمر: (قتل الله سعداً!!)(٣) وسعد من الذين آووا ونصروا. وبعد أن بايع عمر أبا بكر تبعه أسيد بن حضير زعيم الأوس والناس تبع لكبيرهم فبايع

____________

١ - راجع تاريخ الطبري: ٢/٤٤٤.

٢ - راجع تاريخ الطبري: ٢/٤٥٨.

٣ - المصدر السابق: ص ٤٤٧. شرح النهج: ٢/٢٥.

٥١٥

الأوس والخزرج، أبا بكر طوعا وكرها وكان أصحاب السقيفة لا يمرون بأحد من الناس إلاّ خبطوه، وقدَّموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه(١) وفي هذه الأثناء وبينما كان علي وبنو هاشم قد فرغوا من دفن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاهم الخبر بأنَّ الناس بايعوا أبا بكر فتخلف علي وبنو هاشم عن بيعة أبي بكر ولم يبايععليه‌السلام إلاّ بعد ستة أشهر لا تنازلا عن حقه بل لرأب الصدع وحفظ البيضة.

وصبر عليّ على طول المدّة وشدّة المحنة وهو لا يتوانى لحظةً في تقديم مشورته لخدمة الإسلام(٢) .

وتتوالى الأحداث ويبايع علي بالخلافة، ولكن بعد أن اختلط الحابل بالنابل.

يحدِّثنا الإمام عليعليه‌السلام عن محنته في خطبته الثابتة المعروفة بالشِقشِقيّة فيقول:

" أما والله لقد تقمَّصها(٣) فلان وإنه ليعلم أنَّ محلِّي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يَرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه! فرأيت أنَّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان من بعده. ثم تمثل بقول الأعشى:

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيان أخي جابر

فياعجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشد ما تشطرا

____________

١ - راجع شرح النهج: ١/٢١٩.

٢ - هذه إطلالة سريعة على السقيفة ومن أراد المزيد فليراجع: السقيفة، محمد رضا المظفر. الخلافة المغتصبة، إدريس الحسيني وغيرهما من الكتب.

٣ - قال محمد عبده: الضمير يرجع إلى الخلافة وفلان كناية عن الخليفة الأول أبي بكررضي‌الله‌عنه ، نهج البلاغة: ١/٣٠ - ٣١.

٥١٦

ضرعيها! - فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس، وتلون واعتراض. فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيالله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر! لكنني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن، إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته!

فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون: كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)(١) بلى! والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها!

أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز!... "(٢) .

وحين أبعد الإمام عليعليه‌السلام عن مكانه، غابت شمس الإمامة وأبعد أئمة آل البيت

____________

١ - القصص: ٨٣.

٢ - راجع الخطبة في نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: ص ٤٨ - ٥٠.

٥١٧

عن ممارسة دورهم الفكري والسياسي، وتعرَّض هؤلاء الأئمة لكل صنوف البلاء من قبل حكام بني أمية وبني العباس، وطورد شيعتهم في كل مكان وتحت كل حجر ومَدَر...

كل هذا يجري والناس يظنون وما زالوا يظنون أنَّ التاريخ السياسي للمسلمين هو عينه النظام السياسي الإسلامي.

وباحتلال مواقع أئمة آل البيت، عانت الأمة ما عانت، فظهرت المذاهب، وانقسمت الأمة إلى فرق، واختلق القياس والاستحسان... ليسد الفراغ الذي تركه إبعاد أئمة آل البيت. وقامت الفتن والحروب بين المذاهب، وكل مذهب يحمل على غيره بالسباب والتكفير.

وما سهلت تلك المذاهب فيهم

على الناس إلا بيعة الفلتات(١)

وتدهور حال المسلمين، فسيطر عليهم الأعداء وما زالوا حتى هذه اللحظة، وكل ما حدث في تاريخ المسلمين من جرائم وتفرّق، هو من ثِمار السقيفة. فكل بناء قام على أساس خاطئ لا بد أن ينهار في النهاية!

هذه صورةٌ سريعة عما جرى لهذه الأمة. مع الأمل كل الأمل في أن يستيقظ المسلمون من غفوتهم، ويعيدوا الرأس إلى جسد الأمة الإسلامية، لأنها بدون رأسها الحقيقي لن تفلح أبدا.

أجل، ما كان الله ليترك دينه في رحمة الآراء والمذاهب( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ ) (٢) ولم ينزل الله غيره ولا يقبل بغيره. فليس هناك مذاهب ولا فرق في الإسلام، إنما هو طريق واحد وهو طريق الكتاب والعترة، هكذا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

____________

١ - البيت من تائية دعبل بن علي الخزاعي الشهيرة.

٢ - آل عمران: ١٩.

٥١٨

وما كان الله ليترك مكان نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السياسي شاغرا حتى يصبح ألعوبة بيد حفنة من بني أمية وبني العباس. لقد وضع الله برنامجا كاملا لإنقاذ البشرية وجعل تنفيذه بالأسباب، لكن الإنسان ذلك الظلوم الجهول، حال دون تنفيذ هذا البرنامج وصدق الله إذ قال:

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) (١) .

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

( وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ) (٣) .

قعود الإمام عن حقه

قد يتبادر للذهن سؤالٌ: لماذا قعد عليعليه‌السلام عن حقه في الخلافة؟

قال شرف الدين في جوابه عن هذا الإشكال: "... خشيةً من عواقب الأختلاف في تلك الحال، وقد ظهر النفاق بموت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوِّيت بفقده شوكة المنافقين، وعتَت نفوس الكافرين، وتضعضعت أركان الدين، وانخلعت قلوب المسلمين، وأصبحوا بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية وارتدت طوائف من العرب، وهمت بالردة أخرى.

فأشفق عليّ في تلك الظروف أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس، مخافة البائقة وفساد العاجلة، والقلوب على ما وصفنا، والمنافقون على ما ذكرنا، يعضون عليهم

____________

١ - إبراهيم: ٢٨، ٢٩.

٢ - الأعراف: ٩٦.

٣ - الجن: ١٦.

٥١٩

بالأنامل من الغيظ، وأهل الردة على ما بيناه، والأمم الكافرة على ما قدمناه، والأنصار قد خالفوا المهاجرين، وانحازوا عنهم يقولون منا أمير ومنكم أمير... و... و... فرعاه النظر للدين إلى الكف عن طلب الخلافة، والتجافي عن الأمور علما منه أنَّ طلبها - والحال هذه - يستوجب الخطر في الأمة، والتفرق في الدين، فاختار الكف إيثارا للإسلام، وتقديما للصالح العام. وتفضيلا للآجلة على العاجلة. غير أنه قعد في بيته، ولم يبايع حتى أخرجوه كرها. احتفاظا بحقه، واحتجاجا على من عدل عنه، ولو أسرع إلى البيعة ما تمت له حجة ولا سطع له برهان، ولكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين، فدل هذا على أصالة رأيه ورجاحة حلمه، وسعة صدره، وإيثاره المصلحةَ العامة... "(١) .

سئل هشام بن الحكم: " لماذا لم يدع علي الناس إلى نفسه، فقال: لم يكن واجبا عليه. فقد دعاهم النبي إلى موالاته يوم غدير خم وغيره، فلم يقبلوا. ولو وجب ذلك لوجب على آدم أن يدعو إبليس إلى السجود "؟!!

وسئل أيضا: " كيف قعد علي عن حقه؟ فقال: كما قعد هارون عن حقه. قيل:

أكان عن ضعف منه؟ قال: كقول هارون:( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (٢) "(٣) .

وسئل عليعليه‌السلام : " كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام، وأنتم أحق به؟ فقالعليه‌السلام :

يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين، ترسل في غير سدد، ولك بعد ذمامة الصهر، وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أما الاستبداد علينا بهذا المقام - ونحن الأعلون نسبا، والأشدون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوطا، - فإنها كانت أثرة، شحت عليها نفوس قوم،

____________

١ - المراجعات: المراجعة رقم ٨٤.

٢ - الأعراف: ١٥٠.

٣ - راجع الاحتجاج.

٥٢٠