بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)21%

بنور فاطمة (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 276

بنور فاطمة (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92594 / تحميل: 7023
الحجم الحجم الحجم
بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الأوّل

1 - تمهيد

2 - التوسّل في اللغة والاصطلاح

3 - التوسّل عبادة توحيدية

4 - الأدلّة العقلية والتاريخية

5 - الأدلّة التحليلية

٢١

٢٢

تمهيد:

إنّ مبدأ التوسّل والدعاء وطلب الشفاعة والاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام من المبادئ الأصيلة والأساسية في الدين التي دلّ على مشروعيتها وضرورتها صريح العقل والقرآن الكريم وروايات المعصومين عليهم‌السلام .

ولقد آمن بهذه العقيدة في الإسلام عموم المسلمين بكافّة فرقهم وطوائفهم؛ حيث إن سيرتهم جارية على اللجوء إلى ساحة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، ولكن حاول البعض - تبعاً لمنهج الجحود والجاحدين بذريعة وغطاء وقناع التكفير والمكفّرين - أن يُلصق تهمة الشرك والكفر بهذه العقيدة الإسلامية، حيث تحايل لجحوده بأن ادّعى أن التوسّل من أصناف الشرك في العبادة، وزعم أن الآيات والروايات دالّة على ذلك.

ونحن قبل الشروع في ذكر ما استعرضوه من أدلّة وشبهات والإجابة عنها، لابدّ من بيان ما هو الحقّ في المسألة، وذلك عن طريق إعطاء التصوّرات

٢٣

الصحيحة والبراهين القاطعة الدالّة على مشروعية، بل ضرورة، التوسّل بأصفياء اللَّه تعالى، لأجل نيل القرب منه عزّ وجلّ وقبول الطاعات والعبادات وفتح أبواب السماء لاستجابة الدعاء وقضاء الحاجات، وأن المنكرين والجاحدين للتوسّل بأولياء اللَّه يجعلون التوسّل بهم من التوجّه إلى غير اللَّه تعالى ليفرّقوا بين اللَّه ورسله؛ قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) (1) .

وذلك كلّه استناداً إلى الأدلّة العقلية والتحليلية والتاريخية والقرآنية والروائية الناصّة على ذلك.

____________________

(1) سورة النساء 4: 150.

٢٤

التوسّل في اللغة والاصطلاح

1 - التوسّل لغة:

قال الفراهيدي في كتابه اللغوي (العين):

وسل: وسّلت إلى ربّي وسيلة؛ أي عملت عملاً أتقرّب به إليه، وتوسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة؛ أي تقرّبت إليه (1) .

وقال الجوهري في الصحاح:

الوسيلة: ما يتقرّب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسّل واحد، يقال: وسّل فلان إلى ربّه وسيلة وتوسّل إليه بوسيلة؛ أي تقرّب إليه بعمل (2) .

ومثله ما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3) .

وقال ابن منظور في لسان العرب:

الوسيلة: المنزلة عند الملِك، والوسيلة: الدرجة، والوسيلة القربة، ووسّل فلان إلى اللَّه وسيلة إذا عمل عملاً تقرّب به إليه، والواسل الراغب إلى اللَّه.

____________________

(1) الفراهيدي، كتاب العين، ص289.

(2) الجوهري، الصحاح، ج5، ص1841.

(3) النهاية في غريب الحديث، ج5، ص185.

٢٥

وتوسّل إليه بوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل.

والوسيلة الوصلة والقربى، وجمعها الوسائل (1) .

والذي يتحصّل من كلمات اللغويين أن التوسّل والوسيلة هي: ما يجعله العبد من الواسطة بينه وبين ربّه لأجل التوصّل بها إلى تحصيل المقصود، وهو القرب منه عزَّ وجل، أو مطلق ما يوسّطه الشخص للتقرّب به إلى الغير من عمل أو كتاب أو قرابة أو غيرها.

2 - التوسّل اصطلاحاً:

التوسّل في الاصطلاح قريب جدّاً من المعنى اللغوي، بل هو عينه؛ والاختلاف هو في تحديد المصاديق التي نصبها اللَّه تعالى للتوسّل والتقرّب بها إليه عزّ وجل.

وسيأتي مزيد إيضاح لبيان حقيقة التوسّل اصطلاحاً عند استعراض الأدلّة القرآنية حول التوسّل في الفصل اللّاحق.

____________________

(1) ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص225 - 224.

٢٦

التوسّل عبادة توحيدية

دور الوسائط الإلهيّة وضرورة التوسّل بها:

إنّ الحقيقة التي نريد أن ندّعيها تحت هذا العنوان هي أن نفي الوسائل والوسائط الإلهيّة والإعراض عنها في حال توجّه العبد إلى اللَّه هو الشرك بعينه، وأنَّ توسّل العبد بالآيات الإلهيّة وتوجّهه وتشفّعه بالوسائط التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ من أجل قضاء حوائجه أو قبول توبته وأوبته وعبادته ونيله للحظوة والقرب من اللَّه تعالى، هو التوحيد الحقيقي والتام المرضي عند اللَّه عزّ وجلّ.

توضيح المدّعى:

من أجل إعطاء تصوّرات صحيحة حول ما ادّعيناه آنفاً نقول: إن الوسائل والوسائط إذا كانت مجعولة ومنصوبة من قبل اللَّه عزّ وجل، فإن التوسّل والتوجّه بها واللجوء إليها والاستغاثة والاستجارة بها إلى اللَّه تعالى هو التوحيد التام، وفي الوقت ذاته يكون الإعراض عنها والاستكبار عليها والتوجّه إلى اللَّه تعالى بالمباشرة شركاً واستكباراً على اللَّه عزّ وجل ومبارزة له في سلطانه.

وأمَّا إذا لم تكن تلك الوسائط مجعولة ولا منصوبة من قبل اللَّه تعالى، فإن

٢٧

التوسّل بها والتزلّف إلى اللَّه عن طريقها يكون شركاً وصنمية ووثنية وعبادة لغير اللَّه تعالى، سواء كان صنماً قرشياً في الجاهلية أو وثناً عصرياً.

بيان الأدلّة:

ولهذه الدعوى التي ذكرناها أدلّتها المتنوِّعة، ونحاول أن نشير في هذا الفصل إلى الأدلّة العقلية والتاريخية والتحليلية. وأمَّا الأدلّة القرآنية، فسيأتي ذكرها في الفصل اللّاحق.

٢٨

الأدلّة العقلية والتاريخية

1 - الدليل العقلي:

هنالك بيانات متعدّدة للدليل العقلي الدالّ على مشروعيّة وضرورة التوسّل، نستعرض فيما يلي بعض تلك البيانات العقلية:

البيان الأول: التوسّل بالوسائط الإلهيّة تحكيم لسلطان اللَّه على سلطان العبد

إنّ نصب الوسائط والأبواب من قبل المخلوقين والعبيد باقتراحهم واختراعهم يُعدّ تصرّفاً في سلطان اللَّه عزّ وجل، ونوع من تحكيم إرادة العبد وهواه على إرادة ربّه، ويكون هذا الفعل من العبد شركاً ونديّة ووثنية جاهليّة.

فالعبد هو الذي ينادد ربّه في جعله الوسائط واختراعها، سواء من ناحية العمل كاتّخاذ الأحجار والأصنام وجعلها واسطة بين العبيد وبين ربّهم، أم كان من ناحية الفكر والمعتقد وذلك كاتّخاذ العقل الذاتي البشري ربّاً وزعم عدم محدوديته وأنّه يتّسع في الحكم والبتّ في الحقائق بلغ ما بلغ، فإن هكذا توسيط من قبل البشر وباقتراحهم يُعدّ مغالاة وشركاً في سلطان اللَّه؛ لأنّها تكون مناددة

٢٩

للَّه تعالى وصنميّة للعقل بدعوى (إن الحكم إلّا للعقل).

فمَن يجعل لنفسه وسيطاً لم ينصبه اللَّه عزّ وجل ولم يأذن به، فهذه هي الصنمية، والتزلّف والتقرّب بتلك الوسائط غير المأذون بها هو الشرك الناقض للإيمان؛ لأنّه منازعة للَّه تعالى في سلطانه، سواء كانت أصنام العرب أم غيرها من الجهالات والجاهليات الحديثة.

وأمَّا التوسّل والتوجّه بالوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ ونصبها لخلقه، فهو التوحيد التامّ، والإعراض عن تلك الحجج والأبواب الإلهيّة التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ وترك التوجّه إليها، هو الشرك الناقض للإيمان أيضاً؛ لأنّه استكبار على إرادة اللَّه تعالى وسلطانه.

فالتوحيد التامّ إنما يكون بالانصياع والخضوع أمام الأبواب والوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ، وذلك بالتوسّل بها وتوسيطها بين العبد وربّه. والسرّ في شرك المشركين والإنكار الإلهي لعقيدتهم الصنمية ليس لأصل شعورهم بالحاجة إلى الوسائل والوسائط والشفعاء، بل كان شركهم في اقتراحهم الوسائط والتدخّل في سلطان اللَّه تعالى وتحكيم إرادتهم وسلطانهم، من دون الانصياع والطوعانية لإرادة اللَّه عزّ وجل، فمصبّ إنكار الباري تعالى عليهم ليس هو إنكار نظرية ضرورة الوسائط، بل في كون الوسائط مقترحة من قبلهم.

والقرآن الكريم أيضاً - كما سيأتي - لا يستنكر على المشركين نظرية ومقالة الأبواب والوسائط، بل على العكس؛ إذ القرآن يقرّها

ويثبتها، وإنما تخطئته للمشركين بالصنميّة في اقتراحهم الوسائط والوسائل من قبل أنفسهم، ويحتّم

٣٠

على المشركين أن تكون الوسائط بسلطان الربّ وإرادته.

والقرآن الكريم - كما سيأتي أيضاً - يقرّر نظرية الوسائط بأنها أمر فطري وضروري لابدّ منه. وبعبارة أخرى: لا يكفي في نفي الشرك وتحقّق التوحيد التام من العبد نفيه الوسائط المخترعة والمقترحة من قبل البشر، بل عليه أن يتوسّل بالوسائل والحجج التي نصبها اللَّه عزّ وجل؛ وذلك لأن مَن يقف عند إنكار الوسائط المقترحة فقط كمَن قال: (لا إله) وسكت من دون أن يذكر المستثنى، حيث إنه يوجب الكفر لا التوحيد، خصوصاً وأن كلمة (لا إله إلّا اللَّه) ليست كلمة للتوحيد في الذات والصفات والأفعال فحسب، وإنما هي توحيد أيضاً في مقام العبادة والخضوع والتوجّه والدعاء، فلا عبادة ولا خضوع ولا توجّه إلّا للَّه تعالى، ومعنى ذلك نفي الوسائط والشفعاء الذين لم يأذن بهم الباري تعالى، فلا إله ولا وله ولا تشفّع ولا تقرّب إلّا بما أثبته اللَّه تعالى، ولا يكفي نفي ونبذ الوسائط المقترحة، بل لابدّ من إثبات الوسائط التي جعلها ونصبها اللَّه عزّ وجل.

والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومون عليهم‌السلام وسائط وأبواب منصوبة من قبل اللَّه تعالى.

والحاصل: إن الشريعة الإسلامية جاءت لنبذ الصنمية، القديمة منها والحديثة، والمغالاة في الأشخاص الذين لم ينصبهم اللَّه تعالى والتوجّه إليهم.

وأمَّا من نصبهم اللَّه عزّ وجلّ وجعلهم وسائط وأبواب، فلابدّ من التوجّه إليهم والتوسّل بهم والانشداد إليهم؛ لأن التوجّه والانشداد إلى الآيات

٣١

والعلامات انشداد وتوجّه إلى مَن له الآيات، وكلّما تنمّر الشخص في الانشداد إليهم وأخلص في الولاء لهم، كلما ازداد توحيده وازداد ولاؤه وانشداده إلى اللَّه تعالى، والعكس بالعكس؛ نظراً لشدّة قربهم إلى الباري، فالاقتراب منهم اقتراب منه والابتعاد عنهم ابتعاد عنه تعالى؛ فإن الآية والعلامة كلّما كانت كبيرة وعظيمة في حكاية ذي الآية فهي نظير المرآة الشديدة زيادة في المعرفة لهوية الحقيقة التي تحكيها المرآة؛ لأنّ طبيعة المرآة والآية عبورية واستطراقية توصّل إلى الحقيقة، والإيصال صفة ذاتية لها لا تنفكّ عنها، وهذه خاصِّية الآيات والوسائل المنصوبة من قبله تعالى.

البيان الثاني: الاختلاف في المراتب الوجودية

وهو بيان عقلي فطري استند إليه آدم عليه‌السلام في توسّله إلى اللَّه عزّ وجلّ بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونه أحبّ الخلق إلى اللَّه تعالى، وكذلك استند إليه إبراهيم عليه‌السلام في استغفاره لعمّه آزر، وهو الحفاوة والحظوة والزلفى عند اللَّه تعالى.

بيان ذلك: هناك ضرورة عقليّة ذكرها الفلاسفة؛ وهي أن اللَّه تعالى وإن كان هو الخالق لكلّ شي‏ء ولا خالق سواه، ولكن إيجاد المخلوقات من قبله تعالى ليس على رتبة واحدة، بل هي ذات مراتب متعدّدة مشكّكة، وهذه ضرورة لابدّ منها، وليس ذلك لعجز في قدرة الباري (تعالى عن ذلك علواً كبيراً)؛ إذ هو على كلّ شي‏ء قدير، وإنما النقص والعجز في طرف القابل والمخلوق؛ وذلك لأنّ شيئيّة الأشياء لا تتقرّر ولا يمكن أن تفرض متحقّقة إلّا بعد إمكانها، فمع عدم إمكانها لا شيئيّة لها، والموجودات والمخلوقات النازلة في الرتبة الوجودية،

٣٢

كالموجودات المادّية مثلاً أو البرزخية، لابدّ لها من سلسلة إعدادات ومخلوقات سابقة، تكون مجاري فيض اللَّه عزّ وجل، والمخلوق السابق في الرتبة الوجودية يكون سبباً لتقرّر إمكان المخلوق اللّاحق، وليس ذلك إلّا لعجز القابل والمخلوق النازل في الرتبة عن التلقّي من اللَّه تعالى بالمباشرة، فلابدّ له من واسطة ومجرىً في الفيض الإلهي لأصل ذاته وكمال صفاته؛ ولذا الإنسان ببدنه المادّي مثلاً لا يتقرّر له إمكان إلّا بعد خلق المعدّات له وتسخير الأرض والسماء والماء والهواء والمخلوقات الحيّة وغيرها، ففي الخلقة المادية توجد إعدادات كثيرة أعدّها اللَّه تعالى وسخّرها للإنسان لكي يعيش حياة ممكنة في هذا الكون، قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) (1) .

ومن هنا ورد من طرق الفريقين أن أوّل ما خلق اللَّه تعالى العقل، أو أوّل ما خلق اللَّه تعالى نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) ، ولا تنافي بينهما.

وورد أيضاً أن اللَّه تعالى أبى أن يُجري الأمور إلّا بأسبابها (3) ، فسنّة الخلقة في هذا العالم الإمكاني عن طريق الأسباب والمسبّبات، بجعل المخلوق السابق سبباً لأن يخلق اللَّه تعالى المخلوق اللّاحق بنحو التقدّم والتأخّر الرُّتَبي.

ولا شك أن التقدّم في الرتبة الوجودية بين المخلوقات معناه أن للمخلوق الأسبق رتبة أشرف وأكرم وأقرب إلى اللَّه تعالى من المخلوق اللّاحق، وهو مجرى سيب الباري عزّ وجلّ إليه، وسبب لتفتّح أبواب السماء لتلقّي الفيض.

____________________

(1) الأنبياء: 30.

(2) العجلوني، كشف الخفاء، ج1، ص265، والقندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ج1، ص56، وبحار الأنوار، ج54، ص170.

(3) بصائر الدرجات، ص26، والكافي، ج1، ص183.

٣٣

إذن أصل فكرة الوساطة والسببية والوسيلة سنّة إلهية تكوينية سنّها اللَّه عزّ وجلّ في خلقة الممكنات، وحينئذٍ نقول: إنه ممَّا اتفقت عليه طوائف المسلمين وفرقها أن السنّة التشريعية لا تخالف السنّة التكوينية، فالشريعة تتناسب وتتلاءم مع الخلقة والفطرة التكوينية كما قال تعالى: ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (1) .

وهذا بيان عقلي واضح دالّ على ضرورة التوجّه والتوسّل بالمقرّبين وبالمخلوقات الكريمة على اللَّه تعالى، وهذه هي الحفاوة التي استند إليها آدم وإبراهيم عليهما‌السلام في استغفارهما إلى اللَّه تعالى.

وبعبارة أخرى: إن من المعاني والحقائق الذاتية للقرب والمقرَّب أن الاقتراب إلى المقرَّب (بالفتح) يُقرِّب؛ لأنّه مقتضى قربه، كما أن الابتعاد عنه ابتعاد عمّن هو قريب إليه بمقتضى قربه أيضاً، وهذه القاعدة غير مختصّة بالقرب والبعد المكاني، بل هي مطّردة في كلّ أنماط القرب والبعد على الصعيد المعنوي من كمالات الوجود من العلم والقدرة والحياة والنور. وعلى ضوء ذلك يكون بيان الشرع لكون شي‏ء مقرّب هو بنفسه حضَّاً وتشريعاً للتوسّل به والتقرّب إلى اللَّه بالتوجّه إليه، وهذه الدلالة بديهية فطرية يدركها عامّة البشر بفطرتهم، فإن إعطاء المالك وذو القدرة والعظمة والعزّة لشي‏ء القرب واتخاذه مقرّباً يلازم إعطاءه مقام الشفاعة، فيلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، كما أن إنكار الإذن بالتوسّل والاستشفاع به إنكاراً لكونه مقرّباً، وبالتالي يستلزم الإنكار تكذيب المالك والاعتراض عليه في اتخاذه ذلك الشي‏ء مقرّباً، وكذلك الحال

____________________

(1) سورة الروم 30: 30.

٣٤

فيما إذا أخبر مَن له السلطان والقدرة بأن شخصاً وجيهاً عنده؛ أي ذو حظوة وزلفى لديه وحبيباً له، فإنه إذنٌ وإعطاء لمقام الشفاعة له، ويلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، فجحود التوسّل به جحود لوجاهته وزلفاه.

البيان الثالث: وجوب الاحترام والتعظيم

وهو أيضاً شرح وبيان للحفاوة والأقربية ومعتمد على أصول فطرية جِبِلِّية؛وذلك لأن الأسلوب الجاري والمتّبَع في شرعيّات البشر وأعرافهم وآدابهم العقلائية والاجتماعية عند بعضهم البعض، هو أن طريقة الوفود على شخص يجب أن تكون بالاستئذان من الباب والحُجّاب والشفعاء والوسائل التي تؤدّي إليه، وأن يكون ذلك بمنتهى الأدب والاحترام.

وبعبارة اُخرى: إن الشخص عندما يتوسّل بشخص آخر للدخول على عظيم يُعدّ نوعاً من أنواع الاحترام والتعظيم والتأدّب، وزيادة في إبداء الحرمة والاحترام، فأنت مثلاً عندما تتّخذ المقدّمات والإجراءات اللّازمة وتأتي عن طريق الحُجب والأبواب صيانة لحرمة مَنْ تفد عليه، فإن في ذلك مزيد الأدب والاحترام وإن لم يكن ذلك الطرف محجوباً في نفسه، ولو لم تُراع تلك الإجراءات، فكأنك تكون قد هتكت حريمه. وقد ذمّ اللَّه عزّ وجلّ الذين ينادون النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من وراء الحجرات، وأمر بإتيان البيوت من أبوابها، وأن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأذنوا فيُؤذَن لهم؛ قال تعالى: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا

٣٥

الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) .

وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (2) .

وقال تبارك وتعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (3) .

وجاء في الحديث عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنا مدينة العلم وأنت - يا عليّ - بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها) (4) .

ونجد أن هذا الأدب الإلهي قد قرّره الشارع المقدّس في الوفود على بيت اللَّه الحرام، فجعل الإحرام مقدّمة للتهيّؤ وباباً للتعظيم.

لا يقال: إن الجاري في هذه الأعراف أمور متواضع عليها ولا ربط لها بالحقائق.

فإنه يقال: إن من المقرّر في محلّه أن الاعتبارات العقلائية ليست أموراً جزافية، بل لها مناشئ حقيقية ورابطة تكوينية، وقد أمضى اللَّه تعالى تلك الاعتبارات.

ثم إن اللَّه عزّ وجلّ نصب أبواباً ووجهاء مقرّبين يتوجّه بهم إليه من باب التأدّب مع اللَّه تعالى؛ ولذا عندما يريد الشخص المسلم أن يطلب حاجته من اللَّه تعالى في الدعاء وفي غيره، لابدّ من تقديم الثناء على اللَّه عزّ وجلّ وشكره وحمده،

____________________

(1) البقرة: 189.

(2) النور: 27.

(3)الحجرات: 4.

(4) الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، ج1، ص106، وكنز العمال، ج13، ص148.

٣٦

ثم يطلب حاجته بعد ذلك كما هو مذكور في كتب الفريقين (1) .

وكما جاء ذلك في سورة الحمد التي يقرؤها الفرد المسلم في اليوم والليلة عشر مرات على الأقلّ؛ حي قُدّم فيها المدح والثناء والشكر والحمد لله تعالى، ثم بعد ذلك يطلب المصلّي والقارئ للحمد حاجته من الهداية وعدم الغواية والضلال.

إذن التوسّل بمَن يكون وجيهاً عند اللَّه من التأدّب والتعظيم للَّه عزّ وجل، والوفود على اللَّه مباشرة من قبل الأفراد العاديين - الذين لا يحرز كون وجوههم مقبولة عند اللَّه تعالى، بل قد يكون مطروداً من ساحة العظمة بسبب ما يقترفه من الذنوب - يعدّ من الكبرياء والجفاء والجفوة مع اللَّه تبارك وتعالى والعتوِّ عليه، وهذا على خلاف الفطرة التوحيدية، بل إن اللَّه عزّ وجلّ ذمّ الذين يصدّون عن الوسائط ويطلبون الارتباط المباشر بالسماء، بما بيّناه في هذا الوجه؛ قال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) (2) .

فنحن المذنبون المقصِّرون القاصرون عن نيل المقامات الرفيعة يجب أن لا نطلب الحاجة إلى اللَّه تعالى إلّا بعد تقديم المقدّمات والتوسّل بالمقربين والوجهاء المرضيين عند اللَّه عزّ وجلّ، وهذا هو معنى قوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) .

والحاصل: إن التوسّل من مبادئ الأصول الفطرية والأخلاقية، وهو مقتضى

____________________

(1) وسائل الشيعة، ج7، ص81، وابن فهد الحلّي، عدّة الداعي، ص148، وابن حجر، فتح الباري، ج3، ص4.

(2) الفرقان: 21.

٣٧

التواضع والخضوع في التوجّه والوفود على اللَّه تعالى، وفيه زيادة ورفعة في التوحيد؛ لأنّ التواضع حالة توحيدية خالصة، ورفض التوسّل استكبار ورعونة لا تناسب الأدب التوحيدي، ويستنكره العقل ويشجبه العقلاء في تعاملهم.

ولابدّ من التنبيه على أن الآيات القرآنية - كما تقدّم ويأتي في الفصل اللّاحق - لا تثبت أن الوفود على اللَّه تعالى من دون التوسّل بالآيات الإلهية مخلّاً بالأدب مع الحضرة الربّانية فحسب، بل هي تصرّح بامتناع الوفود عليه عزَّ وجلِّ من دون آياته وحججه، وامتناع التوصّل إلى ذاته المقدّسة؛ لقصور في القوابل والاستعدادات.

2 - الدليل التاريخي(السيرة):

لا ريب أن هناك ضرورة إسلامية وقرآنية تؤكّد على أن فصل الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمّداً رسول اللَّه، عن الشهادة الأولى، وهي شهادة لا إله إلّا اللَّه، وإنكارها يُعدّ شركاً وخروجاً عن دائرة التوحيد التام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الخاتمة.

وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نجده يحكم بالشرك والوثنية على الطقوس والمناسك العبادية التي يأتي بها أهل الكتاب، وإن كانوا يدّعون أنهم على دين موسى أو عيسى عليهما‌السلام . وفي الوقت ذاته اعتبر القرآن الكريم عبادة قريش وحجّهم ومناسكهم وصلاتهم تجاه الكعبة من الشرك والجاهلية وعبادة الأوثان.

فالطقوس العبادية القرشية التي يزعمون أنها على ملّة إبراهيم عليه‌السلام كالصلاة

٣٨

إلى الكعبة وحجّ بيت اللَّه الحرام والإتيان بمناسكه كالطواف والسعي والوقوف بعرفات والمزدلفة وسَوق الهدي، كلّها حكم عليها القرآن الكريم بالوثنية والشرك والعبادة لغير اللَّه تعالى، وليس ذلك إلّا لعدم الرجوع إلى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقطع الصلة به والابتعاد عنه والتخلّي عن ولايته وعدم الخضوع والطاعة له، وعزل الشهادة الثانية وفصلها وبترها عن الشهادة الأولى. فإنّ ذلك كلّه يجعل العبادات والمناسك بأجمعها شركاً ووثنية وجاهليّة؛ كالطواف حول الكعبة مثلاً يعتبر شركاً وطاعة وعبادة لغير اللَّه عزّ وجلّ فيما إذا افتقد الشهادة الثانية والتولّي لنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله . والفرق بين حجّ المشركين وحجّ المسلمين، هو أن المشركين يأتون بالمناسك من دون الخضوع والتسليم والتولّي لخليفة اللَّه تعالى. وأمَّا المسلمون، فهم يأتون بمناسك الحجّ مع خضوعهم لولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإقرارهم بالشهادة الثانية؛ ولذا كان حجّهم طاعة وعبادة خالصة للَّه عزّ وجلّ.

وقريش إنما خرجت من مغبّة الشرك والوثنية ودخلت الإسلام بإقرارها بالشهادة الثانية وتولّيها للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأخذ عنه والخضوع لطاعته وأوامره.

فليس التوحيد بالاتجاه مباشرة إلى اللَّه تعالى والانقطاع عن الوسائط، ولا الشرك بجعل الواسطة بين العبد وربّه، بل الوثنية والشرك في منطق القرآن الكريم رفض التسليم لولاية خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأن الوثن والوثنية طاعة غير اللَّه عزّ وجل، والعبد إذا أنكر الواسطة التي نصبها اللَّه تعالى بينه وبين عبيده لا يبقى له مجال وطريق لاستعلام أوامر اللَّه ونواهيه وإراداته وشريعته الحقّة، التي يريد من عبده السير على خطاها.

٣٩

وحينئذٍ لا يكون لذلك العبد المنكر للوسائط إلّا إرادته وهواه وميول نفسه وسلطان ذاته، وهذه هي الوثنية؛ إذ يكون وثنه هواه كما قال تعالى: ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ) (1) .

فالهوى وسلطان النفس وثن من الأوثان وإله من الآلهة وإن لم يكن من الأحجار؛ إذ لا يشترط في الوثن والصنم أن يكون من الحجارة، فإن المسلمين يتوجّهون في عبادتهم إلى أحجار الكعبة ومع ذلك هم موحِّدون ومطيعون للَّه تعالى؛ لكون ذلك عن أمره وإرادته وسلطانه.

والحاصل: إن أي عبادة من العبادات إذا انقطعت عن الخضوع لولاية سيّد الرسل وفقدت تواصلها مع الشهادة الثانية، تدخل حيِّز الشرك والوثنية الجاهليّة كما جاء ذلك في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) (2) ؛ حيث حكم اللَّه تعالى في هذه الآية المباركة بشرك ونجاسة ما يأتي به غير المسلمين من العبادات والمناسك في المسجد الحرام.

ثمّ إن مَن يجحد ولاية أهل البيت عليهم‌السلام بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون حاله كحال مَن جحد ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ مِن بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يستعلم العبد إرادة ربّه وأوامره؟!

ومِن ثَمَّ يقول الإمام الباقر عليه‌السلام في حجّ مَن لا يؤمن بمودّة وولاية أهل البيت عليهم‌السلام : (فعال كفعال الجاهلية)؛ حيث ورد عنه عليه‌السلام أنه نظر إلى الناس يطوفون

____________________

(1) القصص: 50.

(2) التوبة: 28.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ابن زياد ما يزال جاثما على صدر الأمة باسم جديد وشريح القاضي ما زال يفتي بلسان حديث : بكفر ونجاسة شيعة أبي عبد الله الحسين (ع) وطهارة اليهود ووجوب الصلح معهم(١) ، بل هم أفضل من شيعة الحسين (ع) ، وما يزال التضليل والكبت كما فعل قاتلوا الحسين (ع) عندما جاءوا بالسبايا وتساءل الناس من هؤلاء فقالوا أنهم سبايا من الديلم فشمت الناس بهم ووصل الأمر ببعضهم أن فكر في امتلاك إحدى السبايا كجارية وهن ربيبات بيت الوحي الذي حرمت على أهله الصدقة وأمر الله بمودتهم ، قال تعالى :( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) .

ولكن ما زالت خطبة زينب بنت علي (ع) تدوي في أسماع الشيعة وهي تخاطب يزيد الذي أدخل إليه رأس الحسين وهو متخذ مجلسا للشراب ووضع الرأس بين يديه فراح ثنايا الحسين بمخصرته وهو ينشد :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

خطبت عقيلة الهاشميين زينب بلسان يفرغ عن أبيها علي (ع) خطبة طويلة نختار منها هذا المقطع الذي جعل المجالس تعقد للحسين في أوساط شيعته إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله قالت فيما قالت مخاطبة يزيد « فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تميت وحينا ولا تمحو ذكرنا ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين ».

رغم توارثنا لعادات بني أمية وقبولنا لها مثل الاحتفال بيوم عاشوراء الذي

ــــــــــــــــ

(١) ـ فتوى بعض العلماء حول التطبيع مع اليهود مثل ابن باز.

٢٢١

قتل فيه ابن بنت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نعيب على الشيعة إقامتها لمجالس العزاء الحسينية ، ولا دليل لدينا سوى ادعاء عمر بن الخطاب لحرمة البكاء وهو القائل « كل الناس أفقه منك يا عمر ». لقد بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقتل الحسين في يوم ولادته ، كما بكته السماء بل حتى الجمادات كما جاء في كتب التاريخ ، وبكاء النساء لمقتل حمزة أيضا وتشجيع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لهن وإعانتهن حينما قال : على مثل حمزة فلتبك البواكي ، ولقد أقام عليه أهل المدينة مآتم العزاء فلم نر مستنكرا لذلك فيما وصل إلينا.

والمحاولات التي يبثها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين ما هي إلا إحدى المحاولات لإسكات صوت الحق وإطفاء نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ولقالوا لنا اليوم أن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي (ع).

ويكفي فخرا لمجالس الحسين أنها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة وتلهب في النفوس المؤمنة روح الجهاد ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين (ع) ليسري مفعولها السحري في الأرواح المؤمنة.

لن أستطيع في هذه الوجيزة أن أستعرض كافة جوانب كربلاء ولكن يجب على الأمة ألا تغلق على نفسها مثل هذه الكنوز التي لا يعرفها إلا من هداه الله.

السجود على التربة الحسينية :

هنالك مسألة مرتبطة بهذا البحث ، كثير من الناس استشكل فيها على الشيعة ، ومن خلال تجربتي الشخصية لم أجد عند أحد دليلا شرعيا يؤيد إشكاله

٢٢٢

اللهم إلا ما يتناقله ببغاوات الوهابية فيما يرتبط بالتوحيد والشرك الذي هم أبعد الناس فهما له ، والمسألة هي السجود على التربة الحسينية قال لي بعضهم « الشيعة يا أخي يعبدون الحجر ويصلون له » وكثيرا ما سمعت هذه الجملة لذا وجب علي توضيح الأمر حتى لا نصبح كالهمج الرعاع أتباع كل ناعق نميل مع كل ريح.

أولاً : إن للسجود صيغتين :.

أ ـ السجود للشئ.

ب ـ السجود على الشئ.

أما الأول فهو حالة من حالات الشرك بلا خلاف ، والشيعة تحرم ذلك البتة لأنه سجود لغير الله وهذا لا يحتاج مني إلى كبير عناء فلتراجع فتاوى علماء الشيعة في ذلك.

أما الثانية فالكل يسجد على شيء ، والسجود لا يتحقق في الأساس إلا على شيء.

والشيعة يسجدون على التربة وليس للتربة ، ويكون السؤال لماذا التربة الحسينية بالخصوص؟ وهذا السؤال سنجيب عليه في نقطتين : الأولى فيما يختص بالتربة كما هي والثانية بخصوص التربة الحسينية.

* النقطة الأولى :

إن علماء مدرسة أهل البيت (ع) ومن أقوال أئمتهم يوجبون أن يكون موضع الجبهة في الصلاة من الأرض أو ما أنبتته الأرض مما لا يؤكل ولا يلبس في الغالب.

أما فقهاء أهل السنة الأربعة فإنهم يجوزون السجود على كلشيء بما في

٢٢٣

ذلك الأرض.

وعلماء الشيعة لهم ما يؤيد قولهم من مصادر أهل السنة نذكر منها : ـ

١ ـ حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

« جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » (بخاري ج ١ / ١٠٩).

٢ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« جعلت لي الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا » (بخاري ج ١ / ٣٧١ ، مسلم ١ / ٣٧١).

٣ ـ وعن أبي سعيد الخدري في حديث جاء فيه :

« وكان سقف المسجد من جريد النخل وما نرى في السماء شيئا فجاءت قزعة فأمطرنا فصلى بنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى رأيت الطين والماء على جبهته وأرنبتهصلى‌الله‌عليه‌وآله » (بخاري ج ٢ / ٣٨٦).

وكثير من الأحاديث التي تؤكد على مسألة السجود على التربة.

* النقطة الثانية : لماذا السجود على التربة الحسينية.

أولاً : السجود على التربة الحسينية يمثل حالة من حالات السجود على الأرض وإجماع المسلمين على صحة السجود على الأرض وترابها قائم فلا يوجد مبرر لاستثناء تربة الحسين (ع).

ثانياً : إن أئمة أهل البيت (ع) كانوا يؤكدون على مسألة السجود على التربة الحسينية والإمام علي بن الحسين (ع) أول من سجد عليها وكل أئمة أهل البيت (ع) كان يسجدون عليها ويؤكدون على استحباب السجود عليها كما جاء عن الإمام الصادق (ع) « إن السجود على تربة أبي عبد الله الحسين يخرق الحجب السبع ».

٢٢٤

وتربة الحسين عبارة عن تراب من كربلاء يخلط بالماء ويصب في قوالب ثم يجفف ويوضع في موضع الجبهة للسجود عليه.

ثالثا : هنالك دلالات كبيرة في السجود على تربة سيد الشهداء (ع) لا تخفى على الألمعي منها(١) : ـ

١ ـ الدلالة العقائدية :

عمر بن سعد غداة يوم عاشوراء صلى بجيشه صلاة الصبح جماعة ثم قتل الصلاة في ظهيرة نفس اليوم بقتله سيد الشهداء ، ونحن بصلاتنا على تربة الحسين نعلن أننا لا نصلي صلاة ميتة مثل صلاة عمر بن سعد وأميره يزيد وأبيه ومن ولاه ، لا نحن نصلي صلاة الحسين وأبيه وجده وهذا ما يكرس مفهوم الولاء لأهل البيت (ع) عند شيعتهم ولهذا ركز الأئمة (ع) على التذكير بتربة الحسين (ع) التي يعني السجود عليها تمام التسليم والخضوع لله بانتهاج نهج أوليائه.

٢ ـ الدلالة التاريخية :

حاول البعض طمس معالم يوم الغدير الذي بويع فيه لعلي (ع) بالخلافة ، وعاشوراء كانت في عهد بني أمية وما أدراك ما بنو أمية ، والتربة الحسينية وثيقة تاريخية حية تحمل شواهد الجريمة التي نفذها الحكم الأموي يوم العاشر من محرم ، وإذا كانت الأجهزة الظالمة عبر التاريخ قد مارست أساليب المصادرة لقضية كربلاء ، وما زال امتدادهم إلى يومنا هذا ، فإن الأئمة من أهل البيت (ع) رسخوا في وعي الأمة وفي وجدان الأجيال حالة التعاطي والارتباط بقضية الحسين (ع) من خلال الإحياء والرثاء والبكاء والزيارة وفي هذا المسار تأتي مسألة التأكيد على التربة الحسينية.

ــــــــــــــــ

(١) ـ التشيع ـ السيد عبد الله الغريفي.

٢٢٥

٣ ـ الدلالة الجهادية :

التربة الحسينية إحدى صيغ التجذير للوهج الثوري والجهادي في حس الجماهير المسلمة ، وهذا ما تحتاج إليه كل الأمة الإسلامية ، خاصة ونحن نعيش فترة يواجه فيها المد الإسلامي بكل أنواع الحروب ، والتعامل مع هذه التربة ليس تعاملا مع كتلة ترابية جامدة وإنما هو تعامل مع مزيج متحرك من مفاهيم الثورة وقيم الجهاد ومضامين الشهادة ، فمع كل ذرة من ذرات هذه التربة صرخة جهادية ونداء ثوري ومفهوم استشهادي لا يقوى الزمن بكل امتداداته ولا تقوى الأجهزة المتسلطة بكل إمكاناتها أن تجمد تلك الدلالات فالتربة الحسينية عقيدة وجهاد وثورة وحركة واستشهاد.

٢٢٦

الفصل الثامن

في دائرة النور

( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم )

(سورة النور : آية / ٣٥)

٢٢٧

٢٢٨

من ركام الباطل إلى النور

من وسط ركام الباطل المظلم أسرعت إلى حيث النور وانكشف الغطاء عن البصر إثر الحجة تلو الأخرى والدليل يضاف إليه دليل والعقل يستنير ولا سبيل إلا أهل البت (ع) ، ودخلت دائرة النور والنور لا يرى إلا بنفسه ،. وسنا بريق كنوز أهل البيت يخطف الأبصار.

تأسفت لحال من لم يوفقه الله للاهتداء إليهم ، ونظرة عامة إلى منهجهم وكلماتهم وأحوالهم كافية للتدليل على أنهم هم أمناء الله على وحيه المنزل على نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الأمانة العظمى التي لا يمكن أن يتحملها من يعتريه الشيطان بين الفنية والأخرى ولا يؤدي حقها من كان كل الناس أفقه منه ولا يستطيع حفظها من آثر هواه وهوى عشيرته على التمسك بأبسط مفردات الحق.

أهل البت (ع) كلماتهم نور لم أسمع بها عند الآخرين ، منهجهم في تربية الأمة وتوجيهها يجعلك تحس بمعنى خلافة الله في الأرض ، لم يشهد التاريخ بأنهم تعلموا على أيدي أحد بل الكل يدعي الرجوع إليهم وما الفقهاء الأربعة إلا نتاج جامعة الإمام الصادق العلمية في المدينة المنورة والتي تخرج منها أيضا جابر بن حيان بعلم الكيمياء الذي أخذه من الإمام الصادق (ع) ، ولا يسعني أن أستعرض ولو قطرة من بحار علومهم التي أخذ منها شيعتهم فكان تفوقهم على من سواهم في جميع المجالات ، وموسوعة واحدة من مصادرهم الحديثية تكفي لتلتهم كل ما عند أهل السنة والجماعة من مصادر ، وبحار الأنوار بمجلداته العشرة بعد المائة دلتنا على ذلك وحقا إنه بحار من أنوار العلم.

وقد سعى المفسدون في الأرض إلى تشويه صورة مذهب أهل البيت (ع) وحاولوا ممارسة التضليل الإعلامي ، ومن جملة ذلك الطعن في نهج البلاغة الجامع

٢٢٩

لبعض خطب ورسائل وكلمات أمير المؤمنين (ع) وهو هو بمتنه الذي أعجز البلغاء وإن ما جاء فيه كاف لبيان صحة النسبة لأمير المؤمنين وعلى هؤلاء أن يأتونا بخطبة واحدة قالها أحد الخلفاء أو كلمة قصيرة تشبه الخطب الواردة في نهج البلاغة. قيل لأحد الإخوة أن نهج البلاغة وضعه الشريف الرضي فقال لهم إذا هو إمام مفترض الطاعة!!

ولأهل البيت (ع) تراث عظيم كان من الممكن أن تستفيد منه الأمة ولكنها أبت إلا نفورا ، وإحدى معاجزهم التي بهرتني ، ذلك المنهج في الدعاء وكيفية التقرب إلى الله تعالى والأدب الرفيع في مخاطبة الرب سبحانه ، والقارئ للصحيفة السجادية وهي صحيفة كلها أدعية للإمام الرابع علي بن الحسين السجاد (ع) يتعجب لماذا لم يهتم علماء السنة بهذه الصحيفة هل لأنها واردة عن أحد الأئمة أهل البيت؟ أم ماذا!!.

أحد الإخوة الذين استبصروا ، كان يميل للوهابية بعد أن عملوا على تزريقه أفكارهم ومعتقداتهم وقبل أن ينغمس معهم تماما من الله عليه بأحد الأصدقاء والذي أعطاه بعض مؤلفات الشيعة ليقرأها ، ولقد سمع من قبل عن الشيعة وحذر منهم ، فطلب مني ومن بعض الإخوة جلسة حوار حول التشيع وما إليه فرحبنا به وجلسنا فدار النقاش حول معتقدات الشيعة وبعد نقاش طويل تنفس قائلا : هذا الكلام حق لا لبس فيه ولكن لماذا يقولون عن الشيعة كل هذه الأقاويل؟! قلت له : كما أن للحق أنصارا يعملون على نصرته. فإن للباطل جنودا وشياطين يوحون إليهم ، ولا يمكن أن يعتمد الباطل لا على باطل.

قال هذا الأخ وعلامات الأسف والتأثر واضحة عليه : لقد قالوا لنا إن الشيعة يخالفون المسلمين في كلشيء حتى الصلاة.

كان وقت صلاة المغرب قد حان فقلت : الآن بإمكانك أن تصلي معنا

٢٣٠

لترى هل صلاتنا تختلف كما يدعون.

توضأنا وصلينا وكان اليوم يوم خميس وبعد الصلاة وكما هو معروف عند الشيعة يستحب قراءة دعاء كميل وهو دعاء علمه أمير المؤمنين علي (ع) لأحد أصحابه وهو كميل بن زياد النخعي والشيعة يواظبون على قراءته.

قرأنا ذلك الدعاء وأحسست بانفعال هذا الأخ بالدعاء ، حينها تألمت لهذه الأمة المحرومة من هذه الكنوز التي لم يبخل بها أهل البيت (ع) خصوصا فيما يختص بالأدعية التي تجعل الإنسان في عالم آخر وهو يناجي ربه.

بعد الدعاء رأيت الدموع في عينيه وهو يقول بحرقة : خدعونا وقالوا لنا أن الشيعة لا يعرفون الصلاة والله نحن ما عرفنا الصلاة ولم نفهم الصلاة.

فقرات

من أدعية أهل البيت (ع)

* ـ من دعاء الصباح لأمير المؤمنين (ع).

« اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه ، يا من دل على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته وجل عن ملاءمة كيفياته ، يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون وعلم بما كان قبل أن يكون ، يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه وأيقظني إلى ما منحني من مننه وإحسانه ، وكف أكف السوء عني بيده وسلطانه ».

« افتح اللهم لنا مصاريع الصباح بمفاتيح الرحمة والفلاح وألبسني اللهم من

٢٣١

أفضل خلع الهداية والصلاح واغرس اللهم بعظمتك في شرب جناني ينابيع الخشوع وأجر اللهم لهيبتك من آماقي زفرات الدموع وأدب اللهم نزق الخرق مني بأزمة القنوع ».

* ـ من دعاء يوم عرفة للإمام الحسين (ع) :

« الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صنع صانع وهو الجواد الواسع فطر أجناس البدائع وأتقن بحكمته الصنائع لا تخفى عليه الطلائع ولا تضيع عنده الودائع جازي كل صانع ورايش كل قانع وراحم كل ضارع ومنزل المنافع والكتاب الجامع بالنور الساطع وهو للدعوات سامع وللكربات دافع وللدرجات رافع وللجبابرة قامع فلا إله غيره ولاشيء يعدله وليس كمثله شئ وهو السميع البصير اللطيف الخبير وهو على كلشيء قدير ، اللهم إني أرغب إليك وأشهد بالربوبية لك مقرا بأنك ربي وأن إليك مردي ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا وخلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب آمنا لريب المنون واختلاف الدهور والسنين

« اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك وخر لي في قضائك وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت ، اللهم اجعل غناي في نفسي واليقين في قلبي والإخلاص في عملي والنور في بصري والبصيرة في ديني ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني وانصرني على من ظلمني. إلهي كيف أعزم وأنت القاهر وكيف لا أعزم وأنت الآمر إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار فاجمعني علك بخدمة توصلني إليك كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك عليها رقيبا وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا ».

٢٣٢

* ـ مناجاة الشاكرين : للإمام زين العابدين (ع) :

بسم الله الرحمن الرحيم

« إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك ، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك ، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك ، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك ، وهذا مقام من أعترف بسبوغ النعماء ، وقابلها بالتقصير ، وشهد على نفسه بالإهمال والتضييع ، وأنت الرؤوف الرحيم البر الكريم ، الذي لا يخيب قاصديه ، ولا يطرد عن فنائه آمليه ، بساحتك تحط رحال الراجين ، وبعرصتك تقف آمال المسترفدين ، فلا تقابل آمالنا بالتخييب والايئاس ، ولا تلبسنا سربال القنوط والإبلاس ، إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري ، وتضاءل في جنب إكرامك إياي ثنائي ونشري ، جللتني نعمك من أنوار الإيمان حللا ، وضربت علي لطائف برك من العز كللا ، وقلدتني مننك قلائد لا تحل ، وطوقتني أطواقا لا تفل ، فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها ، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلا عن استقصائها ، فكيف لي بتحصيل الشكر ، وشكري إياك يفتقر إلى شكر ، فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد ، إلهي فكما غذيتنا بلطفك وربيتنا بصنعك ، فتمم علينا سوابغ النعم ، وادفع عنا مكاره النقم ، وآتنا من حظوظ الدارين أرفعها وأجلها عاجلا وآجلا ، ولك الحمد على حسن بلائك وسبوغ نعمائك حمدا يوافق رضاك ويمتري العظيم من برك ونداك يا عظيم يا كريم ، برحمتك يا أرحم الراحمين

* قبسات من نور آل محمد :

إن الفقه الشيعي هو الشجرة الطيبة الراسخة الجذور المتصلة الأسس بالنبوة ، والذي امتاز بالسعة والشمولية والعمق والدقة والقدرة على مسايرة

٢٣٣

العصور المختلفة ، والمستجدات المتلاحقة من دون أن يتخطى الحدود المرسومة في الكتاب والسنة ويعتمد الفقه الشيعي إضافة إلى الكتاب والسنة العقل والإجماع الكاشف عن وجود النص أو موافقة المعصوم.

إن الشيعة الإمامية قدمت في ظل هذه الأسس الأربعة فقها يتناسب مع المستجدات ، جامعا لما تحتاج إليه الأمة ، ولم يغلق باب الاجتهاد(١) عندهم ، بل ظل مفتوحا طيلة القرون الماضية إلى يومنا هذا ، فأنتج عبر العصور فقهاء عظاما ، وموسوعات كبيرة لم يشهد التاريخ لها ولهم مثيلا ، والمقام لا يتسع لبسط الكلام عن الفقه الجعفري كما أن مفهوم الاجتهاد عند الشيعة غير ما هو عند السنة ، فليراجع معالم المدرستين ج ٢.

إلا أن هنالك بعض الاختلافات بين الفقه الجعفري وفقه أهل السنة والجماعة حاول البعض أن يتخذها ذريعة ليرمي التشيع بكل فرية وتشويه ، وأنا لست بصدد بيان كل مواقع الاختلاف ، ولكني سأختار بعض المفردات عند الفقه الشيعي يثير حولها الجاهلون شبهات لاتهام الشيعة ، سأطرحها لأبين رأي الدين فيها ثم أترك للقارئ الحكم.

وقبل ذلك أقول أن الاختلاف ليس في الفروع فقط ، بل هنالك خلافات جوهرية في الأصول العقائدية فالحديث عن التوحيد يطول ، يلتقي فيه أهل السنة مع الشيعة ويفترقون ، فالله سبحانه وتعالى في كتب أهل السنة والجماعة والتي بلورها الوهابيون في كتبهم يمشي ويتحرك من مكان إلى آخر وينزل ويصعد ويضحك وله يدان وقدمان وساق الخ حتى أبتعد الناس عن ربهم.

ــــــــــــــــ

(١) ـ المكلف إما مجتهد يستنبط الأحكام الشرعية أو محتاط أو مقلد لمرجع مجتهد جامع للشرائط المذكورة في كتب الفقه.

٢٣٤

أذكر هنا أن أحد الشباب الذين خدعوا بالوهابية جرى حوار بينه وبين أحد الإخوة وكان محور حديثهما التوحيد وكان هذا الوهابي مصرا على أن لله مكانا وحيزا يوجد في العرش فوق السماوات ، فقال له الأخ : يعني إذا اخترعت صاروخا يسير أسرع من الضوء واتجهت به إلى السماء هل بإمكاني الوصول إلى مكان الله ووجوده هناك؟

قال : نعم! فضحك الأخ وقرر الصمت.

هذا حال التوحيد الذي من أجله بعث الأنبياء عند القوم ، أما الشيعة فإن أئمتهم لم يتركوا لهم مجالا ليشطوا عن الحق والمعرفة الصحيحة كما فعل غيرهم ، وإنما تركوا لهم كنوزا من المعارف الإلهية نزل بها الوحي على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ويكفي من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن علي بن أبي طالب (ع) يقول في إحدى تلك الخطب مبينا حقيقة التوحيد :

« الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادون ، ولا يؤدي حقه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ، ووتد الصخور ميدان أرضه.

أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال (فيم) فقد ضمنه ومن قال (علام) فقد أخلى منه كائن لا عن حدث ،

٢٣٥

موجود لا عن عدم الخ »(١) .

وهنالك الكثير من المفارقات بين المدرستين تحتاج إلى مجلدات لاستقصائها وعلى الجميع أن يبحث ليلقى الله على حجة وسأذكر بعض المفردات الفقهية الخلافية لنرى مع من الحق.

* التقية :

ما أكثر ما شنع خصوم الشيعة عليهم في التقية التي غاب معناها عن أذهانهم ورسموا لها معاني من مخيلتهم الخربة فصاروا يتهمون بها الشيعة والتشيع ، وعندما أوضح هنا معنى التقية وشرعيتها لا أنتصر للشيعة ومعتقداتهم بقدر ما أنصر القرآن ومفاهيمه التي تمسك بها الشيعة فكان صحة ما يعتقدون به فرعا لأصل صحة القرآن الذي غابت بصائره عن العقول النجدية فتاهت حتى أنها تكاد لا تفقه الفرق بين الطهارة والنجاسة.

البعض يردد أقوال الآخرين دون تمحيص ومعرفة غافلين عن خطورة استهزائهم بما لا يعلمون فيستهزئون من حيث لا يشعرون بالحق والقرآن وذلك ستكون عاقبته وخيمة ، وما أكثر ما سمعت « أن الشيعة منافقون لأنهم يعتقدون بالتقية وهي تعني النفاق وإظهار خلاف الباطن » ضاربين بذلك الآيات القرآنية وسيرة الأنبياء عرض الحائط.

وقبل استعراض أدلة شرعية التقية من القرآن والسنة كما جاء في كتب أهل السنة والجماعة ، والتي أرى أن الشيعة أعلم بها من أهلها ، نتحدث عن معنى التقية وظروفها.

ــــــــــــــــ

(١) ـ نهج البلاغة الخطبة الأولى ..

٢٣٦

إن الشيعة ومنذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عاشوا في اضطهاد وتشريد وتقتيل من قبل السلطات الجائرة التي تعاقبت ، وبعد واقعة كربلاء أصبح الشيعة وحدهم المناوئين للحكام والمتصدين لهموم الأمة باعتبار أن أئمتهم هم الحافظون للشريعة ، لذلك كرست الحكومات كل جهودها لضربهم.

لهذا السبب ولغيره عرف الشيعة بالتقية دون غيرهم من الفرق الإسلامية التي كان علماؤها ومن ورائهم العامة يؤيدون كل سلطان عادل أو جائر ، بينما يصور لنا الإمام الباقر (ع) حال الشيعة آنذاك يقول : « وكان من أعظم ذلك وأكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (ع) فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (ع) ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق وكافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي ».

هذا هو الحال باختصار وعند عرضنا للأدلة سيتبين بإذن الله تعالى أن التقية حاجة فطرية وكلنا نستخدمها في حياتنا العملية خصوصا أولئك الذين يواجهون الطواغيت في كل مكان ، يعلمون بأهميتها في مسيرتهم الجهادية.

والتقية في اللغة معناها الحذر ، قال ابن منظور في لسان العرب توقيت واتقيت ، أتقيه تقى وتقية وتقاء : يعني حذرته.

أما التقية شرعا كما عرفها الشيخ الأنصاري من ـ كبار علماء الشيعة المتقدمين ـ في كتابه المكاسب (التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق).

وشرعية التقية تؤخذ من الكتاب والسنة كمصدرين للتشريع وستجد أن العقل يؤيد مشروعيتها.

٢٣٧

* أما من الكتاب العزيز :

قوله تعالى( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فيشيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ) (آل عمران / ٢٨).

وواضح من قوله تعالى( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) شرعية التقية وأن المؤمن إذا خاف من الكفار يجوز له مداراتهم تقية منه ودفاعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك.

يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية :

(المسألة الرابعة) اعلم أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها :

« الحكم الأول » إن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف على نفسه وماله فيداريهم بلسانه وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

« الحكم الثاني » هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل.

« الحكم الثالث » إنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة ، وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز.

« الحكم الرابع » ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين ، إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس.

٢٣٨

« الحكم الخامس » التقية جائزة لصون النفس. وهل هي جائزة لصون المال؟

يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بألفين سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم.

« الحكم السادس » قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتا في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين ، فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا ، وروي عن عوف بن الحسن أنه قال : لتقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان(١) .

يتضح من كلام الرازي دلالة الآية على شرعية التقية ، ويذكر ذات المعنى ابن كثير في تفسيره(٢) .

** ويقول الله سبحانه وتعالى( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (سورة النحل / ١٠٦).

 والتي نزلت في عمار بن ياسر ، وكلنا يعرف قصة تعذيب كفار قريش له حتى قال ما طلبوه منه من تمجيد آلهتهم وغير ذلك ، إلا أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بشره وأبويه بالجنة وقال له إذا عادوا فعد بمثل ما قلت ، ولا أعتقد أن هنالك أوضح من ذلك لفهم التقية والتي مارسها مؤمن آل فرعون كما جاء في القرآن( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ) (سورة غافر : آية / ٢٨).

ــــــــــــــــ

(١) ـ التفسير الكبير للفخر الرازي ج ٨ / ١٣.

(٢) ـ تفسير القرآن العظيم ج ١ / ٣٠٨.

٢٣٩

* أما من السنة :

فقد أورد الرازي نقلا عن البخاري في صحيحه من كتاب الأدب باب المداراة مع الناس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنا لنكشر في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم » ، كما نقل ـ الرازي ـ أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم. وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه(١) .

كل ذلك يدلل على مشروعية التقية وأنها حكم عام يشمل كل إنسان ، وبضم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » يكتمل المطلب.

والتقية كحكم لها ضوابطها وحدودها والشيعة فيما يرتبط بفروع دينهم لا يحتاجون لغيرهم للأخذ منهم ولقد جئنا بالأدلة حتى لا يطلق البسطاء تهمهم بجهل. وإليك روايات عن طريق أهل البيت (ع) وهم الحجة على شيعتهم لا غيرهم :

* ـ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) قال : اتقوا على دينكم فاصحبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له إنما أنتم من الناس كالنحل في الطير لو

ــــــــــــــــ

(١) ـ تفسير الرازي ج ٨ / ١٢.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276