بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)21%

بنور فاطمة (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 276

بنور فاطمة (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90505 / تحميل: 6565
الحجم الحجم الحجم
بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

 خوار. وما يهمنا من القصة أن السامري كان من أصحاب موسى (ع) وكما هو واضح بلغ مرتبة عظمي حتى قال (بصرت بما لم يبصروا به) وكان له من العلم ما لم يكن لغيره وحظي بمشاهدة جبرئيل واستطاع بكل ذلك أن يضل بني إسرائيل الذين اتبعوه باعتبار أنه ذو مكانة فسولت له نفسه الأمارة بالسوء فكان عمله الباطل الذي أضل به القوم

السؤال الآن ، هل يمكن أن نجد في تاريخ الأمة الإسلامية وواقعها بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مصداقا لمثل هذا الانحراف؟ مع علمنا التام بأنه لا يوجد أحد من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحلم برؤية جبرئيل على حقيقته ومعرفته وامتلاك بعض الأسرار الإلهية المكنونة في أثره صحيح أن جبرئيل كان يأتي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في صورة رجل يسأله عن أمور الدين ولكن ما كان الصحابة يعرفونه إلا بعد مغادرته وبيان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأين كان السامري وأين هم الصحابة؟.

وعند البحث في جذور انحراف الأمة بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سترى مدى تطابق الأحداث التاريخية مع القصص القرآنية خصوصا قصة بني إسرائيل.

وفي ختام هذا الفصل (أعرض عليك عزيزي القارئ سببين رئيسيين يذكرهما القرآن لأنهما يمنعان الإنسان من الاهتداء إلى الحق ، أو الالتزام به بعد معرفته ، وهذان السببان يعترضان أي إنسان في أي مكان وأي زمان.

أولاً :

تقديس ما توارثناه عن آبائنا وأجدادنا وهي مشكلة كبيرة ذمها القرآن

٤١

باعتبارها عائقا وحائط صد منيع يجب تجاوزه خصوصا في مسألة الاعتقاد والتي نسأل عنها باعتبارها تكليفا عينيا بعيدا عن الانتماءات الأسرية والاجتماعية وغيرها

يقول تعالى :( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) (١) .

( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ) (٢) .

( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) (٣) .

وغيرها من الآيات التي تتحدث حول هذا الموضوع.

ثانياً :

الاستكبار بعد معرفة الصواب وهذه المشكلة كانت السبب الرئيسي في عدم اتباع الأمم لرسلهم وهي التي أخرجت إبليس من رحمة الله تعالى

يقول تعالى : ـ

( ويل لكل أفاك أثيم ، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم ) (٤) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ـ سورة البقرة آية / ١٧٠.

(٢) ـ سورة الزخرف : آية / ٢٣ ـ ٢٥.

(٣) ـ سورة لقمان : آية / ٢١.

(٤) ـ سورة الجاثية : آية / ٧ ـ ٨.

٤٢

( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) (١) .

( والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (٢) .

( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين ) (٣) .

هذه بعض العوائق التي تقف حائلا بيننا وبين معرفة الحق واتباعه والبحث الآتي بين طيات هذا الكتاب يحتاج لإزاحة مثل هذه الحجب وغيرها حتى يرى الإنسان الحقيقة كرؤيته للشمس في واضحة النهار والله المستعان.

ــــــــــــــ

(١) ـ سورة البقرة : آية / ٨٧.

(٢) ـ سورة الأعراف : آية / ٣٦.

(٣) ـ سورة الأعراف : آية / ٤٠.

٤٣

٤٤

الفصل الثالث

الشيعة والتشيع

٤٥

٤٦

الشيعة والتشيع

مجرد كلمة شيعي تعني لدى الكثير من الناس السب والشتم والضلال هكذا علموهم وهكذا فرضوا عليهم سياجا من الجهل ، يقولون لا تبحث عنهم لا تقرأ لهم. وعدنا إلى عهد معاوية حيث سب علي (ع) على المنابر سنة ، وتزداد المكافأة الملكية كلما أمعنت في لعن أبي الحسن وأهل بيته (ع) كلا نحن لم نعد ولكن الصراع الأيديولوجي هو الذي امتد إلى يومنا هذا ، ما زال علي يسب ، فقط تغير العنوان فأصبح الشيعة أما عوام الناس فدورهم فقط تلقي الأوامر « من أحبارهم » ، وهم تحت مظلة السنة والجماعة وهل هنالك من يرفض أن يكون مع السنة والجماعة ولكن أي سنة هي وأي جماعة؟ هل هي سنة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أم أنها سنة من غير وبدل سنة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وحتى لانتوه نتوقف قليلا لمعرفة هذه العناوين والمسميات ، ماذا تعني الشيعة ومن هم وما هي السنة والجماعة وذلك في لمحة موجزة

١ ـ التشيع لغة هو المشايعة أي المتابعة والمناصرة والموالاة(١) في القرآن الكريم :( وإن من شيعته لإبراهيم ) .

واصطلاحا يراد بهم أتباع وأنصار آل البيت (ع) وهم الذين ناصروهم في كل محنهم وسلكوا مسلكهم ووالوهم ، يقول ابن خلدون « اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والاتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه »(٢) .

تضاربت الآراء والأقوال لدى البعض حول بداية التشيع فهنالك من يرى

ـــــــــــــ

(١) ـ تاج العروس ولسان العرب مادة شيع.

(٢) ـ تاريخ ابن خلدون الفصل ٢٧ في مذهب الشيعة ص ٣٤٨.

٤٧

 أن الشيعة تكونوا بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وممن يذهب إلى هذا ابن خلدون في تاريخه فقد قال : إن الشيعة ظهرت لما توفي الرسول وكان أهل البيت يرون أنفسهم أحق بالأمر وأن الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش ولما كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعلي ويرون استحقاقه على غيره ولما عدل به إلى سواه تأففوا من ذلك الخ(١) ومنهم أيضا اليعقوبي في تاريخه وهو يقول ويعد جماعة المتخلفين عن بيعة أبي بكر هم النواة الأولى للتشيع ومن أشهرهم سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود والعباس بن عبد المطلب(٢) .

وهناك من يرى أن التشيع نشأ أيام الخليفة الثالث عثمان ومنهم من يقول أنه تكون أيام خلافة علي (ع) ورأي آخر يقول بظهور التشيع بعد واقعة الطف.

كل هذه الأقوال لا تثبت أمام التحقيق في كتب التاريخ والحديث والتفسير ، وربما يكون أقربها إلى الصواب الرأي القائل بأن التشيع بدأ بوفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن يواجه هذا الرأي بسؤال وهو كيف يمكن أن تتبلور هذه الفكرة في ظرف أقل من أسبوع؟ إلا إذا كانت موجودة بالفعل ولكن الأحداث هي التي جعلتها تأخذ مكانها في الواقع الخارجي.

أما الشيعة وغيرهم من المحققين من المذاهب الأخرى فإنهم يذهبون إلى أن التشيع ولد حينما ولدت الرسالة على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنه هو الذي غرسه في النفوس عن طريق الأحاديث التي وردت على لسانهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكشفت عما لعلي (ع) من مكانة في مواقع متعددة رواها إضافة إلى الشيعة ثقاة أهل السنة ، ولقد وردت كلمة شيعة على لسان

ـــــــــــــــ

(١) ـ المصدر السابق ج ٣ ص ٣٦٤.

(٢) ـ تاريخ اليعقوبي.

٤٨

 الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإليك نماذج من النصوص التي وردت :

١ ـ في الدر المنثور للسيوطي ج ٨ ص ٥٨٩.

 روى عن ابن عساكر بسنده عن جابر بن عبد الله قال كنا عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبل علي (ع) فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » فنزل قوله تعالى( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) .

٢ ـ ابن حجر في الصواعق المحرقة الباب(١١) الفصل الأول الآية الحادية عشر : ـ

عن ابن عباس قال : ـ لما أنزل الله العالي( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي (ع) « هم أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضابا مقمحين ».

٣ ـ القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج ٢ ص ٦١.

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ».

ومن المصادر التي ذكرت هذه الرواية في تفسير قوله( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) الخ الآية :

أ ـ تفسير الطبري ج ٣ / ١٤٦.

ب ـ روح المعاني للآلوسي ج ٣.

ج ـ كفاية الكنجي الشافعي ص ٢٤٤ ـ ٢٤٦.

وغيرها من المصادر.

والشواهد التاريخية كثيرة على ذلك ، فكل الحوادث التي شارك فيها علي (ع) أو الحسن والحسين (ع) تصف أصحابهم بأنهم من شيعتهم.

٤٩

والشيعة الآن هم الذين يوالون أهل البيت (ع) ويأخذون منهم معالم دينهم أصولا وفروعا باعتبار أنهم حملة السنة ، والامتداد الطبيعي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك يكونون هم الذين اتبعوا سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والتزموا بتمسكهم بأئمة أهل البيت (ع) كما أمرهمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخلاف بينهم وبين أهل السنة ليس خلافا حول المسميات إنما القضية تختص بمنهج كل منهما وأيهما يمثل رسالة السماء.

أما بالنسبة لأهل السنة والجماعة فالسنة في اللغة تعني الطريقة والمنهاج.

واصطلاحا تعني كل ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير ويسمي السنة مذهبهم « أهل السنة والجماعة » ويقصدون بذلك أنهم أصحاب الطريقة المحمودة ولم يعرف هذا الاسم إلا مؤخرا حيث كان يعبر عن منهج أصحاب السقيفة في مقابل المناوئين لهم وهم علي وشيعته. وظلال اسم أهل السنة والجماعة توحي بأن الشيعة هم المخالفون للسنة الشريفة ولكن سنرى من الذي اتبع سنة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله حقا ومن الذي حرف وبدل وغير.

التشيع والفرس :

رغم أن التشيع هو عمق الإسلام وجوهره إلا أننا نجد بعض المأجورين يحاولون ربط التشيع بالفرس على نحو يحمل في طياته أنهشيء طارئ في الجسد الإسلامي اختلط بثقافة أهل فارس قبل الإسلام وفات هؤلاء أن التشيع كان قبل أن يدخل الإسلام إلى فارس كما سبق وأن بينا أن ولادة التشيع كانت مع بزوغ فجر الرسالة المحمدية ، ودخل إلى بلاد فارس من العراق ولبنان وغيرها من الدول العربية. ووجد فيها رجالا حملوا الأمانة كما كان سلمان الفارسي (رض).

٥٠

وحتى تعم الفائدة نذكر لإخواننا السنة أن أغلب علمائهم من فارس ومنهم البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والرازي والقاضي البيضاوي وغيرهم من فطاحل أهل السنة والجماعة.

والآن الكل يدعي تمسكه بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والفيصل هو أن نضع كلا الطائفتين في الميزان ونرى.

ظلال التشيع في السودان

بعد أن انتبهت من الغفلة وبدأ نور الحقيقة يكشف عن الواقع التفت إلى مجتمعي في السودان الذي يتميز بالبساطة والفطرية والأخلاق الدينية ، فوجدت أن هنالك أشياء أخرى بدأت تظهر لي بعد استبصاري وهو أن الخلفية الثقافية التي بني عليها الشعب السوداني نمط سلوكه وطريقة تفكيره خلفية شيعية بلا أدنى شك ، لاحظت ذلك في كل مفردة من مفردات الحياة العامة في الشارع السوداني بل إن معظم معتقداتهم تهتف بأن للتشيع جذورا عميقة في السودان وأذكر أن أحد الإخوة قال لي : ـ إن الصوفية ثمرة التشيع أو هم فرعان لأصل واحد بل الصوفية هم الشيعة في ثوب سني فقلت له : إذا السودان بلد شيعي انحرف به التيار.

وباطلاعي على التاريخ وجدت إشارات تبين هذه الحقيقة ، وأعتقد أن الدولة الفاطمية التي قامت في مصر لها الأثر في ذلك ، إذ أن حوض النيل الذي يربط بين مصر والسودان كان من العوامل المساعدة لانتقال التشيع إلى السودان في عهد الدولة الفاطمية وهي دولة شيعية وحب أهل البيت (ع) وما يرتبط بهم من عقائد بصورة مجملة من الثوابت الفكرية المشتركة بين مصر والسودان ومقامات أهل البيت (ع) في مصر وتسيير القوافل من السودان لزيارتها شاهد

٥١

على ذلك حتى قال أحد المشايخ في السودان ويدعى محمود البرعي وله قصائد كثيرة في مدح أهل البيت (ع) في إحدى قصائده « مصر المؤمنة بأهل الله » ويقصد أنها مؤمنة بأهل البيت (ع).

ولا أحد ينكر عمق المحبة لأهل البيت (ع) في مصر والسودان ، وأنا لا أستطيع أن أحصر كل تلك المظاهر ذات الجذور الشيعية ولكن ما وجدناه من آثار يدل على أن الشيعة انتقلوا إلى السودان يوما ما وكرسوا في نفوس الأجيال محبة أهل البيت (ع) دون أن يعلنوا عن عمق معتقدهم وربما يكون ذلك تخوفا بعد أن تذوق الشيعة الأمرين على طول التاريخ. ومما نستظهره من كتب التاريخ أن اعتماد الدولة الفاطمية في جيشها كان على السودانيين وكان الحرس الخاص لخلفائها منهم ، يقول ابن الأثير في تاريخه وهو يصف ما فعله صلاح الدين الأيوبي في أعوان الفاطميين إن مؤتمن الخلافة ـ كان من السودانيين ـ حاول أن يقضي على صلاح الدين الأيوبي قبل أن يسيطر تماما على البلاد ويهلك الحرث والنسل فعلم صلاح الدين بما دبر له فتربص بمؤتمن الخلافة واسمه جوهر حتى قتله ثم يقول ابن الأثير فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة ، فحشدوا وجمعوا فزادت عدتهم على خمسين ألفا وقصدوا حرب الأجناد.

وقع القتال « وكثر القتل في الفريقين فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين فركبهم السيف وأخذت عليهم أفواه السكك (إلى أن يقول) فأبادهم بالسيف ولم يبق منهم إلا القليل الشريد »(١) .

ـــــــــــــــ

(١) ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ١١ ، ص ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

٥٢

إذا لقد كان للسوادنيين حظوة في عهد الفاطميين ولم يكن ما حدث لهم إلا لأنهم تبنوا مشروع الدولة الفاطمية وهو الدعوة لأهل البيت (ع) ومقاومتهم لصلاح الدين الأيوبي المناوئ للشيعة أكبر دليل على ذلك « وقد كانت الثورة ضد صلاح الدين من قبل الجند الفاطمي وأكثرهم من السودانيين »(١) .

ويبدو لي أن لغلظة صلاح الدين وتحامله على الشيعة(٢) دور في اختفاء المظهر الشيعي المعلن ، ولا أشك كما ذكرت أن التوجه في السودان كان شيعيا ولكن بمرور الزمن وتوافد التجار العرب باتجاهاتهم المختلفة والخوف من سطوة الأيوبي كل ذلك كان له الأثر في تغيير الأجيال اللاحقة.

إن معرفة وصلة السودانيين بأهل البيت (ع) تتجلى في عدة مظاهر منها(١) .

(١) الولاء الديني والسياسي.

إن قطاعا كبيرا من الشعب السوداني ينتمي إلى طوائف صوفية تقود العمل السياسي والديني والتي غالبا ما يكون زعماؤها ممن ينتسبون إلى الرسول (صلى الله

ـــــــــــــــــــ

(١) ـ الدولة الفاطمية في مصر د. جمال الدين سرور ص ١٣٢.

(٢) ـ يقول الدكتور محمد جمال الدين سرور في كتابه الدولة الفاطمية في مصر ص ١٣٥ لما أيقن صلاح الدين أن سلطته قد استقرت وجه اهتمامه إلى القضاء على المذهب الشيعي في مصر فأنشأ سنة ٥٦٦ مدرسة لتدريس المذهب الشافعي وأخرى لتدريس المالكي وعزل قضاة الشيعة ونفس الكلام يورده ابن الأثير في تاريخه ج ١١ ص ٣٦٦. ولصلاح الدين الأيوبي الكثير من المجازر وسفك الدماء وانتهاك حرمات شيعة أهل البيت (ع) يقول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه الشيعة والحاكمون ص ١٩٢.

(٣) ـ مقاطع من دراسة للكاتب السوداني الطيب أحمد حسن في مجلة أهل البيت (ع) العدد الأول بيروت تحت عنوان أهل البيت (ع) تراث المسلمين في السودان.

٥٣

عليه وآله وسلم) ، والارتباط العاطفي لهذا القطاع العريض بهذه الطرق على أساس أنهم ينتسبون إلى أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا توجد طريقة صوفية في السودان يجهل منتسبوها أهل البيت (ع) بل ويكنون لهم حبا واحتراما جما وللدلالة على ذلك نشير إلى بعض ما ورد في كتب الشريف يوسف الهندي مؤسس الطريقة الهندية كنموذج حي لما أسلفنا : ـ

(اللهم إنما نحمدك بجميع محامدك السنية ونسألك بذاتك وصفاتك والكتب القديمة والأديان. أن تصلي وتسلم على محمد وآله وصحبه في كل طرفة عين ، وعلى صالح آبائه وأزواجه وأبنائه والإخوان ، وعلى إمام الأئمة علي وسيدتنا فاطمة اللذين تخيرت منهما الذرية ، وابنيهما سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي نبي هذه الأمة الحسنان ، وعلى أئمتنا علي زين العابدين ومحمد باقر العلوم الدينية وجعفر الصادق وموسى الكاظم قادة الإنس والجان وعلي الرضا ومحمد الجواد الهداة الهادية المهدية وعلي الهادي والحسن العسكري الخالص وارثي أسرار النبوة وعلوم القرآن وإمامنا المهدي صاحب البشارة الفاطمية الذي لا خير في العيش ولا في الحياة بعده لأهل الإيمان (نقلا عن المولد الكبير ص ٧٢ الشريف يوسف الهندي). ولم يكتف المؤلف بذكر أهل البيت (ع) ضمن مؤلفاته النثرية بل ضمنهم مجموعة من قصائده نذكر قصيدة جاء فيها :

الحسنين والإمام والزهراء في القتام

زين العابدين تمام القادات الهمام

الكاظم للكلام والراضي بالقسام

الهادي للأنام والباقر للظلام

آل البيت يا غلام أصل الدين والنظام

في المبدأ والختام بهم نيل المرام

٥٤

ويقول في أخرى : ـ

سفن النجاة للملا بشهادة النص الأتم

هم النهى هم البهى هم التقى أهل الشيم

هم الشفاعة في غد هم السقاية في الملم

هم الهداية حاضرة والنور والقصد الأعم

الطاهرون من سوء أرجاس اللمم

والبيت الأخير دليل على اعتقاد الشاعر بعصمة أهل البيت (ع) عن اللمم فضلا عن غيرها من الذنوب والكبائر.

وهنالك الكثير من شعراء الصوفية الذي تخصصوا في مدح آل البيت (ع) وهذا أحدهم يسمى البرعي ومعروف في السودان يقول : ـ

هم أهل البيت الواضح سرهم

زرهم بمحبة لتنال من برهم

سيدي الحسين الثائر درهم

وعلي زين العابدين حبرهم

جعفرنا الصادق مع موسى صدرهم

أستاذنا الباقر في العلم بحرهم

في البر وبحرهم لله درهم

(٢) بعض الأسماء المنتشرة في السودان :

إن أهل البيت (ع) اختصوا بألقاب لم تكن معروفة من قبلهم وارتبطت بهم ارتباطا وثيقا وتناقلها محبوهم وأتباعهم جيلا بعد جيل وصارت أسماء متداولة وهي المرتضى (علي) والزهراء وبتول (فاطمة) حسن وحسين زين العابدين (السجاد) ، الباقر ، الصادق ، الكاظم رضا الهادي والمهدي وهذه الأسماء نجدها منتشرة في السودان بكثرة تلفت النظر. وربما يكون انتشار اسم المهدي نسبة

٥٥

لمحمد أحمد المهدي الذي قام بثورة ضد الأتراك وطردهم من السودان وكون حكومة إسلامية وذلك باعتبار أنه المهدي المنتظر ، وأيا كان سبب انتشار الاسم يبقى جذر الاعتقاد بولاية أهل البيت (ع). وكل الأسماء المذكورة نجدها في السودان أكثر من الدول العربية الأخرى مما يدلل على عمق محبة السودانيين لأهل بيت النبوة (ع).

( ٣ ) كما أن هنالك العديد من القبائل التي تدعي انتسابها لأهل البيت (ع) ولا يعنينا البحث عن صحة مدعاهم وإنما نورد ذلك لدلالته على صدق قولنا حول عمق معرفة ومحبة الناس لأهل البيت (ع) ومن هذه القبائل العبدلاب ويذكرون أن نسبهم ينتهي إلى الإمام محمد التقي بن علي الهادي ، وقبيلة الركابية التي يرجع نسبها كما يذكرون إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم وهنالك أيضا قبيلة الجعافرة التي تنتسب إلى الإمام جعفر الصادق (ع) وغيرها من القبائل.

( ٤ ) الثقافة الشعبية :

إذا أراد أحد السودانيين أن يعبر عن مدى مظلوميته وبالغ الحيف الذي وقع به يقول : (أنا مظلوم ظلم الحسن والحسين) وربما لا يدرك البعض رغم ترداده لهذه المقولة من الذي ظلم الحسن؟ ومن الذي ظلم الحسين؟ وكيف ظلما إنما هو يردد جزءاً من الموروث الثقافي الشعبي في السودان ، ومن ناحية أخرى لا يكاد أحد منا في صغره لم يسمع شيئا من أبويه أو جدية عن سيف علي الكرار وشجاعة حيدر الكرار وشعر المدائح السوداني يفيض بهذه المعاني.

٥٦

الفصل الرابع

بنور فاطمة اهتديت

٥٧

٥٨

حوار في بداية الطريق

كنت قلقا جدا وأنا أحاول تجنب أي حوار مع ابن عمي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسد في سلوكه أدبا وأخلاقا ومنطقا مما جعلني أفكر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة رغم قناعتي بأن ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة ، أو ربما نزوة عابرة جعلته يتبنى هذه الأفكار الغربية.

قلقي كان نابعا من تخوفي لأن أتأثر بفكرته أو ربما أجد أنها تجبرني على الاعتراف بها وبالتالي أخالف ما عليه الناس وما وجدت عليه آبائي وسأكون شاذا في المجتمع وربما اتهمت بأني مارق من الدين كما أتهم.

ولكني تجاوزت كل ذلك وقررت أن أخوض معه حوارا لعلني أجد منفذا أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه خصوصا وأنني قرأت كتبا لا بأس بها ضد الشيعة والتشيع ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله فبدأت معه الحوار.

قلت له : الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيا فما هي الضمانات التي تمنعك من أن تغير مذهبك غدا؟

قال : الآية الكريمة تقول( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) وأنا من أنصار الدليل أينما مال أميل وقد أفرغت وسعي وتوصلت إلى أن الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت (ع) والدليل على صحته أن الأدلة التي يسوقها أصحابه مما اتفق عليه جميع المسلمين.

قلت : لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة؟

قال : أولاً : من قال لك أنه لا يوجد غيري! وثانياً وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلا على صحة أو خطأ ما توصلت إليه ، إن المسألة تكمن في نفس

٥٩

وجدان الحقيقة والحق ومن ثم اتباعه ولا شأن لي بغيري لأن الله يقول( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) (سورة المائدة / ٥).

قلت له : لو افترضنا صحة مذهب الشيعة ذلك يعني أن ٩٠ % من المسلمين على خطأ لأن كل المسلمين يؤمنون بمذهب أهل السنة والجماعة. فأين هذا التشيع من عامة الناس؟

قال : الشيعة ليست بهذه القلة التي تتصورها ، فهم يمثلون غالبية في كثير من الدول ، ثم إن الكثرة والقلة ليست معيارا للحق بل القرآن كثيرا ما يذم الكثرة يقول تعالى( ولكن أكثركم للحق كارهون ) (سورة الزخرف : آية / ٧٨) ويقول( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) (سورة الأعراف : آية / ١٧)( وقليل من عبادي الشكور ) ، (سورة سبأ : آية / ١٣) ، وبذلك لا تكون الكثرة دليلا على أنهم على حق.

أما التشيع كمنهج سماوي فهو موجود بدليل أنني شيعي ، وإذا وجه الإشكال إلى عدم انتشار التشيع فهذا يتوجه أيضا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أول دعوته وحتى وفاته إذ أن الإسلام لم يكن منتشرا ومع ذلك فهو الحق المنزل من قبل الله تعالى.

قلت متعجبا : وهل تريدني أن أسلم بأن آباءنا وأجدادنا الذين عرفناهم متدينين طريقهم غير الذي أمر به الله.

ابتسم قائلا : أنا لست في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين فالله أعلم بهم ولكن أذكرك بأن القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد يقول تعالى :( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) (سورة البقرة : آية / ١٧٠).

شعرت بأن الحوار قد أخذ منحى عاما وأن حجته بدت في هذا المجال قوية

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المرجع الوحيد الذي يرجع إليه معظم المسلمين في شؤونهم الدينية.

علل الأحكام:

وكشف الإمام محمد الجوادعليه‌السلام النقاب عن العلّة في تشريع بعض الأحكام وكان من بينها ما يلي:

١ - سئل محمد بن سليمان عن العلّة في جعل عدّة المطلّقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر، وصارت عدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، فأجابه الإمامعليه‌السلام عن ذلك:

( أمّا عدّة المطلّقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد، وأمّا عدة المتوفى عنها زوجها فإنّ الله تعالى شرط للنساء شرطاً، وشرط عليهن شرطاً فلم يجابهن فيما شرط لهنّ، ولم يجر فيما اشترط عليهنّ، أما ما شرط لهنّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول الله عزوجل:( للذين يؤلون من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر ) فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك اسمه إنّه غاية صبر المرأة عن الرجل، وأمّا ما شرط عليهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشراً فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند الإيلاء، قال الله عزّ وجل: ( يَتَرَبَّصنَ بأنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهُرٍ وعَشْراً ) ولم يذكر العشرة الأيام في العدّة إلاّ مع الأربعة أشهر، وعلم أنّ غاية المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع فمن ثمّ أوجبه عليها ولها.. )(١) .

٢ - سأل محمد بن سليمان الإمام الجواد عن العلّة فيما إذا قذف الرجل امرأته بجريمة الزنا تكون شهادته أربع شهادات بالله، وإذا قذفها غيره سواءً كان قريباً لها أم بعيد جلد الحدّ أو يقيم البيّنة على ما قال، فأجابهعليه‌السلام :

( قد سئل أبو جعفر - يعني الإمام الباقرعليه‌السلام - عن ذلك فقال: إن الزوج إذا

____________

١ - وسائل الشيعة: ج ١٥: ٤٥٢، علل الشرائع: ص ١٧٢، المحاسن: ص ٣٠٣.

١٠١

قذف امرأته فقال: رأيت ذلك بعيني كانت شهادته أربع شهادات بالله، وإذا قال: إنّه لم يره. قيل له أقم البيّنة على ما قلت: وإلاّ كان بمنزلة غيره، وذلك أنّ الله تعالى جعل للزوج مدخلاً لا يدخله غيره والد ولا ولد يدخله بالليل والنهار فجاز له أن يقول: رأيت، ولو قال غيره: رأيت قيل له: وما أدخلك المدخل الذي ترى هذا فيه وحدك، أنت متّهم فلابدّ من أن يقيم عليك الحدّ الذي أوجبه الله عليك.. )(١) .

هذا بعض ما أثر عنه في بيان علل بعض الأحكام التي شرعها الإسلام.

التبشير بالإمام المهدي:

والشيء المحقّق الذي لا يمكن إنكاره، ولا إخفاءه هو ما بشّر به الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أمّته بخروج المصلح العظيم الإمام المنتظر الذي يقيم اعوجاج الدين، وتحقّق في ظلال حكمه العدالة الاجتماعية الكبرى فيأمن المظلومون والمضطهدون، ويعمّ الحقّ جميع أنحاء الدنيا، ويقضى على الغبن الاجتماعي، وتزول عن الناس جميع أفانين الظلم والجور، ويكون حكمه الزاهر امتداداً ذاتياً لحكومة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحكومة الإمام أمير المؤمنين رائد الحقّ والعدل في الأرض.

إنّ الاعتقاد بضرورة خروج الإمام المنتظر ( عجّل الله فرجه ) جزء من رسالة الإسلام وعنصر هام من عناصر العقيدة الإسلامية، فإنّ الإسلام بمفهومه الصحيح لابدّ أن يسود الأرض، ولابدّ للمبادئ الوضعيّة من أن تتحطّم لأنّها جرّت المحن والخطوب للإنسان، وأخلدت له المشاكل والمتاعب، ولابدّ أن ينقذ الله عباده من شرورها واستبدادها على يد هذا الإمام العظيم.

وعلى أي حال فقد تواترت الأخبار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة الطاهرين

__________________

١ - وسائل الشيعة: ج ١٥ ص ٥٩٤.

١٠٢

بحتمية خروج قائم آل محمدعليه‌السلام وكان ممّن بشر به الإمام الجوادعليه‌السلام وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

١ - روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: دخلت على سيدي محمد بن عليّ بن موسىعليه‌السلام وأنا أريد أن اسأله عن القائم هل هو المهدي أو غيره؟ فابتدأني قائلاً:

( يا أبا القاسم إنّ القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً بالنبوة وخصّنا بالإمامة إنه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً وإنّ الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر كليمه موسى، إذ ذهب يقتبس ناراً فرجع وهو رسول نبي، وأضاف الإمام الجواد قائلاً: أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج )(١) .

٢ - روى عبد العظيم الحسني قال: قلت لمحمد بن علي: إنّي لأرجو أن يكون القائم من أهل بيت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً؟

فأجابه الإمام الجواد:

( يا أبا القاسم ما منّا إلاّ وهو قائم بأمر الله عزوجل، وهاد إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهّر الله عزوجل به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأها عدلاً وقسطاً هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، هو سميّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكنيّه، وهو تطوى له الأرض، ويذلّ له كل صعب ويجتمع إليه أصحابه عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي

__________________

١ - إكمال الدين وإتمام النعمة: ج ٢ ص ٤٨ - ٤٩، والكفاية والنصوص من مخطوطات مكتبة كاشف الغطاء العامّة.

١٠٣

الأرض وذلك قول الله عزوجل:( أينَ ما تكُونُوا يأتِ بكمُ اللهُ جميعاً إنّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ ) (١) . فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره )(٢) .

لقد أخبر الإمام الجواد عن بعض خصائص الإمام المنتظر من غياب شخصه وحجبه عن الأنظار، كما أخبر عن عدد أصحابه بعد ظهوره وأنّهم كعدد أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر فقد استطاع بتلك القلّة المتسلّحة بالإيمان والوعي أن يقضي على معالم الجاهلية، ويدمّر القوى الباغية، ويرفع كلمة الله عالية في الأرض، كذلك وصيّه الأعظم الإمام المنتظرعليه‌السلام فإنّه بأصحابه القلّة المؤمنة سوف يغيّر مجرى الحياة فيبسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي في ربوع الأرض ويحقّق للإنسانية أعظم الانتصارات، ويقضي على معالم الجاهلية التي طغت في هذه العصور التي خضع الناس فيها للمادة، ولم يعد للقيم الروحية والمثل الكريمة أي ظلّ في النفوس، أرانا الله الأيام المشرقة من أيام حكمه.

من واقع الإيمان:

للإمام أبي جعفر الجوادعليه‌السلام بعض النصائح الرفيعة الهادفة إلى الإيمان بالله والثقة به والتوكّل عليه ومن بينها:

١ - الثقة بالله:

قالعليه‌السلام : ( إنّ من وثق بالله أراه السرور، ومن توكّل على الله كفاه الأمور، والثقة بالله حصن لا يتحصّن فيه إلاّ المؤمن، والتوكّل على الله نجاة من كلّ سوء

__________________

١ - سورة البقرة: الآية ١٤٨.

٢ - إكمال الدين وإتمام النعمة: ج ٢ ص ٤٩، الكفاية والنصوص.

١٠٤

وحرز من كلّ عدو.. )(١) .

وحفلت هذه الكلمات الذهبية بأروع ما يحتاج إليه الناس في حياتهم وهو الثقة بالله خالق الكون وواهب الحياة، فمن وثق به أراه السرور، ومن توكّل عليه كفاه الأمور.

٢ - الاستغناء بالله:

ودعا الإمام الجوادعليه‌السلام إلى الاستغناء بالله تعالى، ورجائه دون غيره، قالعليه‌السلام :

( من استغنى بالله افتقر الناس إليه، ومن اتّقى الله أحبه الناس )(٢) .

إنّ من يستغني بالله فقد استغنى عن غيره، ويفتقر إليه الناس لأنّه يكون داعية ومصدر عطاء لهم.

٣ - الانقطاع إلى الله:

وحثّ الإمام الجواد على الانقطاع إلى الله الذي لا ينقطع فيضه ولا لطفه أمّا من ينقطع إلى غيره فقد باء بالخيبة والخسران قالعليه‌السلام :

( من انقطع إلى غير الله وكّله الله إليه.. ).

٤ - القصد إلى الله بالقلوب:

إنّ من واقع الإيمان القصد إلى الله تعالى في أعماق القلوب ودخائل النفوس ومن الطبيعي أنّ ذلك أبلغ بكثير من أتعاب الجوارح ومعاناتها بالأعمال وقد أعلنعليه‌السلام ذلك بقوله: ( القصد إلى الله تعالى بأعماق القلوب أبلغ من أتعاب الجوارح.. )(٣) .

__________________

١ - الفصول المهمة لابن الصباغ: ص ٣٧٣.

٢ - جوهرة الكلام: ص ١٥٠.

٣ - الدر النظيم، ورقة ٢٢٣.

١٠٥

مكارم الأخلاق:

ودعا الإمام الجوادعليه‌السلام إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وكان ممّا أوصى به:

١ - قالعليه‌السلام : ( من حسن خُلق الرجل كفّ أذاه، ومن كرمه برّه لمن يهواه، ومن صبره قلّة شكواه، ومن نصحه نهيه عمّا لا يرضاه، ومن رفق الرجل بأخيه ترك توبيخه بحضرة من يكره، ومن صدق صحبته إسقاطه المؤنة، ومن علامة محبّته كثرة الموافقة وقلّة المخالفة.. )(١) .

ووضععليه‌السلام بهذه الكلمات الرائعة الأسس لحسن الأخلاق ومكارم الأعمال، والدعوة إلى قيام الصداقة والصحبة على واقع من الفكر والمرونة.

٢ - قالعليه‌السلام : ( حسب المرء من كمال المروءة أن لا يلقى أحداً بما يكره.. ومن عقله إنصافه قبول الحقّ إذا بان له.. ).

قضاء حوائج الناس:

وكان ممّا دعا إليه الإمام الجوادعليه‌السلام السعي والمبادرة في قضاء حوائج الناس وذلك لما لها من الآثار التي تترتّب عليها والتي منها دوام النعم قالعليه‌السلام :

( إنّ لله عباداً يخصّهم بدوام النعم فلا تزال فيهم ما بذلوا لها، فإذا منعوها نزعها عنهم، وحوّلها إلى غيرهم.. )(٢) .

وأكّدعليه‌السلام ذلك في حديث آخر له قال:

( ما عظمت نِعم الله على أحد إلاّ عظمت إليه حوائج الناس، فمن لم يحتمل تلك

__________________

١ - الاتّحاف بحبّ الأشراف: ص ٧٧، الدرّ النظيم: ورقة ٢٢٣.

٢ - الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص ٢٥٨.

١٠٦

المؤنة عرّض تلك النعمة للزوال.. )(١) .

من آداب السلوك:

ووضع الإمام الجواد البرامج الصحيحة لحسن السلوك وآدابه بين الناس وكان من بين ما دعا له:

١ - قالعليه‌السلام : ( ثلاث خصال تجلب فيهن المودّة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدّة، والانطواء على قلب سليم.. )(٢) .

٢ - قالعليه‌السلام : ( ثلاثة من كنّ فيه لم يندم: ترك العجلة، والمشورة، والتوكّل على الله تعالى عند العزيمة، ومن نصح أخاه سرّاً فقد زانه، ومن نصحه علانية فَقَدَ شأنه.. )(٣) .

٣ - قالعليه‌السلام : ( عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه، وعنوان صحيفة السعيد حسن الثناء عليه، والشكر زينة الرواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الأدب زينة العقل، والجمال في اللسان، والكمال في العقل.. )(٤) .

وحفلت هذه الكلمات بأصول الحكمة وقواعد الأخلاق والآداب، ولو لم تكن له إلاّ هذه الكلمات لكانت كافية في التدليل على إمامته إذ كيف يستطيع شاب في مقتبل العمر أن يدلي بهذه الحكم الخالدة التي يعجز عن الإتيان بمثلها كبار العلماء.

__________________

١ - الفصول المهمة لابن الصبّاغ: ص ٢٥٨.

٢ - جوهرة الكلام: ص ١٥٠.

٣ - الإتّحاف بحبّ الأشراف: ص ٧٨.

٤ - الإتّحاف بحبّ الأشراف.

١٠٧

الدعوة إلى فعل المعروف:

ودعا الإمام الجوادعليه‌السلام إلى اصطناع المعروف قالعليه‌السلام : ( أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه؛ لأنّ لهم أجره وفخره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنّه يبتدأ فيه بنفسه )(١) .

من مواعظه:

وأثرت عن الإمام الجوادعليه‌السلام بعض المواعظ ومنها ما يلي:

١ - قالعليه‌السلام : تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والإصرار على الذنب أمن لمكر الله ( فَلا يَأْمَنُ مَكرَ اللهِ إلاَّ القَومُ الخاسِرُونَ )(٢) .

٢ - قال له رجل: أوصني، فأوصاهعليه‌السلام بهذه الوصية القيّمة:

( توسّد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم انّك لن تخلو من عين الله، فانظر كيف تكون.. )(٣) .

٣ - كتب الإمام الجوادعليه‌السلام إلى بعض أوليائه هذه الرسالة الموجزة وهي حافلة بالوعظ والإرشاد وقد جاء فيها:

( أمّا هذه الدنيا فإنّا فيها معترفون، ولكن من كان هواه هوى صاحبه ودان بدينه فهو معه حيث كان(٤) والآخرة هي دار القرار.. )(٥) .

__________________

١ - الدرّ النظيم.

٢ - تحف العقول: ص ٤٥٦.

٣ - نفس المصدر.

٤ - في نسخة: فإذا كان ميلك وهواك إليّ وتحبّني كنت معي حيث كنت أنا.

٥ - تحف العقول: ص ٤٥٦.

١٠٨

هذه بعض مواعظه الحافلة بالدعوة إلى العمل بما يقرّب الإنسان من ربّه، ويبعده عن عقابه، وفيها التحذير من اتّباع النزعات الشريرة القائمة في نفس الإنسان، وهي تدفعه إلى الهلكة والمخاطر، والانجراف في ميادين الرذائل والجرائم.

لقد عنى الإمام محمد الجوادصلى‌الله‌عليه‌وآله في وعظ الناس وإرشادهم كما عنى آباؤه بذلك، فقد كانت هذه الظاهرة من ألمع ما نقرأه في سيرتهم وحياتهم.

رسائله:

وتبادل الإمام الجوادعليه‌السلام مع جماعة من القائلين بإمامته جملة من الرسائل تناولت مختلف القضايا ومن بين تلك الرسائل:

١ - بعث الإمام الجوادعليه‌السلام رسالة إلى رجل من أهل الحيرة جاء فيها بعد البسملة:

( الحمد لله الذي انتجب من خلقه، واختار من عباده، واصطفى من النبيّين محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فبعثه بشيراً ونذيراً ودليلاً على سبيله الذي من سلكه لحق، ومن تقدّمه مرق، ومن عدل عنه محق، وصلى الله على محمد وآله.

أما بعد: فإني أوصي أهل الإجابة بتقوى الله الذي جعل لمن اتّقاه المخرج من مكروهه، إن الله عزّ وجل أوجب لوليّه ما أوجبه لنفسه ونبيّه في محكم كتابه بلسان عربي مبين.. وقد بلغني عن أقوام انتحلوا المودّة ونحلوا بدين الله، ودين ملائكته شكوا في النعمة، وحملوا أوزارهم وأوزار المقتدين بهم، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله وما ورثوه من أسلاف صالحين، أبصروا فلزموا، ولم يؤثروا دنيا حقيرة على آخرة مؤبّدة، فأين يذهب المبطلون؟ سوف يأتي عليهم يوم يضمحل عنهم فيه الباطل، وتنقطع أسباب الخدائع، وذلك يوم الحسرة إذ القلوب لدى

١٠٩

الحناجر(١) والحمد لله الذي يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.. )(٢) .

ولم تشر المصادر التي بأيدينا إلى أسماء هؤلاء الأشخاص الذين انحرفوا عن الحقّ، وضلوا عن الطريق، ولم نعلم الأسباب التي دعتهم إلى رفضهم لمبدأ أهل البيتعليهم‌السلام وانتحال دين آخر.

٢ - وردت على الإمام أبي جعفرعليه‌السلام رسالة رواها بكر بن صالح قال: كتب صهر لي إلى أبي جعفر الثاني رسالة جاء فيها: ( إنّ أبي ناصب خبيث الرأي، وقد لقيت منه شدّة وجهداً، فرأيك جعلت فداك في الدعاء لي، وما ترى جعلت فداك، أفترى أن أكاشفه أم أداريه؟ ).

فأجابه الإمامعليه‌السلام بعد البسملة:

( قد فهمت كتابك، وما ذكرت من أمر أبيك، ولست أدع الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خير لك من المكاشفة، ومع العسر يسراً، فاصبر إنّ العاقبة للمتّقين، ثبّتك الله على ولاية من تولّيت، نحن وأنتم وديعة الله التي لا تضيع ودايعه.. )(٣) .

ودلّت هذه الرسالة على لزوم البرّ بالأب، وإن كان ناصبياً مبغضاً لأهل البيتعليهم‌السلام وأمرت الولد بالصبر على ما يلقاه من أبيه من جهد وعناء، وبهذه الأخلاق الرفيعة كان الأئّمة يوصون أتباعهم بالتحلّي بها ليكونوا قدوة إلى الناس.

٣ - كان إبراهيم بن محمد وكيل الإمام الجوادعليه‌السلام بهمدان لتعليم الناس معالم دينهم، وقبض الحقوق الشرعية منهم، وإرسالها للإمامعليه‌السلام وكان قد بعث ما قبضه للإمامعليه‌السلام فأرسلعليه‌السلام له هذه الرسالة:

__________________

١ - هكذا في الأصل ولعلّ الصحيح بلغت الحناجر.

٢ - الدرّ النظيم: ورقة ٣٢٢ - ٣٢٣.

٣ - بحار الأنوار ج ١٢ ص ١١٢.

١١٠

( قد وصل الحساب تقبّل الله منك، ورضي عنهم، وجعلهم معنا في الدنيا والآخرة، وقد بعثت لك من الدنانير بكذا، ومن الكسوة بكذا، فبارك الله فيك، وفي جميع نِعم الله إليك، وقد كتبت إلى النصر أمرته أن ينتهي عنك، وعن التعرّض لك، ولخلافك، وأعلمته بوضعك عندي وكتبت إلى أيّوب أمرته بذلك أيضاً، وكتبت إلى موالي بهمدان كتاباً أمرتهم بطاعتك، والمصير إلى أمرك، وأن لا وكيل سواك.. )(١) .

وأعربت هذه الرسالة عن مزيد ثقة الإمامعليه‌السلام بوكيله إبراهيم، ودعمه الكامل له فقد اتّصل بالمناوئين له وأمرهم بطاعته، والمصير إلى أمره، وتقوية مركزه.. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض رسائله.

التوبة:

وفتح الله باب التوبة لعباده، ودعاهم إلى طهارة نفوسهم، وإنقاذهم ممّا اقترفوه من عظيم الجرائم والذنوب، وقد روى أحمد بن عيسى في نوادره عن أبيه أنّ رجلاً أربى دهراً(٢) ، فخرج قاصداً أبا جعفر الجوادعليه‌السلام ، وعرض عليه ما ارتكبه من عظيم الإثم فقالعليه‌السلام له:

( مخرجك من كتاب الله، يقول الله:( فَمَن جَاءَهُ مَوْعظَةٌ من ربِّه فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) والموعظة هي التوبة، فجهله بتحريمه، ثمّ معرفته به، فما مضى فحلال وما بقي فليستحفظ.. )(٣) .

أمّا الأموال الربوية التي أخذها - بغير حقّ - فيجب عليه أن يردّها إلى أربابها

____________

١ - بحار الأنوار: ج ١٢ ص ١٦٢.

٢ - أربى دهراً: أي كان يتعاطى الربا زمناً.

٣ - وسائل الشيعة: ج ١٢ ص ٤٣٣.

١١١

ولا تبرأ ذمّته منها بالتوبة والرواية ناظرة إلى الحكم التكليفي.

من وحي الله لبعض أنبيائه:

وروى الإمام الجوادعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام أنّ الله تعالى: ( أوحى إلى بعض الأنبياء أمّا زهدك في الدنيا فتعجلك الراحة، وأمّا انقطاعتك إليّ فيعزّزك بي، ولكن هل عاديت لي عدوّاً، وواليت لي وليّاً؟.. )(١) .

ما يحتاج إليه المؤمن:

وتحدّث الإمام الجوادعليه‌السلام ، عمّا يحتاج إليه المؤمن في هذه الحياة بقوله: ( المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممّن ينصحه )(٢) .

روائع الحكم والآداب:

للإمام أبي جعفر الجوادعليه‌السلام مجموعة من الكلمات الذهبية التي تُعدّ من مناجم التراث الإسلامي ومن أروع الثروات الفكرية في الإسلام، وقد حفلت بأصول الحكمة، وقواعد الأخلاق وخلاصة التجارب، وفيما يلي بعضها:

١ - قالعليه‌السلام : (لا تعاجلوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولنَ عليكم الأمل فتقسوا قلوبكم، وارحموا ضعفاءكم، واطلبوا الرحمة من الله بالرحمة منكم .. ).

وحفل هذا الحديث بأمور بالغة الأهمّية، وقد جاء فيه:

أ - النهي عن العجلة والتسرّع في الأمور قبل أن يتبيّن حالها، وذلك لما تجرّ من

__________________

١ - تحف العقول: ص ٤٥٥ - ٤٥٦.

٢ - تحف العقول: ص ٤٥٧.

١١٢

الندامة والخسران.

ب - النهي عن طول الأمل لأنّه ممّا يوجب قسوة القلب، والبعد عن الله.

ج - الحثّ على رحمة الضعفاء، والإحسان إلى المحرومين، فإنّ ذلك مفتاح لطلب الرحمة من الله.

٢ - قالعليه‌السلام : (ثلاثة يبلغن بالعبد رضوان الله تعالى: كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة، وثلاث من كنّ فيه لم يندم: ترك العجلة، والمشورة، والتوكّل على الله عند العزم .. ).

وحفل هذا الحديث بالدعوة لما يقرّب الإنسان من ربّه، فقد حثّ على كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة، وهذه الخصال يحبّها الله، ويبلغ بها العبد رضوانه تعالى كما حفل الحديث بما يسعد به الإنسان في هذه الحياة، فقد دعاه إلى الاتّصاف بهذه الخصال الثلاث وهي:

أ - ترك العجلة، فإنّ العجلة تسبّب للإنسان كثيراً من المشاكل والخطوب وقد قيل:    

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

 ب - المشورة في الأمور، وعدم الاستبداد فيها، فإنّ الإنسان كثير ما يخطئ.

ج - التوكّل على الله تعالى عند العزم على ما يريد أن يفعله الإنسان، والابتعاد عن التردّد الذي يسبّب القلق النفسي، والاضطراب في الشخصيّة.

٣ - قالعليه‌السلام : ( كيف يضيع من الله كافله، وكيف ينجو من الله طالبه؟.. ).

وفي هذا الحديث الشريف دعوة إلى الاتصال بالله، والوثوق بقدرته تعالى فإنّ من المستحيل أن يضيع من يكفله الله، كما إنّ من المستحيل أن ينجو من كان الله يطلبه.

١١٣

٤ - قالعليه‌السلام : ( يوم العدل على الظالم أشبه من يوم الجور على المظلوم.. ).

وحذّر الإمامعليه‌السلام من الظلم والاعتداء على الناس، فإنّ الله تعالى لابدّ أن ينتقم من الظالم إن عاجلاً أو آجلاً، وإنّ يوم العدل والقصاص الذي يمرّ عليه يكون شبيهاً في شدّته وقسوته باليوم الذي كان على المظلوم.

٥ - قالعليه‌السلام : (ما هدم الدين مثل البدع، ولا أزال الوقار مثل الطمع، وبالراعي تصلح الرعية، وبالدعاء تصرف البلية .. ).

وصوّرت هذه الكلمات بعض الجوانب الدينية، والاجتماعية والسياسية، وهي:

أ - البدع التي تلصق بالدين فإنّها تشوّه واقعه، وتلحق به الخسائر لأرصدته الروحية والفكرية.

ب - الأطماع التي تقضي على أصالة الشخص، وتجرّه إلى ميادين سحيقة من مجاهل هذه الحياة.

ج - صلاح الراعي ممّا يوجب صلاح الشعب، وتطوّره، وتنميته الفكرية والاجتماعية.

د - الدعاء إلى الله فإنّه من موجبات صرف البلاء ودفع القضاء.

٦ - قالعليه‌السلام : (اعلموا أنّ التقوى عزّ، وإنّ العلم كنز، وإنّ الصمت نور ).

ولاشك في هذه الحقائق التي أدلى بها الإمام العظيمعليه‌السلام فإنّ تقوى الله عز وشرف للإنسان، كما أن العلم من أعظم الكنوز وأثمنها في هذه الحياة، أمّا الصمت فإنه نور لأنّه يعود على صاحبه بأفضل النتائج ويجنّبه كثيراً من المشاكل والخطوب.

٧ - قالعليه‌السلام : (ما استوى رجلان في حسب ودين إلاّ كان أفضلهما عند الله أدبهما.. إلى أن قال: بقراءته القرآن كما أنزل، ودعائه الله من حيث لا يلحن، فإنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله .. ).

١١٤

وأشادت هذه الكلمات بالآداب وجعلتها من مميّزات الشخص، ومن موجبات القرب إلى الله تعالى، كما جعلت من صميم الآداب قراءة القرآن الكريم بعيداً عن اللحن، الذي يوجب كثيراً تشويه المعنى وتحريفه كما شجب الإمامعليه‌السلام اللحن وإنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله تعالى.

٨ - قالعليه‌السلام : (من شتم أجيب، ومن تهوّر أصيب .. ).

ما أروع هذه الكلمة التي حكت الواقع الاجتماعي، فإنّ من يتعرّض للناس بالسباب والشتم فإنه - حتماً - يُجاب بالمثل، كما أنّ المتهوّر يُصاب من جرّاء تهوّره بالهلاك والدماء.

٩ - قالعليه‌السلام : (العلماء غرباء لكثرة الجهّال بينهم .. ).

العلماء غرباء في المجتمع الذي يسوده الجهل فإنّ بضاعتهم لا يقيّم لها الجهّال وزناً بل ويزدرون بها، وأي غربة للعالم أعظم من هذه الغربة.

١٠ - قالعليه‌السلام : (من طلب البقاء فليُعدّ للمصائب قلباً صبوراً ).

إنّ من أراد البقاء وطول الحياة فليتسلّح بالصبر، ولا يجزع من المصائب والأحداث التي تمرّ به فإنّ الجزع يقضي على الإنسان، ويعرّضه للفناء والأسقام.

١١ - قالعليه‌السلام : (من عمل بغير علم كان ما أفسد أكثر ممّا أصلح ).

إنّ العمل بغير هدى وبغير علم لا يوصل إلى نتيجة صحيحة، ويكون مدعاة إلى الخطأ وعدم إصابة الواقع، ففي الحقيقة إنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.

١٢ - قالعليه‌السلام : (من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنّة ).

إنّ من يستفيد أخاً في الله فقد ظفر بأفضل النعم وذلك لما يستفيد منه من التوجيه نحو الخير والبعد عن الشرّ، وكلّ ما يزيّنه، ويبلغ به رضوان الله.

١٣ - قالعليه‌السلام : (من أطاع هواه أعطى عدوّه مناه ).

١١٥

إنّ إطاعة الهوى والانقياد للشهوات تحقّق للعدو أعظم أمانيه، فإن أطاع إبليس فقد تحقّق ما يبتغيه من حيلولة العبد عن ربّه، وإن كان غيره فإنّ إطاعة الهوى ممّا تسقط الشخص اجتماعياً، وهذا أعظم سرور الأعداء.

١٤ - قالعليه‌السلام : (راكب الشهوات لا تقال عثرته .. ).

إنّ من انقاد لشهواته صار أسيراً لها فإنّه لا تقال له عثرة، ولا يمنح العذر في ذلك.

١٥ - قالعليه‌السلام : (عزّ المؤمن غناه عن الناس .. ).

إنّ أهم ما يعتزّ به المؤمن إذا أغناه الله عن الناس، ولم تكن له أيّة مصلحة عندهم، فإنّه يكون حرّاً بذلك قد ملك عزّه وشرفه.

١٦ - قالعليه‌السلام : (لا يكن ولي الله في العلانية عدواً له في السرِّ ).

إنّ الذي يتولى الله ويؤمن به إنّما يكون صادقاً فيما إذا خاف الله في علانيّته وسرّه، أمّا إذا تولاّه أمام الناس، وعصاه سرّاً فإنّه لم يكن في إيمانه صادقاً وإنّما كان كاذباً ومنافقاً.

١٧ - قالعليه‌السلام : (اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحقّ، واصطبر عمّا لا تحب فيما يدعوك إلى الهوى. . ).

أمرعليه‌السلام الناس بالانقياد للحقّ وإن كان مخالفاً للرغبات والميول كما أمر بمجانبة الهوى والابتعاد عنه.

١٨ - قالعليه‌السلام : (قد عاداك من ستر عنك الرشد اتباعاً لما يهواه ).

عرضعليه‌السلام بذلك إلى بعض الأذناب والعملاء من أتباع السلطة الذين يحجبون عن المسؤولين ما تحتاج إليه الأمّة من الإصلاح الشامل، ففي الحقيقة هؤلاء هم الأعداء، وإن أظهروا المودّة والإخلاص.

١١٦

١٩ - قالعليه‌السلام : (إيّاك ومصاحبة الشرير فإنّه كالسيف المسلول، يحسن منظره، ويقبح أثره .. ).

حذّر الإمامعليه‌السلام من مصاحبة الشرير وذلك لما تترتّب على مصاحبته من الآثار السيئة التي منها الوقوع في المهالك، وإنّه مهما حسن سمته فهو كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره.

٢٠ - قالعليه‌السلام : (الحوائج تُطلب بالرجاء، وهي تنزل بالقضاء ).

إنّ حوائج الناس إنّما تُطلب بالرجاء من الله، وهي تنزل بقضائه، ولا دخل في ذلك لسعي الإنسان وإرادته.

٢١ - قالعليه‌السلام : (العافية أحسن عطاء .. ).

إنّ من أفضل نعم الله التي أسبغها على عباده هي الصحّة والعافية، فهي الثروة والغنى، ومن حرم العافية فقد حُرِم كلّ شيء في الحياة.

٢٢ - قالعليه‌السلام : (إذا نزل القضاء ضاق الفضاء .. ).

إنّ قضاء الله إذا نزل بالإنسان واختاره تعالى إلى جواره فإنّ الفضاء على سعته يضيق به.

٢٣ - قالعليه‌السلام : (لا تعادي أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين الله فإن كان محسناً لم يسلمه إليك، وإنّ كان مسيئاً فعلمك به يكفيكه فلا تعاده ).

وحذّر الإمامعليه‌السلام من العداوة للنّاس، وإنّ المسلم ينبغي أن يغرس في نفسه الحبّ والولاء لأخيه المسلم، وأمر بالفحص عمّن نعاديه فإن كانت علاقته قويّة مع الله تعالى فإنّه لا يسلمه لنا، وإن كان مسيئاً فعلمنا بإسائته يكفينا عن عدوانه.

٢٤ - قالعليه‌السلام : (التحفّظ على قدر الخوف، والطمع على قدر النيل .. ).

إنّ الحذر والتحفّظ من أي شيء كان إنّما هو على قدر الخوف منه، فالتحفّظ

١١٧

- مثلاً - من الوقوع في المعاصي إنّما هو على قدر الخوف من الله فإن كان الخوف قوياً فيمتنع الإنسان امتناعاً كلّياً من اقتراف أي ذنب أو مخالفة لله وإن كان ضعيفاً فإنه قد يقع في الإثم والحرام، كما أنّ الطمع في الشيء على قدر النيل منه، فإن كان النيل متوفّراً له كان الطمع قوياً وبالعكس.

٢٥ - قالعليه‌السلام : (كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة .. ).

إنّ أعظم دليل على خيانة المرء لنفسه وأمته أن يكون أميناً للخونة ومعيناً لهم.

٢٦ - قالعليه‌السلام : (ما شكر الله أحد على نعمة أنعمها عليه إلاّ استوجب بذلك المزيد قبل أن يظهر على لسانه .. ).

إنّ الله تعالى الذي بيده الخير والحرمان قد وعد - وهو لا يخلف الميعاد - من شكره بالمزيد قال تعالى:( لئن شكرتم لأزيدنّكم ) وهو يعطي المزيد فيما إذا نوى العبد الشكر قبل أن يظهره بلسانه.

٢٧ - قال الإمامعليه‌السلام : (من أمل فاجراً كان أدنى عقوبته الحرمان .. ).

لا ينبغي لأيّ إنسان يملك وعيه واختياره أن يأمّل غير خالقه، فإذا أمّل فاجراً فأقلّ ما يعاقب به الحرمان وعدم قضاء حاجته.

٢٨ - قال الإمامعليه‌السلام : (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبرّ أكثر من حياته بالعمر .. ).

يشير الإمامعليه‌السلام إلى الحياة المعنوية، فمن يقترف الذنوب والجرائم فهو ميّت بين الأحياء ومن يعمل البرّ ويسدي الخير لأمته وبلاده فهو حيّ ومخلّد ذكره وإن مات.

٢٩ - قالعليه‌السلام : (من أخطأ وجوه المطالب خذلته وجوه الحيل ).

يريد الإمامعليه‌السلام إنّ من يخطئ في سلوكه فإنّ وجوه الحيل وطرقه تخذله ولا يصل إلى نتيجة صحيحة.

١١٨

٣٠ - قال الإمامعليه‌السلام : (من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه ).

إنّ من يستحسن القبيح، أو يدافع عنه فإنّه يتحمّل وزره وإثمه ويكون شريكاً لفاعله.

٣١ - قال الإمامعليه‌السلام : (من كتم همّه سقم جسده .. ).

لا إشكال أنّ كتمان الهمّ، وعدم نشره بين الأهل والإخوان ممّا يوجب تدهوّر الصحّة وإذابة الجسم، وإشاعة السقم فيه.

٣٢ - قال الإمامعليه‌السلام : (أربع خصال تعين المرء على العمل: الصحّة، والغني، والعلم والتوفيق .. ).

هذه الأمور الأربعة: التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام من المقدّمات التمهيدية لإيجاد فعل الخير وتحقّقه في الخارج.

٣٣ - قال الإمامعليه‌السلام : (العامل بالظلم، والمعين عليه، والراضي به شركاء .. ).

إنّ هؤلاء الأصناف الثلاث كلّهم يشتركون في الإثم، والعقاب، فإنّ الظلم الذي هو أبغض شيء إلى الله تعالى يستند إلى بعض هؤلاء بالمباشرة، وإلى البعض الآخر بالرضا.

٣٤ - قال الإمامعليه‌السلام : (الصبر على المصيبة مصيبة للشامت ).

إنّ الصبر على المصيبة وعدم إبداء الجزع عليها تكون من أعظم المصائب على الشامت الذي يريد أن تحرق المصيبة من شمت به.

٣٥ - قال الإمامعليه‌السلام : (لو سكت الجاهل ما اختلف الناس ).

إنّ انطلاق الجاهل في المواضيع التي يجهلها هي التي أوجدت الاختلاف بين الناس.

٣٦ - قال الإمامعليه‌السلام : (مقتل الرجل بين فكّيه ).

١١٩

إنّ هلاك الإنسان بمنطقه فكثيراً ما يجرّ الكلام الدمار لصاحبه، وقد لاقى أحرار العالم القتل بسبب ما أدلوا به من النقد لحكّام الظلم والجور.

٣٧ - قال الإمامعليه‌السلام : (الناس أشكال، وكلّ يعمل على شاكلته ).

وألمت هذه الكلمة بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه الناس، فهم أصناف مختلفة في الميول والاتّجاهات، وكلّ يعمل وفق اتّجاهه الفكري، والعقائدي.

٣٨ - قال الإمامعليه‌السلام : (الناس إخوان فمن كانت اخوّته في غير ذات الله، فإنّها تعود عداوة، وذلك قوله عزّ وجل :( الأخِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَ الْمُتَّقِينَ ) .

إن الصداقة إذا لم تقم على أساس المحبة في الله وقامت على أساس المنافع والمصالح الشخصية فإنها – حتماً – تنقلب إلى العداوة والبغضاء حينما تتأثّر المصالح القائمة بينهما بمؤثرات أخرى.

٣٩ - قال الإمامعليه‌السلام : (كفر النعمة داعية للمقت .. ).

لا شك أن الكفر بالنعمة وعدم الشكر لها مما يوجب المقت عند الله والناس.

٤٠ - قال الإمامعليه‌السلام : (من جازاك بالشكر فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك ).

إن مجازاة المحسن بالشكر وإذاعة فضائله ومعروفه هي في الحقيقة أكثر من عطائه لأنها توجب له الذكر الحسن الذي هو أعظم مكسب للإنسان.

٤١ - قال الإمامعليه‌السلام : (من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه ).

إن موعظة الأخ والصديق إذا كانت سرّاً فإنّها تنمّ عن الإخلاص والصدق في الموعظة وإذا كانت علانية فإنها لا تخلو من التشهير به.

٤٢ - قال الإمامعليه‌السلام : (ما أنعم الله على عبد نعمة يعلم أنّها من الله إلاّ كتب الله

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276