وقعة صفّين

وقعة صفّين0%

وقعة صفّين مؤلف:
المحقق: عبد السلام محمّد هارون
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 690

  • البداية
  • السابق
  • 690 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12808 / تحميل: 4649
الحجم الحجم الحجم
وقعة صفّين

وقعة صفّين

مؤلف:
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
العربية

مال من مال الله ، وأنت من خزان الله عليه حتى تسلمه إلى ، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك إن استقمت. ولا قوة إلا بالله ».

فلما قرأ الكتاب قام زياد بن مرحب(١) فحمد الله وأثني عليه ثم قال :

« أيها الناس ، إن من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير ، إن أمر عثمان لا ينفع فيه العيان ، ولا يشفي منه الخبر ، غير أن من سمع به ليس كمن عاينه. إن الناس بايعوا عليا راضين به ، وأن طلحة والزبير نقضا بيعته على غير حدث ، ثم أذنا بحرب فأخرجا أم المؤمنين ، فسار إليهما فلم يقاتلهم وفي نفسه منهم حاجة ، فأورثه الله الأرض وجعل له عاقبة المتقين ».

ثم قام الأشعث بن قيس ، فحمد الله وأثني عليه ثم قال :

« أيها الناس إن أمير المؤمنين عثمان ولاني أذربيجان ، فهلك وهي في يدي ، وقد بايع الناس عليا ، وطاعتنا له كطاعة من كان قبله. وقد كان من أمره وأمر طلحة والزبير ما قد بلغكم. وعلي المأمون علي ما غاب عنا وعنكم من ذلك الأمر ».

فلما أتى منزله دعا أصحابه فقال : إن كتاب علي قد أوحشني ، وهو آخذ بمال أذربيجان(٢) ، وأنا لاحق بمعاوية. فقال القوم : الموت خير لك من ذلك. أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنبا لأهل الشام؟! فاستحيا فسار حتى قدم على علي ، فقال السكوني ـ وقد خاف أن يلحق بمعاوية :

إني أعيذك بالذي هو مالك

بمعاذة الآباء والأجداد

__________________

(١) في الإمامة والسياسة ١ : ٧٩ : « زياد بن كعب ».

(٢) في الإمامة والسياسة : « وهو آخذي بمال أذربيجان ».

٢١

مما يظن بك الرجال ، وإنما

ساموك خطة معشر أوغاد

إن اذربيجان التي مزقتها

ليست لجدك فاشنها ببلاد(١)

كانت بلاد خليفة ولا كها

وقضاء ربك رائح أو غاد

فدع البلاد فليس فيها مطمع

ضربت عليك الأرض بالأسداد(٢)

فادفع بمالك دون نفسك إننا

فادوك بالأموال والأولاد

أنت الذي تثني الخناصر دونه

وبكبش كندة يستهل الوادي

ومعصب بالتاج مفرق رأسه

ملك لعمرك راسخ الأوتاد

وأطع زيادا إنه لك ناصح

لا شك في قول النصيح زياد

وانظر عليا إنه لك جنة

ترشد ويهدك للسعادة هاد(٣)

ومما كتب به إلى الأشعث :

أبلغ الأشعث المعصب بالتا

ج غلاما حتى علاه القتير(٤)

يا ابن آل المرار من قبل الأ

م وقيس أبوه غيث مطير(٥)

قد يصيب الضعيف ما أمر

الله ويخطي المدرب النحرير

قد أتى قبلك الرسول جريرا

فتلقاه بالسرور جرير

وله الفضل في الجهاد وفي الهج‍

رة والدين ، كل ذاك كثير

إن يكن حظك الذى أنت فيه

فحقير من الحظوظ صغير

__________________

(١) اشنها ، أراد اشنأها ثم حذف الهمزة وعامله معاملة المعتل. والشناءة والشنآن : البغض

(٢) أي سد عليه الطريق فعميت مذاهبه ، وواحد الأسداد سد.

(٣) في الأصل : « يرشد ويهديك للسعادة » محرف.

(٤) القتير : الشيب ، أو أول ما يظهر منه. يقول : كان ملكا من صباه إلى مشيبه.

(٥) أبوه ، على الالتفات. ولو لم يلتفت لقال : « أبوك ».

٢٢

يا ابن ذي التاج والمبجل من كن‍

دة ، ترضى بأن يقال أمير؟

أذربيجان حسرة فذرنها

وابغين الذي إليه تصير

واقبل اليوم ما يقول علي

ليس فيما يقوله تخيير

واقبل البيعة التي ليس للنا

س سواها من أمرهم قطمير

عمرك اليوم قد تركت عليا

هل له في الذي كرهت نظير

ومما قيل على لسان الأشعث :

أتانا الرسول رسول علي

فسر بمقدمه المسلمونا

رسول الوصي وصي النبي

له الفضل والسبق في المؤمنينا

بما نصح الله والمصطفى

رسول الإله النبي الأمينا

يجاهد في الله ، لا ينثني ،

جميع الطغاة مع الجاحدينا(١)

وزير النبي وذو صهره

وسيف المنية في الظالمينا

وكم بطل ماجد قد أذاق

منية حتف ، من الكافرينا

وكم فارس كان سال النزال

فآب إلى النار في الآئبينا(٢)

فذاك على إمام الهدى

وغيث البرية والمقحمينا(٣)

وكان إذا ما دعا للنزال

كليث عرين يزين العرينا(٤)

__________________

(١) جاهد العدو : قاتله. وفي الكتاب :( جاهد الكفار والمنافقين ) .

(٢) سال : مخفف سأل. قال حسان ( انظر ديوانه ٦٧ والكامل ٢٨٨ ليبسك ) :

سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

(٣) المقحمون : الذين أصابتهم السنة والجدب ، فأخرجتهم من البادية وأقحمتهم الحضر. وفي الأصل : « المفخمينا » محرفة.

(٤) في الأصل : « بن ليث العرينا » وهو تحريف.

٢٣

أجاب السؤال بنصح ونصر

وخالص ود على العالمينا

فما زال ذلك من شأنه

ففاز وربي مع الفائزينا

ومما قيل على لسان الأشعث أيضا :

أتانا الرسول رسول الوصي

علي المهذب من هاشم

رسول الوصي وصي النبي

وخير البرية من قائم

وزير النبي وذو صهره

وخير البرية في العالم

له الفضل والسبق بالصالحات

لهدى النبي به يأتمى(١)

محمدا اعني رسول الإله

وغيث البرية والخاتم

أجبنا عليا بفضل له

وطاعة نصح له دائم

فقيه حليم له صولة

كليث عرين بها سائم

حليم عفيف وذو نجدة

بعيد من الغدر والماثم

وأنه قدم على علي بن أبي طالبعليه‌السلام بعد قدومه الكوفة ، الأحنف بن قيس ، وجارية بن قدامة ، وحارثة بن بدر ، وزيد بن جبلة ، وأعين بن ضبيعة ، وعظيم الناس بنو تميم ، وكان فيهم أشراف ، ولم يقدم هؤلاء على عشيرة من أهل الكوفة ، فقام الأحنف بن قيس ، وجارية بن قدامة ، وحارثة بن بدر ، فتكلم الأحنف فقال : « يا أمير المؤمنين ، إنه إن تك سعد لم تنصرك يوم الجمل فإنها لم تنصر عليك. وقد عجبوا أمس ممن نصرك وعجبوا اليوم ممن خذلك ، لأنهم شكوا في طلحة والزبير ، ولم يشكوا في معاوية. وعشيرتنا بالبصرة ، فلو بعثنا إليهم فقدموا إلينا فقاتلنا بهم العدو

__________________

(١) يأتمي ، أراد يأتمم أي يأتم ، فقلب إحدى الميمين ياء ، وكذلك يفعلون ، كما قالوا في التظنن التظني ، وفي التنصص التقصي. وفي الأصل : « يأتم » محرفة.

٢٤

وانتصفنا بهم ، وأدركوا اليوم ما فاتهم أمس! ». قال علي لجارية بن قدامة ـ وكان رجل تميم بعد الأحنف ـ : ما تقول يا جارية؟ قال : « أقول هذا جمع حشره الله لك بالتقوى ، ولم تستكره فيه شاخصا ، ولم تشخص فيه مقيما. والله لو لا ما حضرك فيه من الله لغمك سياسته ، وليس(١) كل من كان معك نافعك ، ورب مقيم خير من شاخص ، ومصراك خير لك ، وأنت أعلم ».

فكأنه [ بقوله ] : « كان معك » ربما كره إشخاص قومه عن البصرة(٢) .

وكان حارثة بن بدر أسد الناس رأيا عند الأحنف(٣) ، وكان شاعر بني تميم وفارسهم ، فقال علي : ما تقول يا حارثة؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا نشوب الرجاء بالمخافة. والله لوددت أن أمواتنا(٤) رجعوا إلينا فاستعنا بهم على عدونا. ولسنا نلقى القوم بأكثر من عددهم ، وليس لك إلا من كان معك ، وإن لنا في قومنا عددا لا نلقى بهم عدوا أعدى من معاوية ، ولا نسد بهم ثغرا أشد من الشام ، وليس بالبصرة بطانة نرصدهم لها ، ولا عدو نعدهم له.

ووافق الأحنف في رأيه ، فقال علي للأحنف : اكتب إلى قومك. فكتب الأحنف إلى بني سعد :

__________________

(١) في الأصل : « وليس كل من كان معك » والتكملة من الإمامة والسياسة لابن تتيبة ١ : ٧٥ ، وقد سقطت منها كلمة « ليس ».

(٢) في الأصل : « فكأنه كان معك وربما كره الخ » ، والوجه فيما أثبت.

(٣) أسد ، من سداد الرأى ، وهو استتامته وصحته. وفي الأصل : « أشد » بالمعجمة ، تحريف.

(٤) في الأصل : « أمراءنا » وصوابه من الإمامة والسياسة.

٢٥

« أما بعد فإنه لم يبق أحد من بني تميم إلا وقد شقوا برأي سيدهم غيركم شقيت سعد بن خرشة برأي ابن يثربي ، وشقيت حنظلة برأي لحيان(١) ، وشقيت عدي برأي زفر ومطر ، وشقيت بنو عمرو بن تميم برأي عاصم بن الدلف ، وعصمكم الله برأيي لكم حتى نلتم ما رجوتم ، وأمنتم ما خفتم ، وأصبحتم منقطعين من أهل البلاء ، لاحقين بأهل العافية. وإني أخبركم أنا قدمنا على تميم الكوفة فأخذوا علينا بفضلهم مرتين : بمسيرهم إلينا مع علي ، وميلهم إلى المسير إلى الشام. ثم أخمروا(٢) حتى صرنا كأنا لا نعرف إلا بهم ، فأقبلوا إلينا ولا تتكلوا عليهم ، فإن لهم أعدادنا من رؤسائهم ، وحنانا أن تلحق(٣) فلا تبطئوا ، فإن من العطاء حرمانا ، ومن النصر خذلانا. فحرمان العطاء القلة ، وخذلان النصر الإبطاء ، ولا تقضي الحقوق إلا بالرضا ، وقد يرضي المضطر بدون الأمل ».

وكتب معاوية بن صعصعة ، وهو ابن أخي الأحنف :

تميم بن مر إن أحنف نعمة

من الله لم يخصص بها دونكم سعدا

وعم بها من بعدكم أهل مصركم

ليالي ذم الناس كلهم الوفدا

سواه لقطع الحبل عن أهل مصره

فأمسوا جميعا آكلين بن رغدا

وإعظامه الصاع الصغير وحذفه

من الدرهم الوافي يجوز له النقدا

وكان لسعد رأيه أمس عصمة

فلم يخط لا الإصدار فيهم ولا الوردا

__________________

(١) في الأصل : « الحيان ».

(٢) أخمروا ، من الإخمار ، وهو الستر. أي غلبوا عليهم. وفي الأصل : « ثم أحمسوا » ، وفي الإمامة والسياسة : « ثم انحشرنا معهم ».

(٣) كذا. ولعلها : « وجنانا لن نلحق ». جعلهم كالجن. والجنان : جمع جان.

٢٦

وفي هذه الأخرى له مخض زبدة

سيخرجها عفوا فلا تعجلوا الزبدا

ولا تبطئوا عنه وعيشوا برأيه

ولا تجعلوا مما يقول لكم بدا

أليس خطيب القوم في كل وفدة

وأقربهم قربا وأبعدهم بعدا

وإن عليا خير حاف وناعل

فلا تمنعوه اليوم جهدا ولا جدا

يحارب من لا يحرجون بحربه

ومن لا يساوى دينه كله ردا(١)

ومن نزلت فيه ثلاثون آية

تسمية فيها مؤمنا مخلصا فردا

سوى موجبات جئن فيه وغيرها

بها أوجب الله الولاية والودا

فلما انتهى كتاب الأحنف وشعر معاوية بن صعصعة إلى بني سعد ساروا بجماعتهم حتى نزلوا الكوفة ، فعزت بالكوفة وكثرت ، ثم قدمت عليهم ربيعة ـ ولهم حديث ـ وابتدأ خروج جرير إلى معاوية.

نصر : عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن عامر الشعبي ، أن علياعليه‌السلام حين قدم من البصرة نزع جريرا همدان ، فجاء حتى نزل الكوفة ، فأراد علي أن يبعث إلى معاوية رسولا فقال له جرير : ابعثني إلى معاوية ، فإنه لم يزل لي مستنصحا وودا(٢) ، فآتيه(٣) فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ، ويجامعك على الحق ، على أن يكون أميرا من أمرائك ، وعاملا من عمالك ، ما عمل بطاعة الله ، واتبع ما في كتاب الله ، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك

__________________

(١) الرد : الزائف من الدراهم. وفي الأصل : « ريدا » ، ولا وجه له.

(٢) الود ، بكسر الواو : الصديق ، كالحب بمعنى المحبوب. والود ، بضم الواو : الصديق ، على حذف المضاف. وجاء في اللسان : « وفي حديث ابن عمر : إن أبا هذا كان ودا لعمر. هو على حذف المضاف ، تقديره كان ذا ود لعمر ، أي صديقا ».

(٣) في الأصل : « نأتيه » ، تحريف. وفي ح ( ١ : ٢٤٧ ) : « آتيه ».

٢٧

وولايتك ، وجلهم(١) قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألا يعصوني. فقال له الأشتر : لا تبعثه ودعه ، ولا تصدقه ، فو الله إني لأظن هواه هواهم ، ونيته نيتهم. فقال له علي : دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا. فبعثه علىعليه‌السلام وقال له حين أراد أن يبعثه : إن حولي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الدين والرأي من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك : « إنك من خير ذي يمن(٢) ». ايت معاوية بكتابي ، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا فانبذ إليه(٣) ، وأعلمه أني لا أرضى به أميرا ، وأن العامة لا ترضى به خليفة ».

فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية ، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه وقال : « أما بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين(٤) وأهل الحجاز ، وأهل اليمن ، وأهل مصر ، وأهل العروض وعمان ، وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا أهل هذه الحصون التي أنت فيها ، لو سال عليها سيل من أوديته غرقها. وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل ».

ودفع إليه كتاب علي بن أبي طالب ، وفيه :

__________________

(١) ح : « فجلهم » بالفاء.

(٢) من خير ذي يمن : أي من خير اليمن. وفي اللسان ( ٢٠ : ٣٤٩ ) : « ويقال أتينا ذا يمن ، أي أتينا اليمن ».

(٣) النبذ : أن يكون بينه وبين قوم هدنة فيخاف منهم نقض العهد ، فيلقي إليهم أنه قد نقض ما بينه وبينهم قبل أن يفجأهم بالقتال. ومنه قول الله :( وإما تخافن من قوم خيانة فانيذ إليهم على سواء ) .

(٤) الحرمان : مكة والمدينة. والمصران : البصرة والكوفة.

٢٨

بسم الله الرحمن الرحيم.

أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام(١) ؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علي ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد. وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما(٢) كان ذلك لله رضا ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه(٣) الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا. وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردهما ، فجاهدتهما. على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أحب الأمور إلى فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء. فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت الله(٤) عليك. وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على كتاب الله. فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك من الطلقاء(٥) الذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى. وقد أرسلت إليك

__________________

(١) في الأصل : « بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام » ، والوجه ما أثبت من ح. ( ١ : ٢٤٨ ).

(٢) ح : « إذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما ».

(٣) في الأصل : « ووليه » ، وأثبت الصواب من ح.

(٤) ح : « بالله ».

(٥) الطلقاء : جمع طليق ، وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلى سبيله. ويراد بهم الذين خلى عنهم رسول الله يوم فتح مكة وأطلقهم ولم يسترقهم.

٢٩

وإلى من قبلك(١) جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة. فبايع ولا قوة إلا بالله ».

فلما قرأ الكتاب قام جرير فقال :

الحمد لله المحمود بالعوائد(٢) ، المأمول منه الزوائد ، المرتجى منه الثواب المستعان على النوائب. أحمده وأستعينه في الأمور التي تخير دونها الألباب ، وتضمحل عندها الأسباب(٣) . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كل شئ هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بعد الفترة ، وبعد الرسل الماضية(٤) والقرون الخالية(٥) ، والأبدان البالية ، والجبلة الطاغية ، فبلغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وأدى الحق الذي استودعه الله وأمره بأدائه إلى أمته. صلى الله عليه وسلم من مبتعث ومنتجب(٦) .

ثم قال : أيها الناس ، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده ، فما ظنكم بمن غاب عنه. وإن الناس بايعوا عليا غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعه ثم نكثا بيعته على غير حدث. ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن

__________________

(١) كلمة : « وإلى من قبلك » ساقطة من ح.

(٢) العوائد : جمع عائدة ، وهي المعروف ، والصلة ، والفضل.

(٣) الأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى غيره. وفي الأصل : « الأرباب » ولا وجه له. وهذه الجملة ساقطة من ح.

(٤) ح : « بعد فترة من الرسل الماضية ».

(٥) الكلام بعد هذه الكلمة إلى : « الطاغية » ليس في ح.

(٦) منتجب ، بالجيم : مختار. وانظر ما سبق فى ص ١٠. ح : « من رسول ومبتعث ومنتخب ».

٣٠

ألا وإن العرب لا تحتمل السيف(١) . وقد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس. وقد بايعت العامة(٢) عليا. ولو ملكنا الله أمورنا(٣) لم نختر لها غيره ، ومن خالف هذا استعتب(٤) . فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس. فإن قلت : استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فإن هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين ، وكان لكل امرئ ما في يديه. ولكن الله لم يجعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل تلك أمورا موطأة ، وحقوقا ينسخ بعضها بعضا.

[ ثم قعد ] ، فقال معاوية : انظر وننظر ، واستطلع رأي أهل الشام.

فلما فرغ جرير من خطبته أمر معاوية(٥) مناديا فنادى : الصلاة جامعة. فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم قال :

الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا ، والشرائع للإيمان برهانا ، يتوقد قبسه(٦) في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده ، فأحلها أهل الشام(٧) ، ورضيهم لها ورضيها لهم ، لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره ، والذابين عن دينه

__________________

(١) ما بعد : « الفتن » إلى هنا ليس في ح.

(٢) ح : « الأمة ».

(٣) ح : « ولو ملكنا الله الأمور ».

(٤) استعتب : استقال مما فرط منه.

(٥) بدلها في ح : « فمضت أيام وأمر معاوية ».

(٦) القبس : النار ، أو الشعلة منها. وفي الأصل : « قابسه » صوابه من ح.

(٧) أي أحل الأرض المقدسة أهل الشام. وفي ح : « فأحلهم أرض الشام ». وما في الأصل أولى وأقوى.

٣١

وحرماته. ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما ، وفي سبيل الخيرات أعلاما ، يردع الله بهم الناكثين ، ويجمع بهم ألفة المؤمنين. والله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام ، وتباعد بعد القرب. اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا ، ويخيفون آمننا ، ويريدون هراقة دمائنا(١) ، وإخافة سبيلنا وقد يعلم الله أنا لم نرد بهم عقابا(٢) ، ولا نهتك لهم حجابا ، ولا نوطئهم زلقا. غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى ، وسقط الندى ، وعرف الهدى. حملهم على خلافنا البغي والحسد ، فالله نستعين عليهم(٣) . أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأني خليفة عثمان بن عفان عليكم(٤) ، وأني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط(٥) ، وأني ولي عثمان وقد قتل مظلوما. والله يقول :( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) . وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ».

فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان(٦) ، وبايعوه على ذلك ، وأوثقوا له على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره ، أو يفني الله أرواحهم(٧) . فلما أمسى معاوية وكان قد اغتم بما هو فيه ، قال نصر :

__________________

(١) الهراقة ، بكسر الهاء : الإراقة ، كما في نص القاموس. وضبطت في اللسان ضبط قلم مرة بالكسر ومرة بالفتح ، والأخيرة ليست من الصواب.

(٢) ح : « لا نريد لهم عقابا ».

(٣) ح : « حملهم على ذلك البغي والحسد فتستعين الله عليهم ».

(٤) ح : « وأمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم ».

(٥) الخزاية ، بالفتح : الاستحياء. أراد عمل ما يستحيا منه.

(٦) في الأصل : « إلى دم عثمان » وأنبت ما في ح.

(٧) في الأصل : « يغني » ، بالغين المعجمة ، تحريف. وفي ح : « أو تلحق أرواحهم بالله ».

٣٢

فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال : لما جن معاوية الليل واغتم وعنده أهل بيته ، قال :

تطاول ليلى واعترتني وساوسي

لات أتى بالترهات البسابس(١)

أتانا جرير والحوادث جمة

بتلك التي فيها اجتداع المعاطس(٢)

أكابده والسيف بيني وبينه

ولست لأثواب الدني بلابس(٣)

إن الشام أعطت طاعة يمنية

تواصفها أشياخها في المجالس

فإن يجمعوا أصدم عليا بجبهة(٤)

تفت عليه كل رطب ويابس

وإني لأرجو خير ما نال نائل

وما أنا من ملك العراق بآيس

وإلا يكونوا عند ظني بنصرهم

وإن يخلفوا ظني كف عابس(٥)

نصر ، قال : حدثني محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : واستحثه جرير بالبيعة ، فقال : يا جرير ، إنها ليست بخلسة ، وإنه أمر له ما بعده ، فأبلعني ريقي حتى أنظر. ودعا ثقاته فقال له عتبة بن أبي سفيان ـ وكان نظيره ـ : اجتمعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص ، وأثمن له بدينه فإنه من قد عرفت ، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته وهو لأمرك أشد اعتزالا إن ير فرصة(٦) .

__________________

(١) الترهات البسابس : الباطل. وربما قالوا ترهات البسابس ، بالإضافة.

(٢) اجتداع المعاطس : أي قطع الأنوف ، وذاك علامة الإذلال.

(٣) أكابده : من قولهم كابد الأمر مكابدة وكبادا : قاساه. ح : « أكايده » بالمثناة التحتية. وفي اللسان : « وكل شيء تعالجه فأنت تكيده ».

(٤) قال ابن أبي الحديد : « الجبهة ههنا الخيل ». وقال ابن منظور : « الجبهة الخيل لا يفرد لها واحد ».

(٥) كذا ورد البيت في الأصل. وهو ساقط من ح.

(٦) ح : « أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه ».

٣٣

مبتدأ حديث عمرو بن العاص

نصر ، عن عمر بن سعد ومحمد بن عبيد الله قالا : كتب معاوية إلى عمرو وهو بالبيع(١) من فلسطين : « أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك. وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة(٢) ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني. أقبل أذاكرك أمرا(٣) ».

قال : فلما قرئ الكتاب على عمرو استشار ابنيه عبد الله ومحمدا فقال : ابني ، ما تريان؟ فقال عبد الله : أرى أن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وهو عنك راض ، والخليفتان من بعده ، وقتل عثمان وأنت عنه غائب. فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون(٤) حاشية لمعاوية على دنيا قليلة ، أوشك أن تهلك فتشقى فيها(٥) . وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإن تصرم هذا الأمر وأنت فيه خامل(٦) تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من أياديها ، واطلب بدم عثمان ، فإنك قد استنمت فيه إلى بني أمية(٧) . فقال عمرو : أما أنت

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) ح ( ١ : ١٣٦ ) : « في نفر من أهل البصرة ».

(٣) ح : « أذا كرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله ».

(٤) ح : « ولا تزيد على أن تكون حاشية ».

(٥) ح : « أوشكتما أن تهلكا فتساويا في عقابها ».

(٦) ح : « غافل ».

(٧) استنام : سكن. وفي الأصل : « استلمت » ، وفي ح : « فإنه سيقوم بذلك بنو أمية ».

٣٤

يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر فيه ، فلما جنة الليل رفع صوته وأهله ينظرون(١) إليه فقال :

تطاول ليلى للهموم الطوارق

وخول التي تجلو وجوه العواتق(٢)

وإن ابن هند سائلي أن أزوره

وتلك التي فيها بنات البوائق(٣)

أتاه جرير من على بخطة

أمرت عليه العيش ذات مضائق

فإن نال مني ما يؤمل رده

وإن لم ينله ذل ذل المطابق(٤)

فوالله ما أدري وما كنت هكذا

أكون ، ومهما قادني فهو سابقي(٥)

أخادعه إن الخداع دنية

أم اعطيه من نفسي نصيحة وامق

أو اقعد في بيتي وفي ذاك راحة

لشيخ يخاف الموت في كل شارق

وقد قال عبد الله قولا تعلقت

به النفس إن لم يعتلقني عوائقي(٦)

وخالفه فيه أخوه محمد

وإني لصلب العود عند الحقائق(٧)

فقال عبد الله : ترحل الشيخ(٨) . قال : ودعا عمرو غلاما له يقال له وردان ، وكان داهيا ماردا ، فقال : ارحل يا وردان. ثم قال : حط يا وردان

__________________

(١) ح : « وأهله يسمعون ».

(٢) خول : ترخيم خولة لغير نداء ، وهي من أعلامهن. والعانق : الشابة أول ما تدرك.

(٣) البوائق : الدواهي ، جمع بائقة. ح : « سألني أن أزوره ».

(٤) المطابق من المطابقة ، وهي المشى في القيد.

(٥) ح : « فهو سابقي ».

(٦) ح : « تقتطعني عوائقي ».

(٧) الحقيقة : ما يحق على المرء أن يحميه.

(٨) ترحل : ارتحل. أراد أنه استعد للرحيل إلي الدار الآخرة. ح : « رحل الشيخ ».

٣٥

[ ثم قال : ارحل يا وردان ، احطط يا وردان(١) ]. فقال له وردان : خلطت أبا عبد الله ، أما إنك إن شئت أنبأتك بما نفسك. قال : هات ويحك. قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : علي معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض من الآخرة ، فأنت واقف بينهما. قال : فإنك والله(٢) ما أخطأت ، فما ترى يا وردان؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت [ في ] عفو دينهم(٣) وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال : الآن لما شهدت العرب مسيري إلى معاوية(٤) ؟ فارتحل وهو يقول :

يا قاتل الله وردانا وقدحته

أبدى لعمرك ما في النفس وردان(٥)

لما تعرضت الدنيا عرضت لها

بحرص نفسي وفي الأطباع إدهان(٦)

نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها؟(٧)

والمرء يأكل تبنا وهو غرثان

أما علي فدين ليس يشركه

دنيا وذاك له دنيا وسلطان

فاخترت من طمعي دنيا على بصر

وما معي بالذي أختار برهان

إني لأعرف ما فيها وأبصره

وفي أيضا لما أهواه ألوان

لكن نفسي تحب العيش في شرف

وليس يرضى بذل العيش إنسان

أمر لعمر أبيكم غير مشتبه

والمرء يعطس والوسن وسنان

__________________

(١) التكملة من ح والإمامة والسياسة ( ١ : ٨٣ ).

(٢) ح : « قاتلك الله ». ,لق. (٣) العفو : الفضل. وكلمة : « في » ليست في الأصل ، وهي ثابتة في ح.

(٤) في الإمامة والسياسة : « الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية ».

(٥) في الأصل : « ومزحته » ، صوابه من ح واللسان « قدح ». والقدحة ، بالكسر. من قولهم اقتدح الأمر : دبره ونظر فيه.

(٦) الإدهان : المصانعة والغش واللين.

(٧) في الأصل : « يقلبها » ، والصواب من ح.

٣٦

فسار حتى قدم إلى معاوية وعرف حاجة معاوية إليه ، فباعد [ ه من نفسه ] وكايد كل واحد منهما صاحبه ، فلما دخل عليه قال : يا أبا عبد الله ، طرقتنا في ليلتنا هذه ثلاثة أخبار ليس منها ورد ولا صدر. قال : وما ذاك؟ قال : ذاك أن محمد بن أبي حذيفة قد كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين. ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم إلى ليتغلب على الشام. ومنها أن عليا نزل الكوفة متهيئا للمسير إلينا. قال : ليس كل ما ذكرت عظيما. أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه خيلا تقتله أو تأتيك به ، وإن فاتك لا يضرك. وأما قيصر فأهد له من وصفاء الروم ووصائفها ، وآنية الذهب والفضة ، وسله الموادعة ، فإنه إليها سريع. وأما على فلا والله يا معاوية ما تسوي(١) العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء ، وإن له في الحرب لحظا(٢) ما هو لأحد من قريش ، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه.

نصر : عمر بن سعد بإسناده قال : قال معاوية لعمرو : يا أبا عبد الله ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه وقتل الخليفة(٣) ، وأظهر الفتنة ، وفرق الجماعة ، وقطع الرحم. قال عمرو : إلى من؟ قال : إلى جهاد علي ، قال : فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير(٤) ، مالك هجرته

__________________

(١) في الأصل : « تستوي » والوجه ما أثبت.

(٢) وقد تقرأ : « لحظا » باللام الداخلة على : « حظا » ، وانظر ما سيأتي في كلام عمرو لمعاوية ص ٣٨ س ٢.

(٣) يعني عثمان بن عفان.

(٤) يقال : هما كعكمي البعير ، للرجلين يتساويان في الشرف. والعكمان : عدلان يشدان على جانبي الهودج بثوب. وفي اللسان ( ١٥ : ٣٠٩ ) وأمثال الميداني ( ٢ : ٢٨٩ ) والحيوان ( ٣ : ١٠ ) : « كعكمي بعير ».

٣٧

ولا سابقته ، ولا صحبته ولا جهاده ، ولا فقهه وعلمه والله إن له مع ذلك حدا وجدا(١) ، وحظا وحظوة ، وبلاء من الله حسنا ، فما تجعل لي إن شايعنك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال : حكمك. قال : مصر طعمة. قال : فتلكأ عليه معاوية.

قال نصر : وفي حديث غير عمر قال : قال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال : دعني عنك. قال معاوية : إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو : لالعمر الله ، ما مثلي يخدع ، لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية : ادن مني برأسك أسارك. قال : فدنا منه عمرو يساره ، فعض معاوية أذنه وقال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحدا غيري وغيرك؟(٢)

ثم رجع إلى حديث عمر(٣) ، قال : فأنشأ عمرو يقول(٤) :

__________________

(١) الحد : الحدة والنشاط والسرعة في الأمور والمضاء فيها. والجد ، بفتح الجيم : الحظ. وبالكسر : الاجتهاد. وفي الأصل : « وحدودا » ولا وجه له. وفي ح : « ووالله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد من غيره ، ولكني قد تعودت من الله تعالى إحسانا وبلاء جميلا ».

(٢) قال ابن أبي الحديد بعد هذا : « قلت : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى : قول عمرو له : دعنا عنك ، كناية عن الإلحاد بل تصريح به. أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات. قالرحمه‌الله : وما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط في الإلحاد والزندقة ، وكان معاوية مثله. ويكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي ، وأن معاوية عض أذن عمرو. أين هذا من أخلاق عليعليه‌السلام وشدته في ذات الله ، وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة ».

(٣) يعني عمر بن سعد الراوي.

(٤) في الأصل : « فأنشأ وهو يقول » ، صوابه في ح.

٣٨

معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل

بذلك دنيا(١) فانظرن كيف تصنع

فان تعطني مصرا فأربح بصفقة

أخذت بها شيخا يضر وينفع

وما الدين والدنيا سواء وإنني

لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع

ولكني أغضى الجفون وإنني

لأخدع نفسي والمخادع يخدع

وأعطيك أمرا فيه للملك قوة

وإني به إن زلت النعل أضرع(٢)

وتمنعني مصرا وليست برغبة(٣)

وإني بذا الممنوع قدما لمولع

قال : أبا عبد الله ، ألم تعلم أن مصرا مثل العراق؟ قال : بلى ، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق وقد كان أهلها بعثوا بطاعتهم إلى علي. قال : فدخل عتبة بن أبي سفيان فقال : أما ترضى أن نشتري عمرا بمصر إن هي صفت لك. فليتك لا تغلب على الشام. فقال معاوية : يا عتبة ، بت عندنا الليلة. قال : فلما جن على عتبة الليل رفع صوته ليسمع معاوية ، وقال :

أيها المانع سيفا لم يهز

إنما ملت علي خز وقز(٤)

__________________

(١) ح ( ١ : ١٣٧ ) : « ولم أنل به منك دنيا ».

(٢) ح : « وألفي به أن زلت النعل أصرع ».

(٣) في الأصل : « ولست نزعته » والصواب من ح. قال ابن أبي الحديد تعليقا على هذا البيت : « قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ : كانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر ، فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنيا لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه ».

(٤) القز من الثياب أعجمي معرب ، وهو الذي يسوى منه الإبريسم. وفي الأصل : ( بز ) ، والبز : الثياب ، أو ضرب منها. وأثبت ما في ح.

٣٩

إنما أنت خروف ماثل(١)

بين ضرعين وصوف لم يجز

أعط عمرا إن عمرا تارك

دينه اليوم لدنيا لم تحز(٢)

يا لك الخير فخذ من دره

شخبه الأولى وأبعد ما غرز

واسحب الذيل وبادر فوقها(٣)

وانتهزها إن عمرا ينتهز

أعطه مصرا وزده مثلها

إنما مصر لمن عز وبز

واترك الحرص عليها ضلة

واشبب النار لمقرور يكز(٤)

إن مصرا لعلى أو لنا

يغلب اليوم عليها من عجز(٥)

فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو وأعطاها إياه. قال : فقال له عمرو : ولي الله عليك بذلك شاهد؟ قال له معاوية : نعم لك الله على بذلك ، لئن فتح الله علينا الكوفة. قال عمرو :( والله على ما نقول وكيل ) . قال : فخرج عمرو ومن عنده فقال له ابناه : ما صنعت؟ قال : أعطانا مصر [ طعمة ]. قالا : وما مصر في ملك العرب؟ قال : لا أشبع الله بطونكما إن لم يشبعكما مصر. قال : فأعطاها إياه ، وكتب له كتابا ، وكتب معاوية : « على أن لا ينقض شرط طاعة » ، وكتب عمرو : « على ألا تنقض طاعة شرطا(٦) ». وكايد كل

__________________

(١) ماثل : قائم. وفي الأصل وح : « مائل ».

(٢) في الأصل : « لم تجز » والصواب من ح.

(٣) الفوق ، بالضم ، هنا : الطريق الأول.

(٤) الكزاز : داء يأخذ من شدة البرد وتعتري منه رعدة. وفي الأصل : « يكن » محرفة.

(٥) في الأصل : « ولنا » وأثبت ما في ح. وفي الأصل : « من عجن » تحريف.

(٦) في الأصل : « ولا ينقض طاعة شرطا » وأثبت ما في ح. وانظر الكامل للمبرد ١٨٤ ليبسك.

٤٠