التنبيه بالمعلوم

التنبيه بالمعلوم27%

التنبيه بالمعلوم مؤلف:
المحقق: محمود البدري
الناشر: مكتبة الإعلام الإسلامي
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 214

التنبيه بالمعلوم
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29135 / تحميل: 6908
الحجم الحجم الحجم
التنبيه بالمعلوم

التنبيه بالمعلوم

مؤلف:
الناشر: مكتبة الإعلام الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

٦ - إذا تساويا في عدد الشهود سمعت دعوى من كانت شهوده أقوى عدالة مع يمينه.

أفتى بذلك فقهاء الطائفة بقولهم: (وهكذا، لو تساويا في العدد وتفاضلا في العدالة، رجح بالعدالة، وهو إذا كانت إحداهما أقوى عدالة)(١) .

وقال صاحب كتاب (الخلاف)(٢) إن الطائفة أجمعت على ذلك، وكذلك الروايات الواردة في هذا الصدد تثبت ما قال وقد ذكر هذه الرواية:

عن أبي بصير، قال سألت [الإمام] أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم ويقيم الذي في يده الدار البينة أنّه ورثها عن أبيه لا يدري كيف كان أمرها، فقال: (أكثرهما بينة يستحلف ويدفع إليه) وذكر أن علياًعليه‌السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البينة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم، ولم يبيعوا ولم يهبوا. وأقام هؤلاء البينة أنّهم أنتجوها على مذودهم، لم يبيعوا ولم يهبوا، فقضى بها لأكثرهم بينة واستحلفهم(٣) .

٧ - لا تسمع دعوى المدّعى عليه مع وجود الشاهدين للمدّعي.

أفتى بذلك صاحب كتاب (الخلاف) بقوله: ( مسألة ٦: إذا شهد شاهدان بما يدعيه المدّعي، فقال المشهود عليه احلفوه لي مع شاهديه، لم يحلف)(٤) .

____________________

(١) الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٣٣٣، مختلف الشيعة للعلامة الحلي ٨: ٣٦٧.

(٢) راجع الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٣٣٤.

(٣) الكافي للشيخ الكليني ٧: ٤١٨ ب الرجلين يدعيان فيقيم كل واحد منهما البينة ح١، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ٦٤ - ٦٥ ب حكم المدعيين في حق يقيم كل واحد منهما البينة على أنه له ح٣٣٤٤، الإستبصار للشيخ الطوسي ٣: ٤٠ ب ٢١ الشاهدين يشهدان على رجل بطلاق امرأته وهو غائب فيحضر الرجل وينكر الطلاق ح٦، وكذلك تهذيب الأحكام ٦: ٢٣٤ ب ٩٠ البينتين يتقابلان أو يترجح بعضها على بعض وحكم القرعة ح٦، وسائل الشيعة للحر العاملي ٢٧: ٢٤٩ ب ١٢ حكم تعارض البينتين، وما ترجح به أحدهما، وما يحكم به عند فقد الترجيح ح١.

(٤) الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٣٣٥.

٤١

مستدلاً بذلك بأنه لا دليل شرعي يثبت طلب المدّعى عليه والأصل براءة ذمة المدّعي من اليمين.

وكذلك للخبر الوارد عن ابن عباس: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه) فمن جعل البينة واليمين في جانب واحد من طرفي الدّعوى - إما المدّعي أو المدّعى عليه - فقد ترك الخبر.

٨ - إذا كان المدّعى به في يد المدّعى عليه وأقام المدّعي البينة على أنه له وأقام المدّعى عليه شاهدان فالحكم أن ينتزع الشيء من يد المدّعى عليه ويسلم للمدّعي لأن البينة عليه.

ذكر ذلك فقهاء الطائفة بقولهم: (إذا ادعى رجل على رجل عقاراً أو حيواناً أو غيره، وأقام بذلك البينة، وأقام الذي في يده شاهدين، فإن الحكم فيه أن يخرج الشيء من يد مالكه إلى المدّعي لأن البينة عليه)(١) .

____________________

(١) فقه الرضا لابن بابويه: ٢٦١، المقنع للشيخ الصدوق: ٣٩٩، مختلف الشيعة للعلامة الحلي ٨: ٣٦٩، مستند الشيعة للمحقق النراقي ١٧: ٣٨٥، تكملة العروة الوثقى للسيد اليزدي ٢: ١٤٩، جامع المدارك للسيد الخوانساري ٦: ٨٨، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ٦٦. مستدرك الوسائل للميرزا النوري ١٧: ٣٧٢ ح٣، بحار الأنوار للعلامة المجلسي ١٠١: ٢٩١ ح ٥ مع اختلاف يسير.

٤٢

النقطة الثانية: أسباب عدم سماع الدّعوى

١ - لا تسمع دعوى المدّعى عليه عند قيام دعوى عليه حتى تنتهي دعوى المدّعي بصدور الحكم.

جاء ذلك في كتاب (شرائع الإسلام)(١) بما نصه: (السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى لم تسمع حتى يجيب عن الدّعوى وينتهي الحكومة، ثم يستأنف هو).

٢ - لا تسمع الدّعوى إذا فقد أحد أركانها الثلاثة وهم المدّعي والمدّعى عليه والمدّعى به.

أفتى بذلك فقهاء الطائفة حيث اشترط بعضهم بقوله: (أن يكون المدّعى به معلوماً بوجه، فلا تسمع دعوى المجهول المطلق …إلى آخره)، وقال: (أن يكون للمدّعي طرف يدعي عليه، فلو ادعى أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فلا تسمع، كما لو أراد إصدار حكم من فقيه يكون قاطعاً للدّعوى المحتملة…إلى آخره)(٢) .

٣ - لا تسمع الدّعوى في الحدود بدون بينة لأنه ليس فيها يمين على المنكر.

فأفتى بذلك بعض الفقهاء(٣) بقوله: (الثالثة: لا تسمع الدّعوى في الحدود مجردة عن البينة، ولا يتوجه اليمين على المنكر).

٤ - لا تسمع الدّعوى لو تحقق كذب البينة.

قال ذلك صاحب كتاب شرائع الإسلام)(٤) بقوله: (الأولى: لو شهد للمدّعي أن الدابة ملكه منذ مدة، فدلت سنها على أقل من ذلك قطعاً أو أكثر سقطت البينة لتحقق كذبها).

٥ - إذا شهد للمدّعي شاهدان وطلب المدّعى عليه يمينه لم يُصْغَ له.

أفتى بذلك صاحب كتاب (الخلاف) بقوله: ( مسألة ٦: إذا شهد شاهدان بما يدعيه المدّعي، فقال المشهود عليه احلفوه لي مع شاهديه، لم يحلف)(٥) .

مستدلاً بذلك بأنه لا دليل شرعي يثبت طلب المدّعى عليه والأصل براءة ذمة المدّعي من اليمين.

____________________

(١) شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧١.

(٢) تحرير الوسيلة للسيد الخميني ٢: ٤١١ - ٤١٢.

(٣) رياض المسائل لسيد علي الطباطبائي٢: ٤٠٥، قواعد الأحكام للعلامة الحلي ٣: ٤٤٥، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧٩، كشف الرموز للفاضل الآبي ٢: ٥٠٣، مسالك الإفهام للشهيد الثاني ١٣: ٤٩٦، كفاية الأحكام للمحقق السبزواري: ٢٧١

(٤) جواهر الكلام للشيخ الجواهري ٤٠: ٤٧٤، تحرير الأحكام للعلامة الحلي ٢: ١٩٦، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٩٠١ - ٩٠٢، مسالك الإفهام للشهيد الثاني ١٤: ١١٦، كتاب القضاء للسيد الگبايگاني ٢: ٢٢.

(٥) الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٣٣٥.

٤٣

وكذلك للخبر الوارد عن ابن عباس: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه) فمن جعل البينة واليمين في جانب واحد من طرفي الدّعوى - إما المدّعي أو المدّعى عليه - فقد ترك الخبر.

٦- تسقط الدّعوى إذا رد المدّعى عليه اليمين، ولم يكن للمدّعي شاهدان، ولم يحلف، لعدم ترتب الأثر على دعواه.

دليلنا في ذلك ما ذكره الفقهاء(١) بقولهم: (فإن رد المدّعى عليه اليمين على المدّعي إذا لم يكن للمدّعي شاهدان فلم يحلف فلا حق له).

٧ - إذا رضي المدّعي بيمين المدّعى عليه سقط حقه بذلك وإن أقام البينة بعد ذلك.

ذكر ذلك فقهاء الطائفة بقوله: (إن حلف المنكر (المدّعى عليه) سقطت الدّعوى)(٢) .

والظاهر أنهم استدلوا على هذه الفتوى بهذه الروايات وهي:

أ - عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قبله، ذهبت اليمين بحق المدّعي فلا دعوى له، قلت له: وإن كان عليه بينة عادلة؟ قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكان اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه)(٣) .

ب - عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده قال: (إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين شيئاً وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه)(٤) .

____________________

(١) فقه الرضا لابن بابويه: ٢٦٠، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ٦٦، مستدرك الوسائل للميرزا النوري ١٧: ٣٧٠، بحار الأنوار للعلامة المجلسي ١٠١: ٢٦٨ ح٢٥، المقنع للشيخ الصدوق: ٣٩٦، وكذلك الهداية: ٢٨٥، المبسوط للشيخ الطوسي ٨: ٢١٥.

(٢) الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٢٩٤، مختلف الشيعة للعلامة الحلي ٨: ٣٩٦ - ٣٩٧، المهذب البارع لابن فهد الحلي ٤: ٤٧٢، مستمسك العروة للسيد الحكيم ١٢: ١٨٦ - ١٨٧، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧٣، جواهر الكلام للشيخ الجواهري ٤٠: ١٧١، الحدائق الناضرة للمحقق البحراني ١٨: ٤١١، مستند الشيعة للمحقق النراقي ١٧: ٢٠٦، كتاب القضاء للشيخ الآشتياني: ١١٢، جامع المدارك للسيد الخوانساري ٦: ٣١ مع اختلاف الألفاظ.

(٣) الكافي للشيخ الكليني ٧: ٤١٧ ب من رضي باليمين فحلف له فلا دعوى له بعد اليمين وإن كانت له بينة ح ١، التهذيب للشيخ الطوسي ٦: ٢٣١ ب ٨٩ كيفية الحكم والقضاء ح١٦، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ٦١ ب بطلان حق المدّعي بالتحليف وإن كان له بينة ح ٣٣٤٠.

(٤) الكافي للشيخ الكليني ٥: ١٠١ ب آداب اقتضاء الدين ح ٣، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ١٨٥ ح٣٦٩٥ زاد في ذلك بقوله (وإن حبسه فليس له أن يأخذ منه شيئاً وإن تركه … إلى آخر الحديث )، وسائل الشيعة للحر العاملي ٢٣: ٢٨٦ ب ٤٨ ح ١.

٤٤

وقد قيّدت هذه الروايات سقوط الدّعوى في هذا الفرض بشرطين وهما: الأول: طلب المدّعي اليمين من المدّعى عليه، والآخر: حلف المدّعى عليه، وإلاّ فلا تسقط الدّعوى، وله حق المطالبة بما يدّعي به.

وهناك روايات أخرى تدل على المطلوب، ولكن بمضامين أخرى مثل: (إن خانك فلا تخنه، ولا تدخل فيما عبته فيه)(١) ، أو (ليس له أن يطلب منه)(٢) ، أو (إن كان قد ظلمك فلا تظلمه)(٣) تركناها مخافة التطويل.

النقطة الثالثة: أدلّة مشروعية الدعوى

أولاً: الكتاب الكريم

جاءت مشروعية الدّعوى في طريق القرآن الكريم بقوله تعالى في الآيات الكريمة الآتية:

١- قوله تعالى:( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) (٤) . أي يمتنعون عن ذلك ويرفضون، لأنهم يعلمون أن الحق سوف يكون عليهم.

____________________

(١) الكافي للشيخ الكليني ٥: ٩٨ ب قصاص الدين ح ١، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ١٨٥ ح٣٦٩٦، الاستبصار للشيخ الطوسي٣: ٥٢ ب ٢٧ ح ٥، وكذلك تهذيب الأحكام ٦: ١٩٧ ح ٦٢ وص٣٤٨ ح ١٠١.

(٢) الكافي للشيخ الكليني ٧: ٤١٨ ب من رضي باليمين فحلف له فلا دعوى له بعد اليمن وإن كان له بينة ح ٣، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦: ٢٣٢ ح ٥٦٧ و٨: ٢٩٤ ح١٠٨٦.

(٣) الكافي للشيخ الكليني ٧: ٤٣٠ - ٤٣١ ح١٤، الاستبصار للشيخ الطوسي ٣: ٥٣ - ٥٤ ح ١٧٥، وكذلك تهذيب الأحكام ٦: ٢٨٩ ح ٨٠٢، و٨: ٢٩٣ ح ١٠٨٤، وسائل الشيعة للحر العاملي ٢٧: ٢٤٦ - ٢٤٧ ب ١٠ ح ٢.

(٤) سورة النور: آية ٤٨.

٤٥

وهذه صفة المنافقين حيث يقول صاحب كتاب (التبيان) في حقهم: (إذا دعوا إلى رسول الله ليحكم بينهم في شيء اختلفوا فيه وامتنعوا ظلماً لأنفسهم، وكفروا بنبيهم، وأما إذا كان الحكم لصالحهم يأتوا إليه مذعنين أي منقادين من غير إكراه)(١) .

من خلال فهمنا لمنطوق الآية الكريم يظهر أن هناك دعوى قائمة بين من دعتهم هذه الآية إلى حكم الله ورسوله، وهذا يثبت لنا مشروعية الدّعوى فيها من خلال الأمر الصادر الذي مفاده الرجوع عند المخاصمة إلى الله تعالى ورسوله ليحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، والرجوع إلى الله تعالى أي إلى ما جاء في كتابه الكريم من سن القوانين بعد أن يفسره رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ - قوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (٢) .

يقول صاحب كتاب (التبيان)، وكذلك صاحب كتاب (مجمع البيان)(٣) أن الحكم الذي دعوا فيه إلى الكتاب يحتمل ثلاثة أشياء:

أحدهما: أن يكون نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني: أن يكون أمر إبراهيم فإن دينه الإسلام.

الثالث: أن يكون حداً من الحدود (الرجم) لأنهم نازعوا في ذلك.

____________________

(١) التبيان للشيخ الطوسي ٧: ٤٥٠، مجمع البيان للشيخ الطبرسي ٧: ٢٦٣ بتصرف.

(٢) سورة آل عمران: آية ٢٣.

(٣) التبيان للشيخ الطوسي ٢: ٤٢٥، مجمع البيان للشيخ الطبرسي ٢: ٢٦٥.

٤٦

ونحن لا يهمنا هذا التفصيل، لأنه ليس غرضنا التفسير، بل يهمنا ثبوت مشروعية الدّعوى في هذه الآية الكريمة، وقد ثبت بأمر الأفراد المتنازعة بالرجوع إلى كتاب الله تعالى ليكون حكماً بينهم، ومعنى هذا أن هناك دعوى قائمة مشروعة.

٣ - قوله تعالى:( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) . أي الفائزون برضا الله لطاعتهم لرسوله وانقيادهم لأوامره ونواهيه وهي مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام كما جاء ذلك في تفسير (التبيان)(٢) .

وهذه الآية الثالثة التي تدل على ثبوت مشروعية الدّعوى لما تحمله من تشويق وترغيب على أن من يقبل أن يتحاكم إلى الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما هو إلاّ دليل على صحة إيمانه بالله تعالى وبرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه سوف يكون من الفائزين في الآخرة.

٤ - قوله تعالى:( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (٣) . أي إصابة الحكم الحق وذلك بالطلب من المدّعي البينة ومن المدّعى عليه اليمين(٤) .

إن الله تعالى أمر نبيه داودعليه‌السلام أن يحكم بين المتخاصمين وأن يثبت على المدّعي البينة واليمين على المدّعى عليه لدليل على صحة مشروعية الدّعوى وثبوتها.

____________________

(١) سورة النور: آية ٥١.

(٢) راجع التبيان للشيخ الطوسي ٧: ٤٥٢، مجمع البيان للشيخ الطبرسي ٧: ٢٦٣.

(٣) سورة ص: آية ٢٠.

(٤) راجع التبيان للشيخ الطوسي ٨: ٥٥٠، مجمع البيان للشيخ الطبرسي ٨: ٣٤٩.

٤٧

ثانياً: السنّة الشريفة

وردت أحاديث كثيرة بصدد مشروعية الدّعوى نقتصر على بعض منها:

١ - ما جاء في الكافي(١) : عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم حكم في أموالكم أن(إن الله البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أن البينة على من ادعي عليه واليمين على من ادعى لكيلا يبطل دم امرئ مسلم).

٢ - وأيضاً في الكافي(٢) : عن بريد بن معاوية عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: سألته عن القسامة فقال: (الحقوق كلها البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه إلاّ في الدم خاصة، فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلاً منهم فوجدوه قتيلاً فقالت الأنصار: إن فلان اليهودي قتل صاحبنا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للطالبين: أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيدوه برمته فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قسامة خمسين رجلاً أقيدوه برمته، فقالوا: يا رسول الله ما عندنا شاهدان من غيرنا وإنا لنكره أن نقسم على ما لم نره فوداه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عنده وقال: إنما حقن دماء المسلمين بالقسامة لكي إذ رأى الفاجر الفاسق فرصة من عدوه حجزه مخافة القسامة أن يقتل به فكف عن قتله وإلاّ حلف المدّعى عليه قسام خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً وإلاّ أغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدعون).

٣ - ما جاء في مَنْ لا يحضره الفقيه(٣) : عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال قال: قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام : (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه).

____________________

(١) الكافي للشيخ الكليني ٧: ٣٦١ - ٣٦٢ ح٦.

(٢) ن. م ٧: ٣٦١ ح ٤.

(٣) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ٢ - ٣ ب من يجوز التحاكم إليه ومن لا يجوز ح ٣٢١٦.

٤٨

٤ - وفي مَن لا يحضره الفقيه أيضاً(١) : عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: (أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقٍّ فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا قال الله بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ… الآية ) (٢) ).

ثالثاً: الإجماع

لقد انعقد الإجماع منذ بداية الإسلام وإلى يومنا هذا - بل منذ نشأت الاختلافات بين أفراد النوع البشري وإلى أن تنتهي الدنيا - على مشروعية الدّعوى وجوازها، وذلك لضرورتها في الحياة.

حيث من خلالها يتم قطع الخصومات وانتهاء المنازعات بين الأطراف لكي يسود العالم الأمن والأمان والسعادة.

وهذه كتب الفقهاء ومؤلفاتهم تثبت ذلك، فهي لا تخلوا من كتاب يسمى ب- (كتاب القضاء) الذي يثبتون فيه معنى القضاء وما يتعلق به من مسائل لا مجال لذكرها فمن أراد فليراجع الكافي، والوسائل، وكتب العلامة، والمحقق، والجواهري، وغيرهم.

رابعاً: العقل

لقد ثبت عقلاً أن حل النزاعات بين الناس وحسم أمر الدّعوى حسن، وكل أمر حسن مرغوب فيه عند العقل، ويحكم بلزوم فعله. وبهذا نثبت صحة مشروعية الدّعوى.

____________________

(١) ن .م: ٤ ب من يجوز التحاكم إليه ومن لا يجوز ح ٣٢٢٠.

(٢) سورة النساء: آية ٦٠.

٤٩

المطلب الثالث: ترجيح أحد المدّعيين وجعله مدعياً

هناك جملة من المرجحات التي يمكن أن تجعل أحد المدّعيين مدّعياً والآخر مدّعى عليه، وهي كالآتي:

١ - الترجيح بالأسبقية:

إذا قدم الخصمان دعوى على بعضهما البعض، قدمت دعوى الأسبق.

أفتى بذلك فقهاء الطائفة حيث قالوا: (إذا تحاكم خصمان فادعى كل واحد منهما على صاحبه دعوى، فالذي يدعي بالدّعوى أولاً أحق من صاحبه أن يسمع منه)(١) .

٢ - الترجيح بالجلوس على يمين المدّعي الآخر:

إذا تشاح الخصمان في الابتداء سمعت دعوى من كان على يمين خصمه.

ذكر ذلك الفقهاء بقولهم: (أن الخصمين إذا ابتدرا الدّعوى بين يدي الحاكم، وتشاحا في الابتداء بها وجب على الحاكم أن يسمع من الذي عن يمين خصمه)(٢) .

الدليل على ذلك: هو إطباق الطائفة عليه، كما عبّر الشريف المرتضى بذلك(٣) .

ثم قال الشريف الرضي معللاً ذلك بقوله: (لأن مّنْ خالف ما ذكرناه إنما اعتمد على الرأي والاجتهاد دون النص والتوقيف، ومثل ذلك الرجوع فيه إلى التوقيف أولى وأحرى)(٤) .

____________________

(١) فقه الرضا لابن بابويه: ٢٦٠، المقنعة للشيخ المفيد: ٧٢٥، الوسيلة لابن حمزة الطوسي: ٢١١، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧١، مستند الشيعة للمحقق النراقي ١٧: ١٢٣ - ١٢٤ مع اختلاف بالألفاظ.

(٢) فقه الرضا لابن بابويه: ٢٦٠، المقنعة للشيخ المفيد: ٧٢٥، الانتصار للشريف المرتضى: ٤٩٥، السرائر لابن إدريس ٢: ١٥٧، مختلف الشيعة للعلامة الحلي ٨: ٣٩٤، مسالك الإفهام للشهيد الثاني ١٣: ٤٣٤، مستند الشيعة للمحقق النراقي ١٧: ١٢٣، الوسيلة لابن حمزة الطوسي: ٢١١، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٤: ٨٧١ مع اختلاف بالألفاظ.

(٣) الانتصار للشريف الرضي: ٤٩٥.

(٤) الانتصار للشريف المرتضى: ٤٩٥.

٥٠

وبعدها اعترض على ابن الجنيد - عندما فسّر رواية ابن محبوب، التي رواها عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، والتي نصها: (قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام)(١) - قائلاً: (قال ابن الجنيد: يحتمل أن يكون أراد بذلك المدّعي، لأن اليمين مردودة إليه، قال ابن الجنيد: إلاّ أن ابن محبوب فسّر ذلك في حديث رواه عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنه قال: (إذا تقدمت مع خصم إلى والٍ أو قاضٍ فكن عن يمينه - يعني عن يمين الخصم -)(٢) ، وهذا تخليط من ابن الجنيد، لأن التأويلات إنما تدخل بحيث تشكل الأمور، ولا خلاف بين القوم أنه إنما أراد يمين الخصم دون اليمين التي هي القسم)(٣) .

ونحن نرى ما يراه الشريف المرتضى لأنه هو الأرجح والأصح، لما للرواية من وضوح في هذه المسألة.

٣ - تقديم من له بيّنة وإلاّ فالترجيح بالقرعة:

إذا ادعى كلاهما أنه أحضر صاحبه للدّعوى فإن كان لأحدهما بينة سمع منه، وإلاّ أقرع بينهما.

أفتى بذلك صاحب كتاب (الوسيلة) بقوله: (وإذا حضر خصمان للتداعي لم يخل حالهما من أربعة أوجه: … أو ادعى كلاهما أنه قد أحضره للدّعوى، … والثاني: إن كان لأحدهما بينة حكم عليها، وإن لم يكن أقرع بينهما)(٤) .

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ١٤ ب آداب القضاء ح ٣٢٤٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٣: ١٤ ب آداب القضاء ح ٣٢٤١، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦: ٢٢٧ ب ٨٨ آداب الحكام ح ٨، وسائل الشيعة للحر العاملي ٢٧: ٢١٨ ب ٥ يستحب للإنسان أن يقوم عن يمين خصمه ح ١.

(٣) الانتصار للشريف المرتضى: ٤٩٥ - ٤٩٦.

(٤) الوسيلة لابن حمزة الطوسي: ٢١١.

٥١

٤ - تقديم من له شاهدان على من له شاهد ويمين:

إذا كان لأحد المدّعيين شاهدان وللآخر شاهد وامرأتان تساويا في الدّعوى، وأما إذا كان لأحدهما شاهدان والآخر شاهد ويمينه فلا.

أفتى بذلك الشيخ الطوسي والقمي(١) بقولهما: (إذا كان مع أحدهما شاهدان، ومع الآخر شاهد وامرأتان، تقابلتا بلا خلاف بيننا وبين الشافعي. فأما إن كان مع أحدهما شاهدان، ومع الآخر شاهد واحد، وقال: أحلف مع شاهدي، فإنهما لا يتقابلان).

واستدلا على ذلك بالإجماع على تقابلهما، وبأن التهمة تلحق من حلف لنفسه، ولا تلحق الشاهدين لأنهما يحلفان لغيرهما.

٥ - الترجيح بالقرعة عند تعارض البينتان:

إذا تساوت البينتان ولا مرجّح لأحدهما أقرع بينهما، فمن خرج اسمه حلف وأعطي الحق له، لأن القرعة لكل أمر مشكل، وهذا منه.

ذكر ذلك الفقهاء(٢) بقولهم: ( إذا تعارضت البينتان على وجه لا ترجيح لإحداهما على الأخرى، أقرع بينهما، فمن خرج اسمه حلف وأعطي الحق).

مستدلين عليه بالإجماع على أن القرعة لكل أمر مشكل، وهذا منه، مضافاً إلى ذلك الروايات الكثيرة التي ذكرنا بعضها في بحث القرعة فلا داع للإعادة.

____________________

(١) الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٣٣٤ وكذلك المبسوط ٨: ٢٥٨ - ٢٥٩، جامع الخلاف والوفاق للقمي: ٦١٦.

(٢) الخلاف للشيخ الطوسي ٦: ٣٣٧ وكذلك المبسوط ٨: ٢٤١، الجامع للشرايع ليحيى بن سعيد الحلي: ٥٣٥، جامع الخلاف والوفاق للقمّي: ٦١٣، مختلف الشيعة للعلامة الحلي ٨: ٣٦٨، مسالك الإفهام للشهيد الثاني ١٢: ٥٥٤، تحرير الوسيلة للسيد الخميني ٢: ٢٦١.

٥٢

المبحث الثاني: أنواع الدّعوى

لربما يتساءل البعض عن مورد هذا البحث وما هو ربطه بالبحث ؟

إنا لسنا بصدد ذكر أنواع الدّعوى، بل الهدف من هذا البحث هو ذكر بعض أنواع الدعاوى التي يمكن قبولها من المدّعي لصحتها والفرق بينها وبين التي لا يمكن قبولها لفسادها.

ونحن لو تتبعنا كلمات الفقهاء بما كتبوه في الدعاوى لوجدناهم يقسمون الدّعوى من

ناحية الصحة والفساد إلى قسمين وهما:

القسم الأول: الدّعوى الصحيحة

وهي التي استوفت الشروط بحيث يمكن سماعها.

القسم الثاني: الدّعوى الفاسدة

وهي التي لم تستوف الشروط كلها أو بعضها بحيث لا يمكن سماعها.

ونحن نكتفي بذكر نماذج من الدعوى الصحيحة، ومن خلالها تتضح لنا الدعوى الفاسدة لأنه كل ما ترتب على الدعوى الصحيحة من شروط ترتب عكسه للدعوى الفاسدة.

٥٣

نماذج من الدعوى الصحيحة

أولاً: دعوى البيعان

هناك مسائل خلافية تحدث بين البائع والمشتري حول المبيع وما يرتبط به، ونحن هنا نذكر بعضاً من هذه المسائل وهي:

١ - إذا كان الخلاف بين البائع والمشتري في مقدار ثمن المبيع أو جنسه فهنا فرعان:

أ - إذا كان المثمن تالفاً فالقول قول المشتري مع يمينه.

ب - إذا كان المثمن سالماً فالقول قول البائع مع يمينه.

ذكر ذلك فقهاء الطائفة بقولهم: (إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن أو جنسه، فالقول قول المشتري مع يمينه إن كانت السلعة تالفة، وإن كانت سالمة فالقول قول البائع مع يمينه)(١) .

وقد استدل بعضهم على ذلك بعدة أدلة منها:

أولاً - إجماع الفرقة على ذلك.

ثانياً - هناك عدة روايات في هذا الصدد نذكر منها:

الرواية الأولى: عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (البينة على مّنْ ادّعى واليمين على مّنْ أنكر)(٢) ، وفي غيرها (واليمين على مَنْ ادّعي عليه)(٣) .

____________________

(١) الخلاف للشيخ الطوسي ٣: ١٤٧، جواهر الفقه لابن البراج: ٥٧ - ٥٨، غنية النزوع لابن زهرة الحلبي: ٢٣١، السرائر لابن إدريس الحلي ٢: ٣١٨ - ٣١٩، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٢: ٢٨٧، المختصر النافع للمحقق الحلي: ١٢٠، الجامع للشرايع ليحيى بن سعيد الحلي: ٢٧١، كشف الرموز للفاضل الآبي ١: ٤٥٢، جامع الخلاف والوفاق للقمي: ٢٧٨، مختلف الشيعة للعلامة الحلي ٥: ٢٩٦، المهذب البارع لابن فهد الحلي ٢: ٣٦٢، كفاية الأحكام للمحقق السبزواري: ٩٧، جواهر الكلام للشيخ الجواهري ٢٣: ١٨٤ بتصرف.

(٢) وسائل الشيعة للحر العاملي ٢٧: ٢٩٣ ب ٢٥ وجوب الحكم بملكية صاحب اليد حتى يثبت خلافه وجواز الشهادة لصاحب اليد بالملك وأنه لا يجب على القاضي تتبع أحكام من قبله وحكم اختلاف الزوجين في متاع البيت ح٣.

(٣) الكافي للشيخ الكليني ٧: ٤١٥ ب أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ح١، دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ٢: ٥٢٠ - ٥٢١ ح١٨٥٩، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦: ٢٢٩ ب ٨٩ كيفية الحكم والقضاء ح٤، وسائل الشيعة للحر العاملي ٢٧: ٢٣٣ ب٣ أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه في المال وحكم دعوى القتل والجرح وأن بينة المدعى عليه لا تقبل مع التعارض وغيره ح١.

٥٤

والمشتري مدّعى عليه وهو المنكر، لأنهما - أي البائع والمشتري - اتفقا على العقد وانتقال الملك، والمشتري معترف بذلك، والبائع يدّعي عليه الزيادة وهو ينكرها، فوجب أن يكون القول قول المشتري، ولا يلزمنا ذلك مع بقاء السلعة أن القول قول البائع، لأنا لو خلينا وظاهر الخبر لقلنا بذلك.

ولكن روي عن أئمتناعليهم‌السلام أنهم قالوا: (القول قول البائع) فحملنا على أنه مع بقاء السلعة(١) .

الرواية الثانية - مضافاً إلى ما ذكره المستدلون على هذه المسألة فهناك رواية لأحمد بن محمد بن أبي نصر، ومع أنها مرسلة لكن منجبرة بعمل الأصحاب بها، كما يذكر ذلك بعض الفقهاء(٢) ، وهي كالآتي:

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : في رجل يبيع الشيء فيقول المشتري: هو بكذا وكذا، بأقل ما قال البائع ؟ قال: (القول قول البائع مع يمينه إذا كان الشيء قائماً بعينه)(٣) .

وقد ردّ العلامة الحلي هذه الرواية بكتابه ( مختلف الشيعة) قائلاً: (إنه منقطع السند فلا حجة فيه)(٤) ، وهو مردود بانجبارها بعمل الأصحاب كما ذكرنا ذلك.

وتردد في أصل المسألة بكتابه (تحرير الأحكام) قائلاً: (وعندي في ذلك تردد)(٥) .

____________________

(١) راجع الخلاف للشيخ الطوسي ٣: ١٤٨، جواهر الفقه لابن البراج: ٥٧ - ٥٨، غنية النزوع لابن زهرة الحلبي: ٢٣١، رياض المسائل لسيد علي الطباطبائي ٨: ١٥٠ بتصرف.

(٢) راجع كشف الرموز للفاضل الآبي ١: ٤٥٢، جامع المقاصد للمحقق الكركي ٤: ٤٤١، مسالك الإفهام للشهيد الثاني ٣: ٢٥٨، كفاية الأحكام للمحقق السبزواري: ٩٧، رياض المسائل لسيد علي الطباطبائي ٨: ١٥٠، جواهر الكلام للشيخ الجواهري ٢٣: ١٨٤.

(٣) الكافي للشيخ الكليني ٥: ١٧٤ ب إذا اختلف البائع والمشتري ح ١، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٧: ٢٦ ب٢ عقود البيع ح ٢٦ وص ٢٢٩- ٢٣٠ ب ٢١ من الزيادات ح٢١، وسائل الشيعة للحر العاملي ١٨: ٥٩ ب ١١ حكم اختلاف البائع والمشتري في قدر الثمن ح ١.

(٤) راجع مختلف الشيعة للعلامة الحلي ٥: ٢٩٦.

(٥) راجع تحرير الأحكام للعلامة الحلي ٢: ٣٦٢.

٥٥

٢ - إذا اختلف البائع والمشتري في نوع المبيع، وليس هناك بينة، فالقول قول البائع مع يمينه بأنه ما باع المشتري ما يدّعيه، والقول قول المشتري مع يمينه بأنه ما اشترى من البائع ما يدّعيه، ولا يجب عليهما في الحلف النفي والإثبات.

فإن حلف البائع إنه ما باع المشتري ما يدّعيه، بقي هذا المبيع على ملكه يتصرف به كيف يشاء. وإما المشتري، فإن حلف أنه ما اشترى من البائع ما يدّعيه، فإن كان ما يدّعيه البائع في يد المشتري، فلا يجوز للبائع مطالبته به لأنه يدّعيه، وإن كان ما يدّعيه البائع بيده فلا يحق له التصرف به، لأنه معترف بأنه للمشتري وأن ثمنه في ذمته، نعم يجوز له بيعه وأخذ مقدار ثمنه منه.

ذكر ذلك صاحب كتاب (الخلاف) بقوله:

(إذا اختلفا فقال: بعتك هذا العبد بألف درهم، وقال المشتري: بل بعتني هذه الجارية بألف ولم تبعني العبد، وليس هناك بينة، كان القول قول البائع مع يمينه أنه ما باع الجارية، والقول قول المشتري مع يمينه أنه ما اشترى العبد، ولا يجب على واحد منها الجمع بين النفي والإثبات، ولا يكون هذا تحالفاً، وإنما يحلف كل واحد منهما على النفي، فإذا حلف البائع أنه ما باع الجارية بقيت الجارية على ملكه كما كانت، وجاز له التصرف بها.

وأما المشتري، فإنه يحلف أنه ما اشترى العبد، فإذا حلف فإنه ينظر، فإن كان العبد في يد المشتري فإنه لا يجوز للبائع مطالبته به لأنه لا يدّعيه، وإن كان في يد البائع فإنه لا يجوز التصرف به، لأنه معترف بأنه للمشتري وأن ثمنه في ذمته، ويجوز له بيعه بقدر الثمن)(١) .

مستدلاً على ذلك بقوله: (إن ها هنا دعويين، يجب في كل واحد منهما البينة، فإذا عدمت كان في مقابلتها اليمين، فالبائع إذا ادّعى ابتياع العبد كان عليه البينة، فإذا عدمها على المشتري اليمين أنه ما اشتراه، وكذلك إذا ادّعى المشتري أنه اشترى الجارية، كان عليه البينة، فإذا عدمها كان على البائع اليمين)(٢) .

وقد ذكر صاحب كتاب (الجامع للشرايع): أنهما يتحالفان، كل واحد منها لدعوى صاحبه وينفسخ البيع، ولم يذكر التفصيل بأن العبد بيد المشتري أم لا(٣) .

____________________

(١) الخلاف للشيخ الطوسي ٣: ١٥٢.

(٢) م. س: ١٥٣.

(٣) راجع الجامع للشرايع ليحيى بن سعيد الحلي: ٢٧١ - ٢٧٢.

٥٦

٣ - إذا مات المتبايعان، واختلف ورثتهما في الثمن أوالمثمن، فالقول قول ورثة المشتري مع يمينهم في الثمن، لأصالة عدم الزيادة فيه، والقول قول ورثة البائع مع يمينهم في المثمن لأصالة عدم البيع.

أفتى بذلك بعض فقهاء الطائفة بقوله: (إذا مات المتبايعان، واختلف ورثتهما في مقدار الثمن أو المثمن، فالقول قول ورثة المشتري مع يمينهم في مقدار الثمن، وقول ورثة البائع في المثمن مع اليمين)(١) .

وقد استدل صاحب كتاب (الخلاف) على أن القول قول ورثة المشتري في مقدار الثمن، لأن ورثة المتبايعان قد اتفقا على البيع، ولكن ادّعى ورثة البائع أن الثمن أكثر مما يذكره ورثة المشتري، فعلى مدّعي الزيادة البينة، فإذا عدمت فعلى منكرها اليمين لأصالة عدم الزيادة.

واستدل على أن القول قول ورثة البائع في المثمن، لأن الأصل عدم البيع فمن ادّعاه فعليه البينة، وعلى منكره اليمين لأصالة بقاء ملك البائع على ورثته(٢) .

وقد ذكر صاحب كتاب (تحرير الأحكام) الشق الأول من المسألة (مقدار الثمن) قائلاً: (القول قول ورثة المشتري على كل حال، سواء كانت تالفة أو باقية)(٣) .

٤ - إذا اختلف المتبايعان في شرط يفسد البيع، فالقول قول مدّعي الصحة، وعلى مدّعي الفساد البينة، لأصالة الصحة في العقود.

قال بهذا بعض الفقهاء بقولهم: (إذا اختلفا في شرط يفسد البيع، كان القول قول مّنْ يدّعي الصحة، وعلى مّنْ ادّعى الفساد البينة)(٤) .

وقد استدل صاحب كتاب (الخلاف) على ذلك: بأن الأصل في العقد الصحة، فمن ادّعى الفساد فعليه الدلالة(٥) .

____________________

(١) الخلاف للشيخ الطوسي ٣: ١٥٣، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٢: ٢٨٧.

(٢) الخلاف للشيخ الطوسي ٣: ١٥٣ - ١٥٤ بتصرف.

(٣) راجع تحرير الأحكام للعلامة الحلي ٢: ٣٦٢.

(٤) الخلاف للشيخ الطوسي ٣: ١٥٠، الجامع للشرايع ليحيى بن سعيد الحلي: ٢٧١ بتصرف.

(٥) الخلاف للشيخ الطوسي ٣: ١٥٠ بتصرف.

٥٧

٥ - إذا اختلفا في جودة الثمن وعدمه فالقول قول المشتري مع يمينه، لأن البائع مدّعٍ فعليه البينة والمشتري منكر فعليه اليمين، والأصل أن البائع قد قبضه جيداً.

أفتى بهذا صاحب كتاب (المبسوط) بقوله: (إذا قبض البائع الثمن، ثم ادّعى أن فيما قبضه زيفاً، وأنكر المشتري ذلك، فالقول قول المشتري مع يمينه، لأن البائع يدعي عليه أنه قبضه منه زيفاً فيحتاج إلى بينة، والأصل أنه قبضه جياداً)(١) .

ثانياً: دعوى الزوج والزوجة

يتعرض الزوج والزوجة في بعض الأحيان إلى بعض المشاكل العالقة في بيت الزوجية مثل: النفقة والتمكين وما إلى ذلك، وقد وضعت الشريعة الإسلامية لهذه المشاكل حلولاً وأحكاماً، نذكر ما يخص أمر الدّعوى والإنكار:

١ - إذا اختلفا في قبض المهر وعدمه، أو النفقة وعدمها، فالقول قول الزوج مع يمينه.

أفتى بهذا فقهاء الطائفة بقولهم: (إذا اختلف الزوجان بعد أن سلمت نفسها إليه في قبض المهر أو النفقة، فالذي رواه أصحابنا أن القول قول الزوج، وعليها البينة)(٢) .

مستدلين على ذلك بعدة أدلة منها:

١ - إجماع الفرقة على ذلك.

٢ - الأخبار الواردة في هذا الصدد.

٣ - مضافاً إلى العادة الجارية بين الناس بأن الزوجة لا تمكن الزوج إلاّ بعد استلام المهر، ولا تقيم معه إلاّ إذا أنفق عليها، وخلاف هذا عليها البينة(٣) .

____________________

(١) المبسوط للشيخ الطوسي ٢: ١٥٥، جواهر الفقه لابن البراج: ٥٩.

(٢) الخلاف للشيخ الطوسي ٥: ١١٦.

(٣) ن. م: ١١٦.

٥٨

٢ - إذا اختلعا واختلفا في النقد أو القدر أو الجنس فالقول قول الزوجة مع يمينها، لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه)، والزوج هنا مدّعٍ، لأنه يدّعي ما تنكره الزوجة، فكانت عليه البينة، فإذا لم تكن، كان القول قول الزوجة(١) .

٣- إذا اختلفا في الإنفاق وعدمه مع اتفاقهما على استحقاق النفقة فالقول قول الزوجة مع يمينها.

أفتى بذلك صاحب كتاب (منهاج الصالحين) بقوله: (إذا اختلف الزوجان في الإنفاق وعدمه مع اتفاقهما على استحقاق النفقة، فالقول قول الزوجة مع يمنيها، إذا لم يكن للزوج بينة)(٢) .

وقد استظهر السيد الخوئي بأن القول قول الزوجة وذلك بقوله: ( فالظاهر أن القول قول الزوجة مع يمينها، بلا فرق بين أن يكون الزوج غائباً أو كانت الزوجة منعزلة عنه وغير ذلك)(٣) ولم يذكر: إذا لم يكن للزوج بينة.

٤ - إذا اختلفا في الإعسار واليسار، وادعى الزوج أنه غير قادر على الإنفاق، وادعت الزوجة القدرة فالقول قول الزوج مع يمينه.

نعم إذا كان موسراً وادعى تلف ماله وقد صار معسراً فالقول قول الزوجة مع يمينها.

ذكر ذلك فقهاء الطائفة بقوله: (إذا اختلفا في الإعسار واليسار، فادعى الزوج الإعسار، وأنه لا يقدر على الإنفاق، وادعت الزوجة يساره، كان القول قول الزوج مع يمينه، نعم إذا كان الزوج موسراً، وادعى تلف أمواله، وأنه صار معسراً، فأنكرته الزوجة، كان القول قولها مع يمينها)(٤) .

____________________

(١) جواهر الفقه للقاضي ابن البراج: ١٧٨ بتصرف.

(٢) منهاج الصالحين للسيد السيستاني ٣: ١٣٠.

(٣) منهاج الصالحين للسيد الخوئي ٢: ٢٩٠.

(٤) منهاج الصالحين للسيد الخوئي ٢: ٢٩١، منهاج الصالحين للسيد السيستاني ٣: ١٣٠.

٥٩

ثالثاً: دعوى الزوجة وورثة الزوج

كثيراً ما تقع مشاكل بين الزوجة وورثة الزوج في مسألة الإرث، وما إلى ذلك من المسائل، وقد جاء ديننا الحنيف بحلول لهذه المشكلات العالقة بينهما، وحل النزاعات، نذكر بعضاً منها:

١- إذا ادّعت الزوجة أن ما في يدها هو ملكها أو في مقابل مهرها أو دين كان عنده وما إلى ذلك، ولم يكن لها بينة، فالقول قول الوارث مع يمينه(١) .

٢- إذا أمر الرجل زوجته بالخروج إلى بعض الأمصار ثم مات، وادّعى الوارث بأن الزوج لم ينقلها، فالقول قولها، لأنها والوارث متساويان في عدم العلم بمراد الزوج، وأن ظاهر قوله موافق لدعواها، لأن قول الزوج: اخرجي إلى المصر الفلاني ظاهره النقل(٢) .

رابعاً: الدّعوى بحق الميت

نذكر بعض المسائل الخلافية بين ورثة الميت والمدّعي عليه ومنها:

١- إذا أوصى الميت لشخص أن له حظ أو نصيب أو شيء من ماله وما إلى ذلك، وادّعى الموصى له أن ورثته يعلمون مقداره، فالقول قول الورثة مع يمينهم بأنهم لا يعلمون.

ذكر ذلك الفقهاء بقولهم: (إذا قال لفلان حظ من مالي أو نصيب أو قليل فإنه يرجع إلى الورثة ويقال لهم أعطوه ما يقع عليه اسم ذلك، كما أنه إذا قال أعطوه شيئاً من مالي إلاّ أن يدّعي الموصى له أكثر من ذلك، وأن الورثة يعلمون ذلك، فإنه يكون القول قول الورثة مع يمينهم أنهم لا يعلمون، وكذلك في جزء وكثير سواء)(٣) .

____________________

(١) رسائل الكركي للمحقق الكركي ٢: ٣١٣، القضاء للسيد الكلبايكاني ٢: ٢٧٠ بتصرف.

(٢) جواهر الفقه للقاضي ابن البرّاج: ١٩٣ بتصرف.

(٣) المبسوط للشيخ الطوسي ٤: ٧ - ٨، تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي ٢: ٤٩٩، وكذلك إرشاد الأذهان ١: ٤٦١ ، شرائع الإسلام للمحقق الحلي ٢: ٤٧٥، إيضاح الفوائد لابن العلامة ٢: ٥٣٣، جامع المقاصد للمحقق الكركي١٠: ٢١٤، الوصايا والمواريث للشيخ الأنصاري: ٩٦، جواهر الكلام للشيخ الجواهري ٢٨: ٣٣٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل التاسع

في بيان اضطراب حديث السهو وضعفه وعدم جواز التعويل
عليه وحمله على ظاهره، مضافاً إلى ما تقدّم

وهذا الفصل كلّه من كلام الشيخ المفيد في الرسالة التي نقلنا صدرها
سابقاً، وننقل ما فيها بتمامه هنا، وهي مشتملة على فصول كما هي عادته في
كثير من رسائله.

قال الشيخ الأجل المفيد رحمه الله بعدما نقلناه سابقاً ما هذا لفظه:

فصل(١)

على انّهم [ قد ](٢) اختلفوا في الصلاة التي زعموا انّه عليه السلام سها
فيها، فقال بعضهم: هي(٣) الظهر. وقال بعضهم: هي العصر. وقال بعضهم:

__________________

(١) سقط هذا الفصل من « ب »، وأثبتناه من « ج، د ».

(٢) ليس في ج.

(٣) في د: في، وكذا في المورد الآتي.

١٤١

هي عشاء الآخرة.

وهذا الاختلاف دليل على وهن الحديث، وحجّة في سقوطه، ووجوب
ترك العمل به وإطراحه.

فصل

على إنّ في الخبر ما يدّل على اختلافه(١) ، وهو ما رووه من انّ ذا
اليدين قال للنبي صلّى الله عليه وآله لما سلّم في الركعتين والأوّليّتين من الصلاة
الرباعية: أقصرت للصلاة يا رسول الله، أم نسيت؟

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله - كما زعم -: كلّ ذلك لم يكن(٢) .

فنفى صلّى الله عليه وآله ان تكون الصلاة قد قصرت، ونفى أن يكون قد
سها فيها.

فليس يجوز عليه عندنا وعند الحشوية المجيزين عليه السهو، أن
يكون(٣) النبي صلّى الله عليه وآله متعمّداً(٤) ولا ساهياً، وإذا كان قد أخبر انّه لم
يسه - وكان صادقاً في خبره - فقد ثبت كذب ذي اليدين ومن أضاف إليه
السهو، وكذا وضح بطلان دعواه في ذلك بلا ارتياب.

__________________

(١) في ج: خلافه.

(٢) راجغ الخلاف للشيخ الطوسي ١: ٤٠٢ - ٤٠٧، المسألة ١٥٤ من كتاب الصلاة، وقد ناقش فيه
وطعن على من قال في السهو.

(٣) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: يكذب.

(٤) في ج: معتمداً.

١٤٢

فصل

وقد تأوّل بعضهم ما حكوه من قوله: « كلّ ذلك لم يكن » على ما يخرجه
عن الكذب مع سهوه في الصلاة، بأن قالوا: إنّه صلّى الله عليه وآله نفى أن
يكون وقع الأمران معاً، يريد أنّه لم يكن يجتمع قصر الصلاة والسهو، فكان قد
حصل أحدهما ووقع.

وهذا باطل من وجهين:

الأوّل: انّه لو كان أراد ذلك، لم يكن جواباً عن السؤال، والجواب عن
غير السؤال، لغوٌ لا يجوز وقوعه من النبي صلّى الله عليه وآله.

والثاني: انّه لو كان كما ادّعوه، لكان صلّى الله عليه وآله ذاكراً به من غير
اشتباه في معناه، لأنّه قد أحاط علماً بانّ أحد الشيئين كان دون صاحبه، ولو
كان كذلك لارتفع السهو الّذي ادّعوه، وكانت دعواهم له باطلة بلا ارتياب، ولم
يكن أيضاً لجمع كلية وجود أحد الأمرين(١) معنى لمسألته حين(٢) سأل عن
قول ذي اليدين، هل هو على ما قال، أو على غير ما قال؟ لأن هذا السؤال يدلّ
على اشتباه الأمر عليه فيما ادّعاه ذو اليدين، ولا يصحّ وقوع مثله من متيقّن لما
كان في الحال.

__________________

(١) كذا في النسخ، وفي المصدر: مع تحقيقه وجود أحد الأمرين، وفي البحار: ولم يكن أيضاً معنى لمسألته.

(٢) في « ج، د »: لمسألة من.

١٤٣

فصل

وممّا يدلّ على بطلان الحديث أيضاً اختلافهم في الخبر أنّ(١)
الصلاة الّتي ادّعوا فيها، والبناء على ما مضى منها، أو الإعادة
لها.

فأهل العراق يقولون: انّه أعاد الصلاة، لأنّه تكلّم فيها، والكلام في
الصلاة يوجب الإعادة عندهم.

وأهل الحجاز ومن مال إلى قولهم يزعمون: انّه بنى على ما مضى، ولم
يعد شيئاً، ولم يقض، سجد لسهوه سجدتين.

ومن تعلّق بهذا الحديث من الشيعة يذهب فيه إلى مذهب أهل العراق،
لانّه تضمّن كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله في الصلاة عمداً، والتفاته عن القبلة
إلى من خلفه، وسؤاله عن حقيقة ما جرى، ولا يختلف الفقهاء وهم في ذلك
يوجبون الإعادة(٢) .

والحديث متضمّن(٣) انّ النبي صلّى الله عليه وآله بنى على ما مضى ولم
يعد، وهذا الاختلاف الّذي ذكرناه في هذا الحديث أدلّ دليل على بطلانه،
وأوضح حجّة في وضعه واختلاقه(٤) .

__________________

(١) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: جبران.

(٢) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: فقهاؤهم في أنّ ذلك يوجب الإعادة.

(٣) في د: يتضمّن.

(٤) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: واختلافه.

١٤٤

فصل

على إنّ الرواية له من طريق الخاصّة والعامّة كالرواية من الطريقين معاً
أنّ النبي صلّى الله عليه وآله سها في صلاة الفجر(١) ، وكان قد قرأ في
الاُولى منهما سورة النجم حتى انتهى إلى قوله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ
الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ
) (٢) ، فألقى الشيطان على لسانه « تلك الغرانيق العلى، وان
شفاعتهم لترتجى » ثمّ نبّه على سهوه، فخرّ ساجداً، فسجد المسلمون، وكان
سجودهم اقتداء به، وأمّا المشركون فكان سجودهم سروراً بدخوله معهم في
دينهم(٣) .

قالوا: وفي ذلك أنزل الله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ
إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
) (٤) يعنون في قراءته. واستشهدوا على ذلك
ببيت من الشعر وهو:

__________________

(١) انظر الكافي ٣: ٢٩٤ ح٩ و٣٥٧ ح٦، التهذيب ٢: ٣٤٥ ح ١٤٣٣، من لا يحضره الفقيه ١: ٢٣٣
ح ١٠٣١.

(٢) سورة النجم: ١٩ و ٢٠.

(٣) ذكر الخبر الجصاص في أحكام القرآن ٣: ٢٤٦ - ٢٤٧، وأسقطه من عين الاعتبار، وذكر ذلك
أيضاً القرطبي في تفسيره ١٢: ٨١ - ٨٥.

(٤) سورة الحج: ٥٢.

حكى الشيخ الطبرسي في مجمع البيان ( ٤: ٩ ) في تفسير الآية الكريمة قول الشريف المرتضى
قدّس سرّه حيث قال: لا يخلو التمنّي في الآية من أن يكون معناه التلاوة، كما قال حسّان بن ثابت:

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

ولم يسنبه ابن منظور في لسان العرب ( ١٥: ٢٩٤ - منى - ) إلى حسّان، بل ذكره باللفظ المتقدّم
وباللفظ التالي:

تمنّى كتاب الله آخر ليله

تمني داود الزبور على رسل

١٤٥

تَمَنّى كتاب الله يتلوه قائماً

وأصبح ظمآناً ومسّد(١) قارياً

فصل

وليس حديث سهو النبي صلّى الله عليه وآله في الصلاة أشهر في
الفريقين من روايتهم: إنّ يونس عليه السلام ظنّ أنّ الله يعجز على الظفر به، ولا
يقدر على التضييق عليه، وتأوّلوا قوله تعالى:( فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (٢)
على ما رووه واعتقدوا فيه(٣) .

وفي أكثر رواياتهم: انّ داود عشق امرأة اُوريا بن صبنان(٤) فاحتال في
قتله، ثم نقلها إليه(٥) .

وروايتهم: انّ يوسف بن يعقوب عليه السلام همّ بالزنا وعزم عليه(٦) ،
وغير ذلك من إمثاله.

ومن رواياتهم: التشبيه لله بخلقه، والتجوير له في حكمه(٧) .

فيجب على الشيخ الّذي حكينا - أيّها الأخ - عنه أن يدين الله بكلّ ما
تضمّنته هذه الأخبار(٨) ليخرج بذلك عن الغلو على ما ادّعاه، فان دان بها،

__________________

(١) كذا في «ب، ج»، وفي «د» والمصدر: وسّد، وفي بعض نسخ المصدر: «وقد فاز» بدل « وسّد ».

(٢) سورة الأنبياء: ٨٧.

(٣) انظر تفسير القرطبي ١١: ٣٣١.

(٤) كذا في ب، وفي ج: صبثان، وفي د: صبان، وفي المصدر: حنان.

(٥) تفسير القرطبي ١٥: ١٨١.

(٦) أحكام القرآن لابن العربي ٤: ١٦٢٦.

(٧) تفسير القرطبي ٩: ١٦٦.

(٨) روي الشيخ الصدوق في أماليه: ٩٢ المجلس ٢٢ ضمن الحديث رقم (٣) جملة من هذه الأخبار

١٤٦

خرج عن التوحيد والشرع، وان ردّها ناقض في اعتلاله(١) ، وإن كان ممّا لا
يحسن فالمناقضة لضعف بصيرته، ونسأل الله التوفيق.

فصل

والخبر المروي(٢) أيضاً في النبي صلّى الله عليه وآله عن صلاة الصبح(٣)

__________________

التي رويت عن رواة جمهور المسلمين، وما جاء في الردّ على تلك الأخبار من قبل الإمام الصادق
عليه السلام.

(١) في هامش ج: اعتداله.

(٢) في ب: وليس سهو النبي والخبر المروي والظاهر انّه اشتباه من الناسخ.

(٣) أخرج الكليني في الكافي ( ٣: ٢٩٤ ح ٩ ) والصدوق في الفقيه ( ١: ٢٣٣ ح ١٠٣١ ) عن سعيد
الأعرج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنّ الله تبارك وتعالى أنام رسول الله صلّى الله عليه
وآله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس الحديث.

وأخرج الشيخان بالإسناد إلى أبي هريرة واللفظ لمسلم ( ج ١: ٢٥٤ باب قضاء الصلاة الفائتة ) قال:
عرسنا مع نبي الله فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال النبي صلّى الله عليه وآله: ليأخذ كل رجل
منكم راحلته فإنّ هذا منزل حضره الشيطان، قال أبو هريرة: ففعلنا، ثمّ دعا بالماء فتوضأ ثمّ سجد
سجدتين، ثمّ اُقيمت الصلاة فصلّى صلاة الغداة.

وقد ذكر السيد شرف الدين ملاحظات قيّمة حول هذا الحديث، نورد هنا بعضها إتماماً للفائدة:

أحّدها: أنهم ذكروا في خصائص النبي صلّى الله عليه وآله أنه كان لا ينام قلبه إذا نامت عيناه،
وصحاحهم صريحة بذلك، وهذا من أعلام النبوّة، وآيات الاسلام، فلا يمكن والحال هذه أن تفوته
صلاة الصبح بنومه عنها، إذ لو نامت عيناه فقلبه في مأمن من الغفلة ولا سيّما عن ربّه لا تأخذه عن
واجباته سنةٌ ولا نوم، وقد صلّىٰ مرّة صلاة الليل فنام قبل أن يوتر، فقالت له إحدىٰ زوجاته: يا
رسول الله، تنام قبل أن توتر؟ فقال لها: تنام عيني ولا ينام قلبي. أراد صلّى الله عليه وآله أنّه في
مأمن من فوات الوتر بسبب ولوعه فيها، ويقظة قلبه تجاهها فهو هاجع في عينه، يقظان في قلبه،
منتبه الى وتره، وإذا كانت هذه حالة في نومه قبل صلاة الوتر فما ظنّك به إذا نام قبل صلاة الصبح.
ثانيها: إنّ أبا هريرة صرّح - كما في صحيح مسلم - بأنّ هذه الواقعة قد اتّفقت لرسول الله صلّى الله
عليه وآله وهو قافل من غزوة خيبر، فكيف يدّعي أبو هريرة حضوره فيها؟ وأين كان أبو هريرة من
غزوة خيبر؟ وانّما أسلم بعد خروج النبي صلّى الله عليه وآله إليها باتفاق أهل العلم، وإجماع

١٤٧

من جنس الخبر عن سهوه في الصلاة، فإنّه من أخبارالآحاد التي لا توجب
علماً ولا عملاً، ومن عمل عليه فعلى الظن يعتمد في ذلك دون اليقين، وقد
سلف قولنا في نظير ذلك بما يغني عن إعادته في هذا الباب، مع انّه يتضمّن
خلاف ما عليه عصابة الحقّ فإنّهم لا يختلفون في أنّ من فاتته صلاة فريضة
فعليه أن يقضيها أي(١) وقت ذكرها من ليل أو نهار، ما لم يكن الوقت مضيّقاً
لصلاة فريضة حاضرة.

وإذا حرم [ على الإنسان ](٢) أن يؤدّي فريضة قد دخل وقتها ليقضي
فرضاً قد فاته، كان حظر النوافل عليه قبل قضاء ما فاته من الفرض أولى.

هذا مع الراوية عن النبي صلّى الله عليه وآله إنّه قال: « لا صلاة لمن عليه
صلاة »(٣) ، يريد أنّه لا نافلة لمن عليه فريضة.

__________________

أهل الأخبار.

ثالثها: انّ أبا هريرة يقول في هذا الحديث: ليأخذ كلّ رجل منكم برأس راحلته، فانّ هذا منزل
حضره الشيطان قال: ففعلنا. وقد علمت ممّا أسلفناه انّ الشيطان لا يدنو من النبي أبداً، وعلم الناس
كافة انّ أبا هريرة كان في تلك الأوقات لا يملك شبع بطنه، فمن أين له الراحلة ليأخذ برأسها كما
زعم إذ قال: ففعلنا؟

رابعها: أنّه قال في هذا الحديث: ثم دعا بالماء فتوضّأ، ثمّ سجد سجدتين ثم صلّىٰ صلاة الغداة؛ أمّا
صلاة الغداة فانّها قضاء عمّا فات، لكن السجدتين لم نعرف لهما وجهاً ولا محلاً من الاعراب!

خامسها: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان يومئذ في جيش مؤلف من ألف وستمائة رجل فيهم مائتا
فارس. فالعادة تأبىٰ أن يناموا بأجمعهم فلا ينتبه أحد منهم أصلاً، وعلىٰ فرض عدم انتباههم من
أنفسهم فلابدّ بحكم العادة المألوفة أن ينتبهوا بصهيل مائتي فرس وضربها الأرض بحوافرها في
طلب علفها عند حضور وقته من الصبح فما هذا السبات العميق الشامل لجميع من كان ثمة من
انسان وحيوان؟ ولعل هذا من خوارق أبي هريرة!! « انظر: أبو هريرة: ١٠٨ - ١١٤ ».

(١) كذا في النسخ، وفي المصدر: في كلّ.

(٢) من المصدر.

(٣) نصب الراية ٢: ١٦٦.

١٤٨

فصل

ولسنا ننكر ان يغلب النوم على الأنبياء عليهم السلام في أوقات الصلاة
حتّى تخرج، فيقضوها بعد ذلك، وليس عليهم في ذلك عيب ولا نقص، لانّه
ليس ينفك بشر من غلبة النوم، ولأنّ النائم لا عيب عليه.

وليس كذلك السهو، لأنّه نقص عن الكمال في الانسان، وهو عيب
يختصّ به من اعتراه، وقد يكون من فعل الساهي تارة، كما يكون من فعل غيره
والنوم لا يكون إلاّ من فعل الله تعالى، فليس من مقدور العباد على حال، ولو
كان مقدورهم لم يتعلّق به نقص وعيب لصاحبه لعمومه جميع البشر، وليس
كذلك السهو، لأنّه يمكن التحرز منه.

ولأنّا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم وأسرارهم ذوي
السهو والنسيان، ولا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبهم من النوم أحياناً، كما لا
يمتنعون من إيداعه من تعتريه الأمراض والأسقام.

ووجدنا الفقهاء [ يطرحون ](١) ما يرويه ذوو السهو من الحديث إلاّ أن
يشركهم فيه غيرهم من ذوي اليقظة، والفطنة، والذكاء، والحذاقة.

فعلم فرق ما بين السهو والنوم بما ذكرناه.

ولو جاز أن يسهو النبيّ صلّى الله عليه وآله في صلاته وهو قدوة(٢) فيها
حتى يسلّم قبل تمامها وينصرف عنها قبل اكمالها، ويشهد الناس ذلك فيه

__________________

(١) من المصدر.

(٢) في د: قدرة.

١٤٩

ويحيطوا به علماً من جهته، لجاز أن يسهو في الصيام حتى يأكل ويشرب نهاراً
في شهر رمضان بين أصحابه وهم يشاهدونه ويستدركون عليه الغلط،
وينبّهونه عليه، بالتوقيف على ما بيناه(١) .

ولجاز أن يجامع النساء في شهر رمضان نهاراً ولم يؤمن عليه السهو في
مثل ذلك حتى يطأ المحرمات عليه من النساء وهو ساه في ذلك، ظانّ أنّهنّ
أزواجه، ويتعدّى من ذلك إلى وطيء ذوات المحارم ساهياً.

ويسهو في الزكاة فيؤخّرها عن وقتها، ويؤدّيها إلى غير أهلها ساهياً،
ويخرج منها بعض المستحقين ناسياً.

ويسهو في الحجّ حتى يجامع في الاحرام، ويسعى قبل الطواف، ولا
يحيط علماً بكيفية رمي الحجار(٢) ، ويتعدّى من ذلك إلى السهو في كلّ أعمال
الشريعة حتى ينقلها(٣) عن حدودها، ويضعها في غير أوقاتها، ويأتي بها
إلى غير حقائقها.

ولم ينكر أن السهو عن تحريم الخمر، فيشربها ناسياً أو يظنها شراباً
حلالاً، ثمّ يتيقظّ بعد ذلك لما هي عليه من صفتها.

ولم ينكر أن يسهو فيما يخبر به عن نفسه وعن غيره ممّن ليس بربه بعد
أن يكون منصوباً في الاداء، ويكون مخصوصاً بالاداء.

وتكون العلّة في جواز ذلك كلّه أنّها عبادة مشتركة بينه وبين اُمّته كما

__________________

(١) في بعض نسخ المصدر والبحار: على ما جناه.

(٢) كذا في ب، وفي ج: الحجارة، وفي « د » والمصدر والبحار: الجمار.

(٣) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: يقلبها.

١٥٠

كانت الصلاة عبادة مشتركة بينهم وبينه حسب اعلال(١) الرجل الذي ذكرت عنه -
أيّها الأخ - ما ذكرت من إعتلاله، ويكون ذلك أيضاً لاعلام الخلق أنّه مخلوق
ليس بقديم معبود، وليكون حجّة على الغلاوة الّذين اتّحذوه ربّاً، وليكون أيضاً
سبباً لتعليم الخلق أحكام السهو في جميع ما ذكرناه من أحكام الشريعة، كما
كان سبباً في تعليم الخلق حكم السهو في الصلاة، وهذا ما لا يذهب إليه مسلم
ولا غال ولا موحّد، ولا يجزيه على التقرير(٢) في النبوّة ملحد، وهو لازم لمن
حكيت عنه ما حكيت، فيما أفتى به من سهو النبي صلّى الله عليه وآله، واعتلّ
به، ودلّ على ضعف عقله، وسوء اختياره، وفساد تخيّله.

وينبغي أن يكون كلّ من منع السهو عن النبي صلّى الله عليه وآله غالياً
وخارجاً عن حدّ الاقتصاد، وكفى بمن صار إلى هذا المقام خزياً.

فصل

ثمّ العجب حكمه بأنّ سهو النبي صلّى الله عليه وآله من الله، وسهو من
سواه من الله وسائر البشر من غيرها(٣) من الشيطان(٤) بغير علم فيما ادّعاه، ولا حجّة
ولا شبهة يتعلّق بها أحد من العقلاء، اللّهمّ إلاّ أن يدّعي الوحي في ذلك، ويتبيّن
به عن ضعف عقله لكافة الألبّاء.

ثمّ العجب من قوله: إنّ سهو النبيّ صلّى الله عليه وآله من الله دون

__________________

(١) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: اعتلال.

(٢) في هامش « ج » والبحار: التقدير.

(٣) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: غيرهم.

(٤) في ب: من غير الشيطان.

١٥١

الشيطان، لأنّه ليس للشيطان على النبي صلّى الله عليه وآله سلطان، و( إِنَّمَا
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
) (١) ، وعلى من اتّبعه من
الغاوين.

ثمّ هو يقول: إنّ هذا السهو الّذي من الشيطان [ يعمّ جميع البشر سوى
الأنبياء والأئمّة، فكلّهم من أولياء الشيطان ](٢) ، وانّهم غاوون مشركون(٣) ؛ إذ
كان للشيطان عليهم سبيل وسلطان، وكان سهوهم منه دون الرحمن، ومن لم
يتيقّظ لجهله في هذا الباب، كان في عداد الأموات.

فصل

فأمّا قول الرجل المذكور: إنّ ذا اليدين معروف، وانّه يقال له: أبو محمد
ابن عبد عمرو(٤) ، وقد روى الناس عنه.

فليس الأمر كما ذكر، وقد عرّفه بما مرّ من(٥) معرفته من تكنيته وتسميته
بغير معروف بذلك، ولو انّه يعرفه بذي اليدين لكان أولى من تعريفه وتسميته(٦)
بعمرو(٧) ، فإنّ المنكر له يقول: من ذو اليدين؟ ومن هو عمرو(٨) ؟ ومن هو ابن

__________________

(١) سورة النحل: ١٠٠.

(٢) ليس في ب.

(٣) في ب: مشتركون، وفي د: ومشركون.

(٤) في ج: أبو عمرو محمد بن عبد عمرو، وفي المصدر والبحار: أبو محمد عمير بن عبد عمرو.

(٥) كذا في « ب، ج »، وفي « د » والمصدر والبحار: يرفع.

(٦) في « ب، د » والمصدر: بتسميته.

(٧) في المصدر والبحار: بعمير.

(٨) كذا في النسخ، وفي المصدر: عمير.

١٥٢

عبد عمرو؟ وهذا كلّه مجهول غير معروف.

ودعواه انّه قد روى الناس عنه، دعوى لا برهان عليها، وما وجدناه في
اُصول الفقهاء ولا الرواة حديثاً عن هذا الرجل، ولا ذكراً له.

ولو كان معروفاً كمعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة
وأمثالهم، لكان ما تفرّد به غير معمول عليه، لما ذكرنا من سقوط العمل
بأخبار الآحاد، فكيف وقد بيّنّا أنّ الرجل مجهول غير معروف؟ فهو متناقض
باطل بما لا شبهة فيه عند العقلاء.

ومن العجب بعد هذا كلّه انّ خبر ذي اليدين يتضمّن أنّ النبي صلّى الله
عليه وآله سها فلم يشعر بسهوه أحد من المصلّين معه من بني هاشم
والمهاجرين والأنصار ووجوه الصحابة، وسادات(١) الناس، ولا نظر إلى ذلك
وعرفه إلاّ ذو اليدين المجهول، الّذي لا يعرفه أحد، ولعلّه من بعض الأعراب أو
شعر(٢) القوم به فلم ينبّهه أحد منهم على غلطه، ولا أرى صلاح الدين والدنيا
بذكر ذلك له صلّى الله عليه وآله إلاّ المجهول من الناس.

ثمّ لم يكن يستشهد على صحّة قول ذي اليدين فيما خبّر به من سهوه إلاّ
أبا بكر وعمر، فإنّه سألهما عمّا ذكره ذو اليدين ليعتمد(٣) قولهما فيه، ولم يثق
بغيرهما في ذلك، ولا سكن إلى أحد سواهما في معناه.

[ وانّ ](٤) شيعيّاً يعتمد على هذا الحديث في الحكم على النبي صلّى الله

__________________

(١) كذا في النسخ، وفي المصدر: وسراة.

(٢) كذا في النسخ، وفي المصدر: أشعر.

(٣) في ب: ليعقد.

(٤) ليس في ب.

١٥٣

عليه وآله بالغلط والنقص وارتفاع العصمة عنه من العباد لناقص العقل، ضعيف
الرأي، قريب إلى ذوي الآفات المسقطة عنهم التكليف.

والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تمّ جواب أهل الحائر فيما سألوا عنه من سهو النبي صلّى الله عليه وآله.

انتهى كلام الشيخ المفيد في الرسالة المشار إليها سابقاً وربّما نسبت(١)
إلى السيد المرتضى(٢) .

ولعل ما ذكره من سقوط العمل بأخبار الآحاد قرينة ذلك.

وفيه نظر، لأنّ الشيخ المفيد لا يعمل في مثل ذلك بأخبار الآحاد أيضاً،
بل قد نسب المحقّقون إلى المفيد وإلى أكثر علمائنا نفي العمل بخبر الواحد
الخالي عن القرينة.

__________________

(١) كذا في النسخ، وفي المصدر والبحار: نسبته.

(٢) أخرجها العلاّمة المجلسي رحمه الله بتمامها في بحار الأنوار ( ١٧: ١٢٢ - ١٢٩ ). وقال في أوّلها:
ولنختم هذا الباب بإيراد رسالة وصلت إلينا تنسب إلى الشيخ السديد المفيد، أو السيّد النقيب
والجليل المرتضى قدّس سرّه روحهما، وإلى المفيد أنسب.

وقال في آخرها: هذا آخر ما وجدنا من تلك الرسالة، وكان المنتسخ سقيماً، وفيما أورده رحمه الله
مع متانته اعتراضات يظهر بعضها ممّا أسلفنا، ولا يخفى على من أمعن النظر فيها، هو الموفّق
للصواب.

١٥٤

الفصل العاشر

في بيان تأويل أحاديث السهو

قد عرفت أنّها ضعيفة بالنسبة إلى معارضاتها، فتعيّن صرفها عن ظاهرها
لتوافق الحقّ الصحيح، والنصّ الصريح، فإنّ في الأحاديث محكماً ومتشابهاً،
ولا شكّ في وجوب ردّ المتشابه إلى المحكم، وانّما وقعت الفتن الدينية
والاختلافات في المسائل الشرعيّة غالباً بسبب الغفلة عن المعارض، أو
بسبب اشتباه المحكم بالمتشابه.

وقد روى رئيس المحدّثين في عيون الأخبار في باب الأخبار المتفرّقة
عقيب باب هاروت وماروت عن أبيه، عن علي بن إبراهيم، [ عن أبيه، ](١) عن
أبي حيون مولى الرضا عليه السلام عن الرضا عليه السلام قال: من ردّ متشابه
القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم.

ثمّ قال: إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، ومحكماً كمحكم
القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها

__________________

(١) ليس في « ب، ج ».

١٥٥

فتضلّوا(١) .

إذا عرفت هذا فنقول تأويل أحاديث السهو والجمع بينها وبين ما دلّ
على نفي السهو من الكتاب والسنّة والاجماع والأدلّة العقليّة ممكن من وجوه
اثني عشر:

الأوّل: الحمل على وقوع الرواية على وجه التقيّة، فانّك قد عرفت
إجماع المخالفين للإماميّة على نفي العصمة، وروايتهم لحديث السهو،
ولعلّه لا أصل له، ويكون من مخترعاتهم وموضوعاتهم، وقد كان الأئمّة عليهم
السلام يفتون بالتقيّة تارة، ويوافقون العامّة في الرواية تارة بحسب مقتضى
الحال، لدفع المفسدة، وإتّقاء الضرر عن الأئمّة والشيعة، ويأتي له نظائر إن شاء
الله تعالى.

وهذا وجه قريب متّجه منصوص عنهم عليهم السلام وجوب الترجيح
عند الاختلاف لما هو معلوم من سببه، وقد تقدّمت اشارة إليه، ومن
القرائن عليه رواية جماعة من العامّة له كما عرفت سابقاً، وقد اشار
الشيخ في التهذيب إلى حمل أحاديث السهو على التقيّة، كما تقدّم في أول
الرسالة(٢) .

الثاني: الحمل على انّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قد كان صلّى في
الواقع أربع ركعات، فلمّا ادّعوا عليه السهو واتّهموه به، أو ظنّوا ذلك
واتّفقوا عليه، قام فصلّى ركعتين مع علمه بانّ صلاته كانت تامّة، لكن

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١: ٢٩٠.

(٢) في ص: ٨٤.

١٥٦

لعدم اقتضاء المصلحة لم يبيّن حقيقة الحال، لأنّه كان يترتّب على ذلك
مفسدة اُخرى، وأقلّها أنّهم كانوا منافقين لا يصدقونه في دعوى استحالة
السهو عليه، ومن المعلوم انّ أكثر المظهرين للإسلام في أوّل الأمر كانوا كذلك،
وإنّ الرسول صلّى الله عليه وآله كان مأموراً بمداراتهم كما تضمّنه باب
المداراة في اُصول الكليني وغيره، وكان يقرّر الشريعة في قلوبهم بالتدريج
بحسب ما يقبلون، كما هو موجود أيضاً في أحاديث كثيرة في اُصول الكافي
وغيره.

وقد روى الكليني في كتاب العقل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما
كلّم رسول الله صلّى الله عليه وآله العباد بكنه عقله قط(١) .

وقال: إنّا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم(٢) .

ولا يخفى انّه لم يقع التصريح بانّه صلّى الله عليه وآله صلّى بهم
ركعتين اُخريتين إلاّ في حديث واحد، والظاهر انّ كلّ واحد منهم أتمّ
صلاته وحده وعلى تقدير الجماعة لا يبعد أن يكون مأموراً بذلك، ويكون
مخصوصاً به عليه السلام؛ وقيل اختصاص مشروعية صلاة الجماعة
بالفرائض، فقد كانوا يصلّون جماعة قبل الصلاة كما هو مروي في
أحاديث كثيرة.

الثالث: أن يكون صلّى في الواقع أربع ركعات، فلمّا ظنّوا سهوه واتّفقوا
على ذلك أمره الله بأن لا يظهر لهم الحال، وأن يتمّ بهم الصلاة ويسجد سجدتين

__________________

(١) الكافي ١: ٢٣ ح ١.

(٢) الكافي ١: ٢٣ ح ١٥ وج ٨: ٢٦٨ ح ٣٩٤.

١٥٧

ليعلموا أحكام السهو ولئلاّ يعيّر أحد أحداً بالسهو، والفرق بين هذا والأوّل انّ
المعروف هنا أمر خاص وهناك عام، ويكون من فوائد ذلك أنّه لو أظهر حقيقة
الحال واستحالة السهو لخرج كثير منهم إلى الغلو لضعف الإيمان جداً في ذلك
الوقت.

الرابع: أن يكون صلّى في الواقع ركعتين عمداً قبل أن تفرض الصلاة
أربع ركعات، فقد روى انّ الصلاة كانت قد فرضت ركعتين ركعتين، فكانت
الخمس صلوات عشر ركعات، ثمّ زاد رسول الله صلّى الله عليه وآله سبع
ركعات، ثمّ أوجبها الله على الناس(١) ، وقد كان الكلام أيضاً غير محرّم في
الصلاة ثمّ صار محرّم.

وممّن صرّح بذلك السيّد المرتضى في تنزيه الانبياء(٢) وغيره فلعلّه
صلّى ركعتين قبل أن تفرض الأخيرتان، وكان قد أمر الناس بها على وجه
الاستحباب، فظنّوا الوجوب، فتعمّد الترك واظهار صورة(٣) السهو لدفع
المفسدة السابقة، وتحصيل المصالح المتقدّمة وغيرها.

الخامس: أن يكون صلّى في الواقع ركعتين بعد فرض الأخيرتين، وكان
مأموراً أمراً خاصّاً به، بأن يفعل ذلك إظهاراً لصورة سهو، وهي في الواقع عمد
لأجل المصالح السابقة، والحكم المشار إليها، فيصدّق انّ ذلك كان من الله كما
وقع التصريح به سابقاً، وكما فهمه ابن بابويه.

__________________

(١) الكافي ٨: ٣٤٠ ح ٥٣٦، عنه الوسائل ٣: ٣٤ باب عدد الفرائض ح ١٢.

(٢) تنزيه الأنبياء: ١٠٨.

(٣) في ج: سورة.

١٥٨

يعني انّ هذه الصورة(١) سهو كان مأموراً بها من الله، وهي في الواقع عمد،
فإنّ صدور السهو الحقيقي من الله لا يمكن تصوّره، وإنّما يمكن فرض أن يكون
الله قد أمر بذلك لحكمة ظاهرة أو خفيّة.

السادس: أن يكون مجبوراً على ترك الأخيرتين في ذلك الرقت، [ أو
بسلب قدرته عنهما، أو بمحوهما من خاطره بالكليّة، ](٢) ويصير غير مكلّف
بهما، ويكون ذلك أيضاً خاصّاً به في الواقعة معينة للحكم السابقة، وللردّ
على الغلاة والمفوّضة معاً.

ومعلوم أنّ من جملته الغلو في التفويض، قول جماعة زعموا إنّ للعبد
قدرة تامّة لا يقدر أحد على سلبها حتى لو أراد الله منعه، من فعله لما قدر
على منعه، وقد ذكرت ذلك في رسالة خلق الكافر.

وظاهر كون سهوه من الله يقتضي أن يكون أمره به أو جبره عليه،
وعلى كلّ حال لا يكون وقع منه سهو حقيقي، بل هو مجاز، وباب المجاز
واسع، والمشابهة هنا ظاهرة لكن الجبر باطل، ويمكن أن يقال: إنّ هذه الصورة
نادرة والجبر باطل مع بقاء التكليف، فلو سلب الله قدرة عبد عن واجب
واسقطه عنه، لم يكن فيه مفسدة.

السابع: أن يكون السهو والنسيان بمعنى الترك، فإنّه أحد معانيه اللغوية،
وقد استعمل فيه كثيراً كما أشرنا إليه سابقاً.

وقد قال صاحب القاموس وغيره(٣) : سها في الأمر سهواً نسيه.

__________________

(١) في « ج، د »: صورة.

(٢) من المصدر والبحار.

(٣) القاموس المحيط للفيروزآبادي ٤: ٣٤٦.

١٥٩

وقال أيضاً النسيان والنسوة: الترك.

وإذا كان هذا من معاينة اللغوية، وهو المناسب لحال النبيّ صلّى الله
عليه وآله وجب حمله عليه، ويكون ذلك حكماً مختصّاً به عليه السلام
للحكم السابقة، وقد عرفت إنّ الأئمّة عليهم السلام فسّروا النسيان
المنسوب الى آدم عليه السلام وغيره من أهل العصمة عليهم السلام في
القرآن بالترك، وهو معنى صحيح، ويحتاج إلى ضميمته وجه من الوجوه
السابقة أو نحوها.

الثامن: أن يكون النبيّ صلّى الله عليه وآله صلّى في الواقع ركعتين
عمداً قبل وجوب الصلاة وفرضها، وكانوا يصلّون في وقت استحباب الصلاة،
وذلك قبل ليلة المعراج مدّة طويلة، وكانوا يصلّون جماعة، فلعلّهم كانوا
يصلّون تلك الصلاة الخاصّة أربع ركعات دائماً، ولا يستلزم ذلك الوجوب،
وأن توهّمه ذو الشمالين وبعض المنافقين لجهلهم، فيكون ترك ركعتين
لأجل المصالح السابقة، لا لوقوع السهو والنسيان، بل لنفي الغلو وإبطال
التفويض، وتعليم أحكام السهو والنهي على التعبير بالسهو، أو عن الإفراط
في التعبير، أو المبالغة في إثبات البشرية، أو نحو ذلك من الحكم الظاهرة أو
الخفيّة.

ولم ينقل في أحاديث السهو إنّ أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم
السلام أو أحداً من المؤمنين المخلصين أو العلماء المعتبرين كان حاضراً،
وعلى هذا الوجه وبعض الوجوه السابقة، يكون نقل القصّة على وجه
الإجمال، وعدم بيان حقيقة الحال، وإطلاق لفظ السهو كلّه لملاحظة التقيّة،
وعدم الخروج عن رعاية تلك الحكم والمصالح للمكلّفين بحسب الإمكان،

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214