التنبيه بالمعلوم

التنبيه بالمعلوم18%

التنبيه بالمعلوم مؤلف:
المحقق: محمود البدري
الناشر: مكتبة الإعلام الإسلامي
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 214

التنبيه بالمعلوم
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29123 / تحميل: 6907
الحجم الحجم الحجم
التنبيه بالمعلوم

التنبيه بالمعلوم

مؤلف:
الناشر: مكتبة الإعلام الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

صورة الصفحة الاُولى من النسخة الخطّيّة « د »

٤١

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة الخطّيّة « د »

٤٢

مقدّمة المؤلّف

الحمد لله الّذي اختار الأنبياء والأوصياء حفظة للإيمان، وجعلهم حجّة
على الإنس والجان، واصطفاهم على العالمين في كلّ وقت وآن، وأذهب عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيراً بنصّ القرآن، ونزّههم عن السهو والشكّ والنسيان،
صلّى الله وسلّم عليهم [ جميعاً ](١) في جميع الأزمان.

أما بعد؛

فيقول [ العبد ](٢) الفقير إلى الله الغني، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي
عامله الله بلطفه الخفي: هذه رسالة في نفي السهو عن أهل العصمة عليهم
السلام، وذكر نبذة ممّا يدلّ على ذلك من الأدلّة العقليّة، والنصوص النقليّة،
وكلام جماعة من الأصحاب في هذا الباب، وردّ شبهة من جوّز السهو عليهم
في العبادة، وتأويل الأحاديث الّتي تدلّ على ذلك بظاهرها، وذكر بعض
نظائرها وما يناسب هذا المطلب.

والّذي دعاني إلى تأليف هذه الرسالة، التماس بعض الأفاضل
واشتباه الأمر على بعض آخر، وكون هذه المسألة من المهمّات، ولم أجد

__________________

(١) ليس في ج.

(٢) من ج فقط.

٤٣

من تعرّض لها بكلام شاف، واستدلالٍ واف، إلاّ من قلّ مع قصور ما وجدته
عن البيان كما ينبغي، وأرجو إن تزول الشبهة بهذه الرسالة بالكلّيّة،
ويتّضح الحقّ عند كلّ من له بصيرة وروية، وهي مرتّبة على اثني عشر فصلاً،
تبرّكاً بالعدد الشريف.

الأول: في ذكر جملة من عبارات علمائنا المصرّحين بنفي السهو
عن النبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام في العبادات
وغيرها.

الثاني: في ذكر عبارة من جوّز السهو على النبيّ صلّى الله عليه وآله
والإمام عليه السلام في العبادة دون التبليغ، وهو ابن بابويه رحمه الله.

الثالث: فيما يدلّ على نفي السهو عن النبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة
عليهم السلام مطلقاً من الآيات القرآنيّة(١) .

الرابع: فيما يدلّ على ذلك من الأحاديث المعتمدة.

الخامس: فيما يدلّ على ذلك من الوجوه العقليّة.

السادس: في بيان بعض المفاسد المترتّبة(٢) على تجويز السهو على المعصوم.

السابع: في ذكر شبهة من جوّز السهو عليه.

الثامن: في ذكر ضعفها.

التاسع: في بيان اضطرابها وبطلانها.

__________________

(١) في ب: العرابية.

(٢) في ب: المرتّبة.

٤٤

العاشر: في بيان تأويل أحاديث السهو.

الحادي عشر: في الجواب عن استدلال ابن بابويه بالتفصيل.

الثاني عشر: في ذكر بعض النظائر [ والأشباه ](١) لأحاديث السهو التي لا
يجوز حملها على ظاهرها.

__________________

(١) من د فقط.

٤٥

٤٦

الفصل الأول

في ذكر جملة من عبارات علمائنا وفقهائنا
المصرّحين بنفي السهو عن النبيّ
والأئمّة عليهم السلام في
العبادات وغيرها(١)

أقول: قد صرّحوا بذلك في أكثر كتبهم في الفروع، وصرّحوا في جميع
كتب الاُصول، بنفي السهو عنهم عليهم السلام على وجه العموم والإطلاق

__________________

(١) إنّ الكلام في مسألة سهو النبي صلّى الله عليه وآله مبسوط في أغلب كتب المقالات والكلام؛
ومذهب الشيعة الإماميّة في هذه المسألة هو: نفي السهو والنسيان عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه
وآله والأئمّة عليهم السلام، وقد أجمعوا على ذلك، إلاّ من شذّ كالصدوق وشيخه اللذان نسبا السهو
إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وذلك من خلال خبر ذي اليدين الذي رووه؛ وقد كتب في ردّهما
وتفنيد ما استندا عليه كثير من العلماء والفقهاء، وفي مقدّمة هؤلاء الشيخ المفيد محمد بن النعمان
قدّس سرّه، والسيد المرتضى؛ وقد كتب أحدهما رسالة مفردة في الردّ على الصدوق في هذه
المسألة: وقد أدرجها بتمامها العلاّمة المجلسي قدّس سرّه في بحار الأنوار « ١٧ / ١٠٤ »؛ كما انّه
فصّل الكلام في المسألة، وأطنب في بيان شذوذ تلك الأخبار التي استند إليها القائلون بالسهو.

ولذلك ردّ هذه المسألة السيد عبد الله شبّر قدّس سرّه في كتابه حقّ اليقين « ١ / ٩٣ » ومصابيح
الأنوار: « ٢ / ١٣٣ ».

ولم يقتصر ردّ الصدوق في هذه المسألة على الكتب الكلامية فحسب؛ بل، تجد ردّه في كثير من
الكتب الفقهية أيضاً كالتذكرة والمنتهى للعلاّمة وغيرها.

٤٧

الشامل للعبادة وغيرها، وأوردوا أدلّة كثيرة شاملة للعبادة، ولا يحضرني
جميع تلك الكتب، فأنا أذكر ما أمكن إيراده الآن من ذلك.

قال الشيخ الأجل رئيس الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
قدّس الله سرّه في التهذيب بعد ما روى حديثاً: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله
ما سجد سجدتي السهو قطّ ولا يسجدهما فقيه(١) .

قال محمد بن الحسن: الّذي أفتي به ما تضمّنه هذا الخبر،
وأمّا الأخبار التي قدّمناها من انّ النبي سها فسجد، فانها موافقة
للعامّة، وانّما ذكرناها لأن ما تضمّنته من الأحكام معمول به على ما
بيّناه(٢) . انتهى.

وقال في موضع آخر بعدما أورد حديثين بعنوان المنافاة، يتضمّنان قصة
ذي الشمالين ما هذا لفظه: على انّ في الحديثين الأوّلين ما يمنع من التعلّق
بهما، وهو حديث ذي الشمالين وسهو النبي صلّى الله عليه وآله وهذا ممّا تمتنع(٣)
العقول منه.(٤) انتهى.

وقال في كتاب الاستبصار في باب السهو في صلاة المغرب، بعدما أورد
حديثين بعنوان المنافاة، وجمع بينهما وبين الأحاديث السابقة، ثمّ قال: مع انّ
الحديثين ما يمنع من التعلّق بهما، وهوحديث ذي الشمالين وسهو النبي صلّى

__________________

(١) التهذيب ٢: ١٨٠ ح ٧٢٦، عنه بحار الأنوار ١٧: ١٠٢ ح ٨.

(٢) والخبر أقوى ممّا تقدّم سنداً، وفيما تقدّم دليل على أن هذا المضمون كان مشهوراً بين العامّة،
فالأخبار واردة في شرح ما يقولونه.

(٣) في ب: تمنع.

(٤) التهذيب ٢: ١٨٠ ح ٧٢٤ و ٧٢٥.

٤٨

الله عليه وآله، وذلك ممّا تمنع منه الأدلّة القاطعة في انّه لا يجوز عليه السهو
والغلط(١) .

وقال في الاستبصار أيضاً بعد ذكر حديث في باب من صلّى بقوم
على(٢) غير وضوء مضمونه: إنّ عليّاً عليه السلام صلّى بقوم على غير طهر ثم
نادى مناديه: انّ أمير المؤمنين عليه السلام صلّى بكم على غير طهر،
فاعيدوا(٣) .

قال: هذا خبر شاذ مخالف للأحاديث، وما هذا حكمه لا يعمل عليه،
وقد تضمّن أيضاً من الفساد ما يقدح في صحّته، وهو انّ أمير المؤمنين عليه
السلام صلّى بالناس على غير وضوء، وقد آمننا من ذلك دلالة عصمته عليه
السلام. انتهي.

وقال في التهذيب(٤) أيضاً مثل ذلك عند ذكر هذا الحديث.

وقال الشيخ المفيد قدّس سرّه في رسالة منسوبة إليه(٥) في الردّ على من
ذهب إلى تجويز السهو على النبي صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام في
العبادة. - وربّما نسبت الرسالة إلى السيّد المرتضى(٦) -، والأول أرجح، قال

__________________

(١) الاستبصار ١: ٣٧١.

(٢) كذا في « ب، د » والمصدر، وفي ج: من.

(٣) الاستبصار ١: ٤٣٣ ح ٥.

(٤) التهذيب ٣: ٤٠ ح ٦.

(٥) وهي رسالة في عدم سهو النبي صلّى الله عليه وآله، حيث ردّ فيها على الرواية التي تزعم انّ النبي
صلّى الله عليه وآله صلّى صلاة رباعيّة وسلّم فيها على ركعتين - سهواً -.

(٦) الرسالة المنسوبة للسيّد المرتضى قدّس سرّه هي غير هذه الرسالة، وهي رسالة في تنزيه الأنبياء
والأئمّة عليهم السلام.

٤٩

فيها ما هذا لفظه:

وقد وقفت بها أيّها الأخ على ما كتبت به في معنى ما وجدته(١) لبعض
مشايخك(٢) ، فيما يضاف إلى النبي صلّى الله عليه وآله من السهو في الصلاة،
والنوم عنها حتى خرج وقتها.

ثم نقل مضمون عبارة الصدوق الآتية - إلى أن قال -: وسألت - أعزّك الله
[ بطاعته ](٣) - أن اُثبت لك ما عندي فيما حكيته [ عن هذا الرجل ](٤) ، واُبيّن عن
الحقّ في معناه، وأنا مجيبك إلى ذلك، والله الموفّق للصواب.

اعلم، انّ الّذي حكيت عنه [ ما حكيت، ممّا قد أثبتناه ](٥) قد تكلّف
ما ليس من شأنه، فأبدى [ بذلك ](٦) عن نقصه في العلم وعجزه، ولو كان
ممّن وفّق لرشده لما تعرّض له، لما لا يحسنه، ولا هو من صناعته، ولا
يهتدي إلى معرفته، لكن الهوى مُردٍ لصاحبه(٧) ، نعوذ بالله من سلب التوفيق،
ونسأله العصمة من الضلال، ونستهديه في سلوك نهج الحق، [ وواضح الطريق

__________________

(١) في د: رجوته.

(٢) ويقصد به الشيخ الصدوق قدّس سرّه، والذي روى حديثاً مسنداً إلى الحسن بن محبوب، عن
الرباطي، عن سعيد الأعرج، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام: إن الغلاة من المفوّضة
لعنهم الله ينكرون سهو النبي صلّى الله عليه وآله، ويقولون: لو جاز أن يسهو عليه السلام في الصلاة
جاز أن يسهو في التبليغ، لأنّ الصلاة عليه فريضة كما أن التبليغ عليه فريضة...» إلى آخر كلامه.

ثمّ قال: وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ; يقول: أول درجة في الغلو نفي
السهو عن النبي صلّى الله عليه وآله ». انظر: من لا يحضره الفقيه ١: ٢٣٣ / ١٠٣١.

(٣) ليس في ج.

(٦، ٥، ٤) ليس في النسخ / وما أثبتناه من الرسالة المنسوبة للشيخ المفيد في عدم سهو النبي صلّى
الله عليه وآله.

(٧) مُرد لصاحبه: أي مُهلك.

٥٠

بمنّه ](١) .

الحديث الذي روته الناصبة والمقلّدة من الشيعة: « أنّ النبي صلّى الله
عليه وآله سها في صلاته، فسلّم في ركعتين ناسياً، فلمّا نُبّه على غلطه فيما
صنع، أضاف إليهما ركعتين، ثمّ سجد سجدتي السهو »(٢) ، من الأخبار الآحاد
التي لا تثمر علماً، ولا توجب عملاً، ومن عمل على شيء منها فعلى الظن
يعتمد في عمله بها دون اليقين، وقد نهى الله تعالى عن العمل بالظنّ في الدين،
وحذّر من القول فيه بغير علم ويقين.

فقال:( وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٣) .

وقال:( إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٤) .

وقال:( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٥) .

__________________

(١) من المصدر.

(٢) ورد الحديث بالفاظ مختلفة، وفي أوقات متعددة في الكثير من كتب الحديث وعند الفريقين. فقد
روى الشيخ الكليني في الكافي « ٣: ٣٥٥ » بسنده يرفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال في حديث
طويل: فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله صلّى بالناس الظهر ركعتين، ثمّ سها فسلّم، فقال له ذو
الشمالين: يا رسول الله، أنزل في الصلاة شيء؟

فقال: وما ذاك؟!

قال: إنّما صلّيت ركعتين.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أتقولون مثل قوله؟

قالوا: نعم، فقام صلّى الله عليه وآله فأتمّ بهم الصلاة وسجد بهم سجدتي السهو الخ.

ورواه مسلم في صحيحه ١: ٤٠٣ ح ٥٧٣، والنسائي في سننه ٣: ٢٠ - ٢٥، وأبو داود في سننه ١:
١١٨ - ١٢٢ ح ٤٣٥ - ٤٣٧.

(٣) سورة البقرة: ١٦٩.

(٤) سورة الزخرف: ٨٦.

(٥) سورة الإسراء: ٣٦.

٥١

وقال:( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا ) (١) .

وقال:( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (٢) .

وأمثال ذلك في القرآن [ ممّا يتضمّن الوعيد على القول في دين الله بغير
علم، والذم والتهديد لمن عمل فيها بالظنّ واللوم له على ذلك، والخبر عنه بأنّه
مخالف الحقّ فيما استعمله في الشرع والدين ](٣) كثيرة.

وإذا كان خبر سهوه صلّى الله عليه وآله من أخبار الآحاد(٤) الّتي من عمل
عليها كان عاملاً بالظنّ، حرم الاعتقاد بصحّته، ولم يجز القطع به، ووجب
العدول عنه إلى ما يقتضيه اليقين من كماله صلّى الله عليه وآله وعصمته،
وحراسة الله تعالى له من الخطأ(٥) في عمله، والتوفيق له فيما قال وعمل من
شريعته، وفي هذا القدر كفاية في ابطال حكم من حَكَم على النبي صلّى الله
عليه وآله بالسهو في صلاته.(٦) « انتهى ».

ويأتي باقي الرسالة المذكورة إن شاء الله تعالى.

وقال المحقّق في المختصر النافع:

وفي رواية الحلبي: عن أبي عبد الله عليه السلام انّه سمعه يقول
فيهما - يعني سجدتي السهو -: بسم الله وبالله وصلّى الله على محمد

__________________

(١) سورة يونس: ٣٦.

(٢) سورة يونس: ٦٦.

(٣) من المصدر.

(٤) لقد اصطلح العلماء الحديث على تقسيم الخبر من حيث رواته إلى متواتر وآحاد، وعدّوا كل حديث
لا تتوفر فيه شروط التواتر من نوع الآحاد، سواء كان الراوي له واحداً أو أكثر.

(٥) في « ب، د »: وحراسته من الخطأ.

(٦) من رسالة عدم سهو النبيّ صلّى الله عليه وآله للشيخ المفيد.

٥٢

وآل محمد.

وسمعته مرّة اُخرى يقول: بسم الله وبالله، السلام عليك أيها النبي ورحمة
الله وبركاته.

والحقّ رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة(١) .

ورفع منصب النبوّة يلزمه بطريق الأولويّة، ولا ريب انّه مراده كما لا
يخفى، إذ النبي صلّى الله عليه وآله إمام كما وقع التصريح به في القرآن
والحديث.

ويمكن أن يكون مراده إنّ معنى قول الحلبي: سمعته يقول في سجدة
السهو كذا: انّه سمعه يقول ذلك فيهما على وجه الفتوى والتعليم لا انّه سها
وسجد.

فقوله عليه السلام في سجدة السهو كذا؛ أي هذا دعاؤها
وذكرها من غير أن يكون سجد، كما قالوا عليهم السلام: في القتل مائة
من الابل.

وقال العلاّمة قدّس سرّه في التذكرة ما هذا لفظه:

وخبر ذي اليدين عندنا باطل؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله معصوم لا
يجوز عليه السهو، مع أن جماعة من أصحاب الحديث طعنوا فيه(٢) ، لأنّ راويه
أبو هريرة وكان اسلامه بعد موت ذي اليدين بسنتين، فإن ذا اليدين قتل يوم

__________________

(١) المختصر النافع: ٤٥، ط دار الكتاب العربي بمصر.

(٢) انظر: ارشاد الساري ٢: ٣٦٥، عمدة القارىء ٤: ٢٦٤.

٥٣

بدر وذلك بعد الهجرة بسنتين، وأسلم أبو هريرة بعد الهجرة بسبع سنين(١) .

قال المحتجّون به: إنّ المقتول يوم بدر هو ذو الشمالين واسمه عبد الله
ابن عمرو بن نضلة الخزاعي(٢) ، وذو اليدين عاش بعد النبيّ صلّى الله عليه
وآله، ومات في أيّام معاوية وقبره بذي خُشب(٣) ، واسمه الخرباق(٤) ، لأنّ
عمران بن الحصين روى هذا الحديث، فقال فيه: فقام الخرباق فقال:
أقصرت الصلاة(٥) ؟

واُجيب بأنّ الأوزاعي قال: فقام ذو الشمالين، فقال: أقصرت الصلاة،
[ أم نسيت يا رسول الله ](٦) ؟(٧)

وذو الشمالين قتل يوم بدر لا محالة(٨) .

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٤: ٣٢٧، تهذيب التهذيب ١٢: ٢٩٠، تهذيب الأسماء واللغات ١: ١٨٦، شرح
صحيح مسلم للنووي ٣: ٢٤٥، الإصابة ١: ٤٢٢.

(٢) في التذكرة: فضلة، وفي أسد الغابة ( ٣: ٣٣٠ ): عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، وقال في مكان آخر
( ٢: ١٤١ ) عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن غبشان بن سلم بن مالك بن أقصى بن حارثة بن
عمرو بن عامر.

(٣) ذو خُشبْ: محرّكة، موضع باليمن. وخُشُبْ، كجُنُبْ: واد باليمامة وواد بالمدينة. « القاموس
المحيط ١: ٦٢، معجم البلدان ٢: ٣٧٢ ».

(٤) قيل: إنّ ذا اليدين اسمه الخرباق بن عمرو من بني سليم، وإن ذا الشمالين اسمه عمير بن عبد عمرو
ابن نضلة الخزاعي؛ وقيل: إنّ ذا اليدين وذا الشمالين واحد؛ وقيل غير ذلك، وسمّي بذي اليدين
لأنّه كان يعمل بيديه جميعاً؛ وقيل: لأنّه كان في يديه طول.

راجع: تهذيب الأسماء واللغات١: ١٨٥، الإصابة ١: ٤٢٢ و ٣: ٣٣، الطبقات الكبرى ٣: ١٦٧،
شرح صحيح مسلم للنووي ٣: ٢٤١.

(٥) سنن ابن ماجة ١: ٣٨٤ ح ١٢١٥، سنن النسائي ٣: ٢٦، سنن أبي داود ١: ٢٦٧ ح ١٠١٨.

(٦) ليس في ب.

(٧) صحيح مسلم ١: ٤٠٤ ح ٩٩، سنن النسائي٣: ٢٢، الموطأ ١: ٩٤ ح ٥٩، سنن البيهقي٢: ٣٣٥.

(٨) حكاه الشيخ في الخلاف ١٠: ٤٠٥، المسألة ١٥٤.

٥٤

وروي من طريق الخاصّة أنّ ذا اليدين كان يقال له ذو الشمالين، عن
الصادق عليه السلام(١) . « انتهى كلام العلاّمة »(٢) .(٣)

__________________

(١) انظر: الكافي ٣: ٣٥٧ ح ٦، التهذيب ٢: ٢٤٥ ح ١٤٣٣.

(٢) تذكرة الفقهاء ١: ١٣٠، مسألة: « يجب ترك الكلام بحرفين فصاعداً مما ليس بقرآن ولا دعاء ».
الطبعة الحجرية.

(٣) قال السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي في كتابه أبو هريرة وخلال حديثه عن الوجوه
الحاكمة بامتناع هذا الحديث ما نصّه:

أحدها: انّ مثل هذا السهو الفاحش لا يكون ممّن فرّغ للصلاة شيئاً من قلبه، أو أقبل عليها بشيء من
لبّه، وإنّما يكون من الساهين عن صلاتهم، اللاهين عن مناجاتهم، وحاشا أنبياء الله من أحوال
الغافلين، وتقدّسوا عن أقوال الجاهلين، فإنّ أنبياء الله عزّ وجلّ ولا سيّما سيّدهم وخاتمهم أفضل
ممّا يظنون على انّه لم يبلغنا مثل هذا السهو عن أحد ولا أظن وقوعه إلاّ ممّن يمثل حال القائل:

اُصلّي فما أدري إذا ما ذكرتها

أثنتين صلّيت الضحى أم ثمانيا؟

وأمّا وسيّد النبيّين، وتقلّبه في الساجدين، انّ مثل هذا السهو لو صدر مني لاستولى عليَّ الحياء،
وأخذني الخجل، واستخفَّ المؤتمّون بي وبعبادتي، ومثل هذا لا يجوز على أنبياء الله أبداً.

الثاني: انّ الحديث قد اشتمل على إنّ النبي صلّى الله عليه وآله قال: لم أنس ولم تقصر، فكيف يمكن
أن يكون قد نسي بعد هذا؟ ولو فرضنا عدم وجوب عصمته عن مثل هذا السهو، فإنّ عصمته عن
المكابرة والتسرّع بالأقوال المخالفة للواقع ممّا لابدّ منه عند جميع المسلمين.

الثالث: انّ أبا هريرة قد اضطرب في هذا الحديث وتعارضت أقواله فتارة يقول: صلّى بنا
احدى صلاتي العشي أمّا الظهر وأمّا العصر - على سبيل الشك - واُخرى يقول: صلّى بنا صلاة العصر
- على سبيل القطع بانّها العصر - وثالثة يقول: بينا أنا اُصلّي مع رسول الله صلاة الظهر - على سبيل
القطع بأنّها الظهر - وهذه الروايات كلّها ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم كليهما، وقد ارتبك فيها
شارحوا الصحيحين ارتباكاً دعاهم الى التعسّف والتكلّف كما تكلّفوا وتعسّفوا في الردّ على الزهري
إذ جزم بانّ ذا اليدين وذا الشمالين واحد لا اثنان، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا ( تحفة المحدّثين ).

الرابع: ان ما اشتمل هذا الحديث عليه من قيام النبي صلّى الله عليه وآله عن مصلاّه ووضع يده
على الخشبة، وخروج سرعان من المسجد وقولهم أقصرت الصلاة؟ وقول ذي اليدين أنسيت أم
قصرت؟ وقوله النبي صلّى الله عليه وآله لم أنس ولم تقصر. فقاله: قد نسيت.

وقوله النبي لأصحابه: أحقٌّ ما يقول. قالوا: بلى، نعم. وغير ذلك ممّا نقله أبو هريرة لما يمحو صورة
الصلاة بتاتاً.

والمعلوم من الشريعة المقدّسة يقيناً بطلان الصلاة بكل ماح لصورتها فلا يمكن بعد هذا بناؤه

٥٥

وقال في الرسالة السعدية:

اختلف المسلمون هنا.

فذهبت طائفةٌ: إلى أنّ النبي صلّى الله عليه وآله لا يجوز عليه الخطأ

__________________

صلّى الله عليه وآله على الركعتين الأوّليّتين لانّه يناقض الحكم المقطوع بثبوته عنه صلّى الله عليه
وآله فتأمّل.

إنّ ذا اليدين المذكور في الحديث إنّما هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف بني زهرة، وقد استشهد
في بدر، نصّ على ذلك إمام بني زهرة وأعرف الناس بحلفائهم محمد بن مسلم الزهري كما في
الاستيعاب والاصابة وشروح الصحيحين كافة وهذا هو الذي صرح به الثوري في أصحّ الروايتين
عنه وأبو حنيفة حين تركوا العمل بهذا الحديث، وأفتوا بخلاف مفاده - كما في أواخر باب السهو
والسجود له من شرح النووي لصحيح مسلم - وحسبك حديث النسائي مما يدل على ان ذا اليدين
وذا الشمالين واحد - واليك لفظه: قال فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو: أنقصت الصلاة أم نسيت؟
فقال النبي: ما يقول ذو اليدين فصرّح بان ذا الشمالين هو ذو اليدين.

ومثله بل أصرح منه ما أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة عن أبي سلمة عن عبد الرحمن وأبي
بكر بن سليمان بن أبي خيثمة كليهما عن أبي هريرة، قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله الظهر
أو العصر فسلّم في ركعتين، فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو ( قال ): وكان حليفاً لنبي زهرة
أخففت الصلاة أم نسيت؟. فقال النبي صلّى الله عليه وآله ما يقول ذو اليدين؟ قالوا صدق،
الحديث.

وأخرج أبو موسى من طريق جعفر المستغفري كما في ترجمة عبد عمرو بن يضلة من الاصابة
بالاسناد الى محمد بن كثير عن الاوزاعي عن الزهري عن كل من سعيد بن المسيب وأبي سلمة
وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال: سلم رسول الله صلّى الله عليه وآله في الركعتين فقام عبد
عمرو بن نضلة رجل من خزاعة حليف لبني زهرة فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟. الحديث، وفيه
قول النبي صلّى الله عليه وآله: صدق ذو الشمالين؟

فهذه الأحاديث كلها صريحة في أن ذا اليدين المذكور في حديث أبي هريرة انّما هو ذو الشمالين ابن
عبد عمرو حليف بني زهرة، ولا ريب في ان ذا الشمالين المذكور قتل يوم بدر قبل أن يسلم أبو
هريرة بأكثر من خمس سنين، وان قاتله اسامة الجشمي، نصّ على ذلك ابن عبد البر وسائر أهل
الاخبار فكيف يمكن ان يجتمع مع أبي هريرة في الصلاة خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله يا اولي
الالباب؟؟. ( انظر: أبو هريرة لشرف الدين: ٨٦ - ٩٠ ).

٥٦

والسهو.

وذهبت طائفة اُخرى: إلى جواز ذلك؛ حتى قالوا: إنّ النبي صلّى الله
عليه وآله كان يصلّي الصبح يوماً، فقرأ مع «الحمد»، « والنجم إذا هوى »، إلى
أن وصل إلى قوله تعالى:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) (١)
قرأ: « تلك الغرانيق العلى(٢) ، منها الشفاعة ترتجى » ثم استدرك ذلك(٣) .

وهذا في الحقيقة كفر.

وانّه صلّى الله عليه وآله صلّى يوماً العصر ركعتين وسلّم - ثمّ ذكر حديث
ذي الشمالين -.

ثم قال العلاّمة: وهذا المذهب في غاية الرداءة.

والحقّ: الأول، فانّه لو جاز عليه السهو والخطأ، لجاز ذلك في جميع
أقواله وأفعاله، فلم يبق وثوق باخباراته عن الله تعالى، ولا بالشرائع والأديان،
لجواز أن يزيد فيها وينقص سهواً، فتنتفي فائدة البعثة.

ومن المعلوم بالضرورة: إنّ وصف النبيّ بالعصمة، أكمل وأحسن من

__________________

(١) سورة النجم: ١٩ و ٢٠.

(٢) هكذا في اسطورة الغرانيق. وفي الرسالة السعدية: « الاُولى » بدل « العلى ».

(٣) لقد فنّد اسطورة الغرانيق هذه الكثير من العلماء، منهم: العلاّمة السيّد مرتضى العسكري الّذي وفّق
إلى بيان بطلانها واختلاقها: متناً، وسنداً. وراجع كذلك ما كتبه العلاّمة عبد الحسين شرف الدين في
كتابه القيّم « أبو هريرة ».

ومن القدماء الّذين تناولوا هذه المسألة: محمد بن إسحاق بن خُزيمة « ت ٣١١ ه‍ » حيث قال عن
روايات الغرانيق: إنّها من وضع الزنادقة، وقد صنّف فيها كتاباً.

وكذلك الشيخ أحمد بن عبد الفتّاح بن يوسف المجيري في كتابه « منهل التحقيق في مسألة
الغرانيق - مخطوط ». انظر: الاعلام ١: ١٥٢.

٥٧

وصفه بضدّها، فيجب المصير إليه، لما(١) فيه من دفع الضرر المظنون، بل
المعلوم.(٢) « انتهى كلام العلامة ».

وهو صريح في منافاة السهو في العبادة للعصمة.

ونقل المقداد في شرح نهج المسترشدين عن أصحابنا وجوب عصمة
النبي والإمام عليهما السلام عن السهو في كل من الأقسام الأربعة بتبليغ الشرع
والاعتقاد الديني والدنيوي(٣) ، واستدلَّ على ذلك بأدلّة ذكرها(٤) .

__________________

(١) في د: إليها فيه.

(٢) الرسالة السعدية: ٧٦، ط النجف الأشرف.

(٣) في د: والاعتقاد الديني والدنيوي، والفعل الديني والدنيوي.

(٤) ارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: ٣٠٣.

قال العلاّمة في نهج المسترشدين: ومن هذا علم أنّه لا يجوز أن يقع منه الصغائر والكبائر، لا عمداً
ولا سهواً ولا غلطاً في التأويل.

ويجب أن يكون منزّها عن ذلك كلّه من أوّل عمره إلى آخره.

وقال الفاضل المقداد في ارشاد الطالبين في شرحه لهذه العبارة:

أقول: اعلم انّه لمّا استدل على مطلوبه أشار إلى خلاف الناس هنا، ومحصّل الأقوال هنا أن نقول:
أفعال الأنبياء لا تخلو من أقسام أربعة:

الأول: الاعتقاد الديني.

الثاني: الفعل الصادر عنهم من الأفعال الدينية.

الثالث: تبليغ الأحكام ونقل الشريعة.

الرابع: الأفعال المتعلّقة بأحوال معاشهم في الدنيا ممّا ليس بديني.

فالقسم الأول: اتّفق أكثر الناس على عصمتهم فيه خلافاً للخوارج فانّهم جوّزوا عليهم الكفر،
لاعتقادهم أنّ كلّ ذنب صدر عنهم فهو كفر، وجوّزوا صدور الذنب عنهم، فقد جوّزوا عليهم الكفر،
خلافاً لابن فورك حيث جوّز بعثه من كان كافراً، لكن قال: هذا الجائز لا يقع.

وبعض الحشويّة قال بوقعه، وبعضهم جوّز عليهم الكفر للتقيّة وهذا باطل، لأنّه يفضي إلى اخفاء
الدين بالكليّة، لأن أولى الزمان بالتقيّة حين اظهار الدعوة، لأن الأكثر من الناس يكون منكراً.

وأمّا القسم الثاني: فقال ما عدا الإمامية: انّه يجوز عليهم قبل البعثة فعل جميع المعاصي، كبائر كانت
أو صغائر، واختلفوا في زمان البعثة؛ فقالت الأشاعرة: لا يجوز عليهم الكبائر مطلقاً، وأمّا الصغائر

٥٨

وقال شيخنا الشيخ بهاء الدين في جواب المسائل المدنيات(١) : عصمة
الأنبياء والأئمّة عليهم السلام من السهو والنسيان، ممّا انعقد عليه اجماعنا،
وخروج الشخص المعلوم النسب غير قادح في الاجماع، وأيضاً نسبة السهو
إليه في هذه المسألة أولى من نسبته إلى الأنبياء.

قال: ومراد الصدوق رحمه الله بكون سهوه من الله، انّ سبب سهوه
كتسليط النوم عليه واقع منه تعالى لمصلحة دينية أو دنيوية، فإنّ أفعاله تعالى
معلّلة بالاغراض وليس من الشيطان، إذ لا قدرة له على تسلط النوم عليه
ومراده بكون سهونا من الشيطان انّ سببه الوساوس الشيطانية، والخواطر
الملهية واقعة بفعله.

قال: والرواية المتضمّنة لنومه صلّى الله عليه وآله عن الصلاة صحيحة
السند، قد تلقّاها الأصحاب بالقبول، حتى قال الشهيد في الذكرى: انّه لم

__________________

فتجوز سهواً.

وقالت المعتزلة: بامتناع الكبائر مطلقاً، وأمّا الصغائر فاختلفوا فيها، فقال بعضهم: أنّه تجوز على
سبيل التأويل، كما يقال: بانّ آدم أوّل النهي عن الشجرة بالنهي عن الشخص وكان المراد النوع، فإنّ
الاشارة قد تكون إلى النوع كقوله صلّى الله عليه وآله: « هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلاّ به »
( الرسالة السعدية: ٩٥ ).

وقال بعضهم: على سبيل القصد، لكنّها تقع محيطة لكثرة ثوابهم. والحشوية جوّزوا الإقدام على
الكبائر، ومنهم من منع تعمّدها وجوّز تعمّد الصغائر.

وأمّا القسم الثالث: فأجمع الكلّ على عدم جواز الخطأ فيه.

وأمّا القسم الرابع: فجوّز أكثر الناس السهو.

وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقاً، قبل النبوّة وبعدها عن الصغائر والكبائر عمداً وسهواً، بل وعن
السهو مطلقاً ولو في القسم الرابع، ويدلّ عليه ما تقدّم.

(١) لم نعثر على هذه الرسالة.

٥٩

نجد(١) لها ردّاً(٢) ، فقبول من عدا الصدوق من الأصحاب لها شاهد صدق بانّهم
لا يعدون(٣) ذلك سهواً والعرف يدلّ عليه(٤) . « انتهى ».

وقال الشهيد في الذكرى بعد ذكر خبر ذي اليدين: وهو متروك بين
الإماميّة لقيام الدليل العقلي على عصمة النبيّ صلّى الله عليه وآله عن السهو،
ولم يصر إلى ذلك غير ابن بابوية، ونقل عن شيخه محمد بن الحسن بن الوليد
انّه قال: أوّل درجة الغلو نفي السهو عن النبيّ صلّى الله عليه وآله.

وهذا حقيق بالإعراض عنه، لأنّ الأخبار معارضة بمثلها فيرجع إلى
قضية العقل، ولو صحّ النقل لوجب تأويله على انّ اجماع الإماميّة في الأعصار
السابقة على هذين الشيخين واللاّحقة لهما على نفي السهو عن النبيّ صلّى الله
عليه وآله والأئمّة عليهم السلام(٥) . « انتهى ».

وقال المحقّق الطوسي في التجريد: ويجب في النبي العصمة - إلى أن
قال: - والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكل ما ينفر عنه. انتهى.

وقال العلاّمة الحلّي في شرحه نحو هذه العبارة، بل أبلغ منها(٦) .

وقال المفيد في شرح اعتقادات ابن بابوية كلاماً طويلاً بليغاً في أن
القول بنفي السهو عن النبي صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام ليس في

__________________

(١) في ج: يجد.

(٢) في د: رادّاً.

(٣) في ب: يودون.

(٤) راجع الذكرى: ١٣٤ ط الحجرية.

(٥) الذكرى: ٢١٥ ط الحجرية.

(٦) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ٣٤٩.

وأخرجه في البحار ١٧: ١٠٩ عن التجريد.

٦٠

الغلو، بل القول بجوازه من التقصير في الاعتقاد(١) .

وقال العلاّمة في المنتهى في مسألة التكبير في سجدتي السهو بعدما
روى حديثاً في سهو النبي صلّى الله عليه وآله: والجواب: هذا الحديث عندنا
باطل لاستحالة السهو على النبي صلّى الله عليه وآله(٢) .

وقال في مسألة اُخرى: قال الشيخ: وقول مالك باطل لاستحالة السهو
على النبي صلّى الله عليه وآله(٣) .

وقال في المختلف بعدما ذكر حديث السهو: انّه مشتمل على ما
هو متروك بالاجماع وهو سهو النبي صلّى الله عليه وآله - ثم قال -:
وأمّا اشتماله على السهو فانّه يحمل على الترك لتعريف العباد أحكام
السهو لما علم أنّ الصحابة كانوا يصيرون إلى أقواله إذا اقترنت بأقواله
غالباً(٤) .

ولهذا شكى إلى اُمّ سلمة ذلك فأراد تعريفهم أحكام الصلاة بالقول
والفعل ويكون قد صلّى بهم ركعتين واجبتين(٥) غير الرباعية لهذه الفائدة على
انّ ابن بابويه قال قولاً ضعيفاً لا يصار إليه ثم ذكر عبارته الآتية - ثم قال: - هذا
آخر كلام ابن بابويه وهو خارج عن سنن الصواب، والحق رفع منصب النبي
صلّى الله عليه وآله عن السهو وقد بيّناه في كتبنا الكلامية إذ هو الموضع

__________________

(١) شرح اعتقادات الصدوق: ١٣٥، والمطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد.

(٢) منتهى المطلب ١: ٤١٨، ط الحجرية.

(٣) منتهى المطلب ١: ٤١٩، ط الحجرية.

(٤) في « ب، ج »: غائباً.

(٥) في د: واختير.

٦١

المختص به.(١) انتهى.

[ ويحكي عن الشيخ بهاء الدين رحمه الله: إنّ سائلاً سأله عن قول ابن
بابويه: إنّ النبيّ قد سهى، فقال: بل ابن بابويه قد سهى، فانّه أولى بالسهو من
النبي صلّى الله عليه وآله.

وهذا جواب حسن في غاية الجودة.

ويمكن أن يجاب بمثله عن قول ذي اليدين ورواية من روى السهو
فانّهما أحقّ بالغلط والسهو. ويأتي تحقيق المقام إن شاء الله تعالى ](٢) .

وقد صرّح علمائنا في كتب الاُصوليين(٣) بما يقتضي نفي السهو.

أمّا في كتب اُصول الدين ففي مقام اثبات العصمة، ونفي الخطأ والسهو
والنسيان عن النبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام عليه السلام بقول مطلق
قبل النبوّة والإمامة وبعدهما، أعمّ من أن يكون في العبادة أو غيرها،
والاستدلال على ذلك بأدلّة واضحة في شمول العبادة كما يأتي إن شاء
الله تعالى.

وأمّا في كتب اُصول الفقه، فحيث يذكرون انّ السنّة التي يجب اتّباعها
والعمل بها، والتعويل عليها هي قول النبيّ والإمام، أو فعلهما، أو تقريرهما.

ثمّ يبحثون عن الفعل، ويقسّمونه إلى أقسام، ويحضرونه في شقوق
حاصلها الوجوب والندب والإباحة، ولا يذكرون الكراهة فضلاً عن التحريم

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢: ٣٥٩.

(٢) من ج فقط.

(٣) في هامش ج: الاُصولين؛ أي اُصول الدين واُصول الفقه. « منه رحمه الله ».

٦٢

أو السهو، ثمّ يحكمون بان فعله صلّى الله عليه وآله دالّ على الجواز صريحاً،
وعلى الاستحباب والوجوب مع القرينة الدالّة على وجهه، وأنّ تركه صلّى
الله عليه وآله دالّ على نفي الوجوب صريحاً، وعلى الكراهة والتحريم
مع القرينة، وكلّ ذلك يقتضي أن يكون فعله صلّى الله عليه وآله حجّة عندهم
مطلقاً، وانّه نوع من التبليغ لوجوب اتّباعه والاقتداء به بنصّ القرآن، وغيره
من الأدلّة.

وبالجملة فعبادته صلّى الله عليه وآله تبليغ قطعاً، وتبليغه عبادة، فبطل
الفرق بينهما كما يأتي نقله، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وآله: « صلّوا كما
رأيتموني اُصلّي »(١) ، و« خذوا عنّي مناسككم »(٢) إلى غير ذلك.

وهذه الإشارة كافية عن نقل عبارات الأصحاب في كتب الاُصوليين
فارجع إليها فانّها دالّة على ما قلناه.

وقد صرّح ابن طاووس في الطرائف(٣) وغيره بمثل ما تقدّم من عبارات

__________________

(١) انظر: شرح الموطأ ١: ١٤٢، المغني لابن قدامة ١: ٤٦٠، كنز العمّال ٧: ٢٠١، صحيح البخاري
٢: ٥٢، سن الدرامي ١: ٢٣٠، مسند أحمد ٥: ٥٣، وفيه « تروني » بدلاً من « رأيتموني ».

وأخرجه العلاّمة الحلّي في الرسالة السعدية: ٩٦.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ٥: ١٢٥، التمهيد لابن عبد البر ٢: ٦٩ و٩١ و٩٨، فتح الباري ١: ٢١٧ و
٤٩٩، اتحاف السادة المتّقين للزبيدي ٤: ٤٣٧، البداية والنهاية ٥: ١٨٤ و ٢١٥، إرواء الغليل
للألباني ٤: ٢٧١.

(٣) قال ابن طاووس في الطرائف: ومن ذلك ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي في الحديث
الخامس والأربعين بعد المائتين من المتّفق عليه من مسند أبي هريرة في حديث يزيد بن إبراهيم
عن محمد بن أبي هريرة قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وآله إحدى صلاتي العشي - قال
محمد - يعني إبن سيرين - وأكثر ظنّي العصر -، فسلّم في ركعتين، ثمّ قام إلى خشبة في مقدّم
المسجد فوضع يده عليها مغضباً، وفيهم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه، وخرج سرعان الناس
فقالوا: أقصرت في الصلاة؟ وهناك رجل يدعوه النبي صلّى الله عليه وآله ذا اليدين، فقال: يا

٦٣

الأصحاب.

وقد صنّفوا في ذلك كتباً ورسائل، منها رسالة الشيخ المفيد التي نقلنا
بعضها وننقل باقيها إن شاء الله تعالى

ومنها ما ذكره النجاشي في كتاب الرجال حيث قال:

إسحاق بن الحسين بن بكران أبو الحسين الغفري(١) التمّار كثير السماع،

__________________

نبي الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟

فقال: لم انس ولم تقصر الصلاة.

قال: بلى، قد نسيت.

قال: صدق ذو اليدين، فقام فصلّى ركعتين، ثمّ سلّم، ثمّ كبّر، فسجد مثل سجوده وأطول، ثمّ رفع
رأسه وكبّر.

( قال عبد المحمود: ) يا بشرى لمن فارق هؤلاء الأربعة مذاهب القائلين عن نبيّهم مثل هذه
المقالات، المصدّقين عنه لهده الروايات.

ومن طريف هذا الحديث أنّ أبا بكر وعمر كانا ذاكرين انّه غلط وسهى، ليت شعري من عرف من
الرواة باطنهما حتى شهد لهما بذلك، أو من شهد لهما بالعصمة حتى يصدّقهما أنّهما كانا أكمل من
نبيّهم وأحضر فكراً وأشدّ بصيرة، وليت شعري من أين لهما أنّه غلط وسهى، وهلا جوّزوا أن يكون
قد قصرت الصلاة وصارت ركعتين ونسخت منها ركعتان؟! وكيف استجازا سوء الظن به بما قالا فيه
انّه سهى وغلط قبل أن يعترف به كما زعموا؟!

وليت شعري كيف استحسن رواة هذا الحديث ومصحّحوه أن يذكروا عن نبيّهم أنّه غلط وسهى، ثمّ
يذكرون أنّ أبا بكر وعمر من دون الصحابة ودون بني هاشم وعترة نبيّهم على وجه التنزيه لهما
وانّهما هابا أن يكلّماه، يعني أنّهما كانا منزّهين في هذه عن السهو.

وليت شعري من يروي عنهما ما تقدّم وما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى من الإقدام على الإنكار على
نبيّهم في عدّة مقالات ومقامات، وكيف يستحسن أن يكذّبوا انفسهم ويناقضوا ويباهتوا ويتولّوا في
هذه الرواية انّهما هاباه « انظر: الطرائف: ٣٦٥ - ٣٦٧ ».

(١) كذا ورد اسمه في سائر النسخ، وفي د: « أبو الحسن » بدل « أبو الحسين »، وفي رجال النجاشي:
اسحاق بن الحسن بن بكران أبو الحسين العَقرائيّ.

٦٤

[ ضعيف في مذهبه، ](١) رأيته بالكوفة وهو مجاور بها، وكان يروي كتاب
الكليني عنه [ وكان في هذا الوقت(٢) غلوّاً ](٣) ، ولم أسمع منه شيئاً، له كتاب الرد
على الغلاة، وكتاب نفي السهو عن النبي، وكتاب عدد الأئمّة(٤) . وغير ذلك مما
لا يحضرني ذكره والله الموفق.

__________________

(١ و ٢) من المصدر.

(٣) قال السيّد الخوئي قدّس سرّه: الظاهر انّ جملة ( هذا الوقت ) في كلامه إشارة إلى زمان رواية
إسحاق كتاب الكليني، والمراد انّ روايته لهذا الكتاب كان في عنفوان شبابه ولم يكن النجاشي في
ذلك الزمان موجوداً، ولأجله لم يسمع منه شيئاً وانّما أدركه في زمان شيبه وهو مجاور الكوفة.
راجع المعجم رجال الحديث ٣: ٤٥.

(٤) رجال النجاشي: ٧٤ رقم « ١٧٨ ».

٦٥

٦٦

الفصل الثاني

في ذكر عبارة من جوّز السهو على النبي
والإمام في العبادة الخاصّة

وهو ابن بابويه وحده كما وقع التصريح به سابقاً، وان نسبه إلى بعض
مشايخه كما يأتي، فانّه لم يوجد لمن نسبه إليه تصريح به غير نقل ابن بابويه
عنه، وهو محتمل للسهو والغلط والاشتباه.

قال أبو جعفر بن بابويه في كتاب من لا يحضرن الفقيه: وروى الحسن بن
محبوب، عن الرباطي، عن سعيد الأعرج، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: إنّ الله تبارك وتعالى أنام رسول الله صلّى الله عليه وآله عن صلاة الفجر
حتى طلعت الشمس، ثمّ قام فبدأ فصلّى الركعتين اللتين قبل الفجر، [ ثمّ صلّى
الفجر ](١) ، وأسهاه في صلاته، فسلّم في الركعتين - ثمّ وصف ما قاله ذو
الشمالين - وانّما فعل ذلك به، رحمة لهذه الاُمّة لئلاّ يعيّر الرجل المسلم إذا
هو نام عن صلاته أو سها فيها، فيقال: قد أصاب ذلك رسول الله صلّى الله

__________________

(١) من المصدر.

٦٧

عليه وآله(١) .

ثم قال ابن بابويه بعد ذكر هذا الحديث:

قال مصنّف هذا الكتاب:

إنّ الغلاوة والمفوّضة - لعنهم الله - ينكرون سهو النبي صلّى الله عليه وآله
ويقولون: لو جاز أن يسهو عليه السلام في الصلاة جاز أن يسهو في التبليغ،
لأنّ الصلاة عليه فريضة كما أن التبليغ عليه فريضة.

وهذا لا يلزمنا؛ وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على
النبيّ صلّى الله عليه وآله فيها ما يقع على غيره، وهو متعبّد بالصلاة كغيره
ممّن ليس بنبيٍّ(٢) ، وليس كلّ من سواه بنبيٍّ [ كهو ](٣) ، فالحالة التي اختصّ
بها هي النبوّة والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما
يقع [ عليه ](٤) في الصلاة، لأنّها عبادة مخصوصة، والصلاة عبادة مشتركة،
وبها تثبت له العبوديّة، وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجلّ من غير
إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبيّة عنه، لأنّ الّذي لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ
هو الله الحيّ القيّوم، وليس سهو النبي صلّى الله عليه وآله كسهونا، لأنّ
سهوه من الله عزّ وجلّ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يُتّخذ
معبوداً(٥) دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا من

__________________

(١) من لا يحضر الفقيه ١: ٣٥٨، ومن قوله: « وانّما فعل ذلك الخ » يمكن أن يكون من تتمّة الخبر،
ويمكن أن يكون من كلام المصنّف.

(٢) في ب: مبني.

(٣و ٤) من المصدر.

(٥) كذا في النسخ، وفي المصدر: يُأخذ ربّاً معبوداً.

٦٨

الشيطان وليس للشيطان(١) على النبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام
سلطانٌ،( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) (٢) وعلى من
تبعه من الغاوين.

ويقول الدافعون لسهو النبيّ صلّى الله عليه وآله: إنّه لم يكن في الصحابة
من يقال له: ذو اليدين، وإنّه لا أصل للرجل ولا للخبر، وكذبوا! لأنّ الرجل
معروف وهو أبو محمد عمير بن عبد عمرو المعروف بذي اليدين فقد نقل عنه
المخالف والمؤالف، وقد أخرجت عنه أخباراً في كتاب وصف [ قتال ](٣)
القاسطين بصفّين.

وكان شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد يقول: أوّل درجة في الغلو نفي
السهو عن النبيّ صلّى الله عليه وآله.

فلو جاز أن تردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى، لجاز أن تردّ جميع
الأخبار! وفي ردّها إبطال الدِّين والشريعة، وأنا أحتسب الأجر في تأليف
كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلّى الله عليه وآله والردّ على منكريه إن شاء
الله تعالى.(٤) « انتهى كلام ابن بابويه ».

__________________

(١) في د: الشيطان.

(٢) سورة النحل: ١٠٠، وذكر الآية هنا لا يناسب المقام لأنّها قي شأن الفسّاق أو الكفّار الذين
يتولّونه، ويفهم من كلام المصّف في ذكر الآية انّ السهو الشيطاني لا يكون إلاّ ممّن يتّخذ الشيطان له
وليّاً مع انّ العلماء من المؤمنين يعرض لهم الشكّ في الصلاة ولم يتّخذوا الشيطان لهم وليّاً.

(٣) من المصدر.

(٤) راجع من لا يحضره الفقيه ١: ٣٥٨ - ٣٦٠.

أقول: خلاصة كلام الصدوق قدّس سرّه أن ما يجوز السهو عليه إسهاه الله إيّاه لمصلحة كنفي الربوبيّة
عنه حتى لا يُتّخذ ربّاً، وإثبات انّه بشر مخلوق، وإعلام الناس حكم سهوهم في العبادات

٦٩

وهو كما ترى ضعيف جداً لما يأتي بيانه ان شاء الله.

ونقله الشيخ المفيد رحمه الله في أوّل رسالته، ثمّ ذكر بعده الكلام الذي
نقلناه سابقاً.

واعلم إنّ الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان، عند قوله تعالى:( وَإِذَا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
- إلى قوله -وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَىٰ
) (١) نقل عن الجبائي أنّه قال: في هذه الآية دلالة على بطلان قول
الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء.

ثمّ قال الطبرسي: وهذا [ القول ](٢) غير صحيح، لأنّ الإمامية لا يجوّزون
السهو عليهم فيما يؤدّونه عن الله، فأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو
يسهوا عنه ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل.(٣) « انتهى ».

وأقول: نقل الجبائي عن الإمامية صحيح كما عرفت، ولم يعتبر قول من
شذّ منهم، واعتراض الطبرسي عليه حاصله:

إنّ الإمامية غير مجمعين على ذلك، بل جوّز بعضهم السهو والنسيان
فيجب حمل قوله: جوّزوا، على معنى جوّز بعضهم، وإلاّ كان الكلام غير

__________________

وأمثاله، وأما السهو الذي يعترينا فإنّه من الشيطان، والرسول صلّى الله عليه وآله منزّه عن ذلك،
وليس للشيطان عليه سلطان ولا سبيل، فالسهو عند الصدوق نوعين نوع من الشيطان وهو مختص
ببني البشر باستثناء المعصومين، وسهو من الله والذي يشمل المعصومين وغيرهم لمصلحة يقدّرها
الله سبحانه وتعالى.

(١) سورة الأنعام: ٦٨.

(٢) ليس في د.

(٣) مجمع البيان ٧: ٣١٧.

٧٠

صحيح كما لا يخفى.

ثمّ أنّه لم يصرّح الطبرسي بجواز ذلك في هذا الكلام كما ترى، مع انّ
الآية محتملة لكون الخطاب عاماً كما في( وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا ) (١) أو الخطاب
للنبي صلّى الله عليه وآله، والمراد غيره كما في قوله تعالى( لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
) (٢) .

ويحتمل كون النسيان بمعنى الترك(٣) ، وابن بابويه أيضاً لابدّ من تأويله
للآية كما يأتي إن شاء الله.

__________________

(١) سورة الأنعام: ٢٧ و ٣٠.

(٢) سورة الزمر: ٦٥.

(٣) وهو إحتمال بعيد لا يوافق سياق الآية ومعناها.

٧١

٧٢

الفصل الثالث

في ذكر جملة ممّا يدلّ على نفي السهو والشك
والنسيان عن النبي والائمة عليهم السلام

وبطريق العموم والإطلاق الشامل للعبادة وغيرها، من الآيات القرآنيّة،
وحجّيتها على العصمة وغيرها معلومة. وذلك ممكن من آيات كثيرة، بعضها
دالّ مع ضميمة مقدّمة اُخرى ثابتة، أو رواية اُخرى معتمدة، ولنقتصر من ذلك
على اثني عشر آية:

الاُولى: قوله تعالى:

( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١) .

قال رئيس المفسّرين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي قدّس سرّه في
كتاب مجمع البيان:

الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر، وهو افتعال من الصفوة، وهذا من

__________________

(١) سورة آل عمران: ٣٣.

٧٣

أحسن(١) البيان الّذي يمثّل به المعلوم بالمولى(٢) ، وذلك أنّ الصافي هو الخالص(٣)
من شوائب الكدر فيما يشاهد، فمثّل الله خلوص هؤلاء القوم من الفساد ظاهراً
وباطناً بخلوص الصافي من شوائب الأدناس - إلى أن قال - وآل عمران؛ قيل:
هم آل إبراهيم وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام وآل محمد. وقالوا أيضاً: آل
إبراهيم: آل محمد، ويجب ان يكونوا معظّمين، معصومين، منزّهين عن القبائح
والنقص، لأنّ الله لا يختار الأمر يكون كذلك(٤) ، ويكون ظاهره مثل باطنه في
الطهارة والعصمة.

وفي الآية دلالة على تفضيل الأنبياء على الملائكة، لأنّ العالمين يعمّ
الملائكة وغيرهم من المخلوقات، والله سميع لما تقوله الذرّيّة، عليم بما
يضمرونه، فلذلك فضّلهم على غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أفعالهم
وأقوالهم.(٥) « انتهى ».

أقول: والاستدلال بالآية من وجوه.

أحدها: دلالتها على العصمة التي يلزمها وجوب اتّباعهم في أقوالهم
وأفعالهم.

وثانيها: استلزامها لاستحالة الخطأ عليهم مطلقاً.

وثالثها: دلالتها على طهارة ظاهرهم وباطنهم، كما ذكر، وصفائهم

__________________

(١) في د: من حسن.

(٢) في د: بالمرئي.

(٣) كذا في النسخ، وفي المصدر: النقي.

(٤) كذا في النسخ: وفي المصدر: ولا يصطفي إلاّ من كان كذلك.

(٥) مجمع البيان ٣: ٤٣٣.

٧٤

عن [جميع ](١) شوائب الكدر، فلا يتطرّق إليهم سهو ولا نسيان، لعدم سببه
وموجبه.

ورابعها: أنّ الاستقامة في الأقوال والأفعال الذي يستفاد من الآية ينافيه
تجويز السهو، لأنّه يستلزم عدم استقامة الأفعال والأقوال، إذ صلّى الصلاة
ركعتين على قولهم، وسلّم وتكلّم وترك ركعتين واجبتين، وأين هذا
من الاستقامة؟

الثانية: قوله تعالى:

( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (٢) .

دلّت على وجوب متابعته عليه السلام في أفعاله وأوامره وأقواله، فلو
جاز عليه السهو لوجبت متابعته فيه، وهو باطل قطعاً وأقلّه أنّه يلزم جواز
المتابعة، وبطلانه أيضاً واضح على أنّه لو جاز السهو لاحتمل كلّ من أفعاله وأقواله
ذلك، فلا يكون حجّة أصلاً، وهو ظاهر الفساد اتّفاقاً وخلاف مدلول
الآية قطعاً ومناف لوجوب العصمة في النبي والإمام.

الثالثة: قوله تعالى:

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا
) (٣) .

استدلّ بعض علمائنا بها على وجوب الاقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وآله،

__________________

(١) ليس في ج.

(٢) سورة آل عمران: ٣١.

(٣) سورة الأحزاب: ٢١.

٧٥

ومطلبنا حاصل وإن لم تثبت تلك المقدّمات لصراحتها في حسن الاقتداء به
وترجيحه، ولو احتمل فعله السهو لما جاز الاقتداء به عموماً، بل مطلقاً ولا
كان فعله حجّة على الجواز، ولا تركه حجّة على نفي الوجوب مع انّ فعله كلّه
نوع من التبليغ، فانّ عبادته لا يتميّز منها ما هو تبلغ عن غيره، بل ينبغي الجزم
بأنّ جميعها تبليغ، وإلاّ لما علم دوام التكليف.

الرابعة: قوله تعالى:

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) .

وهي دالّة على عصمتهم بالوجوه المقرّرة في الاُصول والتفاسير
والروايات الكثيرة من العامّة والخاصّة باختصاصها بأهلها(٢) ، وهي شاملة
للتطهير من كلّ عيب ونقص وكذب وخطأ وغلط، ومنافية لحديث ذي
الشمالين كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الخامسة: قوله تعالى:

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣) .

__________________

(١) سورة الأحزاب: ٣٢.

(٢) من الكتب التي ذكرت اختصاص الآية بأهل البيت عليهم السلام راجع على سبيل المثال: مسند
أحمد ٣: ٢٥٩ و٣: ٢٨٥، تفسير الطبري ٢٢: ٦، اسد الغابة ٥: ٥٢١ وج ٥: ١٧٦، الدر المنثور ٥:
١٩٩، كنز العمّال ٥: ٩٦، مشكل الآثار ١: ٣٣٢، مستدرك الحاكم ٣: ١٧٢، كفاية الطالب: ٩٣،
مقاتل الطالبيين: ٥١، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤: ١١، مجمع الزوائد ٩: ١٤٦، الجامع
الصحيح ٥: ٣٦٠، تفسير ابن كثير ٣: ٤٨٣، سنن البيهقي ٢: ١٥٢، المناقب لابن المغازلي: ٣٠١،
أسباب النزول: ٢٣٩، ذخائر العقبى: ٢١، شواهد التنزيل ٢: ١٠ - ٩٢، فضائل الخمسة ١: ٢٢٤،
الصواعق المحرقة: ١٤٣، تهذيب التهذيب ٢: ٢٩٧، تاريخ بغداد ١٠: ٢٧٨، الرياض النضرة ٢:
١٨٨، الاستيعاب ٢: ٥٩٨، مسند أبي داود ٨: ٢٧٤، رشفة الصادي: ١٢.

(٣) سورة النجم: ٣ و ٤.

٧٦

دلّت على إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله لا ينطق إلاّ عن وحي،
فيستحيل أن يسلّم في الصلاة في غير محلّه، ثمّ يتكلّم قبل تمام صلاته، ثمّ
يكذّب ذا الشمالين وهو صادق على قولكم، ثمّ يعترف بخطأه، وكلّ ذلك
ينافي مدلول الآية.

السادسة: قوله تعالى:

( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) .

دلّت على وجوب التسليم والانقياد لأقواله وأفعاله وجه العموم
والإطلاق، فلو جاز السهو لاحتمل كلّ فعل وقول ذلك، ومنافاته لمدلول الآية
واضح، ومنافاة حديث ذي الشمالين له أوضح.

السابعة: قوله تعالى:

( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (٢) .

روى الطبرسي وغيره من طرق العامّة والخاصّة أنّها نزلت في
أمير المؤمنين عليه السلام، وأنّه قال: « ما سمعت شيئاً من رسول الله صلّى الله
عليه وآله فنسيته »(٣) .

وهذا عام مطلق في التبليغ وغيره، فيستحيل النسيان على النبي صلّى
الله عليه وآله بطريق الأولويّة مع الوجوه السابقة والآتية.

الثامنة: قوله تعالى:

__________________

(١) سورة الحشر: ٧.

(٢) سورة الحاقة: ١٢.

(٣) مجمع البيان ٢٩: ٣٤٥، عنه بحار الأنوار ٧: ٨٢ - ٨٥.

٧٧

( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) (١) .

وهي عامّة، فإنّ المفعول لا يتعيّن تقديره بالقراءة، ولا قائل بالفرق بين
ما قبل نزول الآية وقبل القراءة وما بعدها، فالفارق خارق للاجماع.

التاسعة: قوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٢) .

روي في عدّة أحاديث إنّ المراد التسليم له صلّى الله عليه وآله والانقياد
لأقواله وأفعاله ودلالته، ذلك على المراد ظاهرة ممّا مرّ وأدلّة التسليم من
القرآن الحديث كثيرة ولو جاز السهو لنا في وجوب التسليم.

العاشرة: قوله تعالى:

( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ
هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
*الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) (٣) الآية.

ودلالتها ظاهرة ممّا مرّ.

الحادية عشرة: قوله تعالى:

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ
) (٤) .

ودلالتها أوضح ممّا تقدّم.

__________________

(١) سورة الأعلى: ٦.

(٢) سورة الأحزاب: ٥٦.

(٣) سورة الأعراف: ١٥٦ و ١٥٧.

(٤) سورة الأعراف: ١٥٨.

٧٨

الثانية عشرة: قوله تعالى:

( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) (١) .

ولو كان الرسول صلّى الله عليه وآله سهى في صلاته لدخل في هذا
التهديد والذمّ، وهو محال.

وأمّا مثل قوله تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
عَزْمًا
) (٢) ، فقد نقل الطبرسي رحمه الله، عن ابن عبّاس، إنّ معناه: فترك(٣) .

وروى الكليني رحمه الله هذا المعنى في حديث طويل عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: « إنّما هو: فترك »، وذلك في باب فيه نكت ونتف من التنزيل
في الولاية(٤) ، وفي غيره من المواضع أيضاً(٥) .

فتأويلهم عليهم السلام للنسيان هنا بالترك، مع أنّه لا تعلّق له بالتبليغ دالّ
على ما قلناه، ومناف لجواز النسيان على المعصوم، مضافاً إلى ما مضى ويأتي
مع عدم ما يدلّ على الاثبات صريحاً.

ومثلها قوله تعالى حكاية عن موسى:( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (٦) .

وقوله تعالى حكاية عن فتاة:( فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ

__________________

(١) سورة الماعون: ٤ و ٥.

(٢) سورة طه: ١١٥.

(٣) مجمع البيان ١٦: ٣٢.

(٤) الكافي ١: ٤١٦ - ٤٣٦.

(٥) الكافي ٢: ٨ ح ١.

(٦) سورة الكهف: ٧٣.

٧٩

الشَّيْطَانُ ) (١) .

فقد روى المفسّرون المحدّثون إنّ المراد في الآيتين بالنسيان: الترك(٢) ،
وهو دالّ على ما قلناه، ولا شكّ أنّه أحد معانيه اللغوية، فيجب الحمل عليه هنا
لما مضى، ويأتي.

والعجب ممّن يتأوّل جميع الآيات والروايات المنافية بظاهرها للعصمة،
ثمّ يتوقّف في مثل هذا مع وضوحه وظهورها وقرب تأويله جداً، والآية
الأخيرة لابدّ من تأويلها على قول ابن بابويه أيضاً؛ أمّا بأن يقول: فتاه غير
معصوم، وأمّا بأن يقول: المراد ما ألزمني بتركه عمداً اشتغالي بمجاهدة
الشيطان، وأنّما كان التأويل لازماً لابن بابويه أيضاً، لأنّه لا يجوزعليهم السهو
والنسيان الحاصلين من الشيطان، بل يقول: إنّ سهوهم من الله كما مرّ.

__________________

(١) سورة الكهف: ٦٣.

(٢) انظر: مفاتيح الغيب ٤: ٩٢، أنوار التنزيل ٢: ٥٩٨.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214