غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام

غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام17%

غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمامة
ISBN: 964-319-447-7
الصفحات: 325

غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام
  • البداية
  • السابق
  • 325 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97402 / تحميل: 6431
الحجم الحجم الحجم
غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام

غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٤٧-٧
العربية

غيبة الإمام المهدي

عند الإمام الصادق عليهماالسلام

السيد

ثامر هاشم العميدي

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

( وَنُريدُ أن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفُوا

فِي الأرضِ وَنَجعَلَهُم أئمَّة وَنَجعَلَهُمُ الوَارثِينَ)

٣
٤

مقدّمة المركز

الحمد لله الواحد الأحد ، وصلواته وسلامه على نبينا محمد واله حجج الله على العباد إلى الأبد ، أما بعد

فان من المسلمات التي تركت بصماتها واضحة في تاريخ الفكر الإسلامي ، وبناء حاضره وأثّرت فيه برسم معالم مستقبله ؛ هو الاعتقاد الراسخ بإخبار أهل البيتعليهم‌السلام جميعا عن الإمام المهديعليه‌السلام قبل ولادته وغيبته ، وعلى هذا فليس البحث في غيبة الإمام المهدي قبل ولادتهعليه‌السلام تسجيلا حرفيا لقضية من قضايا الماضي ، بقدر ما هو وصل بين جزء من تاريخ هذه العقيدة في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام والتعرف على جذورها في تلك الفترة ، وادراك عمقها وامتدادها في عصور الإسلام ، وبين تاريخ تحقّقها على صعيد الواقع ؛ لما بينهما من ارتباط وثيق.

ولا شكّ أن من يكون حليف القرآن وقرينه ـ والقرآن فيه تبيان لكل شيء ـ قادر على من يوقفنا على ما في ظاهره وباطنه ، ويحدّثنا عن غيبة الإمام المهدي قبل ولادتهعليه‌السلام ، كما لو كان معه. « ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط » ؛ ولهذا قال القاضي ابن أبي ليلى لمّا سأله نوح بن دراج : « أكنت تاركا قولا قلته أو قضاء قضيته لقول أحد؟ قال : لا ، الا رجل واحد! قلت : من هو؟ قال : جعفر بن محمد » ، ذلك هو إمامنا الصادقعليه‌السلام ، الحارس الأمين لمنظومة القيم والمفاهيم الإسلامية بنظر الكل ، حيث لم يدع مجالا لأحد من يشوهها أو يحرفها. ومن عاش في كبد الحقيقة ، لا تكون الإستضاءة بأقواله استضاءة بجزء من الماضي ؛ لأن الحقيقة في الحياة ليس لها عمر محدّد ، بل تحمل عناضر الخلود والبقاء معها ، وكلما دار عليها الزمان تتجدّد ؛ ولهذا كانت حركتهعليه‌السلام وفعله وقوله وتقريره تجسيدا حيّا لحركة الرسالة في خطواتها الفكرية والروحية والعلمية ، في مساحات الزمن الماضي والحاضر والمستقبل ، اذ امتازعليه‌السلام بواقعية مع الحياة على ضوء الإسلام ، فكان غنيا بمفاهيم الرسالة ، متمسّكا بمنهجها ، دقيقا في فكرها ، واضحا في تجسيدها حريصا على لونها ، مقتديا بها في ضرورة العلم والعمل والتفكير والتخطيط. وعلى هذا فلس ما جاء عنهعليه‌السلام بحاجة في عرضه إلى أكثر من تجريده عن أيّة أفكار دخيلة عليه أو أقوال مزيفة مكذوبة منسوبة اليه ، ولم يعرفها أحد من أصحابه ولم يروِها شيعته. وممّا عُلم عنهعليه‌السلام وبنحو اليقين ، منه لم يغادر الحياة شهيدا إلا وقد جعل العقيدة بالمهديعليه‌السلام ، عميقة الفكر ، ثابتة الأساس ، متينة الحجة ، واضحة مشخصّة ، مع تطويقه سائر الدعايات المضادّة التي عملت ولا زالت تعمل على تشويه تلك العقيدة ، حتى أحالها إلى رماد. ومن أقواله الثابتة ثبوت الحقيقة ، والواضحة وضوح الشمس في رائعة النهار ، تصريحه بهوية الإمام المهديعليه‌السلام ، وإمامته ، وغيبته ، وظهوره في آخر الزمان ؛ بما يمكن معه القول الحازم بأنه

٥

أرادعليه‌السلام تحريك هذه العقيدة في وجدان الأمة على الدوام ، لما تمتلكه من فلسفة قادرة على خلق العمل الصالح وتهذيب النفوس بالورع ومحاسن الأخلاق ، مع التطلّع الجادّ إلى بناء المستقبل ، بما يناسب حجم اللقاء بالمهديعليه‌السلام في يومه الموعود. ولكي تدرك ـ مع هذا ـ منها ليست بانتظار فكرة طموحة قابلة للزوال ، وانّما هي بانتظار حقيقة من حقائق الإسلام الكبرى التي لابدّ وأن تقع في مستقبل تاريخه. وبهذا تستطيع أن تفهم من العقيدة بمهدي مجهول يخلقة الله في آخر الزمان عقيدة لا تثير اليقظة في العقول ، ولا تحرّك الوعي في الأحساس ولا تفتح القلوب ، شأنها شأن الأفكار الميتة التي قد تأخذ فراغا في الفكر ، ولكنها لا تهب الحياة شيئا.

واذا كانت اساليب الكذب والافتراء أعجز من أن تقتل فكرة أو تخنق مبدأ ، وطرق الغشّ والتضليل أضعف من أن تحجب نور الحقيقة وتهمش دور العقيدة ، فان من الغباء اذن جعل العقيدة بالإمام المهديعليه‌السلام انهزاما عن الواقع وانعزالا عن الحياة ، او هروبا وانسحابا عن مشاكل الأمة!! هذا في الوقت الذي يُسمع فيه نداء أهل البيتعليهم‌السلام من عمق التاريخ الإسلامي بضرورة أن يكون انتظار الإمام المهديعليه‌السلام في غيبته محفّزا إيجابيا ودافعا قويا لتحقيق ما أراده الله ورسوله صلي الله عليه وآله في أن يكون بناء الحياة بشكل أفضل.

وهكذا عاشت عقيدتنا بالإمام المهديعليه‌السلام ولا زالت في قلب المعركة معركة الحق والباطل ، ولن يكون غريبا اذن أن يرى المتتبع لهذه العقيدة اتجاهات دخيلة عليها نمت ضمن نطاق اسلامي من طراز خاص يحتضن تلك الاتجاهات تارة ، ويغذّيها بتشجيع الزيف والخداع لأجل من يتبوّأ أنصاره مكانا واسعا خدمة لفكرة محرّفة وغاية مسمومة ، وبدعاية كذوب على أنها نتاج إسلامي موضوعي خالص تارة أخرى ؛ تبريرا لما بُعتقد من خرافات وأوهام ، ومن هنا صار دعمها طريقا منتجا لإشاعتها ونشرها في الوسط الإسلامي حيث اتصالها بالحسّ الديني العميق ؛ وهكذا فقدت العقيدة بمهدي مجهول ـ كواحدة من تلك الخرفات ـ مبررات وجودها ؛ إذ لا انسجام لها مع الواقع ، ولا مع الحياة ، ولا مع المبادي الإسلامية في تلك العقيدة التي أفاض بها هذا الكتاب وحصرها بواحد من أهل البيتعليهم‌السلام وهو ملاذ الفقهاء أُستاذ العلماء في عصره ، وامام الأُمّة في زمانه الصادقعليه‌السلام .

وأخيرا فإْن هذا الكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ إنما هو صفعة قوية بوجه أولئك الذين أنكروا ولادة الإمام المهديعليه‌السلام وكذبوا بغيبته ، ولبنة جديدة تُضاف إلى صرح الثقافة المهدوية الحقّة ، ودليل على الطريق.

والله الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة

٦

المُقَدَّمةُ

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على نبيّنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، صلاة زاكية نامية متّصلة متواترة لا غاية لأمدها ولا نهاية لآخرها ، وسلّم تسليما كثيرا. وبعد

فإنّ الحديث عن الإمام المهدي الحجة ابن الحسنعليهما‌السلام خصب الميادين متعدّد الجوانب ، واسع الاطراف ، ولا حصر للمؤلفات التي كُتِبَت ـ شرقا وغربا ـ حوله ، حتي يُخال للباحث وهو يرى كثرة المؤلفات والبحوث المعدّة حول هذا الموضوع منه قد أُغلِقَ تماما ، ومن طْرقه من جديد لن يأتي بشيءٍ جديد.

ومع كل هذا قد نبغ في الآونة الاخيرة من يتّهم متكلمي الإمامية في أوآخر القرن الثالث وبداية الرابع الهجريين ، بأنهم ـ ولأجل أن يستمر المذهب الاثني عشري بعد وفاة الإمام العسكري بلا عقب ـ حاولوا ببراعتهم الكلامية اقناع عامّة المذهب بولادة الحجة ابن الحسن الغائب الذي لم يُولد بعد!!.

وقد كنت آمل في كتاب ( المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ) ـ الذي صدر سنة ١٤١٧ / هـ ، وطبع ثلاث مّرات ، وتُرجم إلى خمس لغات ـ أن ينبّه على مدارك ذلك الاتهام ويخفّف من غلواء مرّوجيه عبر الأقمار الصناعية ّكلما اتيحت لهم الفرصة ، ولكنهم بقوا كما بدأوا! ومن هنا وجدت نفسي أمام اختيار صعب ، فعدت اليهم مرّة أخرى لأرسم الصورة الواضحة لعمق العقيدة المهدوية في الفكر الشيعي قبل ولادة متكلمي الشيعة ـ الذين اتهموا باختلاق مفهوم

٧

الغيبة والغائب ـ بأكثر من مائة عام ؛ ولهذا جاء البحث محصورا بالغيبة والغائب عند الإمام الصادقعليه‌السلام وحده ، فنقول :

عاش الإمام الصادقعليه‌السلام في عصرّين مختلفين : عصر ضعف الدولة الأموية حتى آلت إلى السقوط سنة ١٣٢ هـ على أيدي العباسيين ، و عصر انشغال بني العباس في تثبيت أقدامهم بالسلطة. ومعنى هذا ، من الدولة الأموية في عهد الإمام الصادقعليه‌السلام ـ الذي تولّى الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الباقرعليهما‌السلام سنة ( ١١٤ هـ ) ـ لم تكن قادرة على ممارسة نفس دورها الإرهابي في الحدّ من نشاط أهل البيتعليهم‌السلام كما كانت تمارسه في عهود آبائهعليهم‌السلام

كما منّ الدولة العباسية لم تعلن ارهابها على الإمامعليه‌السلام في بداية حكمها كما أعلنته عليه بعد حين وعلى الأئمة المعصومين من أولادهعليهم‌السلام فيما بعد ، وصولا إلى دورهم البغيض في غيبة آخر الأئمة الإمام المهديعليه‌السلام

ومن هنا وجد الإمامعليه‌السلام الفرصة النسبية سانحة للإنطلاق في أرحب الميادين ، ولهذا نجد اسمه الشريف يتردّد على ألسنة المؤرّخين والمحدّثين والمفسّرين والفلاسفة والمتكلّمين أكثر من سائر الأئمة الآخرينعليهم‌السلام ، ولعلّ خير ما يعبرّ لنا عن هذه الحقيقة هو الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه فيما رواه عنه أوثق تلامذته.

فعن أبان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : « كان أبيعليه‌السلام يفتي في زمن بني أميه من ما قتل البازي والصقر فهو حلال ، وكان يتقيهم ، وأنا لا أتّقيهم ، وهو حرام ما قتل »(١) .

__________________

١ ـ فروع الكافي / الكليني ٦ : ٢٠٨ / ٨ كتاب الصيد ، باب صيد البزاة والصقور ،

٨

ونحو هذا ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أيضا(١) ، ونظيره ما رواه زرارة وأبو عمر الأعجمي عن الإمام الصادقعليه‌السلام من المنع عن مسح الخفيّن في الوضوء تقيّة وكذلك في النبيذ ومتعة الحج(٢) .

فهذه النصوص وأمثالها تصوّر لنا بوضوح حالة الانفراج السياسي النسبي الذي عاشه الإمام الصادقعليه‌السلام في ظلّ الدولتين.

وقد كانت وظيفة الإمام الصادقعليه‌السلام صعبة للغاية ، اذ شاهد خطورة الموقف الإسلامي ، وعاصر تلوّث المجتمع المسلم بالمفاهيم الدخيلة الوافدة إليه عن طريق الفلسفات الأجنبية التي تسلّلت رويداّ إلى ساحته عبر القنوات الكثيرة التي شقّتها حروب العصر الأموي ( ٤٠ ـ ١٣٢ هـ ) ، وبدايات العصر العباسي الأول ( ١٣٢ ـ ٢٣٤ هـ ) ، وما نتج عن هذا وذاك من نشوء التيّارات الفكرية الخطيرة ، وانقسام المسلمين إلى مذاهب وفرق عديدة ، مع بروز حركة الزندقة والإلحاد بفعل تلك الرواسب الثقافية المسمومة ، فضلا عن استشراء حالة الفساد الإداري والخُلقي في عاصمة الخلافة ـ دمشق أولا ، وبغداد ثانيا ـ ومن ثَمَّّ تصدير الانحراف إلى شرائح المجتمع من قصور الخلفاء أنفسهم ، ويشهد على كلّ هذا ما وصل إلينا من أدب البلاطين في ذينك العصرين ، وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أمثلة لا حصر لها تصوّر لنا حالة البذخ

__________________

والفقيه / الصدوق ٣ : ٢٠٤ / ٩٣٢ ، والتهذيب / الشيخ الطوسي ٩ : ٣٢ / ١٢٩ ، والاستبصار / الشيخ الطوسي ٤ : ٧٢ / ٢٦٥

١ ـ فروع الكافي ٦ : ٢٠٧ / ١ ، من الباب السابق ، والتهذيب ٩ : ٣٢ / ١٣٠ ، والاستبصار ٤ : ٧٢ / ٢٦٦.

٢ ـ فروع الكافي ٣ : ٣٢ / ٢ باب مسح الخفّين من كتاب الطهارة ، و ٢ : ٢١٧ / ٢ باب التقية ، والمحاسن / البرقي : ٢٥٩ / ٣٠٩ ، والخصال / الصدوق ٣٢ : ٧٩.

٩

الاقتصادي ، والترف الفكري ، والتحلّل الخلقي الذي أصاب الأمة على أيدي حكّامهم وأمرائهم في الدولتين الأموية والعباسيّة.

فليس أمام الإمام الصادقعليه‌السلام اذن إلا اعادة تشكيل وعي الأمة من جديد ، وتعبئة أكبر ما يمكن من طاقات أفرادها للنهوض بمهمّة التغيير الكبرى ، وهو ما استطاععليه‌السلام أن يحققه في تلك الفترة القصيرة ؛ اذ استطاع وبكلّ جدارة أن يعيد للإسلام قوّته ونظارته ، بعد أن أرسى قواعد الفكر الصحيح على أُسسه. فوقف كالطود الأشمّ بوجه تلك العواصف الكثيرة التي أوشكت أن تعصف بكلّ شيء من بقايا الحقّ وأهله ، وجاهد جهادا علميا عظيما ، حتى تمكّن بحكمته وعطائه وعلمه وإخلاصه لله عزّ شأنه وتفانيه في دين جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصبغ الساحة الفكرية والثقافية في عصره ـ بعد أن تدنت بها القيم والأخلاق ـ بمعارف الإسلام العظيم ، ومفاهيمه الراقية ، واستطاع تحويل تلك المفاهيم إلى غذاء روحي يومي ، فنقلها من الواقع النظري إلى حيّز التطبيق الفعلى مبتدأ ذلك بروّاد مدرسته العظيمة التي كانت تضمّ ما يزيد على أربعة آلاف رجل ، ّوكلّهم من تلامذته ، حتى صاروا مشاعل نور أضاءت لكل ذي عينين من أفراد الأمة ما أظلمّ عليه.

وهكذا استمرّت مدرسة الإمام الصادقعليه‌السلام في أداء رسالتها يغذّيها ـ من بعده ـ الأئمة من وُلدهعليهم‌السلام بفيض من علم النبوّة ونور الولاية ، ولم يخبُ ضوؤها بتعاقب الزمان وتجدّد الملوان ، ويشهد لخلودها واتّساعها منّك واجد في كلّ عصر قطبا من أقطابها يشار له بالبنان ، وتشدّ إليه الرحال من كلّ فجّ عميق.

وما كان هذا ليتمّ بسهولة لولا الجهاد العلمي الحثيث المتواصل الذي بذله الإمام الصادقعليه‌السلام حتى اكتسب الواقع الثقافي الإسلامي بفضل مدرسته

١٠

المباركة مناعة قويّة ضدّ وباء الانحراف ، ذلك الوباء الذي كان ضاربا أطنابه على مرافق عديدة من الفكر الإسلامي ، فضلا عمّا تركه من تشويش وتضادّ في جزئيّات العقيدة ، ناهيك عمّا أصاب ( الإمامة ) من تداعيات خطيرة في المجتمع المسلم ، حتى أبيحت وضح النهار لكل جبّار عنيد ، وصار كلّ من غلب بحدّ السيف أوصياء مفروض الطاعة! هذا في الوقت الذي صحّ فيه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برواية الفريقين منه قال : « الخلفاء إثنا عشر كلّهم من قريش »(١) ، وصحّ أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهليّة »(٢) ، كما تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث الثقلين الذي جعل الكتاب وعترته أهل بيته صنوين متلازمين ما بقيت الدنيا ، وعاصمين من الضلالة لكل من تمسّك بهما ، إنهما لن يفترقا

__________________

١ ـ صحيحح البخاري ٤ : ١٦٤ باب الاستخلاف من كتاب الأحكام ، وصحيح مسلم ٢ : ١١٩ باب الناس تبع لقريش من كتاب الامارة أخرجه من تسعة طرق ، ومسند أحمد ٥ : ٩٠ و ٩٣ و ٩٧ و ١٠٠ و ١٠٦ و ١٠٧. وإكمال الدين الشيخ الصدوق ١ : ٢٧٠١٦ و ١ : ٢٧٢١٩ ، والخصال الشيخ الصدوق ٢ : ٤٦٩ و ٤٧٥.

٢ ـ أصول الكافي ١ : ٣٠٣٥ ، و ١ : ٣٠٨١ ، ٢ ، ٣ و ١ : ٣٧٨٢ ، وروضة الكافي ٨ : ٢٩١٢٣ ، والإمامة والتبصرة من الحرية الصدوق الأول ٢١٩ ٦٩ و ٧٠ و ٧١ ، وقرب الإسناد الحميري : ٣٥١ ١٢٦٠ ، وبصائر الدرجات الصفار : ٢٥٩ و ٥٠٩ و ٥١٠ ، واكمال الدين ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣١٠ و ١١ و ١٢ و ١٥ باب ٣٩ ، ورجال الكشي في ترجمة سالم بن أبي حفصة : ٢٣٥ رقم الترجمة ( ٤٢٨ ).

ونحوه في صحيحح البخاري ٥ : ١٣ باب الفتن ، وصحيح مسلم ٦ : ٢١ ـ ٢٢ ١٨٤٩ ، ومسند أحمد ٢ : ٨٣ و ٣ : ٤٤٦ و ٤ : ٩٦ ، والمعجم الكبير الطبراني ١٠ : ٣٥٠ ١٠٦٨٧ ، ومسند الطيالسي : ٢٥٩ ، ومستدرك الحاكم ١ : ٧٧ ، وسنن البيهقي ٨ : ١٥٦ و ١٥٧.

١١

حتى يردا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحوض.(١)

وهكذا تعيّن المقصود بالاثني عشر ، واتضح المعنى بامام زمان كل جيل من أجيال الأمة بما لا يحتاج معه الي مزيد تأمّل أو تفكير.

وفي الصحيح عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : « سُئل أمير المؤمنينعليه‌السلام عن معنى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ) من العترة؟ فقالعليه‌السلام : منا ، والحسن ، والحسين ، والائمّة التسعة من ولد الحسين ، تاسعهم مهدّيهم ، لا يفارقون کتاب الله عزّوجلّ ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حوضه(٢) .

ولو لم يكن الأمركما قلناه لجعل صلّى الله عيله وآله مناط الاعتصام من الضلالة بطاعة من وصل إلى السلطة وقاد المسلمين طوعا أو كرها. وأما من تكون النجاة بالتمسّك بالثقلين دون غير هما بمنطوق الحديث ومفهومه ، فالعقل يأبى أن يكون الإمام القدوة غير المنجي من الضلالة.

وفي هذا البحث مقطع قصير من مقاطع الإمامة ، بل مفصل خطير من مفاصلها وهو « غيبة الإمام المهدي عند الإمام الصادقعليهما‌السلام » ، ونظرا لاتّصال

__________________

١ ـ سيأتي تخريج حديث الثقلين الشريف في الفصل الثاني من الباب الأول في هذا البحث.

٢ ـ رواه الفضل بن شاذان في إثبات الرجعة كما في مختصره : ٢٠٨ / ٦ ، عن ابن أبي عمير ، عن غياث بن ابراهيم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام . وأخرجه الصدوق بسند صحيحح ، عن ابن أبي عمير ، عن غياث ، عنهعليه‌السلام . إكمال الدين ١ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، ٦٤ باب ٢٢ ، وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ : ٦٠ / ٥٥ ، ومعاني الأخبار : ٩٠ / ٤ باب معنى الثقلين والعترة.

١٢

هذا الموضوع الحسّاس اتصالا وثيقا بحياتنا المعاصرة فكرا وسلوكا وعقيدة ، ارتأيت أن أبحث هذا الموضوع عند الإمام الصادقعليه‌السلام لنرى كيف طرح الإمام الصادقعليه‌السلام موضوع غيبة الإمامعليه‌السلام ؟ وإذا كان هناك ما يوضّح لنا هوية الإمام الغائب المنتظر بلا لبس أو إبهام ، فهل وُجِدَ مثله في فكر الإمام الصادقعليه‌السلام ؟ أو منه طرح موضوع الغيبة مجرّدا عن هوية الغائب وترك علامات استفهام حول اسمه ونسبه الشريف؟

لقد حرص الإمام الصادقعليه‌السلام على إشاعة مفهوم غيبة الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام ، وبثّ الفكر المهدوي الأصيّل في وجدان الأُمة التي اختلط عليها الحابل بالنابل ، وامتزج عندها الحقّ بأضغاث الباطل نتيجة لما لحق هذا الفكر من تضادّ وتشويش أدّيا إلى ظهور دعاوى المهدوية الباطلة التي حاولت الالتفاف على الحقيقة المهدوية الناصعة.

ومن هنا قام الإمام الصادقعليه‌السلام بتهيئة الأجواء العلميّة لفهم الغيبة ومعرفة من هو المهدي الذي سيغيب ، وذلك من خلال اتخاذ الخطوات الآتية :

تتمثّل الخطوة الأولى بدعم العقيدة المهدوية وإرجاعها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أكّدها بأقوى ما يمكن حتى تواترت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ بيان الإمامعليه‌السلام حكم من أنكرها.

وتتمثّل الخطوة الثانية بترسيخ القواعد الكاشفة عن هوية الإمام المهديعليه‌السلام من دون الخوض في تفاصيل الهوية الشريفة.

وانحصرت الخطوة الثالثة في مجال تشخيص هوية الإمام الغائبعليه‌السلام وكيفية الانتفاع به في غيبته.

١٣

وهكذا يسّر الإمام الصادقعليه‌السلام السبل الكفيلة لمعرفة الإمام الغائب قبل ولادته بعشرات السنين ، وهو ما تكفّل به الباب الأول من البحث ، وذلك في ثلاثة فصول عالجت الخطوات الثلاث المذكورة على الترتيب.

وأما عن مفهوم الغيبة فقد احتضنه الإمام الصادقعليه‌السلام وأولاه أهمية خاصة ، وهو ما تكفّل به الباب الثاني في فصول أربعة.

تناولت : العناية بالغيبة وبيان معطياتها ، وتأكيد الإمام الصادقعليه‌السلام على وقوعها وطولها ، وبيان ما مطلوب في زمانها ، وأخيرا الكشف عن عللها.

وعقدنا الباب الثالث لنرى من خلاله موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من دعاوى المهدوية التي أدركها ، وعاصر بعضها ، أو التي نشات باطلا بعده وذلك في خمسة فصول ، رد فيها الإمام الصادقعليه‌السلام على دعاوى الكيسانية والأموية والحسنية والعباسية والناوويسة والواقفية ، مع إعطاء القواعد اللازمة والضوابط العامّة المتقنة لمعرفة قيمة أيّة دعوى من هذا القبيل ثم جاء الفصل السادس والأخير ليكشف عن أجوبة الإمام الصادقعليه‌السلام على الشبهات المثارة حول الموضوع ؛ الأمر الذي أدّى إلى تعرية جميع المزاعم التاريخية التي حاولت الالتفاف على مفهوم الغيبة ، أو هوية الإمام الغائبعليه‌السلام سواء تلك التي ظهرت في زمان الإمام الصادقعليه‌السلام ، أو قبله ، أو التي نشأت بعد حين وتلاشت فجأة حيث اتضح الصبح لذي عينين.

وآخر دعوانا من الحمدلله ربّ العالمين

وصلّى الله على نبينا وسيدنا محمد وآله الهداة الأطهار الميامين.

١٤

الباب الأول

في معرفة الإمام الغائبعليه‌السلام قبل ولادته

الفصل الأول :

دعم الإمام الصادق عليه‌السلام للعقيدة المهدوية وبيان حكم من أنكرها

الفصل الثاني :

ترسيخ الإمام الصادق عليه‌السلام للقواعد الكاشفة عن هوية الإمم الغائب

الفصل الثالث :

تشخيص الإمام الصادق عليه‌السلام لهوية الغائب وكيفية الانتفاع به في غيبته

١٥
١٦

الفصل الأول

دعم الإمام الصادقعليه‌السلام للعقيدة المهدوية

وبيان حكم من أنكرها

اتّخذ الإمام الصادقعليه‌السلام جملة من الأمور اللازمة في مجال التثقيف العقائدي والفكري الموصل تلقائيا إلى معرفة مفهوم الغيبة وصاحبها ، وإدراك هويته من قبل من يولد بعشرات السنين ، وذلك من خلال تأكيده المباشر على أمرين ، وهما :

الأمرالأول ـ ثبوت أصل العقيدة المهدوية ، ودعمها :

من الواضح أنّ الحديث عن الغيبة والغائب ابتداءّ ، وبيان ما يجب فعله أو تركه في زمان الغيبة ، ونحو هذا من الأمور ذات الصلة المباشرة بهذا المفهوم ، لا يجدي نفعا ما لا يُعْلَم بأصل العقيدة المهدوية ، ولهذا أراد الإمام الصادقعليه‌السلام تنبيه الامة على أصل هذه العقيدة ، وذلك من خلال دعمها بما تواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأنها ، حتى لا يكون هنالك شكٌّ في الأصل الثابت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ما اتّفقت الأمة على نقله.

١٧

فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لو لم يبقَ من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأُها عدلا كما مُلئت جورا »(١) .

وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول على المنبر : « إنّ المهدي من عترتي من أهل بيتي ، يخرج في آخر الزمان ، ينزّل الله له من السماء قطرها ، ويخرج له من الأرض بذرها ، فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملأها القوم ظلما وجورا »(٢) .

وعن أبي سعيد الخدري أيضا ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى المنف ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا »(٣) .

وعن ام سلمة قالت : « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول المهدي من عترتي من ولد فاطمة »(٤) .

وعن حذيفة بن اليمان ، قال : « خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكّرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هو كائن ، ثم قال : لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد ، لطوّل الله عزّوجلّ

__________________

١ ـ كتاب الغيبة/الشيخ الطوسي : ١١١.

٢ ـ سنن أبي داود ٤ : ١٠٧ / ٤٢٨٣ ، ومسند أحمد ١ : ٩٩ ومصنف ابن أبي شيبة ١٥ : ١٩٨ / ١٩٤٩٤.

٣ ـ سنن أبي داود ٤ : ١٠٧ / ٤٣٨٥ ، ومصنف عبدالرزاق ١١ : ٣٧٢ / ٢٠٧٧٣.

٤ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٨٦ / ٤٠٨٦ باب ٣٤ ، وسنن أبي داود ٤ : ١٠٧ / ٤٢٨٤ ، ومستدرك الحاكم ٤ : ٥٥٧ ، والمعجم الكبير / الطبراني ٢٣ : ٢٦٧ / ٥٦٦.

١٨

ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من ولدي اسمه اسميّ ، فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه : يا رسول الله من أي وُلْدِك؟ قال : من ولدي هذا ، وضرب بيده على الحسين(١) . وغيرها من الأحاديث الكثيرة الاُخرى.

وممّا يؤيّد عمق الاعتقاد بالمهديعليه‌السلام في الوجود الإسلامي ، هو منه لا يكاد يخلو كتاب حديثي من كتب المسلمين إلاّ وقد صرّح بهذه الحقيقة الثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبوتا قطعيا ، ويكفي في ذلك أن من أخرج أحاديث المهديعليه‌السلام من محدثي العامّة فقط بالغوا زهاء تسعين محدثا ، وقد أسندوها إلى أكثر من خمسين صحابيا(٢) ، وأما من قال بصحتها أو تواترها فقد بلغوا ثمانية وخمسين عالما من علمائهم فيما تتبعّناه(٣) ، وإذا ما علمنا موقف أهل البيتعليهم‌السلام وعرفنا عقيدة شيعتهم بالإمام المهديعليه‌السلام ، تيقّنا من حصول إجماع الأُمة بكل مذاهبها على ضرورة الاعتقاد بالمهديعليه‌السلام .

وفي هذا الصدد توجد أحاديث كثيرة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تثبيت أصل القضية المهدوية ، وهو ما اتفقت عليه كلمة المسلمين من ظهور رجل في آخر الزمان من ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلقب بالمهدي ليملأ الأرض

__________________

١ ـ عقد الدرر : ٥٦ باب ١ ، وفرائد السمطين ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ / ٥٧٥ باب ٦١ ، والمنار المنيف / ابن القيم ١٤٨ / ٣٣٩ فصل ٥٠ ، وكشف الغمة / الإربلي ٣ : ٢٥٩.

٢ ـ راجع کتابنا : المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي : ٢٦ ـ ٣٢.

٣ ـ راجع كتابنا : دفاع عن الكافي ١ : ٤٣٤ ـ ٤٠٥ تحت عنوان : ( من قال بصحّة أحاديث المهديعليه‌السلام أو تواترها من أهل السنة ).

١٩

قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، وانه يقتل الدجال وينزل عيسى بن مريمعليه‌السلام لنصرته ، ومأتم بصلاته. ويدلّ عليه :

١ ـ عن معمر بن راشد ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء فيه : « ومن ذرّيتي المهدي ، إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته ، فقدّمه وصلى خلفه »(١) .

وفي هذا الحديث تثبيت واضح لأصل القضية المهدوية ، وإشارة مجملة إلى هوية الإمام المهدي بأنّه من ذريّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع التنبيه على مقامه ، بأن عيسىعليه‌السلام سيكون ـ بأمر الله ـ وزيرا للمهدي وناصرا له فيه آخر الزمان وأنّه يأتم بصلاته.

وحديث نزول عيسى لنصرة الإمام المهديعليه‌السلام أخرجه البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة(٢) ، وأخرجه مسلم في صحيحه من طرق شتّى عن أبي هريرة أيضا(٣) وجابر الأنصاري(٤) ، والترمذي عن أنس(٥) ، وأبو نعيم عن عبد الله بن عمرو(٦) وحذيفة(٧) ، وابن المنذر ، عن شهر

__________________

١ ـ أمالى الشيخ الصدوق : ٢٨٧ / ٣٢٠ / ٤ مجلس / ٣٩.

٢ ـ صحيح البخاري ٤ : ٢٠٤ باب نزول عيسىعليه‌السلام .

٣ ـ صحيح مسلم ١ : ١٣٥ / ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٤٦ باب نوزل عيسىعليه‌السلام حاكما بشريعة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤ ـ صحيح مسلم ١ : ١٣٥ / ٢٤٧ من الباب السابق.

٥ ـ سنن الترمذي ٥ : ١٥٢ / ٢٨٩٦.

٦ ـ الحاوي للفتاوى / السيوطي ٢ : ٧٨.

٧ ـ الحاوي للفتاوى ٢ : ٨١.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

لا كشفاً ميلا ولا اوغاداً

هيهات لا تلفوننا رقـاداً

لا بل اذا صيح بنا آسادا

ثم حمل على القوم فرجعوا عنه. فاتبعهم وصاح بهم الى اين يا كلاب النار فقالوا انما اعدت النار لك ولأصحابك. فقال الحريش كل مملوك لي حر ان لم تدخلوا النار ان دخلها مجوسي فيما بين سفوان وخراسان ، ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسكر ابن مخنف(١) فانه لا خندق عليهم وقد تعب فرسانهم اليوم مع المهلب. وقد زعموا انا أهون عليهم من ضرطة جمل. فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه بهم الا وقد خالطوهم في عسكرهم. فترجل عند ذلك عبد الرحمن بن مخنف فجالدهم فقتل ، وقتل معه سبعون من القراء. فيهم نفر من أصحاب علي بن ابي طالب صلوات الله عليه ، ونفر من أصحاب ابن مسعود. وبلغ الخبر الى المهلب وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب. فجاءهم مغيثاً فقاتلهم حتى ارتث وصرع ، ووجه المهلب اليهم ابنه حبيباً فكفهم ، ثم جاء المهلب حتى صلى على ابن مخنف وأصحابه. وصار جنده في جند المهلب فضمهم الى ابنه حبيب فعيرهم البصريون. فقال رجال لجعفر بن عبد الرحمن :

__________________

(١) قال المبرد : في الكامل. كان ابن مخنف شريفاً يقول رجل من عامد لرجل يعاتبه ويضرب بابن مخنف المثل.

تروح وتغدو كل يوم معظماً

كانك فينا مخنف وابن مخنف

١٢١

تـركت أصحابنـا تـدمى نحورهم

وجئت تسعى الينا خضفة الجمل(٢)

فلا مهم المهلب. وقال بئسما قلتم. والله ما فروا ولا جبنوا ولكن خالفوا اميرهم أفلا تذكرون فراركم يوم دولاب ، وفراركم بدارس ، عن عثمان وفراركم عني.

قال ارباب التاريخ : ووجه الحجاج البراء بن قبيصة المهلب يستحثه في مناجزة القوم. وكتب اليه انك لتحب بقاءهم لتأكل بهم. فقال المهلب لأصحابه حركوهم ، فخرج فرسان من أصحابه اليهم فخرج اليهم من الخوارج جمع فاقتتلوا الى الليل ، فقال لهم الخوارج ويلكم أما تملون؟ فقالوا لا حتى تملوا. قالوا : فمن انتم؟ قالوا تميم. قالت الخوارج ونحن بنو تميم. فلما امسوا افترقوا فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب. وخرج اليهم عشرة من الخوارج فاحتفر كل واحد منهم حفيرة وأثبت قدمه فيها فكلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره ووقف مكانه حتى اعتموا. فقال لهم الخوارج ارجعوا فقالوا بل ارجعوا انتم. فقالوا : ويلكم من أنتم؟ فقالوا تميم قالوا : ونحن تميم فرجع البراء بن قبيصة الى الحجاج. فقال مه. قال رأيت قوماً لا يعين عليهم الا الله ، وكتب اليه المهلب اني منتظر بهم احدى ثلاث موت ذريع أو جوع مضر أو اختلاف من اهوائهم.

__________________

(٢) قوله خضفة الجمل ـ أي ضرطة الجمل ـ.

١٢٢

قال : ولما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس اذا الشراة قد تألبوا. فقال المهلب سبحان الله افي مثل هذا اليوم ، يا مغيرة اكفنيهم. فخرج اليهم المغيرة بن المهلب. وأمامه سعد بن نجد الفردوسي(١) وتبع المغيرة جماعة من فرسان المهلب فالتقوا ، وامام الخوارج غلام جامع السلاح مديد القامة كريه الوجه شديد الحملة صحيح الفروسية. فأقبل يحمل على الناس وهو يقول :

نحن صبحناكم غداة النحـر

بالخيل أمثال الوشيج تجري

فخرج اليه سعد بن نجد الفردوسي من الأزد. ثم تجاولا ساعة فطعنه سعد فقتله ، والتقى الناس فصرع يومئذ المغيرة فحامى عليه سعد بن نجد. وذبيان السختياني وجماعة الفرسان. حتى ركب وانكشف الناس عند سقطة المغيرة. حتى صاروا الى أبيه المهلب. فقالوا قتل المغيرة. ثم أتاه ذبيان السختياني فأخبره بسلامته. فأعتق كل مملوك بحضرته وصار يناهضهم ثلاثة أيام يعاديهم القتل ولا يزالون كذلك الى العصر. وينصرف أصحابه وبهم قرح والخوارج قرح وقتل قال وكتب الحجاج الى عتاب بن ورقاء الرياحي من بني رياح بن يربوع بن حنظلة. وهو والي أصفهان يأمره بالمسير الى المهلب. وأن يضم جند

____________

(١) كان سعد بن نجد القردوسي شجاعاً متقدماً في شجاعته ، وكان المهلب اذا ظن برجل ان نفسه قد اعجبته. قال له لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما هذا. ( وقردوس من الأزد ).

١٢٣

عبد الرحمن بن مخنف فكل بلد تدخلانه من فتوح أهل البصرة. فالمهلب امير الجماعة فيه وأنت على أهل الكوفة ، فاذا دخلتم بلداً فتحه لأهل الكوفة فأنت أمير الجماعة والمهلب على أهل البصرة. فقدم عتاب في احدى جمادى من سنة ست وسبعين على المهلب وهو بسابور ، وهي من فتوح أهل البصرة. فكان المهلب أمير الناس على أصحاب ابي مخنف ، والخوارج في أيديهم كرمان وهم بازاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي. فوجه الحجاج الى المهلب رجلين يستحثانه مناجزة القوم. فغادوا الخوارج. فاقتتلوا أشد قتال فقتل الرجلان ، ثم باكروهم في اليوم الثاني بالحرب ، وأقام المهلب على حربهم. فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهراً اختلفوا ، وكان سبب اختلافهم أن رجلاً حداداً من الأزارقة كان يعمل نصالاً مسمومة فيرمى بها أصحاب المهلب فرفع ذلك الى المهلب ، فقال : انا اكفيكموه إنشاء الله فوجه رجلاً من أصحابه بكتاب وألف درهم الى عسكر قطري. فقال ألق هذا الكتاب في عسكر قطري واحذر على نفسك ، وكان الحداد يقال له : أبزي. فمضى الرسول ، وكان في الكتاب. أما بعد فان نصالك قد وصلت الي وقد وجهت اليك بألف درهم فاقبضها وزدنا من هذه النصال ، فوقع الكتاب والدراهم الى قطري. فدعا بأبزي ، فقال ما هذا الكتاب؟ قال لا أدري. قال فهذه الدراهم. قال ما أعلم علمها. فأمر به فقتل فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني

١٢٤

قيس بن ثعلبة فقال له أقتلت رجلاً على غير ثقة ولا تبين؟؟ فقال : له ما هذه الدراهم. قال يجوز أن يكون أمرها كذباً ، ويجوز أن يكون حقاً ، فقال قطري قتل رجل في صلاح الناس غير منكر. وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً. وليس للرعية أن تعترض عليه ، فتنكر له عبد ربه في جماعة ولم يفارقوه. فبلغ ذلك المهلب. فدس اليه رجلاً نصرانياً. فقال له اذا رأيت قطرياً فاسجد له فاذا نهاك فقل انما سجدت لك ، ففعل النصراني فقال له قطري انما السجود لله. فقال ما سجدت الا لك. فقال له رجل من الخوارج قد عبدك من دون الله وتلا( انكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم انتم لها واردون ) فقال : قطري ان هؤلاء النصارى قد عبدوا عيسى بن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئاً. فقام رجل من الخوارج الى النصراني فقتله فأنكر ذلك عليه ، وقال قتلت ذمياً فاختلفت الكلمة. فبلغ ذلك المهلب. فوجه اليهم رجلاً يسألهم عن شيء تقدم به اليه. فأتاهم الرجل. فقال أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين اليكم فمات أحدهما في الطريق وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة ما تقولون فيهما؟ فقال بعضهم : أما الميت فمؤمن من أهل الجنة وأما الآخر الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيزها ، وقال قوم آخرون بل هما كافران حتى يجيزا المحنة فكثر الاختلاف. فخرج قطري الى حدود اصطخر فأقام شهراً والقوم في اختلافهم ، ثم أقبل فقال لهم صالح بن مخراق يا قوم انكم قد أقررتم أعين عدوكم وأطمعتموهم

١٢٥

فيكم. لما ظهر من اختلافكم فعودوا الى سلامة القلوب واجتماع الكلمة وخرج عمرو القنافنادي ايها المحلون هل لكم في الطراد فقد طال العهد به ثم قال :

الم ترانـا مـذ ثلاثـون ليلـة

قريب واعداء الكتاب على خفض

فتهايج القوم وأسرع بعضهم الى بعض فأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب. وصار في وسط الأزارقة فجعلت الرماح تحطه وترفعه واعتورت رأسه السيوف وعليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه فجعلت السيوف لا تعمل شيئاً واستنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع وكان الذي صرعه عبيده بن هلال وهو يقول :

أنا ابن خير قومه هلال

شيخ على دين ابي بلال

وذاك ديني آخر الليالي

فقال

رجل للمغيرة كنا نعجب كيف تصرع. والآن نعجب كيف تنجو ، وقال المهلب لبنيه ان سر حكم لغار ولست آمنهم عليه أفوكلتم به أحداً » قالوا لا. فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت فقال ان صالح بن مخراق قد أغار على السرح فشق ذلك على المهلب ، وقال كلو أمر لا أليه بنفسي فهو ضائع وتذمر عليهم. فقال له بشر بن المغيرة. أرح نفسك فان كنت انما تريد مثلك فوالله لا يعدل أحدنا شسع نعلك. فقال خذوا عليهم الطريق فثار بشر بن المغيرة ومدرك.

١٢٦

والمفضل ابنا المهلب. فسبق بشر الى الطريق فاذا اسود من الأزارقة يشل السرح(١) وهو يقول :

نحن قمعناكم بـشل السرح

وقد نكأنا القرح بعد القرح

ولحقه المفضل ومدرك فصاحا برجل من طيء اكفنا الأسود فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة وأسرا رجلاً من الازارقة. فقال له المهلب ممن الرجل؟ قال رجل من همدان. قال : انك لشين همدان. وخلى سبيله وكان عياش الكندي شجاعاً بئيساً فأبلى يومئذ. ثم مات على فراشه بعد ذلك فقال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عياش ، وقال المهلب ما رأيت كهؤلاء كلما ينقص منهم يزيد فيهم ، قال ووجه الحجاج الى المهلب رجلين احدهما من كلب والآخر من سليم يستحثانه بالقتال فقال المهلب متمثلاً.

ومستعجب مما يرى من أناتنا

ولو زبنته الحرب لم يترمرم(٢)

وقال ليزيد حركهم فتهايجوا. وذلك في قرية من قرى اصطخر فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فشك فخذه بالسرج. فقال المهلب للسلمي

__________________

(١) يشل السرح اي يطرده.

(٢) لم يترمرم : اي لم يتحرك. من قصيدة اوس بن حجر.

١٢٧

والكلبي كيف نقاتل قوماً هذا طعنهم وحمل يزيد عليهم. وقد جاء الرقاد وهو من فرسان المهلب. وهو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم وبه نيف وعشرون جراحة وقد وضع عليها القطن. فلما حمل يزيد ولى الجمع وحماهم فارسان. فقال يزيد لقيس الخشني مولى العتيك من لهذين؟ فقال انا فحمل عليهما فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس الخشني فصرعه. وحمل عليه الآخر فعانقه فسقط جميعاً الى الأرض فصاح قيس الخشني اقتلونا جميعاً فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء فحجزوا بينهما فإذا معانقة امرأة فقام قيس مستحيياً. فقال له يزيد أما أنت قبارزتها على أنها رجل. فقال أرأيت لو قتلت. أما كان يقال قتلته امرأة. وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي. فقال له غلام له يقال له خلاج والله لوددنا انا فضضنا عسكرهم حتى اسير الى مستقرهم فاستلب مما هناك جاريتين. فقال له مولاه وكيف تمنيت اثنتين. قال لاعطيك احداهما وآخذ الأخرى فقال ابن المنجب.

اخلاج انك لـن تعانق طفلة

شرقاً بها الجادي كالتمثال(٣)

حتى تلاقى في الكتيبة معلماً

عمرو القنا وعبيدة بن هلال

__________________

(٣) بفتح الطاء الناعمه. والجادي الزعفران.

١٢٨

وترى المقطر في الكتيبة مقدماً

في عصبة قسطوا مع الضلال

أو وان يـعلمك المهلب غزوة

وتـرى جبالا قـد دنت لجبال

قال الراوي : وكان بشر بن المغيرة ابلى يومئذ بلاء حسناً عرف مكانه فيه. وكانت بينه وبين بني المهلب جفوة. فقال لهم يا بني عم اني قد قصرت عن شكاة العاتب وجاوزت شكاة المستعتب حتى كأني لا موصول ولا محروم فاجعلوا الى فرجة اعش بها وهبوني امراً رجوتم نصره او خفتم لسانه فرجعوا له ووصلوه وكلموا فيه المهلب فوصله ، قال وولي الحجاج كردماً فارس فوجهه الحجاج اليها والحرب قائمة فقال رجل من أصحاب المهلب.

ولـو رآهـا كردماً لكردما

كردمة العير أحس الضيغما

قال : وكتب المهلب الى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن اصطخر ودر ابجرد لارزاق الجند ففعل ، وكان قطري هدم مدينة اصطخر لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره. وأراد مثل ذلك بمدينة فسا فاشتراها منه آزاد مرد بن الهربذ بمائة الف درهم فلم يهدمها فواقعه المهلب فهزمه ونفاه الى كرمان واتبعه ابنه المغيرة. وقد كان دفع اليه سيفاً وجه به الحجاج الى المهلب وأقسم عليه أن يتقلده فدفعه الى المغيرة بعدما تقلد به فرجع به المغيرة اليه وقد دماه فسر المهلب بذلك. وقال ما يسرني ان اكون كنت دفعته الى

١٢٩

غيرك من ولدي. اكفني جباية خراج هاتين الكورتين وضم اليه الرقاد فجعلاً يجبيان ولا يعطيان الجند شيئاً ، قال : وحاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت. واتبعهم فنزل قريباً منهم. واختلفت كلمتهم ، وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اليشكري اتهم بامرأة رجل حداد رأوه مراراً يدخل منزله بغير اذن. فأتوا قطرياً فذكروا ذلك له. فقال لهم ان عبيدة من الدين بحيث علمتم ومن الجهاد بحيث رأيتم. فقالوا انا لا نقاره على الفاحشة فقال انصرفوا. ثم بعث الى عبيدة فأخبره وقال انا لا نقار على الفاحشة فقال بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى؟ قال اني جامع بينك وبينهم فلا تخضع خضوع المذنب ولا تتطاول تطاول البريء فجمع بينهم فتكلموا فقام عبيدة فقال بسم الله الرحمن الرحيم. ان الذين جاؤا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم. الآيات ، فبكوا وقاموا اليه فاعتقوه وقالوا استغفر لنا ففعل ، فقال لهم عبد ربه الصغير. مولى بني قيس بن ثعلبة والله لقد خدعكم فبايع عبد ربه منهم ناس كثير لم يظهروا ولم يجدوا على عبيدة في اقامة الحد ثبتاً ، وكان قطري قد استعمل رجلاً من الدهاقين فظهرت له اموال كثيرة فأتوا قطرياً فقالوا ان عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا. فقال قطري اني استعملته وله ضياع وتجارات فأوغر ذلك صدورهم. وبلغ ذلك المهلب. فقال ان اختلافهم أشد عليهم مني. وقالوا لقطري ألا تخرج بنا إلى عدونا فقال لا. ثم خرج

١٣٠

فقالوا قد كذب وارتد فاتبعوه يوماً فأحس بالشر. فدخل دار امن جماعة من أصحابه فصاحوا به يا دابةٍ اخرج الينا. فخرج اليهم. فقال رجعتم بعدي كفاراً فقالوا أولست دابة؟. قال : الله عز وجل وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها ، ولكنك كفرت بقولك انا قد رجعنا كفاراً فتب الى الله عز وجل. فشاور عبيدة. فقال ان تبت لم يقبلوا منك. ولكن قل انما استفهمت فقلت أرجعتم بعدي كفاراً. فقال ذلك لهم فقبلوه منه فرجع الى منزله وعزم أن يبايع المقعطر العبدي فكرهه القوم وأبوه. فقال له صالح بن مخراق عنه وعن القوم ابغ لنا غير المقعطر. فقال قطري ألى طول العهد قد غيركم وأنتم بصدد عدوكم فاتقوا الله واقبلوا على شأنكم واستعدوا للقاء القوم. فقال له صالح بن مخراق ان الناس قبلنا ساموا عثمان بن عفان أن يعزل عنهم سعيد بن العاصي ففعل. ويجب على الامام أن يعفي الرعية مما كرهت. فأبى قطري أن يعزله. فقال له القوم انا خلعناك وولينا عبد ربه الصغير ، فانفصل الى عبد ربه اكثر من الشطر وجلهم الموالي والعجم. وكان هناك منهم ثمانية آلاف وهم القراء. ثم ندم صالح بن مخراق فقال لقطري هذه نفحة من نفحات الشيطان فأعفنا من المقعطر. وسر بنا. الى عدوك فأبى قطري الا المقعطر فحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق فطعنه فأنفذه وأجره الرمح فقتله. فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا ثم انحاز كل قوم الى صاحبهم. فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا قتالاً شديداً

١٣١

فأجلت الحرب عن ألفي قتيل. فلما كان الغد باكروهم القتال فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب من المدينة. وأقام عبد ربه بها وصار قطري خارجاً من مدينة جيرفت بازائهم. فقال له عبيدة يا أمير المؤمنين ان أقمت لم آمن هذه العبيد عليك الا أن تخندق فخندق على باب المدينة وجعل يناوشهم. وارتحل المهلب فكان منهم على ليلة فدس رجلاً من أصحابه فقال أئت عسكر قطبي. فقل اني لم ازل أرى قطرياً يصيب الرأي حتى نزل منزله هذا فبان خطؤه. أنقيم بين المهلب وعبد ربه يغاديه هذا القتال ويراوحه هذا. فنما الكلام الى قطري. فقال صدق. تنحوا بنا عن هذا الموضع. فان اتبعنا المهلب قاتلناه. وأن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون فقال له الصلت بن مرة يا أمير المؤمنين ان كنت تريد الله فاقدم على القوم. وان كنت تريد الدنيا فاعلم اصحابك حتى يستأمنوا.

وانشأ الصلت يقول :

قـل للمحلين قـد قـرت عيونكم

بفـرقة القـوم والبغضاء والهرب

كنـا انـاساً علـى ديـن فغيرنـا

طـول الجدال وخـلط الجد باللعب

ما كان أغنـى رجالاً ضل سعيهم

عـن الجدال وأغناهم عن الخطب

اني لاهونكم في الأرض مضطرباً

مالي سوى فرسي والرمح من نشب

١٣٢

ثم قال : أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع فيه منه. فارتحل قطري وبلغ ذلك المهلب. فقال لهريم بن عدي بن ابي طحمة المجاشعي اني لا آمن أن يكون قطري كاذباً بترك موضعه. فاذهب فتعرف الخبر فمضى هريم في اثني عشر فارساً فلم ير في العسكر الا عبداً وعلجاً فسألهما عن قطري وأصحابه فقالا مضوا يرتادون غير هذا المنزل. فرجع هريم الى المهلب فأخبره فارتحل المهلب حتى نزل خندق قطري فجعل يقاتلهم أحياناً بالغداة وأحياناً بالعشي قال : ولما كان العشي خرج الأزارقة وقد حملوا حرمهم وأموالهم وخف متاعهم لينتقلوا فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافكم واشرعوا رماحكم ودعوهم والذهاب ، فقال له عبيد هذا لعمري أيسر عليك فقال للناس ردوهم عن وجهتهم وقال لبنيه تفرقوا في الناس ، وقال لعبيد بن ابي ربيعة كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ ، وقال لأحد الامينين كن مع المغيرة ولا ترخص له في الفتور. فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى عقرت الدواب. وصرع الفرسان وقتلت الرجال فجعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال. وسقط رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل وذلك مع المغرب والمرادي يقول :

الليل ليل فيـه ويل ويل

وسال بالقوم الشراة السيل

ان جاز للأعداء فينا قول

١٣٣

فلما عظم الخطب فيه بعث المهلب الى المغيرة خل عن الرمح عليهم لعنة الله فخلوا لهم عنه. ثم مضت الخوارج حتى نزلوا على اربعة فراسخ من جيرفت ودخلها المهلب وأمر بجمع ما كان لهم فيها من المتاع وما خلفوه من رقيق وختم عليه هو والثقفي والامينان. ثم أتبعهم فاذا هم قد نزلوا على عين لا يشرب منها الأقوى. يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها وهناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال إلى نصف النهار ، فقال المهلب لأبي علقمة العبدي. وكان شجاعاً عانياً أمدد بخيل اليحمد وقل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة فقال له ان جماجمهم ليس بفخار فتعار وليست أعناقهم كرادي فتنبت ، وقال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل وقال :

يقول لي الأمير بغيـر علـم

تقـدم حين جـد به المراس

فمـالي ان اطعتك مـن حياة

ومالي غير هذا الرأس راس

وقال لمعن بن المغيرة بن ابي صفرة احمل. فقال لا الا ان تزوجني ام مالك بنت المهلب ففعل فحمل على القوم فكشفهم وطعن فيهم وقال :

ليست من يشتري الغداة بمال

هلكـه اليوم عنـدنا فيرانا

نصل الكر عنـد ذاك بطعن

ان للمـوت عندنـا الوانا

١٣٤

ثم جال الناس جولة عند جملة حملها عليهم الخوارج فم يزالوا على ذلك حتى ضعف الفريقان ، فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه جمع أصحابه ، وقال يا معشر المهاجرين ان قطرياً وعبيدة هرباً طلب البقاء ولا سبيل اليه فالقوا عدوكم فان غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت فتلقوا الرماح بنحوركم والسيوف بوجوهكم وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة ، قال ولما أصبحوا غادوا المهلب فقاتلوه قتالا شديداً انسى به ما كان قبله.

وقال عبدالله بن رزام الحارثي لأصحاب المهلب احملوا. فقال المهلب أعرابي مجنون. وكان من أهل نجران فحمل وحده فاخترق القوم حتى نجم من ناحية اخرى. ثم رجع ثم كر ففعل فعلته الأولى وتهايج الناس فترحلت الخوارج وعقروا دوابهم فناداهم عمرو القنا ولم يترجل هو وأصحابه من العرب ، وكانوا زهاء أربعمائة موتوا على ظهور دوابكم ولا تعقروها فقالوا انا اذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار فاقتتلوا ونادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض ، وقال لبنيه تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم. ونادى الخوارج إلا أن العيال لمن غلب فصبر بنوا المهلب وصبر يزيد بين يدي ابيه وقاتل قتالاً شديداً أبلى فيه. فقال له ابوه يا بني اني أرى موطناً لا ينجو فيه إلا من صبر وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب ، وكسرت الخوارج أجفان سيوفها وتجاولوا فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولاً.

١٣٥

فهرب عمرو القنا وأصحابه واستأمن قوم وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجرحى كثير من الخوارج. فأمر المهلب بأن يدفع كل جريح الى عشيرته. وظفر بعسكرهم فحوى ما فيه. ثم انصرف الى جيرفت. فقال الحمد لله الذي ردنا الى الخفض والدعة فما كان عيشنا بعيش ، ثم نظر الى قوم في عسكره لم يعرفهم فقال ما أشد عادة السلاح ناولوني درعي فلبسها. ثم قال خذوا هؤلاء فلما صير بهم اليه. قال ما أنتم؟ قالوا نحن جئنا لنطلب غرتك لنفتك بك فأمر بهم فقتلوا قاب وكتب الحجاج الى المهلب. أما بعد فان الله عز وجل قد فعل بالمسلمين خيراً. وأراحهم من حد الجهاد. وكنت أعلم بما قبلك والحمد لله رب العالمين. فاذا ورد عليك كتابي هذا فأقسم في المجاهدين فيئهم ونفل الناس على قدر بلائهم. وفضل من رأيت تفضيله وان كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلاً تقوم بازائهم. واستعمل على كرمان من رأيت. وول الخيل شهماً من ولدك. ولا ترخص لأحد في اللحاق بمنزله دون أن تقدم بهم علي. وعجل القدوم ان شاء الله. فولى المهلب ابنه يزيد كرمان. وقال له يا بني انك اليوم لست كما كنت انما لك من مال كرمان ما فضل عن الحجاج ولن تحتمل الا على ما احتمل عليه أبوك. فأحسن الى من معك. وان انكرت من انسان شيئاً وجهه الي وتفضل على قومك. وقدم المهلب على الحجاج فأجلسه الى جانبه وأظهر اكرامه وبره ، وقال يا أهل العراق

١٣٦

أنتم عبيد المهلب. ثم قال انت والله كما قال لقيط الأيادي :

وقلـدوا أمـركم لله دركم

رحب الذراع بامر الحرب مضطلعاً

لا يطعـم النـوم الا ريث يبعثـه

هـم يكـاد حـشاه يـقصم الضلعا

لا مترفاً ان رخاء العيش ساعـده

ولا اذا عـض مكـروه بـه خشعاً

ما زال يحلب هذا الدهر اشطـره

يكـون متبعـاً طـوراً ومتبعاً

حتى استمرت على شزر مريرته

مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعاً

١٣٧

[ واقعة صالح بن مسرح ]

كان صالح بن مسرح من رؤساء الخوارج. وكان بدارات أرض الموصل. فخرج بأصحابه على عبد الملك بن مروان. ليلة الأربعاء هلال صفر سنة ست وتسعين. وكان أحد قواده شبيب بن يزيد الشيباني فأول ما عملوه وقعوا على دواب لمحمد بن مروان في رستاق فنهبوها وحملوا عليها أثقالهم. وتحصن منهم أهل دارات. فبلغ خبرهم محمد بن مروان وهو يومئذ امير الجزيرة. فاستخف بأمرهم وبعث اليهم عدي بن عميرة في خمسمائة. وكان صالح في مائة وعشرة. فقال عدي أصلح الله الأمير تبعثني الى رأس الخوارج. ومعه رجال سمعوا لي وان الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة فقال له اني ازيدك خمسمائة فسر اليهم في ألف فارس. فسار من حران في ألف رجل. وكأنما يساقون الى الموت. وكان عدي رجلاً ناسكاً فلما نزل ذرعان نزل بالناس وأنفذ إلى صالح بن مسرح رجلاً

١٣٨

دسه اليه فقال : ان عدياً بعثني اليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد. وتأوي الى بلد آخر فتقاتل أهله فاني للقتال كاره. فقال له صالح ارجع اليه فقل له ان كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف ثم نحن مدلجون عنك. وان كنت على رأي الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا فأما بدأنا بك وإلا رحلنا الى غيرك. فانصرف اليه الرسول فأبلغه. فقال له عدي ارجع اليه فقال له اني والله لا أرى رأيك ولكني اكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين. فقال صالح لاصحابه اركبوا واحتبس الرجل عنده ومضى بأصحابه حتى اتي عدياً في سوق ذرعان وهو قائم يصلي الضحى فلم يشعر الا بالخيل طالعة عليهم فلما دنا صالح منهم رأهم على غير تعبئة وقد تنادوا وبعضهم يجول في بعص. فأمر شبيباً فحمل عليهم. في كتيبة ثم أمر سويداً فحمل في كتيبة. فكانت هزيمتهم. وأتى عدي بدابته فركبها ومضى على وجهه. واحتوى صالح على عسكره وما فيه. وذهب فل عدي حتى لحقوا بمحمد بن مروان فغضب. ثم دعا بخالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسماية. ودعا الحرث بن جعوية في ألف وخمسماية. وقال لهما اخرجا الى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجلا فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه فخرج واجداً في السير وجعلاً يسألان عن صالح. فقيل لهما توجه نحو آمد فأتبعاه حتى انتهيا اليه بآمد فنزلا

١٣٩

ليلاً وخندقا وهما متساندان كل واحد منهما على حدته فوجه صالح شبيباً الى الحرث بن جعوبة في شطر أصحابه وتوجه هو نحو خالد السلمي. فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم حتى حجر بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض. فتحدث بعض أصحاب صالح قال كنا اذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح ونضحنا رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك. فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا فما رجعنا وصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح. وقال : يا اخلائي ماذا ترون؟ فقال شبيب : انا ان قاتلنا هؤلاء القوم وهم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلاً. والرأي أن نرحل عنهم. فقال صالح وأنا ارى ذلك فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل ومضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجاج سرح عليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف. فسار اليهم وخرج صالح نحو كلولاء وخانقين واتبعه الحرث. حتى انتهى الى قرية يقال لها الريح وصالح يومئذ في تسعين رجلاً فعبى الحرث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة. وجعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس. وهو في كردوس. وشبيب في ميمنته في كردوس وسويد بن سليم في كردوس في ميسرته في كل كردوس منهم ثلاثون رجلاً فلما شد عليهم الحرث بن عميرة انكشف سويد بن سليم. وثبت صالح

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325