مرآة العقول الجزء ١

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
المحقق: السيد هاشم الرسولي
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 358

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
المحقق: السيد هاشم الرسولي
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 358
المشاهدات: 32350
تحميل: 3921


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 358 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32350 / تحميل: 3921
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

________________________________________________________

من الأجزاء لكون كلّ من الجزئين واجباً فالشريك يستلزم التأثير فيما لا يمكن التأثير فيه، أو إمكان ما فرض وجوبه إلى غير ذلك من المفاسد.

الثالث: برهان التمانع، وأظهر تقريراته أن وجوب الوجود يستلزم القدرة والقوة على جميع الممكنات قوة كاملة بحيث يقدر على إيجاده ودفع ما يضاده مطلقا، وعدم القدرة على هذا الوجه نقص، والنقص عليه تعالى محال ضرورة، بدليل إجماع العقلاًء عليه، ومن المحال عادة إجماعهم على نظري، ولئن لم يكن ضرورياً فنظري ظاهر متسق الطريق، واضح الدليل واستحالة إجماعهم على نظري لا يكون كذلك أظهر، فنقول حينئذ لو كان في الوجود واجبان لكانا قويين وقوتهما يستلزم عدم قوتهما لأنّ قوة كلّ منهما على هذا الوجه يستلزم قوته على دفع الآخر عن إرادة ضد ما يريده نفسه من الممكنات، والمدفوع غير قوي بهذا المعنى الّذي زعمنا أنه لازم لسلب النقص.

فإن قلت: هذا إنما يتم لو كان إرادة كلّ منهما للممكن بشرط إرادة الآخر لضده ممكنا وبالعكس، وليس كذلك بل إرادة كلّ منهما له بشرط إرادة الآخر لضده ممتنع، ونظير ذلك أن إرادة الواجب للممكن بشرط وجود ضده محال، ولا يلزم منه نقص؟

قلت: امتناع الإرادة بشرط إرادة الآخر هو الامتناع بالغير، وامتناعه بالغير يحقق النقص والعجز، تعالى عن ذلك، وأمّا امتناع إرادة الشيء بشرط وجود ضده فمن باب امتناع إرادة المحال الذاتي وإن كان امتناع الإرادة امتناعاً بالغير، ومثله غير ملزوم للنقص، بخلاف ما نحن فيه، فإن المراد ممتنع بالغير.

فإن قلت: وجود الشيء كما يمتنع بشرط ضده ونقيضه، كذلك يمتنع بشرط ملزوم ضده ونقيضه، والأول امتناع بالذات، والثاني امتناع بالغير، وكما أن إرادة

٢٦١

________________________________________________________

الأول منه تعالى محال ولا نقص فيه، كذلك إرادة الثاني، وظاهر أن إرادة إيجاد الممكن بشرط إرادة الآخر له من قبيل الثاني، فينبغي أن لا يكون فيه نقص؟

قلت: فرق بين الأمرين، فإن وجود الممكن إذا قيد واشترط بملزوم نقيضه كان ممتنعاً ولو بالغير، ولم يتعلّق به إرادة ضرورة، وأمّا إذا لم يقيد الوجود به بل أطلق، فغير ممتنع، فيمكن تعلّق الإرادة به ولو في زمان وجود ملزوم النقيض بأن يدفع الملزوم وإن لم يندفع هو من قبل نفسه أو من دافع آخر، بخلاف إرادة الآخر له، فإنه لو لم يندفع من قبل نفسه ولم يدفعه دافع آخر لم يتعلّق به الإرادة ضرورة، فهو مدفوع، وإلا فالآخر مدفوع، فصار حاصل الفرق حينئذ أن الصانع تعالى قادر على إيجاد أحد الضدين في زمان الضد الآخر بدون حاجة إلى واسطة غير مستندة إليه تعالى وهو أي الحاجة إلى الواسطة المستندة إلى الفاعل لا ينافي الاستقلال والقدرة كما لا ينافي الاحتياج إلى الواسطة المستندة إلى الذات الوجوب الذاتي، بخلاف ما نحن فيه، فإنه احتياج إلى واسطة غير مستندة إلى الذات.

لا يقال: لعل انتفاء إرادة الآخر واجب بنفسه، ولا نسلم منافاة توسط الواجب بالذات بين الفاعل وفعله، لاستقلاله واستلزامه النقص؟

لأنا نقول: الأول بين البطلان فإن تحقق إرادة الآخر وانتفائها ممكن في نفسه لكنه ينتفي فيما نحن فيه من قبل ذي الإرادة لو انتفى، فيكون واسطة ممكنة غير صادرة عن الفاعل ولا مستندة إليه، وأمّا الثاني فربما تدعي البداهة في استلزامه النقص وهو غير بعيد، وبهذا التقرير يندفع كثير من الشكوك والشبه.

الرابع: تقرير آخر لبرهان التمانع ذكره المحقق الدواني وهو أنه لا يخلو أن يكون قدرة كلّ واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم، أو لا شيء منهما كاف أو أحدهما كاف فقط، وعلى الأول يلزم اجتماع المؤثرين التأمين على معلول واحد، وعلى الثاني يلزم عجزهما لأنهما لا يمكن لهما التأثير إلا باشتراك الآخر، وعلى الثالث

٢٦٢

لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما

________________________________________________________

لا يكون الآخر خالقاً فلا يكون إليها( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ) .

لا يقال: إنما يلزم العجز إذا انتفت القدرة على الإيجار بالاستقلال، أمّا إذا كان كلّ منهما قادراً على الإيجاد بالاستقلال، ولكن اتفقاً على الإيجاد بالاشتراك فلا يلزم العجز، كما أن القادرين على حمل خشبة بالانفراد قد يشتركان في حملها، وذلك لا يستلزم عجزهما، لأنّ إرادتهما تعلّقت بالاشتراك، وإنما يلزم العجز لو أراد الاستقلال ولم يحصل.

لأنا نقول: تعلّق إرادة كلّ منهما إن كان كافياً لزم المحذور الأول وإن لم يكن كافياً لزم المحذور الثاني، والملازمتان بينتان لا تقبلان المنع، وما أوردت من المثال في سند المنع لا يصلح للسندية إذ في هذه الصورة ينقص ميل كلّ واحد منهما من الميل الّذي يستقل في الحمل، قدر ما يتم الميل الصادر من الآخر حتّى ينقل الخشبة بمجموع الميلين، وليس كلّ واحد منهما بهذا القدر من الميل فاعلا مستقلا، وفي مبحثنا هذا ليس المؤثر إلا تعلّق القدرة والإرادة ولا يتصور الزيادة والنقصان في شيء منهما.

الخامس: أن كلّ من جاء من الأنبياء وأصحاب الكتب المنزلة إنما ادعى الاستناد إلى واحد استند إليه الآخر، ولو كان في الوجود واجبان لكان يخبر مخبر من قبله بوجوده وحكمه، واحتمال أن يكون في الوجود واجباً لا يرسل إلى هذا العالم أو لا يؤثر ولا يدبر أيضاً فيه مع تدبيره ووجود خيره في عالم آخر أو عدمه مما لا يذهب إليه وهم واهم، فإن الوجوب يقتضي العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ومع هذه الصفات الكمالية يمتنع عدم الإعلام ونشر الآثار بحيث يبلغ إلينا وجوده، وأمّا ما زعمت الثنوية من الإله الثاني فليس بهذه المثابة، ومما يرسل ويحكم فيهم أن قالوا بوجود الواجب الآخر فقد نفوا لازمه، فهو باطل بحكم العقل، وقد أثبتنا في كتاب الروضة من كتاب بحار الأنوار فيما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الحسن صلوات الله عليهما ما يومئ إلى هذا الدليل، حيث قالعليه‌السلام : واعلم أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله،

٢٦٣

قوياً والآخر ضعيفا فإن كانا قويين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرد

________________________________________________________

ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت صفته وفعاله، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لإيراده في ذلك أحد، ولا يحاجه، وأنه خالق كلّ شيء.

السادس: الأدلة السمعية من الكتاب والسنة وهي أكثر من أن تحصى وقد مر بعضها ولا محذور في التمسك بالأدلة السمعية في باب التوحيد، وهذه هي المعتمد عليها عندي وبسط الكلام في تلك الأدلة وما سواها مما لم نشر إليها موكول إلى مظانها.

ولنرجع إلى حل الخبر وشرحه وقد قيل فيه وجوه: « الأول » أن المراد بالقوي القوي على فعل الكل بالإرادة مع إرادة استبداده به، والمراد بالضعيف الّذي لا يقوى على فعل الكل ولا يستبد به ولا يقاوم القوي « فإن كانا قويين فلم لا يدفع كلّ منهما صاحبه ويتفرد به » أي يلزم من قوتهما انفراد كلّ بالتدبير ويلزم منه عدم وقوع الفعل، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف، ثبت أنه واحد أي المبدأ للعالم واحد لعجز الضعيف عن المقاومة، وثبت احتياج الضعيف إلى العلة الموجدة، لأنّ القوي أقوى وجوداً من الضعيف، وضعف الوجود لا تتصور إلا بجواز خلو المهية عن الوجود، ويلزم منه الاحتياج إلى المبدأ المبائن الموجد له، وإن قلت إنهما اثنان أي المبدأ اثنان، فهذا هو الشق الثاني، أي كونهما ضعيفين بأن يقدر ويقوى كلّ منهما على بعض أو يفعل بعضا دون بعض بالإرادة، وإن كان يقدر على الكل، وفي هذا الشق لا يخلو من أن يكونا متفقين أي في الحقيقة من كلّ جهة ويلزم من هذا عدم الامتياز بالتعين للزوم المغايرة بين الحقيقة والتعينين المختلفين، واستحالة استنادهما إلى الحقيقة واستحالة استنادهما إلى الغير، فيكون لهما مبدء أو مختلفين مفترقين من كلّ جهة، وذلك معلوم الانتفاء فإنا لما رأينا الخلق منتظما والفلك جارياً والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد لا اثنان مختلفان من كلّ جهة، ثمّ ذلك المدبر الواحد لا يجوز أن يكون واحداً بجهة من حيث الحقيقة مختلفا بجهة أخرى، فيكون المدبر

٢٦٤

بالتدبير وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول

________________________________________________________

اثنين ويلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما، لأنّ لهما وحدة فلا يتمايزان إلا بمميز فاصل بينهما حتّى يكونا اثنين، لامتناع الاثنينية بلا مميز بينهما، وعبر عن الفاصل المميز بالفرجة، حيث أن الفاصل بين الأجسام يعبر عنه بالفرجة وأولئك الزنادقة لم يكونوا يدركون غير المحسوسات تنبيها على أنكم لا تستحقون أن تخاطبوا إلا بما يليق استعماله في المحسوسات، وذلك المميز لا بد أن يكون وجودياً داخلا، في حقيقة أحدهما إذ لا يجوز التعدد مع الاتفاق في تمام الحقيقة كما ذكرنا، ولا يجوز أن يكون ذلك المميز ذا حقيقة يصح انفكاكها عن الوجود وخلوها عنه ولو عقلاً وإلا لكان معلولا محتاجاً إلى المبدأ فلا يكون مبدء ولا داخلا فيه، فيكون المميز الفاصل بينهما قديما موجوداً بذاته كالمتفق فيه، فيكون الواحد المشتمل على المميز الوجودي اثنين لا واحدا، ويكون الاثنان اللذان ادعيتهما ثلاثة، فإن قلت به وادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين من تحقق المميز بين الثلاثة، ولا بد من مميزين وجوديين حتّى يكون بين الثلاثة فرجتان، ولا بد من كونها قد يمين كما مر فيكونوا خمسة وهكذا.ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة، أي يتناهى الكلام في التعدد إلى القول بما لا نهاية له في الكثرة، أو يبلغ عدده إلى كثرة غير متناهية، أو المراد أنه يلزمك أن يتناهى المعدود المنتهى ضرورة بمعروض ما ينتهي إليه العدد أي الواحد إلى كثير لا نهاية له في الكثرة فيكون عدداً بلا واحد وكثرة بلا وحدة، وعلى هذا يكون الكلام برهانياً لا يحتاج إلى ضميمة، وعلى الأوّلين يصير بضم ما ذكرناه من ثالث الاحتمالات برهانيا.

الثاني: أن يكون إشارة إلى ثلاثة براهين، وتقرير الأول - بعد ما تقرر أن ما لا يكون قوياً على إيجاد أي ممكن كان، لا يكون واجباً بالذات - أن يقال لا يصح أن يكون الواجب بالذات اثنين، وإلا كان كلّ منهما قوياً على إيجاد أي ممكن كان، وكل ممكن بحيث يكون استناده إلى أي منهما كافياً في تصحيح خروجه من القوة إلى الفعل، وحينئذ لم يكن محيص إمّا من لزوم استناد كلّ معلول شخصي إلى علتين

٢٦٥

للعجز الظاهر في الثاني فإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من

________________________________________________________

مستبدتين بالإفاضة، وذلك محال، أو من لزوم الترجيح بلا مرجح وهو فطري الاستحالة أو من كون أحدهما غير واجب بالذات وهو خلاف المفروض، وهذا البرهان يتم عند قولهعليه‌السلام للعجز الظاهر في الثاني.

وقولهعليه‌السلام : وإن قلت: إلى قوله: على أن المدبر واحد، إشارة إلى برهان ثان وهو أحد الوجوه البرهانية في قوله تعالى( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) (١) .

وتلخيص تقريره أن التلازم بين أجزاء النظام الجملي المنتظم المتسق كما بين السماء والأرض مثلا على ما قد أحقته القوانين الحكمية لا يستتب إلا بالاستناد إلى فاعل واحد يصنع الجميع بحكمته وقدرته، إذ التلازم بين الشيئين لا يتصحح إلا بعلية أحدهما للآخر أو بمعلوليتهما لعلة واحدة موجبة، فلو تعدد اختل الأمر وفسد النظام، وتقرير الثالث هو أنك لو ادعيت اثنين كان لا محالة بينهما انفصال في الوجود، وافتراق في الهوية ويكون هناك موجود ثالث هو المركب من مجموع الاثنين، وهو المراد بالفرجة لأنّه منفصل الذات والهوية، وهذا المركب لتركبه عن الواجبات بالذات المستغنيات عن الجاعل، موجود لا من تلقاء الصانع إذ افتقار المركب إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه فإذا لم تفتقر أجزاؤه لم يفتقر هو بالضرورة فإذا قد لزمك أن يكون هذا الموجود الثالث أيضاً قديما فيلزمك ثلاثة وقد ادعيت اثنين وهكذا، ويرد عليه مع بعد إطلاق الفرجة بهذا المعنى أنه يلزم في الفرق الثاني سبعة لا خمسة.

الثالث: أن يكون إشارة إلى حجتين إحداهما عامية مشهورية، والأخرى خاصية برهانية، أمّا الأولى فقوله: لا يخلو قولك - إلى قوله - في الثاني، ومعناه أنه لو فرض قديمان فلا يخلو أن يكون كلاهما قوياً والآخر ضعيفا والثلاثة بأسرها باطلة، أمّا الأول فلأنه إذا كانا قويين وكل منهما في غاية القوة من غير ضعف وعجز كما هو

__________________

(١) سورة الأنياء: ٢٢.

٢٦٦

كل جهة أو مفترقين من كلّ جهة فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جارياً والتدبير

________________________________________________________

المفروض، والقوة يقتضي الغلبة والقهر على كلّ شيء سواه، فما السبب المانع لأنّ يدفع كلّ واحد منهما صاحبه حتّى ينفرد بالتدبير والقهر على غيره، إذ اقتضاء الغلبة والاستعلاء مركوزة في كلّ ذي قوة على قدر قوته، والمفروض أن كلا منهما في غاية القوة وأمّا فساد الشق الثاني فهو ظاهر عند جمهور الناس لما حكموا بالفطرة من أن الضعف ينافي الإلهية ولظهوره لم يذكرهعليه‌السلام ، وأيضا يعلم فساده بفساد الشق الثالث وهو قوله: وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه أي الإله واحد كما نحن نقول للعجز الظاهر في المفروض ثانيا، لأنّ الضعف منشأ العجز والعاجز لا يكون إلها بل مخلوقاً محتاجاً لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوة والكمال والخيرية وأمّا الحجة البرهانية فأشار إليها بقوله: وإن قلت إنهما اثنان، وبيانه: أنه لو فرض موجودان قديمان فإما أن يتفقاً من كلّ جهة أو يختلفا من كلّ جهة، أو يتفقاً بجهة ويختلفا بأخرى، والكل محال أمّا بطلان الأول فلان الاثنينية لا تتحقق إلا بامتياز أحد الاثنين عن صاحبه، ولو بوجه من الوجوه، وأمّا بطلان الثاني فلما نبه عليه بقوله: فلما رأينا الخلق منتظما.

وتقريره أن العالم كله كشخص واحد كثير الأجزاء والأعضاء، مثل الإنسان، فإنا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصة وتباين صفاتها وأفعالها المخصوصة يرتبط بعضها ببعض ويفتقر بعضها إلى بعض، وكل منهما يعين بطبعه صاحبه، وهكذا نشاهد الأجرام العالية وما ارتكز فيها من الكواكب المنيرة(١) في حركاتها الدورية وأضوائها الواقعة منها نافعة للسفليات محصلة لأمزجة المركبات الّتي يتوقف عليها صور الأنواع ونفوسها، وحياة الكائنات ونشو الحيوان والنبات، فإذا تحقق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام واتصال التدبير دل أن إلهه واحد، وإليه أشار بقوله: دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد، وأمّا بطلان الشق

__________________

(١) في نسخة « من الجواهر النيرة ».

٢٦٧

واحداً والليل والنهار والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد ثمّ يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت

________________________________________________________

الثالث وهو أنهما متفقان من وجه ومختلفان من وجه آخر، فبأن يقال كما أشار إليهعليه‌السلام بقوله: ثمّ يلزمك، أنه لا بد فيهما من شيء يمتاز به أحدهما عن صاحبه وصاحبه عنه، وذلك الشيء يجب أن يكون أمراً وجودياً يوجد في أحدهما ولم يوجد في الآخر، أو أمران وجوديان يختص كلّ منهما بواحد فقط، وأمّا كون الفارق المميز لكل منهما عن صاحبه أمراً عدمياً فهو ممتنع بالضرورة، إذ الأعدام بما هي إعدام لا تمايز بينها، ولا تميز بها فإذا فرض قديمان فلا أقل من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما ويسلب عن الآخر، وهو المراد بالفرجة إذ به يحصل الانفراج أي الافتراق بينهما، لوجوده في أحدهما وعدمه في الآخر وهو أيضاً لا محالة قديم موجود معهما، وإلا لم يكونا اثنين قديمين، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة وقد فرض اثنان وهذا خلف، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة وهكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا نهاية له وهو محال.

أقول: الأظهر على هذا التقرير أن يحمل الوحدة في قولهعليه‌السلام على أن المدبر واحد، على الأعم من الوحدة النوعية والشخصية، ولو حملت على الشخصية يمكن أن يستخرج منه ثلاث حجج لهذا التقرير ولا يخفى توجيهها.

الرابع: أن يكون إشارة إلى ثلاث حجج لكن على وجه آخر وتقرير الأول: أنه لو كان اثنين فإما أن يكونا قويين أي مستقلين بالقدرة على ممكن في نفسه، سواء كان موافقاً للمصلحة أو مخالفا، وهو إنما يتصور بكونهما قديمين، وإما أن يكونا ضعيفين أي غير مستقلين بالقدرة على ممكن ما في نفسه، وإما أن يكون أحدهما قوياً على دفع الآخر من أن يصدر عنه مراد الأول بعينه أو مثله أو ضده في محله، لأنّ عدم المنافي شرط في صدور كلّ ممكن، وعدم القوة على الشرط ينافي القوة على المشروط، ولا شك أن المدفوع كذلك ضعيف مسخر فقوة كلّ منهما في فعل صدر عنه يستلزم دفعه الآخر فيه، وضعف ذلك الآخر، وفي فعل تركه حتّى فعل الآخر ضده يستلزم

٢٦٨

الفرجة ثالثاً بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له

________________________________________________________

تمكينه الآخر في فعله، وهذا تفرد بالتدبير فالاستفهام في لم لا يدفع إنكاري أي معلوم ضرورة أنه يدفع كلّ منهما الآخر ويتفرد بالتدبير، وبطلان الشق الثالث لكونه مستلزما لعجز أحدهما أي ضعفه وعدم كونه ممّن ينتهي إليه شيء من تدبير العالم يستلزم بطلان الشق الثاني بطريق أولى، وتقرير الثاني هو أنه لو كان المدبر اثنين فنسبة معلول معلول إليهما إمّا متساوية من جميع الوجوه بأن لا يكون في واحد منهما ما يختص به ويرجح صدورها عنه على صدورها عن الآخر من الداعي والمصلحة ونحوهما، وإما غير متساوية من جميع الوجوه، وكلاهما باطل، أمّا الأول فلأنه إمّا أن يكون ترك كلّ منهما لذلك المعلول مستلزما لفعل الآخر إياه لحكمة كلّ منهما أم لا، فعلى الأول إحداث أحدهما ذلك المعلول يستلزم الترجيح بلا مرجح لأنّ إحداث كلّ منهما ذلك المعلول ليس أولى بوجه من تركه إياه مع إحداث الآخر إياه، وعلى الثاني إمّا أن يكون ترك التارك له مع تجويزه الترك على الآخر قبيحا وخلاف الحكمة أم لا والأول يستلزم النقص، والثاني يستلزم عدم إمكان رعاية المصالح الّتي لا تحصى في خلق العالم، لأنّه اتفاقي حينئذ ومعلوم بديهة أن الاتفاقي لا يكون منتظما في أمر سهل كصدور مثل قصيدة من قصائد البلغاء المشهورين عمن لم يمارس البلاغة، وإن كان يمكن أن يصدر عنه اتفاقاً مصراع بليغ أو مصراعان، فضلا عمّا نحن فيه، وأمّا بطلان الثاني فلأنه يستلزم أن يكون مختلفة من جميع الوجوه بأن لا يكون أحدهما قادراً عليه أصلاً، لأنّ اختلاف نسبة قادرين إلى معلول واحد شخصي إنما يتصور فيما يمكن أن يكون صدوره عن أحدهما أصلح وأنفع من صدوره عن الآخر، وهذا إنما يتصور فيما كان نفع فعله راجعاً إليه كالعباد، وأمّا إذا كان القادران بريئين من الانتفاع كما فيما نحن فيه فلا يتصور ذلك فيه بديهة، وينبه عليه أن الغني المطلق إنما يفعل ما هو الخير في نفسه من غير أن يكون له فيه نفع، سواء كان لغيره فيه نفع

٢٦٩

في الكثرة قال هشام فكان من سؤال الزنديق أن قال

________________________________________________________

كما في ثواب المطيع أو لم يكن، ومثاله عقاب الكافر إن لم يكن للمطيعين فيه نفع، وتقرير الثالث: أنه إن كان المدبر اثنين فنسبة معلول إليهما إمّا متساوية من جميع الوجوه أو لا، وكلاهما باطل، أمّا الأول فلان صدور بعض المعلولات عن أحدهما وبعض آخر منها عن الآخر منهما حينئذ يحتاج إلى ثالث هو الفرجة بينهما، أي ما يميز ويعين كلّ معلول معلول لواحد معين منهما حتّى يكون المدبران اثنين، لامتناع الترجيح من جهة الفاعلين بلا مرجح، أي بلا داع أصلاً كما هو المفروض، فيلزم خلاف الفرض، وهو أن يكون المدبر ثلاثة ثمّ ننقل الكلام إلى الثلاثة وهكذا إلى ما لا نهاية له في الكثرة، ويلزم التسلسل، وإنما لم يكتفعليه‌السلام بعد نقل الكلام إلى الثلاثة بالاحتياج إلى فرجة واحدة للتمييزين حتّى يكون المجموع أربعة لا خمسة، وإن كان المطلوب وهو لزوم التسلسل حاصلا به أيضا، لأنّ هناك ثلاثة تميزات وتخصيص واحد منهما بمميز كما هو المفروض، واشتراك اثنين منهما بواحد مع اتحاد النسبة تحكم وأمّا بطلان الثاني فلما مر في بيان بطلان الشق الثاني من الدليل الثاني.

أقول: لا يخفى بعد هذا التقرير عن الأفهام واحتياجه إلى تقدير كثير من المقدمات في الكلام.

الخامس: أن يكون الأول إشارة إلى برهان التمانع بأحد تقريراته المشهورة والثاني إلى التلازم كما مر والثالث يكون إلزاما على المجسمة المشركة القائلين بإلهين مجسمين متباعدين في المكان كما هو الظاهر من كلام المجوس لعنهم الله ويكون الفرجة محمولة على معناها المتبادر من جسم يملأ البعد بينهما لبطلان الخلاء، أو سطح فاصل بينهما لتحقق الاثنينية.

السادس: أن يكون إشارة إلى ثلاثة براهين على وجه قريب من بعض الوجوه السابقة، وتقرير الأول أنه لو كان المبدأ الأول الإله الحقّ الصانع للعالم اثنين فلا يخلو من أن يكون كلّ واحد منهما قديما بالذات قوياً قادراً على إيجاد كلّ ممكن بحيث تكون قدرة كلّ واحد منهما وحكمته وإرادته مع تعلّق إرادته كافية.

٢٧٠

________________________________________________________

في وجود جميع العالم على الوجه الأصلح المشتمل على الحكم والمصالح الّتي لا تعد ولا تحصى كما هو واقع كذلك أو لا يكون كلّ واحد منهما كذلك وحينئذ إمّا أن يكون كلّ منهما ضعيفا عن إيجاد جميع العالم بانفراده كذلك أو يكون أحدهما قوياً على ذلك والآخر ضعيفا عنه، فأمّا على الأول فلم لا يدفع كلّ منهما صاحبه عن إيجاد العالم وينفرد بالتدبير والإيجاد، حتّى يلزم منه عدم العالم بالكلية لاستحالة توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد شخصي أي على مجموع العالم لأنّه بمنزلة واحد شخصي، بل على كلّ واحد من أجزائه أيضاً وإيجاد هذا مانع عن إيجاد ذلك وبالعكس فيتحقق التمانع بينهما، ويلزم على تقدير إيجادهما العالم عدم إيجادهما له، فيلزم من تعدد الصانع تعالى عدم العالم رأسا كما نزل عليه قوله سبحانه( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) وعلى الثاني وهو أن لا يكون كلّ منهما كافياً في وجود جميع العالم على الوجه الواقع عليه سواء كلي عدم كفايته فيه باعتبار عدم شمول قدرته أو حكمته أو إرادته أو عدم شمول تعلّق إرادته عليه، يلزم أن يكونا ضعيفين ناقصين عاجزين باعتبار أي صفة كانت بالضرورة، وما يكون كذلك لا يكون مبدءا أولا وصانعاً للعالم صالحا للإلهية وهذا خلف، وتوضيح ذلك أن عدم تفرد كلّ منهما بخلق جميع العالم على الوجه الأصلح الّذي لا يمكن أن يكون أصلح منه وشركتهما في خلقه إمّا أن يكون على وجه الاضطرار لعدم تمكن كلّ منهما على الانفراد عن ذلك أو على وجه الإرادة والاختيار، وعلى الأول العجز والضعف والنقص ظاهر، لأنّ جميع العالم على هذا الوجه ممكن، فكل منهما لا يقدر على كلّ ممكن، وعلى الثاني فإما يكون في شركتهما حكمة ومصلحة لا تكون تلك الحكمة والمصلحة في الانفراد أم لا، وعلى الأول يلزم أن يكون كلّ واحد منهما بانفراده فائتا لتلك الحكمة والمصلحة وهذا أيضاً ضعف وعجز ونقص في كلّ واحد منهما بالضرورة، بل هذا القسم أيضاً راجع إلى الشق الأول كما لا يخفى، وعلى الثاني يلزم أن تكون شركتهما سفها وعبثاً فيلزم خلوهما عن الحكمة وهو ضعف وعجز عن رعاية الحكمة

٢٧١

________________________________________________________

وعلى الثالث وهو أن يكون أحدهما قديما بالذات قوياً قادراً على إيجاد جميع العالم كافياً فيه يلزم المطلوب وهو وحدة صانع العالم للعجز الظاهر في الضعيف، وكل عاجز وناقص ممكن لا يصلح أن يكون مبدءا ولا صانعاً للعالم صالحا للألوهية، ولما كان فساد القسم الثاني يظهر من بيان فساد القسم الثالث لم يتعرضعليه‌السلام للتصريح به.

وتقرير الثاني أنك إن قلت أن الإله الحقّ الصانع المدبر له اثنان، لم يخل من أن يكونا متفقين من جميع الوجوه أي الذات والصفات بحيث لا تمايز بينهما أصلاً، فيلزم وحدة الاثنين وارتفاع الاثنينية من البين، وهو بديهي البطلان، ولظهور فساده لم يتعرضعليه‌السلام له، أو يكونان متفرقين من جهة سواء كان في ذاتهما أو في صفاتهما أو فيهما معا، أي لا يكونا متفقين من جميع الجهات ليكون الحصر حاصراً فهو باطل لأنّه يلزم من تعدده فساد العالم وخروجه عن النظام الّذي هو عليه وبطل الارتباط الّذي بين أجزاء العالم، واختل انتظامها واتساقها فلم يكن بينهما هذا النظام كما تشهد به الفطرة السليمة، ونطق به الآية الكريمة، وإليه أشار بقولهعليه‌السلام لأنا لما رأينا الخلق منتظما إلى آخره.

وتقرير الثالث أنه لو كان الواجب بالذات اثنين يلزمك أن يكون بينهما فرجة أي مائز يمتاز به أحدهما عن الآخر بوجوده، والآخر بعدمه، لا أقل من ذلك حتّى يتحقق بينهما الاثنينية لاشتراكهما في حقيقة وجوب الوجود، ولا يجوز أن يكون ذلك المميز ذا حقيقة يصح انفكاكها عن الوجود وخلوها عنه ولو عقلاً وبحسب التصور وإلا لكان معلولا محتاجاً إلى المبدأ، فلا يكون مبدءا أولا ولا داخلا فيه، فيكون المميز أيضاً موجوداً قديما بذاته كما به الاشتراك، فيكون ما فرضت اثنين ثلاثة وننقل الكلام إلى الثلاثة وتحتاج إلى مائزين وجوديين ليمتاز الثالث عنهما بعد مهما، فتكون الثلاثة خمسة، وننقل الكلام إلى المائزين وهكذا إلى آخر ما مر من التقرير في الوجه الأول.

السابع أن يوجه الثالث بأنه لو كان الصانع سبحانه اثنين يلزم منه أن يكون

٢٧٢

________________________________________________________

العالم اثنين، لأنّه يجب أن يوجد كلّ واحد منهما عالماً تاما مشتملا على جميع ما في هذا العالم من الحكم والمصالح وإلا فيكون كلاهما أو أحدهما ناقصاً بوجه من الوجوه بالضرورة والنقص فيه محال، ومن ذلك يلزم أن يكون العالم الجسماني اثنين، ومن اثنينيته يلزم اثنينية الفلك الأعلى، ويحيط كلّ واحد منه بجميع أجسام عالمه وهما كرتان، فبالضرورة يتحقق بينهما بعد وفرجة واحدة، لو لم تكن الكرتان متماستين أو فرجتان لو كانتا متماستين بنقطة واحدة، ولاستحالة الخلاء يجب أن يكون الشاغل لتلك الفرجة جسما آخر ولوجوب استناد الجسم إلى مجرد منته إليه يجب أن تكون علته وصانعه واجباً ويجب أن يكون ثالث الصانعين المفروضين، لأنّ ذلك الجسم خارج عن جميع مخلوقات كلّ واحد منهما، لأنّ عالمه عبارة عن جميع مخلوقاته، وعلى هذا فيلزم أن يكون ذلك الجسم المالي لتلك الفرجة عالماً جسمانياً آخر، مثل هذا العالم وإلا يلزم النقص في صانعه الّذي هو واجب بالذات بوجه من الوجوه، والنقص في الواجب محال فمن اثنينية الصانع يلزم الفرجة بين العالمين الجسمانيين وهي مستلزمة لوجود صانع واجب آخر موجد لعالم جسماني آخر شاغل لها، ومن وجود العالم الجسماني الثالث تلزم فرجتان أخريان مستلزمتان لصانعين آخرين وهكذا إلى غير النهاية، وذلك باطل من وجهين أمّا أولا فلاستلزامه وجود البعد الغير المتناهي وهو محال، وأمّا ثانياً فللزوم التسلسل لتحقق اللزوم بين العالمين وبين العالم الثالث، وكذا بينه وبين العالمين الآخرين وهكذا، وذلك كاف في تحقق التسلسل المحال، وعلى هذا فقولهعليه‌السلام فرجة ما بينهما أي فرجة ما بين عالميهما الجسمانيين. وقولهعليه‌السلام فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديما معهما، أي فصارت علة شاغل الفرجة ثالثاً بين الصانعين قديما بالذات معهما، فيلزمك أن يكون الصانع القديم ثلاثة، وقولهعليه‌السلام : حتّى يكون بينهم فرجتان أي حتّى يكون بين مصنوعيهما فرجتان شاغلتان لعالمين جسمانيين آخرين، فيكون الصانع خمسة، وهكذا يزيد عدده بإزاء الفرج الحاصلة بين الكرات ولا يخفى عليك ما فيه من التكلفات.

٢٧٣

فما الدليل عليه فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام وجود الأفاعيل دلت على أن صانعاً صنعها ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانياً وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده قال فما هو قال شيء بخلاف الأشياء ارجع بقولي

________________________________________________________

قوله: فما الدليل عليه: يعني بما ذكرت قد ثبت وحدة المبدأ الأول للعالم على تقدير وجوده، فما الدليل على وجوده؟ فأجابعليه‌السلام بأن الأفاعيل وهي جمع أفعولة وهو الفعل العجيب الّذي روعي فيه الحكمة، كخلق الإنسان وعروقه وأحشائه وعضلاته وآلات القبض والبسط ونحو ذلك، مما لا يتأتى إلا من قادر حكيم، ونبه عليه بأنك إذا نظرت إلى بناء مشيد أي مطول ومستحكم، ولما كان البناء قد يستعمل لغير المبني كالمعنى المقابل للهدم وغيره أردفه بقوله: مبني، أو المعنى مبني لإنسان لا الأبنية الّتي تكون في الجبال، لا يعلم كونه مبينا لإنسان « علمت أن له بانياً » فإذا كنت تحكم في البناء الّتي يتأتى من الإنسان بأن له بانياً البتة من نوع الإنسان، ولا يجوز حصوله بغير بان، فلم لا تحكم في البناء الّذي تعلم أن بانية أرفع وأقدر وأحكم من الإنسان بوجود الباني، وتجوز وجوده من غير بأن وموجد وخالق، وقوله: فما هو؟ إمّا سؤال عن حقيقته بالكنه، ففي الجواب إشارة إلى أنه لا يمكن معرفته بالكنه وإنما يعرف بوجه يمتاز به عن جميع ما عداه، أو سؤال عن حقيقته بالوجه الّذي يمتاز به عن جميع ما عداه، وعلى التقديرين فالجواب بيان الوجه الّذي به يمتاز عمّا عداه، وهو أنه شيء بخلاف الأشياء، أي لا يمكن تعقل ذاته إلا بهذا الوجه، وهو أنه موجود بخلاف سائر الموجودات في الذات والصفات، وفي نحو الاتصاف بها، وقوله: ارجع على صيغة الأمر أو المتكلم وحده بقولي: وهو أنه شيء بخلاف الأشياء إلى إثبات معنى للذات أو إلى إثبات موجود في الخارج، ومقصود باللفظ فيه، وإلى أنه شيء بحقيقة الشيئية أعلم أن الشيء مساو للوجود إذا أخذ الوجود أعم من الذهني والخارجي، والمخلوط بالوجود من حيث الخلط شيء وشيئيته كونه مهية قابلة له، وقيل: إنّ الوجود عين الشيئية فالمراد بقوله بحقيقة الشيئية أي بالشيئية الحقة الثابتة له في حد ذاته لأنه

٢٧٤

إلى إثبات معنى وأنه شيء بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس

________________________________________________________

تعالى هو الّذي يحق أن يقال أنه شيء أو موجود، لكون وجوده بذاته ممتنع الانفكاك عنه، وغيره تعالى في معرض الفناء والعدم، وليس وجودهم إلا من غيرهم، أو المراد أنه تجب معرفته بمحض أنه شيء إلا أن يثبت له حقيقة معلومة مفهومة يتصدى لمعرفتها، فإنه يمتنع معرفة كنه ذاته وصفاته تعالى.

وقيل: إشارة إلى أن الشيئية أي الوجود أو ما يساوقه عين ذاته تعالى فهي شيئية قائمة بذاتها كما أن حقيقة الوجود المجهول الكنه المعلوم بالوجه بديهة عينه تعالى، وهو وجود قائم بنفسه، فهو تعالى شيء بحقيقة الشيئية الّتي هي عينه كما أنه موجود بحقيقة الوجود الّذي هو عينه، بخلاف ما عداه من الممكنات المعلولة، فإنه شيء بالانتساب إلى الشيئية الحقيقية كما أنه موجود بالانتساب إلى حضرة الوجود، لا موجود بنفس الوجود، وإن لم يكن حقيقة ذلك الانتساب معلوما لنا، أو معناه أن الشيئية لا يمكن انتزاعها منه تعالى انتزاعاً بتجرد ذاته عن الشيئية ولو في اللحاظ العقلي، بل ذاته بذاته حيثيته انتزاع الشيئية منه، كما أن ذاته بذاته حيثيته انتزاع الوجود منه، فهو كما أنه موجود بذاته شيء بذاته، وهذا معنى عينية الشيئية والوجود لذاته تعالى عند جماعة من المحققين بخلاف المهيات الممكنة فإنها كما تصير في اللحاظ العقلي مجردة عن الوجود وبعقل غير مخلوطة به ولا تكون بذاتها حيثيته انتزاع الوجود، بل إنما جعلها الجاعل بحيث يصح انتزاعه منها كذلك تصير في اللحاظ العقلي مجردة عن الشيئية وتعقل غير مخلوط بها ولا تكون بذاتها حيثيته انتزاع الشيئية بل إنما جعلها الجاعل بحيث يصح انتزاعها منها فهي كما أنها موجود بغيرها شيء بغيرها، ثمّ لما بينعليه‌السلام أنه شيء بحقيقة الشيئية نفي عنه جميع ما عداه من ذوات الممكنات المعلولة كالجسم والصورة وأمثالها، وصفاتها كالإحساس والإجساس ونحو ذلك لأنّ الممكن لا يكون شيئاً بحقيقة الشيئية، بل إنما يكون شيئاً بالانتساب إلى الشيئية أو بالاتصاف بها بجعل الجاعل لا بذاته، فظهر أن نفي الجسم والصورة ونفي

٢٧٥

ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان.

٧ - محمّد بن يعقوب قال حدثني عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد البرقي، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال كفى لأولي الألباب بخلق الرب المسخر

________________________________________________________

بعض صفات الممكنات عنه تعالى هاهنا على سبيل التمثيل، ولا يحس أي ليس من شأنه أن يدرك بحاسة البصر كما ذكره بعض أهل اللغة، أو أعم منه، ولا يجس أي لا يمكن مسه باليد، قال في القاموس: الجس المس باليد كالإجساس ولا يدرك بالحواس الخمس أي الظاهرة، لتجرده وخلوه عن الكيفيات مطلقاً لا سيما المحسوسة، فهذا من قبيل التعميم بعد التخصيص.

ثم نفي كونه محسوسا بالحواس الباطنة بقوله لا تدركه الأوهام، لأنّ الوهم رئيس الحواس الباطنة، يدرك بعض الجزئيات بواسطة بعض الحواس كالصور الجزئية بوساطة الحس المشترك ويدرك المعاني الجزئية المادية بلا واسطة فنفى كونه مدركاً بالوهم يستلزم كونه غير مدرك بشيء من الحواس الباطنة مع أنه في اللغة يطلق الوهم على جميع الحواس الباطنة، بل على ما يعم العقل أيضاً أحيانا.

ولا تنقصه الدهور: أي بالهرم وضعف القوي، ونحو ذلك، ولا تغيره الأزمان بحصول الأوصاف الخالية عنها فيه أو بزوال الأوصاف الحاصلة فيه عنه، وقيل: المراد نفي الدهر عنه وهو ظرف الثابت بالنسبة إلى المتغير، ونفي الزمان عنه، وهو ظرف نسبة المتغير إلى المتغير.

الحديث السابع مجهول.

« كفى لأولي الألباب » أي لأرباب العقول، والمراد بالخلق أمّا الإنشاء والإبداع أو المخلوق، وقيل: المراد به التقدير من خلقت الأديم إذا قدرته، وعلى الأول والثالث فالمسخر اسم فاعل صفة للخلق أو الرب، وعلى الثاني اسم مفعول صفة للخلق، ويحتمل

٢٧٦

وملك الرب القاهر وجلال الرب الظاهر ونور الرب الباهر وبرهان الرب

________________________________________________________

على الأول والثالث أيضاً ذلك بأن يكون مفعولا للخلق لكنه بعيد جداً ولا ريب في أن كلّ مخلوق مقهور مذلل تحت قدرة خالقه وقاهره لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر والغلبة فهو مسخر له، فهذا استدلال بالآثار مطلقاً على المؤثر، ويحتمل أن يكون مرادهعليه‌السلام الاستدلال بالخلق المسخر المتحرك بالاضطرار كالشمس والقمر ونحو هما على وجود قاهر يقهره بالغلبة والعز والسلطنة، فهو إله ومستحق لأنّ يعبد، والملك بالضم السلطنة والعز والغلبة، والقاهر صفة للملك أو الرب، وهذا استدلال بملكوت السماوات والأرض، وأنه لا تبدل حكمته الوسائل، ويعجز عن معارضته من سواه، على وجود الرب القادر على كلّ شيء، والجلال: العظمة والرفعة والعلو والظاهر بمعنى البين والغالب، أو بمعنى العالم بالأمور، وعلى الأول صفة للجلال، وعلى الأخيرين صفة للرب فهو استدلال بعظمته في مخلوقاته، أي خلقه أموراً عظيمة على وجوده تعالى.

وقيل: يعني جلاله وعظمته وتعاليه عن أن يشارك غيره في الألوهية يدل على وحدته. والنور ما به يظهر ويبصر الخفيات المحجوبات عن الأبصار، كنور الشمس والقمر ونحوهما، والبهر: الإضاءة أو الغلبة يقال: بهر القمر إذا أضاء حتّى غلب ضوؤه ضوء الكواكب، وبهر فلان أترابه: غلبهم حسنا، فالباهر على الأول صفة النور، وعلى الثاني يحتمل أن يكون صفة الرب أيضا، والنور هنا يحتمل الأنوار الظاهرة المخلوقة له تعالى أو الوجود والكمالات الّتي ظهر آثارها في المخلوقات فإن كلا منهما في ظهور الأشياء على العقل كالنور الظاهر عند الحس بل هي في ذلك أقوى وأشد، والبرهان: الحجة، والصادق صفته، فالمراد بالبرهان الصادق إمّا حججه على خلقه من الأنبياء والأئمّة الصادقينعليهم‌السلام في جميع أحكامهم فحينئذ الاستدلال به على وجوده تعالى بوجهين أحدهما إخبارهم بوجوده تعالى مع قطعنا بصدقهم بسبب ظهور خوارق العادات على أيديهم، فإن المعجزة في نفسها يفيد القطع بصدق صاحبها، ولا حاجة إلى الدليل على

٢٧٧

________________________________________________________

أنها تجري في يد كاذب، ولا يتوقف تصديق صاحبها على إثبات الواجب كما صرح به جماعة، وثانيهما أن أصل خلقتهم من عظم شأنهم واتصافهم بالكمالات الوهبية الجليلة والأوصاف القدسية العظيمة، وخروج خلقهم عن مجرى أفعال الطبيعة من أعظم الدلائل على صانع العالم البريء من كلّ نقص، والمراد به كلّ مخلوق من المخلوقات عظيمها وحقيرها وكبيرها وصغيرها، فإن كلا منها برهان صادق وحجة ناطقة على وجوده تعالى أو البراهين الّتي أنزلها في كتبه وأجراها على ألسنة أنبيائه ورسله وحججهعليهم‌السلام « وما أنطق به ألسن العباد » يحتمل وجوها، الأول: اتفاقهم وتواطؤهم بحكم بداهة عقولهم على وجود صانع العالم المتوحد بالصانعية ولا يجوز العقل اجتماع هذا الخلق من أهل الأديان المختلفة والأديان المتشتة على باطل، فهو إمّا بديهي أو نظري واضح المقدمات لا يتطرق إليه شك ولا شبهة.

قال بعض المحققين: إنّ العلم يحصل بالتواتر وهو إخبار جمع كثير عن أمر محسوس، وما ذلك إلا لأنّ العقل يحيل اجتماعهم على الكذب، أو على غلط الحس فنقول أجمع جميع الأنبياء والأوصياء والعلماء والحكماء بل كافة العقلاًء على وجود الصانع فيحصل العلم الضروري بوجوده، لأنّ العقل يحيل اجتماعهم على الكذب والغلط في هذا المعقول، فكما يعلم أمن الحس الكثير عن الغلط في رؤية بصرية يعلم أمن أمثال تلك العقول على كثرتها من الاجتماع على غلط في البصيرة، وأمّا العلم باجتماعهم على ذلك فإنما يحصل بأخبارهم، والعلم بأخبارهم حاصل بالتواتر، والله يهديك السبيل « انتهى ».

الثاني: دعاؤهم وتضرعهم والتجاؤهم إلى الله تعالى في الشدائد والمحن بمقتضى فطرة عقولهم، وهذا يدل على أن عقولهم بصرافتها تشهد بخالقهم ومفزعهم في شدائدهم، حتّى أنه قد يشاهد ذلك من الحيوانات كما قيل إنها في سني الجدب ترفع رؤوسها إلى

٢٧٨

الصادق وما أنطق به ألسن العباد وما أرسل به الرسل

________________________________________________________

السماء، تطلب الغيث، وقال الرازي في المطالب العالية: رأيت في بعض الكتب أن في بعض الأوقات اشتد القحط وعظم حر الصيف، والناس خرجوا للاستسقاء فما أفلحوا قال: فخرجت إلى بعض الجبال فرأيت ظبية جاءت إلى موضع كان في الماضي من الزمان مملوء من الماء، ولعل تلك الظبية كانت تشرب منه، فلما وصلت الظبية إليه ما وجدت فيه شيئاً من الماء، وكان أثر العطش الشديد ظاهراً عليها، فوقفت ورفعت رأسها إلى السماء مراراً فأطبق الغيم ونزلت الأمطار الغزيرة حتّى ملأت الغدير، فشربت الماء وذهبت.

الثالث: أن يكون المراد به اختلاف الأصوات أو اللغات واللهجات المختلفة كما قال سبحانه( وَمِنْ آياتِهِ ) .( اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) (١) .

الرابع: أن يكون المراد به الدلائل والبراهين الّتي يجريها الله تعالى على ألسن العباد.

قولهعليه‌السلام وما أرسل به الرسل: هذا يحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد به الشرائع الحقة المشتملة على الحكم والمصالح الّتي لا تحصى، وبها تنتظم أمور الدين والدنيا، فإن من تأمل في خصوصيات الشرع وقوانينه في العبادات والمعاملات والحدود والمواريث والأحكام والآداب والأخلاق، ومعاشرة أصناف الناس بعضهم بعضا وغير ذلك، علم بديهة أن مثل هذا خارج عن طوق البشر، والحكماء السالفة في الأزمنة المتطاولة بذلوا أفكارهم في ذلك بجهدهم، ولم يأتوا بشيء يمكن به سياسة فرية، وإنما ذكروا أحكاما كلية من حسن العدل وقبح الجور والفساد وأمثال ذلك مما يحكم به عقل جميع الناس، والحق أنه كما أن عالم الوجود وانتظامه يدل على وجود الصانع ووحدته فكذا انتظام أحوال النشأتين بتلك الشرائع الحقة والنواميس الإلهية أدل

__________________

(١) سورة الروم: ٢٢، والآية هكذا:( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) .

٢٧٩

وما أنزل على العباد دليلاً على الرب.

باب إطلاق القول بأنه شيء

١ - محمّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن التوحيد فقلت:

________________________________________________________

دليل على وجود الصانع ومدبر العالم ووحدته وحقيقة أنبيائه ورسله، « الثاني » أن يكون المراد به الآيات والمعجزات وخوارق العادات كانفلاق البحر لموسى وانقلاب العصاً حية وسائر آياته، وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيرها لعيسىعليه‌السلام وشق القمر وتسبيح الحصى وجريان الماء من بين الأصابع، وسائر المعجزات الّتي لا تحصى لنبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن العقل يحكم بديهة أنها خارجة عن الطاقة البشرية، وليست إلا من مدبر قاهر قادر حكيم عليم.

قولهعليه‌السلام : وما أنزل على العباد: أي البلايا والمصائب الّتي أنزلها على العباد عند طغيانهم وعدوانهم من الأمور الخارقة للعادات كالطوفان والريح والصواعق بعد دعاء الأنبياء واستحقاقهم للعذاب فإنه معلوم أنها لم تكن بقدرة الأنبياءعليهم‌السلام أو المراد به ما أنزل على العباد من الكتاب والحكمة تأكيداً أو بحمل ما مر على غيرها، فكل هذا دليل على الرب القديم والصانع الحكيم.

باب إطلاق القول بأنه شيء

المراد بالإطلاق هنا التجويز والإباحة كما ورد في الخبر: كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي، وقيل: معناه أنه لا يحتاج إطلاق لفظ شيء فيه إلى قرينة كاحتياج الألفاظ المشتركة والمجازية إليها، فهو مشترك معنوي كالموجود والوجود وما ذكرنا أظهر.

الحديث الأول: صحيح.

قوله عن التوحيد: المراد به هنا ما يتعلّق بمعرفته سبحانه أي مسألة كانت من المسائل الإلهية كما هو الشائع في لسان أهل الشرع وغيرهم، وقيل: أي عن معرفته

٢٨٠