مدخل إلى دراسة نص الغدير

مدخل إلى دراسة نص الغدير0%

مدخل إلى دراسة نص الغدير مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 145

مدخل إلى دراسة نص الغدير

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف:

الصفحات: 145
المشاهدات: 29342
تحميل: 3281

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 145 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29342 / تحميل: 3281
الحجم الحجم الحجم
مدخل إلى دراسة نص الغدير

مدخل إلى دراسة نص الغدير

مؤلف:
العربية

( ذَلكُمُ اللّه رَبُّكم لا اله إلا هُو خَالقُ كُلّ شيء فَاعبُدُوهُ وَهُو عَلى كل شيءٍ وَكيل ) الإنعام: ١٠٢.

ولم تكن مسألة توحيد الخلق محط الصراع بين حركتي الشرك والتوحيد، في تاريخ الصراع العقائدي، فقد كان أهل الكتاب والمشركون عموماً يؤمنون بوحدة الخالق وتوحيد الخلق، ولم يشذ من هذا الإيمان إلا الملحدون الذين كانوا يرفضون الإيمان بالغيب على الإطلاق.

٢ - توحيد الأُلوهية:

أ - الإله كما نفهم من القرآن هو الحاكم المهيمن على الكون.

( وَهُو الّذي فِي السّماءِ إله وَفي الأرض إله وَهُوَ الحَكيم العَلِيمُ ) الزخرف: ٨٤.

( أَمَّن خَلَقَ السَّمواتِ والأَرض وأَنَزَل لَكُم مّن السَّماءِ ماءً فَأنبَتنَا بِهِ حَدَائق ذَاتَ بَهجَةٍ مّا كانَ لَكُم أن تُنبِتُوا شَجَرها أإله مَّع اللّهِ بَل هُم قَوم يَعدِلُون* أَمَّن جَعَل الأَرض قَراراً وجَعَل خِلالَهَا أَنهاراً وَجَعَل لَهَا رَوَاسيَ وَجَعَل بَيَن البَحرينِ حَاجِزاً أإله مَّع اللّهِ بَل أكثَرُهُم لا يَعلَمُونَ ) النمل: ٦٠ - ٦١.

( خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ بَالحقّ يُكوّرُ الليلَ عَلى النَّهارَ وَيُكوّرُ النّهارَ عّلى الليلِ وَسَخّرَ الشّمسَ والقَمَرَ كُل يَجري لأجلٍ مُّسمّى ) الزمر: ٥.

ب - وهو المهيمن الحاكم على وجود الإنسان.

( قُل أرأَيتُم إن أخَذَ اللّهُ سَمعَكُم وأبصارَكُم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُم مَن إلهٌ غيرُ اللّهِ يأتِيكُم بِهِ ) الأنعام: ٤٦.

ج - ويعزّ، ويذلّ: ويعطي الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.

( قُلِ اللّهُمَّ مَالِك المُلكِ تُؤتِي المُلك مَن تَشَاءُ وَتَنزعُ المُلكَ مِمّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن

٨١

٨٢

تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ) آل عمران: ٢٦.

( وَاتّخذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهةً لِيَكُونُوا لهُم عِزّ ) (١) مريم: ٨١.

وينصر...

( واتّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهةً لّعَلّهُم يُنصَرُونَ ) يس: ٧٤.

ويغني...

( فَمَا أغنَت عَنهُم آلِهتُهُمُ التي يَدعُونَ مِن دوُن اللّه مِن شَيء لَّمّا جَاءَ أمرُ رَبّكَ وَمَا زَادُوهُم غَيرَ تَتبِيبٍ ) هود: ١٠١.

ويضر، وينفع...

( وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهم وَلا ينفَعُهُم يَقُولُون هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (٢) يونس: ١٨.

( وَاتّخذَوا مِن دُونهَ آلِهَةً لا يَخلُقُون شَيئاً وَهُم يُخلقُونَ ولا يَملُكُون لأنفُسِهِم ضَرّاً وَلا نَفعاً وَلا يَملِكُون مَوتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُور ) الفرقان: ٣.

ويتولّى رزق عباده...

( يا أيُّها النّاسُ اذكُرُوا نِعمَةَ اللّهِ عَلَيكُم هَل مِن خَالقٍ غَيرُ اللّهِ يَرزُقُكُم مِن السّماءِ والأرض لا إله إلا هُوَ فَأنّى تُؤفَكُونَ ) فاطر: ٣.

____________________

(١) هذه الآية تدل على أنّ العرب كانوا يفهمون أن الإله هو مصدر عزّ الإنسان.

(٢) كذلك هذه الآية تدل على أنّ من خصائص الأُلوهية أنّ الإله يضرّ وينفع، ولمّا كان هؤلاء الناس يعبدون من دون اللّه ما لا يضرهم ولا ينفعهم يستنكر القرآن عبادتهم له واتخاذهم له إلهاً.

٨٣

د - وهو بذلك يستحق من الإنسان العبادة.

( وَمَا لِيَ لا أعبُدُ الّذي فَطَرني وَاليهِ تُرجعُونَ*أأتّخِذُ مِن دوُنِهِ آلِهَةً إن يُردنِ الرّحمنُ بضُرٍّ لا تُغنِ عنّي شَفاعتُهُم شيئاً وَلا يُنقذُونِ ) يس: ٢٢ - ٢٣.

( ذلكُمُ اللّهُ رَبُّكُم لا إله إلا هُوَ خَالِقُ كُل شَيء فَاعبُدُوهُ وُهوَ عَلى كل شَيء وَكِيل ) الأنعام: ١٠٢.

ويستحق الدعاء...

( وَلا تَدعُ مَعَ اللّهِ إلهاً آخَرَ لا إله إلا هُوَ ) القصص: ٨٨.

ويحق له التشريع...

( أَم لَهُم شُركاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدّينَ مَا لم يَأذَن بِهِ اللّه ) الشورى: ٢١.

ويستحق التبعية والطاعة...

( أَرَأيتَ مَنِ أتَّخذَ إلهَهُ هَوَاهُ أَفأَنتَ تَكُونُ عَلَيهِ وَكِيل ) الفرقان: ٤٣. وإنما اتخذوا أهواءهم آلهة بالتبعية والطاعة والانقياد لأهوائهم وشهواتهم.

ه‍ - وإذا عرفنا أنّ (الإله) هو القوة المهيمن، والحاكم على الكون والإنسان، وأنه بسبب هذه الهيمنة المطلقة يعزّ، ويذلّ، وينصر، ويغني، ويعطي، ويمنع، ويضر، وينفع، وهو لذلك يستحق من الإنسان الدعاء والعبادة والتسليم... ويحق له وحده أن يتولى التشريع، والحكم، والسيادة في حياة الإنسان...

أقول: إذا عرفنا هذه الحقائق فإنّ القرآن يقرّر أنّ الأُلوهية وحدة لا تتجزأ، ولا تتعدد، فإنّ المصدر الشرعي لهذه الولاية المطلقة في حياة الإنسان هو الهيمنة والحاكمية المطلقة للإله في الكون وفي حياة الإنسان، ولما كانت هذه الهيمنة

٨٤

والولاية لا تتعدد ولا تتجزأ (وَهُوَ الّذي في السَّماءِ إلَه وفي الأَرض إله) الزخرف: ٨٤، فإنّ اللّه تعالى هو وحده الحاكم، والمشرّع في حياة الإنسان، وهو وحده مصدر كل ولاية، وسيادة، وحاكمية في حياة الإنسان، وليس لغيره من دون إذنه ولاية وحاكمية وسيادة على حياة الإنسان، وهذا هو معنى توحيد الأُلوهية.

يقول تعالى:( وَقَالَ اللّهُ لا تَتّخِذُوا إلهينِ اثنَين إنّمَا هُوَ إله واحِد فإيّايَ فَارهَبُونِ ) النحل: ٥١.

( وَالّذِينَ يَدعُونَ مِن دُون اللّهِ لا يَخلُقُونَ شَيئاً وَهُم يُخلَقُونَ*أمواتٌ غَيرُ أَحيَاءٍ وَمَا يَشعُرُون أيّانَ يُبعثُون*إلهُكُم إلهٌ واحِد ) النحل: ٢٠ - ٢٢.

( وَلا تَدعُ مَعَ اللّهِ إلهاً آخَرَ لا إله إلا هُوَ ) القصص: ٨٨.

٣ - توحيد الربوبية:

(الربّ) في القرآن يأتي بمعنيين اثنين:

أ - يأتي بمعنى التربية والاستصلاح، والرعاية، والتدبير.

يقول الراغب في المفردات(١) : الربّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام. وبهذا المعنى استعمل القرآن هذه الكلمة كثيراً.

( قَالَ فَمَن رّبُّكُمَا يا مُوسى*قَالَ رَبُّتا الّذي أعطى كُل شَيء خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه: ٤٩ - ٥٠.

( قُل مَن يَرزُقُكُم مِن السَّماءِ وَالارض أمّن يَملك السّمع وَالبصَارَ وَمَن يُخرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَيُخرجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ وَمَن يُدبّرُ الأمرَ فَسيَقُولُونَ اللّهُ فَقُل أَفَلا تَتّقُونَ

____________________

(١) المفردات للراغب الأصفهاني: ص ١٨٤ مادة (ربّ).

٨٥

*فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الحَقّ فَمَاذا بَعَد الحَقِ إلا الضّلال فَأنى تُصرفونَ ) يونس: ٣١ - ٣٢.

( يُولِجُ الليل فِي النّهَارِ وَيُولجُ النّهَارَ فِي الليلِ وَسَخر الشّمسَ والقَمَرَ كُل يَجرِي لأجلٍ مُّسمّىً ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُم لَهُ المُلك وَالّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُون مِن قِطمِيرٍ ) فاطر: ١٣.

( إنّ رَبَّكُمُ اللّهُ الّذي خَلَقَ السَّموَاتِ والأرض فِي ستّةِ أيّام ثُمَّ استَوَى عَلى العَرش يُغشِي الليل النّهار يَطلُبُهُ حَثيثاً والشّمسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسخّراتٍ بأمرِهِ ألا لَهُ الخَلقُ والأمرُ تَبارَكَ اللّه ربُّ العالَمِينَ ) الأعراف: ٥٤.

ب - ويأتي الرب بمعنى المالك.

يقول تعالى:( فَليَعبُدُوا رَبَّ هَذا البَيتَ*الّذي أطعَمَهُم مِن جُوعٍ وآمَنَهُم مِن خَوفٍ ) قريش: ٣ - ٤.

وربّ البيت هو مالك البيت...

( قُل مَن رّبُّ السَّمواتِ السّبعِ وَرَبُّ العَرش العَظيمِ ) المؤمنون: ٨٦.

( ربُّ السُّمواتِ والأرض وَمَا بَينَهُما وَرَبُّ المَشَارقِ ) الصافات: ٥.

( وَأنّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) النجم: ٤٩.

ج - ويحقّ للرب بموجب هذا التدبير والاستصلاح والرعاية للكون وللإنسان والمُلك المطلق للكون والإنسان أن ينيب إليه الناس ويدعوه( وإذَا مَسّ الإنسانَ ضُر دَعَا رَبّهُ مُنِيباً إليه ) الزمر: ٨.

ويستحق بذلك على الناس الحمد( فَللّهِ الحَمدُ رَبّ السَّمواتِ وَرَبّ الأرض ربّ العَالمِين ) الجاثية: ٣٦،( الحَمدُ للّهِ رَبّ العَاَلَمِينَ ) الفاتحة: ١.

٨٦

ويستحق على الناس الاستغفار( فَقَلتُ استغَفِرُوا رَبّكُم إنّه كَانَ غَفَار ) نوح: ١٠.

ويستحق بذلك على الناس العبادة( فَليَعبُدُوا رَبّ هذا البَيتِ*الّذي أطعَمَهُم مِن جُوعٍ وآمَنَهُم مِن خَوف ) قريش: ٣ - ٤.

( ربُّ السَّمواتِ والأرض وَمَا بينَهُما فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لعِبادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيّ ) مريم: ٦٥،( إنّ هذِهِ أُمّتُكُم أُمّة واحِدة وَأنا رَبُّكُم فَاعبُدُونِ ) الأنبياة: ٩٢.

ويستحق على عبادة التبعية( اتّبِعوا مَا أُنزلِ اليكُم مِن رّبّكُم وَلا تَتّبعُوا مِن دُونهِ أولِيَاءَ ) الأعراف: ٣.

ويستحق على عباده الإيمان والطاعة( وَتِلك عَاد جَحَدُوا بِآياتِ رَبّهِم وَعصَوا رُسُلهُ واتّبعُوا أمرَ كّل جَبّارٍ عَنيدٍ ) هود:٥٩.

ويستحق على عباده الطاعة والانقياد وأن يوجهوا وجوههم إليه( فَلَمّا جَنّ عَلَيهِ الليلُ رأى كوكَباً قَالَ هذا رَبّي فَلَمّا أْفل قَالَ لا أُحبُّ الآفِلِينَ*... فَلَمّا رأى الشّمسَ بازِغَةً قَالَ هذا رَبّي هذا أكبر فَلَمّا أفَلَت قَالَ يا قومِ إنّي بَريء مِمّا تُشرِكُونَ*إنّي وَجّهتُ وَجهِيَ لِلّذي فَطَرَ السَّمواتِ والأرض حَنيِفاً وَمَا أنا مِنَ المُشرِكِينَ ) الأنعام: ٧٦ - ٧٩.

د - ولم يكن يشك أحد من المشركين في ربوبية اللّه تعالى، كما لم يشكّوا في أنّه تعالى هو وحده الخالق، وقد كانوا يؤمنون بتوحيد الخالق، دون الربوبية فكانوا يقولون فيها بالتعدد والتجزؤ والشرك.

وكانوا يرون أنّ للملائكة والجن والأرواح والنجوم حظّاً في تدبير الكون والإنسان، وحظّاً في رعاية حياة الإنسان واستصلاحه واستصلاح الكون.

هذا فيما يتعلق بالشرك في المعنى الأوّل من معنيي (الربّ)، وأمّا الشرك

٨٧

الذي كانوا يقترفونه في المعنى الثاني من معنيي (الربّ) فهو في اعتبار الإنسان شريكاً للّه تعالى في الملك.

وبذلك كانوا يرون للملوك والحكّام الذين كانوا يملكون البلاد أنّهم أرباب هذه البلاد، ويحق لهم بموجب هذه الربوبّية العبوديّة والطاعة والتبعيّة والولاية من الناس وكان ملاك ذلك كّله هو (الملك).

فقد كان نمرود - طاغية عصر إبراهيمعليه‌السلام - يدّعي الربوبية، وكان السبب في هذه الدعوى هو أن آتاه اللّه الملك.

تأمّلوا في هذه الآيات المباركة:

( ألَم تَرَ الّذِي حَاجَّ إبراهِيمَ في رَبّهِ أَن آتاهُ اللّهُ المُلك إذ قَالَ إبراهيمُ رَبّي الّذي يُحيي ويُميتُ... ) البقرة: ٢٥٨.

وكان فرعون - طاغية عصر موسىعليه‌السلام - يدّعي الربوبية، يقول تعالى:( فَكَذَّبَ وَعَصى* ثُمَ أدبَرَ يَسعَى* فَحَشَرَ فَنَادى* فَقَال أَنا رَبُّكُم الأَعلى ) النازعات: ٢١ - ٢٤. وكان ملاك هذه الربوبية عنده (الملك).

يقول تعالى:( وَنَادى فِرعَونُ فِي قَومِهِ قَالَ يَا قَوم أَليس لِي مُلك مِصرَ وَهَذِهِ الانهَارُ تَجرِي مِن تَحتِي أَفَلا تُبصرُونَ ) الزخرف: ٥١.

والقرآن يقرر في مقابل دعوى تجزئة الملك وتعدّد المالكية، وتعدّد التدبير، وتجزئته وحدة التدبير والملك، وبالتالي توحيد الربوبية.

يقول تعالى:( قُل أغَيرَ اللّهِ أبغي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كّلِ شَيء ) الأنعام: ١٦٤.

( ربُّ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ لا إله إلا هُوَ فَاتّخِذهُ وَكيل ) المزمل: ٩.

٨٨

( قَالَ بل رّبُّكُم رَبُّ السِّمواتِ والأرض الّذي فَطَرهُنّ ) الأنبياء: ٥٦.

وهذا هو أصل (توحيد الربوبية).

٤ - توحيد التشريع:

للربوبية والأُلوهية حقوق واختصاصات تخص (الإله) و(الرب) في حياة الناس، ومن هذه الاختصاصات والحقوق، حقّ التشريع في حياة الإنسان.

وقد اختص تعالى لنفسه بهذا الحق في حياة الإنسان، وذلك أنّ اللّه تعالى وحده الإله الحاكم في حياة الإنسان( وَهُوَ الّذي فِي السّماء إله وَفي الأرض إله ) الزحرف: ٨٤.

وهو وحده( رَبّ المَشَارِقِ وَالمَغاربِ ) المعارج: ٤٠ و( رَبّ النّاس ) ، أنشأهم، وربّاهم، ويملكهم، ويدبّر أُمورهم( ... برَبّ النّاس* مَلِكِ النّاس* إله الناّس ) فهو بالضرورة يحق له وحده أن يشرّع للناس، فإنّ التشريع يحدّد من حرية الإنسان بالضرورة ولا يحقّ لأحد أن يحدّد من حرية الآخرين إلا إذا كان يملك أُمورهم، وكان المدبر المهيمن الحاكم عليهم، وهو اللّه تعالى فقط، ولا يشاركه فيه أحد، فإنّ الخلق، والتدبير، والهيمنة، والملك في نظر القرآن كل لا يتجزأ ولا يتعدّد. فلا ملك بالحقيقة، ولا سلطان، ولا هيمنة، ولا تدبير لغير اللّه تعالى في حياة الإنسان، إلا أن يكون بإذن اللّه وفي امتداد سلطان اللّه وملكه وهيمنته وتدبيره.

وتوحيد الخلق، والتدبير، والهيمنة، والملك يقتضي توحيد التشريع بالضرورة، فلا يحق لأحد أن يشرّع للآخرين إلا بإذنه وأمره.

فالحكم حكمان ولا ثالث لهما، فإمّا أن يكون الحكم للّه وبأمر اللّه فهو دين اللّه، وإمّا أن يكون لغير اللّه فهو من حكم الجاهلية.

٨٩

يقول تعالى:( أفَحكمَ الجَاهِلِية يَبغُون وَمَن أحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكماً لِقَومٍ يُوقنُون ) المائدة: ٥٠.

والقرآن صريح في توحيد التشريع، يقول تعالى:( وَمَن لّم يَحكُم بِما أنَرل اللّهُ فأُولئِك هُمُ الكَافِرُونَ ) المائدة: ٤٤.

ويقول تعالى:( وَمَن لّم يَحكُم بِما أنزَل اللّهُ فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون ) المائدة: ٤٥.

ويقول تعالى:( وَمَن لّم يَحكُم بِما أنزَل اللّهُ فأُولئِك هُمُ الفاسِقُون ) المائدة: ٤٧.

فلا يحق لأحد أن يشرّع لحياة الناس، ولا يحق للناس أن يأخذوا بشرع ودين غير شرع اللّه ودينه وحكمه.

والأحكام التي يقرّرها الإمام الحاكم في دائرة ولايته وحكمه مما أذن اللّه تعالى له بها، وفوّض إليه أمرها في الدائرة التي يمارس فيها الحكم والولاية على حياة الناس، وفيما يحتاج إليه الناس، على أن لا يتجاوز حداً من حدود اللّه، ولا يتقاطع مع حكم من أحكام اللّه... في هذه الدائرة يفوّض اللّه تعالى للإمام أن يمارس ولايته على الناس، ويأمرهم، وينهاهم بما تتطلبه المصلحة، يقول تعالى:( النّبِيُّ أولَى بالمؤمِنِينَ مِن أنفُسِهِم ) الأحزاب: ٦.

وإنما يحق للناس أن يأخذوا بما قرّره الإمام الحاكم، ويجب عليهم أن ينقادوا له، لأنّ ذلك قد تمّ بأمر اللّه تعالى وإذنه وتفويضه.

٥ - توحيد الحاكمية والسيادة:

والحق الآخر الذي اختص اللّه تعالى به لنفسه بالأُلوهية والربوبية هو: حقّ الحاكمية والسيادة في حياة الإنسان.

٩٠

وشرعية الولاية والحاكمية والسيادة في حياة الناس لا تنفك عن الملك والسلطان والتدبير والهيمنة التكوينية للّه تعالى على الكون والإنسان. ومن يملك هذا الملك والسلطان والهيمنة بالتكوين، يملك شرعية الولاية والسلطان والسيادة في حياة الناس بالأمر والنهي. والعلاقة بين تلك وهذه علاقة بديهية بحكم العقل.

ويقرر القرآن توحيد السيادة والحاكمية بصراحة ووضوح بقوله تعالى:( إنِ الحُكمُ إلا للّهِ يَقُصُّ الحَقُّ وَهُوَ خَيرُ الفاصِلينَ ) الأنعام: ٥٧.

والآية الشريفة واضحة في حصر الولاية والحاكمية في اللّه تعالى، وتوحيدها فيه تعالى.

ويقول تعالى:( لَهُ الحَمدُ فِي الأُولى والآخرَةِ وَلهُ الحُكمُ وإليهِ تُرجَعُونَ ) القصص: ٧٠.

٦ - توحيد التشريع والولاية والسيادة في اللّه من مقولة واحدة:

وهذه الحاكمية من خصائص الأُلوهية والربوبية، كما أنّ حق التشريع من خصائص الأُلوهية والربوبية، وتوحيد الربوبية والأُلوهية يقتضي توحيد التشريع والسيادة للّه تعالى في حياة الإنسان.

وليس من شك أنّ حق التشريع خاص باللّه تعالى، ولا يحق لأحد في دين اللّه أن يشرّع. والتشريع محظور على كل أحد، إلا من يفوّض اللّه تعالى إليه أمر التشريع، ولا يحق لأحد أن يشرّع بتفويض من اللّه تعالى إلا عند وجود تفويض صريح من جانب اللّه. وليس فيما قلنا في أمر التشريع وانحصاره في اللّه تعالى وحظره على غيره تعالى في القرآن شك أو ريب، ودليل ذلك هو ما سبق من الآيات الشريفة الدالة على كفر وظلم وفسق الذين لا يحكمون بما أنزل اللّه. وليس من وراء

٩١

ذلك دليل آخر أقوى من هذا الدليل. وهذه الحجة القائمة على انحصار حق التشريع في اللّه، قائمة في أمر الولاية والسيادة والحكم أيضاً.

ولا تزيد قيمة الحجة القائمة على أمر اختصاص التشريع باللّه، وحظر التشريع على غيره إلا بإذنه، عن الحجج القائمة على اختصاص الولاية والسيادة والحاكمية باللّه تعالى، إن لم تكن الحجة على الأخير أقوى.

وعليه فلا بدّ في أمر الولاية والسيادة في حياة الناس من أحد أمرين: إما التفويض العام الصريح من اللّه أو رسوله، أو النص الخاص.

وإذا عرفنا انتفاء الدليل على التفويض العام الذي هو مبنى قاعدة الاختيار، فلا يبقى من أساس لشرعية الولاية والسيادة غير النص الخاص.

٧ - النصوص الخاصة بالولاية في القرآن الكريم:

واللّه تعالى هو وحده الذي ينصب أولياء من جانبه على الناس، ويأذن بولايتهم، ويأمر بطاعتهم، فتكون ولايتهم امتداداً لولاية اللّه تعالى، يقول تعالى:

( النّبيُّ أولَى بِالمُؤمِنِينَ مِن أنفُسِهِم ) الأحزاب: ٦.

( قَالَ إنّي جاعِلُك لِلنّاس إمَاماً... ) البقرة: ١٢٤.

٨ - النص على إمامة إبراهيمعليه‌السلام وذريته:

يقول تعالى:( وإذ ابتَلى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلماتٍ فَأتَمّهُن قَالَ إنّي جاعِلُكَ لِلنّاس إمَاماً قالَ وَمِن ذُرِيّتي قَالَ لا يَنَالُ عَهدي الظّالِمِينَ ) البقرة: ١٢٤.

وهذه الآية صريحة في أنّ اللّه تعالى جعل إمامة الناس لإبراهيمعليه‌السلام ولمن لم يقترف ظلماً ممن يصطفيه اللّه تعالى للإمامة من ذرية إبراهيمعليه‌السلام .

٩٢

والإمامة هنا ليست هي النبوّة والرسالة، فقد كان إبراهيمعليه‌السلام نبيّاً يوحى إليه من اللّه قبل هذا الوقت وأرسله اللّه تعالى الى قومه، ليدعوهم إليه وينقذهم من الشرك.

وحباه اللّه تعالى بالإمامة في كبره، بعد ولادة اسماعيل واسحاق عليهما السلام، وبعد أن ابتلاه اللّه تعالى بالكواكب والقمر والشمس، وبالأصنام، وبالنار، وبالهجرة، وبذبح ابنه إسماعيلعليه‌السلام وهي امتحانات صعبة وعسيرة ابتلاه اللّه بها، فلما أتمهنّ إبراهيمعليه‌السلام جعل اللّه تعالى له الإمامة.

وليس من شك أنّ هذه الإمامة غير النبوّة، فقد كان إبراهيم نبيّاً من قبل، وكان مطاعاً بحكم اللّه تعالى، يقول تعالى:( وَمَا أرسَلنا مِن رَسولٍ إلا ليُطاعَ بإذن اللّهِ ) النساء: ٦٤. فقد كان إذن من قبل أن تعهد إليه الإمامة من جانب اللّه نبيّاً ومطاعاً، فلا بدّ أن تكون الإمامة أمراً آخر غير النبوّة والرسالة، والطاعة فيها غير الطاعة التي تتطلبها النبوّة.

يقول العلامة الطباطبائيرحمه‌الله في تفسيره القيّم (الميزان)(١) :

والقصة إنّما وقعت في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام بعد كبره، وتولّد إسماعيل وإسحاق له، وإسكانه إسماعيل وأمّه بمكة كما تنبّه به بعضهم أيضاً.

والدليل على ذلك قولهعليه‌السلام - على ما حكاه اللّه سبحانه بعد قوله تعالى له:( إنّي جاعِلُك لِلنّاس إمّام ) -:( وَمِن ذُرِيّتي ) ، فإنهعليه‌السلام قبل مجيء الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحاق ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده، حتى إنه بعد ما بشّرته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط، كما قال تعالى:

____________________

(١) تفسير الميزان: ١ / ٢٦٧ - ٢٦٨.

٩٣

( وَنَبِّئهُم عَن ضَيفِ إبراهِيمَ* إذ دَخَلُوا عَلَيهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إنّا مِنكُم وَجِلُونَ* قَالُوا لا توجَل إنّا نُبَشِرُكَ بِغُلامٍ عَليمٍ* قَالَ أبشرتُموُنِي عَلَى أن مسَّنِيَ الكِبَرُ فَبِم تُبَشّرونَ* قَالُوا بَشَّرنَاكَ بِالحَقّ فلا تَكُن مِن القَانِطينَ ) الحجر: ٥١ - ٥٥.

وكذلك زوجته على ما حكاه اللّه تعالى في قصة بشارته أيضاً، إذ قال تعالى:( وَامرأتُهُ قائِمة فَضَحِكَت فَبَشّرناها بإسحاقَ وَمِن وَرَاءَ إسحاقُ يَعقُوب* قَالَت يَا ويلَتا أألِدُ وَأنا عَجُوز وَهذا بَعلي شَيخاً إنّ هَذا لشيء عَجيب* قالُوا أتَعجبِينَ مِن أمرِ اللّهَ رَحمةُ اللّهِ وَبَركاتُهُ عَلَيكُم أهلَ البَيتِ إنّهُ حَميد مِجيد ) هود: ٧١ - ٧٣.

وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكته بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما، فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيُرزق ذرية.

وقولهعليه‌السلام : (وَمِن ذُرّيتِي ) بعد قوله تعالى: (إنّي جاعِلُك لِلنّاس إمَاماً ) قول من يعتقد لنفسه ذرّية، وكيف يسع من له أدنى ذُربة بأدب الكلام، وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به؟

ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدّي هذا المعنى، فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيمعليه‌السلام .

٩ - لا يعهد اللّه تعالى الإمامة إلى من اقترف ظلماً في حياته:

وبالتأمل في آية (إمامة إبراهيم) نلتقي حقيقة أخرى غير جعل إمامة الناس لإبراهيمعليه‌السلام ، وهي حقيقة ذات أهمية كبيرة في مسألة الإمامة، وتلك الحقيقة هي أنّ اللّه تعالى لا يعهد أمر الإمامة العامة (الكبرى) للناس إلى من اقترف ظلماً في حياته.

فإنّ الآية الكريمة ذات فصلين، في الفصل الأول تنبئ عن أنّ اللّه تعالى جعل إبراهيمعليه‌السلام ، بعد أن أَتمَّ كلماته، إماماً للناس، وفي الفصل الثاني تذكر الآية الكريمة

٩٤

أنّ إبراهيمعليه‌السلام طلب الإمامة من اللّه تعالى لذريّته (قَالَ وَمِن ذُرّيّتي) فأخبره تعالى أنّ عهد اللّه لا ينالُ الظالمين، فلا يحقّ لإبراهيمعليه‌السلام أن يطلب الإمامة للظالمين من ذرّيته، ولا ينال الظالمون الإمامة.

وكل تجاوز لحدود اللّه تعالى ظلم، وهذا حكم اللّه تعالى في حدوده وحرماته، يقول تعالى:( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَد ظَلَمَ نَفَسَهُ ) الطلاق: ١.

ويقول تعالى:( وَمَن يَتَعَدَ حُدُود اللّهِ فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون ) البقرة: ٢٢٩.

إذن: القرآن الكريم يقرر حقيقتين هامتين.

الأُولى: أنّ الإمامة، وهي عهد اللّه، لا تنال الظالمين.

والثانية: أنّ كل تجاوز لحدود اللّه ظلم.

ومن ضمِّ هاتين النقطتين نصل إلى نقطه ثالثة وهي اشتراط العصمة في الإمامة.

وبهذه الآية الكريمة يستدل الشيعة الإمامية على اشتراط العصمة في الإمام، فإنّ الآية الكريمة تنفي الإمامة عن كل من قارف ظلماً. وهذه هي (العصمة) بعينها، ولا دليل لنا لصرف عنوان الظلم عن ظاهره الذي يصرّح به القران( وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فأُولِئك هُمُ الظّالُمُون ) البقرة: ٢٢٩.

ويستدلون بهذه الآية على أن من قارف ظلماً من (شرك) أو (ذنب) فلا يناله عهد اللّه تعالى بالإمامة، وإن كان قد صدر منه هذا الظلم في فترة سابقة من حياته ثم تاب وحسُنت توبته وصلح.

يقول العلامة الطباطبائيرحمه‌الله في تفسير هذه الآية: وقد سُئِل بعض أساتيدنارحمهم‌الله

٩٥

عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام، فأجاب: إنّ الناس بحسب القسمة العقلية أربعة أقسام:

١ / من كان ظالماً في جميع عمره.

٢ / ومن لم يكن ظالماً في جميع عمره.

٣ / ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره.

٤ / ومن هو بالعكس من هذا.

وإبراهيمعليه‌السلام أجل شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأول والرابع - إذا كان الظلم هو الشرك باللّه أو ما يشبه الشرك - فبقي قسمان، وقد نفى اللّه أحدهما، وهو الذي يكون ظالماً في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر وهو الّذي يكون غير ظالم في جميع عمره(١) .

كما يستدلون بهذه الآية على إناطة أمر الإمامة بالنص من جانب اللّه ورسوله وعدم الاكتفاء باختيار الناس، فإنّ العصمة إذا كانت شرطاً في إسناد الإمامة، فلا يمكن إناطة الإمامة إلى أحد إلا بالنص، لتعذر معرفة هذا الشرط على الناس.

١٠ - الإمامة والنبوّة:

ولا يبقى إلا أن يقول أحد: أنّ الإمامة التي حبا اللّه تعالى بها عبده وخليله إبراهيمعليه‌السلام هي النبوّة، وليس غيرها، وعندئذٍ تنتفي دلالة الآية الكريمة على لزوم العصمة للإمام إذا كان المقصود بالإمامة في الآية الكريمة النبوّة، وليس أمراً آخر ما وراء النبوة.

وقد أصرَّ قوم على ذلك من غير أن يفصحوا عن سبب هذا الإصرار، ولكن

____________________

(١) الميزان: ١ / ٢٧٧.

٩٦

هذا الإصرار لا يصنع شيئاً بالتأكيد، فإن الآية الكريمة واضحة في أنّ الإمامة غير النبوّة، وقد كان ابراهيمعليه‌السلام نبيّاً عندما خاطبه اللّه تعالى بالإمامة وجعله إماماً، وقد شرحنا ذلك في الفقرة السابقة من هذا البحث.

ونزيد الآن أنّ هذه الإمامة التي حبا اللّه تعالى بها عبده وخليله إبراهيمعليه‌السلام إنما جعلها اللّه تعالى له بعد أن أتم إبراهيمعليه‌السلام الكلمات. وقد أتم إبراهيمعليه‌السلام الكلمات في كبر سنه وتقدّم عمره، وعليه فلا يمكن أن تكون الإمامة في هذه الآية المباركة هي النبوّة، لأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان نبيّاً مطاعاً عندما خاطبه تعالى بهذا الخطاب.

١١ - الكلمات التي أتمّها إبراهيمعليه‌السلام :

والكلمات التي ابتلى اللّه تعالى بها عبده وخليله إبراهيمعليه‌السلام هي الابتلاءات الصعبة التي ابتلاه بها فأتمّهن إبراهيمعليه‌السلام ، أو أتمّهن اللّه تعالى له بفضله ورحمته فاجتازها إبراهيمعليه‌السلام ، والتي يذكر منها القرآن قصّة الكواكب والقمر والشمس، وتحدّي قومه في عبادة اللّه تعالى، واستنكار عبادة الكواكب والشمس والقمر، وقصة كسر الأصنام في المعبد، وقصة إلقائه في النار، وتسيير أهله أمّ إسماعيل، وإسماعيل إلى وادٍ غير ذي زرع، ثم بعد ذلك محاولة ذبح ولده إسماعيل وهي أشقّهن وأصعبهن.

وقد قال تعالى عنها:( قَالَ يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذبَحُك ) ( إنَّ هَذا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ ) الصافات: ١٠٢، ١٠٦.

تلك هي الابتلاءات التي ابتلى بها اللّه تعالى عبده وخليله إبراهيم، وبهذه الابتلاءات استحقّ إبراهيمعليه‌السلام أن يجعله اللّه تعالى إماماً... والآية الكريمة صريحة في ذلك وواضحة( وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلِماتٍ فَأتمَّهُنَّ قَالَ إنّي جَاعِلُك... )

٩٧

وهذا دليل آخر على أنّ الإمامة التي حبا اللّه تعالى بها إبراهيم هي أمر وراء النبوّة والرسالة، وذلك أنّهعليه‌السلام أتم هذه الكلمات في كبر سنه وشيخوخته، وقد كان في ذلك الوقت نبيّاً ورسولاً، من جانب اللّه تعالى ومطاعاً بأمره.

ويذهب بعض المفسرين مذاهب مثيرة للاستغراب في تفسير هذه الكلمات. ومن ذلك ما رواه بعضهم أنّ هذه الكلمات هي الخصال العشر التي تسمّى خصال الفطرة، وهي قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وتقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، ونتف الابط، والاستحداد!!!

يقول الشيخ محمد عبده في التعليق على هذه الرواية: إنّ هذا من الجرأة الغريبة على القرآن، ولا شك عندي في أنّ هذا مما أدخله اليهود على المسلمين ليتخذوا دينهم هزواً. وأي سخافة أشد من سخافة من يقول: إنّ اللّه تعالى ابتلى نبيّاً من أجلّ الأنبياء بمثل هذه الأمور، وأثنى عليه بإتمامها، وجعل ذلك كالتمهيد لجعله إماماً للناس وأصلاً لشجرة النبوّة، وإنّ هذه الخصال لو كلِّف بها صبي مميّز لسهل عليه إتمامها، ولم يعد ذلك منه أمراً عظيماً(١) .

يقول الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار: كتب إليه رجل من المشتغلين بالعلم في سورية كتاباً عقب قراءته رأي الشيخ محمد عبده في تفسير هذه الآية في مجلة المنار(٢) ، يقول فيه: إنّ تفسير الكلمات بخصال الفطرة مروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله فكيف يخالفه فيه، وشدد النكير في ذلك، وأطنب في مدح ابن عباس.

____________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٤٥٤.

(٢) مجلة (المنار) التي كان يصدرها الشيخ رشيد رضا وكان ينشر فيها آراء ودروس الشيخ محمد عبده في تفسير القرآن الكريم على صفحاتها تباعاً، ولذلك اشتهر فيما بعد هذا التفسير بتفسير المنار.

٩٨

وقد أرسل إليَّ الأستاذ كتابه عند وصوله، وكتب عليه: الشيخ رشيد يجيب هذا الحيوان.

فكتبت إليه، وكان صديقاً لي، كتاباً لطيفاً كان مما قلته فيه على ما أتذكر: إننا لم نَرَ أحداً من المفسرين ولا من أئمة العلماء التزم موافقة ابن عباس في كل ما يروى عنه وإن صح سنده عنده، فكيف إذا لم يصح؟ وقد قال الشيخ محمد عبده إنّه يُجل ابن عباس عن هذه الرواية ولا يصدقها(١) .

ومن الغريب أن ينفي الشيخ محمد عبده مع ذلك أن يكون ما رآه إبراهيمعليه‌السلام في المنام من ذبح ولده إسماعيلعليه‌السلام من تلك الكلمات، وناقشه بمناقشة غير مفهومة فقال: وإنما هذا الأمر كلمة جعلوها عشراً.

وإنما يذهب الشيخ هذا المذهب الغريب في تفسير هذه الآية مع وضوح الأمر عنده في نفي تفسير الكلمات بالخصال العشر وغيرها من الروايات الضعيفة، لأنّ تفسير الكلمات بالابتلاءات الصعبة التي ابتلى اللّه تعالى بها إبراهيمعليه‌السلام يؤدي به من حيث يريد أو لا يريد إلى فصل الإمامة عن النبوّة، واعتبار الإمامة أمراً آخر غير النبوّة، ويؤدي ذلك بالضرورة إلى اشتراط سلامة الإمام من التلبّس بالظلم (لا يَنالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ ).

وهذا أمر إذا صحّ - وهو صحيح في رأينا - فإنّه يُخرج الإمامة عن دائرة اختيار الناس، ويجعلها في دائرة النص فقط، ويجعل العصمة من الشرك والمعاصي شرطاً للإمامة، وخلافها مخلاً بأمر الإمامة، حتى لو كان في فترة سابقة، وتاب صاحبه، وحسنت توبته. وهذا أمر لا يريد الشيخ أن يقرّ به، ولا يريد أن يفصح عن السبب.

____________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٤٥٥.

٩٩

نصوص الوصية

وقد تكررت الوصية من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بالخلافة والإمامة من بعده. منذ السنين الأولى من البعثة والأيام الأولى لإعلان الدعوة إلى الأيام الأخيرة من حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذي يتتبع هذه النصوص ويتابع ظروف صدورها يتأكد من أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مكلفاً بنصب عليعليه‌السلام خليفة وإماماً من بعده، وكان يخطط لإعلان هذا العهد على المسلمين بالتدريج، وبصور وصيغ مختلفة، حتى لا يختلف المسلمون بعده في أمر إمامته وولايته من بعده.

وأوّل نص نجده في أمر الوصاية والولاية من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص يوم الدار.

وآخر محاولة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الشأن كان على فراش الموت في الأيام الأخيرة من حياته المباركة.

١٠٠