الشمس وراء السحب

الشمس وراء السحب0%

الشمس وراء السحب مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: مكتبة القرآن الكريم
ISBN: 964-438-162-9
الصفحات: 375

الشمس وراء السحب

مؤلف: كمال السيد
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف:

ISBN: 964-438-162-9
الصفحات: 375
المشاهدات: 11867
تحميل: 6843

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11867 / تحميل: 6843
الحجم الحجم الحجم
الشمس وراء السحب

الشمس وراء السحب

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
ISBN: 964-438-162-9
العربية

استفهام كبرى عبر القرون فلأول مرة يقوم خلفاء سامراء بهذه الخطوة وربما لآخر مرة.

استقر الخليفة في مجلسه في حجرة الاستقبال وكان قد صرف جميع حراسه منذ أن وطأت قدماه باحة المنزل

وكان واضحاً تماماً ومن خلال جلسته المؤدبة وعينيه اللتين تنظران بضراعة وتوسل ان لدى الخليفة طلباً هاما طلباً غير معقول طلباً لو سمعه أبوه « المتوكل » لانبعث من حفرته برغم الديدان التي لم تخلف منه سوى هيكل عظمي منخور

قال الخليفة بلهجة شابها رجاء وتوسل :

ـ يا بن رسول الله! ادع الله أن يمد في عمري فأبقى في الخلافة عشرين سنة!!

الله وحده الذي يراقب الأعماق ساد سكوت مهيب فضاء الحجرة وكان الامام مطرقاً لكأنه يتصفح كتاباً عجيباً كتاباً يطل المرء م خلاله على سطور الغيب فيقرأها وعلى آفاق الزمن القادم فيستكشفها

ماذا حصل لكي يرفع الامام رأسه بعد لحظات مدوية من الصمت؟ وماذا حصل لكي تتألق عيناه بنور شفيف؟ وماذا حدث لكي يبدو الوجه الأسمر مغموراً بهالة من الأنوار الشفافة؟! ولكن المعتمد شعر بأن الكلمات التي يسمعها قادمة من أعماق الغيب المستور هاهو يصغي الى كلمات ابن الرضا تخاطبه :

١٨١

 ـ مدّ الله في عمرك(١٦٧) :

وفي تلك اللحظات شعر المعتمد بالثقة ، وتنفس الصعداء ليغادر منزل الامام ، دون أن تخامره هواجس المستقبل أو مخاوف من أن يقوم أحدهم باغتياله.

١٨٢

٢٥

في إحدى ليالي كانون الأول من سنة ٨٧٣ أخريات شهر صفر سنة ٢٦٠ هـ وفي ساعة متأخرة من الليل يعود من المدينة المنورة الوكيل« أحمد بن محمد بن مطهّر » وبمعيّته الصبي البشارة وجدّته فيلجون بحذر منزلاً في « درب الحصا »(١٦٨) وشاء القدر أن يعود جعفر الى المنزل بعد ليلة ساهرة قضاها مع شلّة من رفاق السوء(١٦٩)

وبالرغم من سكره الخفيف فقد استيقظت في نفسه الأمارة بالسوء رغبات مجنونة في أن ينبه البلاط مرّة أخرى على وجود الصبي الذي ينتظره الجميع اصدقاء واعداء

إنّه يستطيع أن يصطاد عصفورين بحجر واحد سوف يكون الوريث القانوني الوحيد لكل ممتلكات أخيه وسوف يتقرّب الى البلاط ويكون أحد المسؤولين في دولة ويكون في مقدره الجلوس في مكان أخيه(١٧٠) سوف يصبح إماما للشيعة وستتدفق انهار المال والحقوق الشرعية فيعيش رغداً يلهو ويلعب!

١٨٣

لماذا ياجعفر(١٧١) كل هذا الانحدار ما الذي فعله أبوك واخوك وماهي جريرة هذا الصبي البريء؟!

لماذا لا تلج السفينة يا جعفر قبل أن تبتلعك أموج الحياة الدنيا(١٧٢) ؟

كيف سوّلت لك نفسك أن تغدر بأخيك؟!

لا أحد يدري ما الذي حصل فجأة!! وفيها كانت شمس الخريف تقرض منازل سامراء بانوارها الباهتة شعر الامام بحالة من الضعف الشديد والنحول اضطرته الى ملازمة الفراش

و بطريقة تدعو الى التساؤل والدهشة وصل النبأ الى مسامع رئيس الوزراء عبيدالله بن يحيى بن خاقان!!

هل كانت هناك محاولة لاغتيال الامام؟!

لماذا يبادر ابن خاقان للاجماع بالخليفة شخصياً ويطلب منه ارسال مجموعة من رجال القصر لملازمة منزل الامام؟ واذا كان الهدف من ذلك تفديم الرعاية للامام فما هو المسوّغ في ارسال « حرير الخادم » سجّان الامام الذي سمعت تهديداته للامام ذات يوم وهو يقول : « والله لأرمينّة للسباع »(١٧٣) !

هل هناك أسرار ما وراء ما يجري؟ هل وصلت البلاط تقارير حول ووجود صبي اُحيطت ولادته بالكتمان؟ وهل ولد المهدي حقّا؟

ما هي بالضبط مهمّة موظفي القصر؟! لقد أصبح منزل الامام مشحوناً بالخطر ولماذا تتخذ الحكومة مثل هذا الاجراء

١٨٤

وتراقب وفاة الامام ومن أين لها علم بأنَّ الامام على حافّة الموت وهو ما يزال في ريعان الشباب ولم يبلغ الثلاثين بعد؟!

مرّت ثلاثة أيام من ربيع الأول وقد انتكست حالة الامام الصحية ، فأصدر رئيس الوزراء أمراً باحضار فريق من الأطباء لاجراء فحوصات وتقييم حالة الإمام الصحية

أجرى الأطباء فحوصاتهم وتبادلوا نظرات ذات معنى(١٧٤) !لقد دُسّ اليه السم ما في ذلك من شك! وليس هناك من وسيلة للعلاج.

واستقرّ رأيهم على أن حالة الامام مأيوس منها وأنه يموت ومع ذلك فقد أصرّ رئيس الوزراء على بقائهم في منزل الامام!!

كما استدعى ابن خاقان رئيس سلطة القضاء وطلب منه انتخاب عشرة رجال يعملون في سلك القضاء ومن ثم ارسالهم الى منزل الامام!

وأصبح عدد موظفي الدولة خمسة عشر غير الأطباء!! ترى ماذا يجري؟! ما هو الهدف من وراء كل هذه الاجراءات العجيبة؟!

هل هناك محاولات للكشف عن وجود وريث للامام؟ وهل هي محاولة للتنصل من مسؤولية اغتيال الامام؟ أو مواجهة الشائعات التي قد تنتشر حول اسباب وفاة ابن الرضا وهو ما يزال شاباً؟! لا أحد يدري!!

مشاعر خليطة من الحزن والقلق والتوتر تخيم على أجواء

١٨٥

المنزل ، الذي بدا وكأنه قلعة يحاصرها الأعداء

وبالرغم من تردّي حالة الامام الصحية إلاّ أنه كان في كامل وعيه وكانت شؤون المنزل تمضي حسب برنامج دقيق بإستثناء جعفر الذي بدأ يتصرّف وكأنه ربّ البيت والسيّد المطاع.

الزمن يمرّ متوتراً والإمام في حجرته راقد في فراش المرض زوجته السيدة نرجس في حجرة أخرى ماريا ونسيم في حجرة مستقلة كافور وعقيد يعملان بصمت وحزن ترى أين الصبي؟! هل كان مختبئاً في مكان ما من السرداب؟!

هل كان في منزل السيدة حكيمة؟!

رجال القصر وموظفوه محشورون في الرواق المؤدي الى غرفة الإمام وفي قبال ذلك حجرة السيدة نرجس ، أما السرداب فيوجد اسفل الغرفتين حيث يوجد باب صغير يؤدي الى سلّم ومنه الى السرداب

اليوم هو ٧ ربيع الأول ٢٦٠ هـ ٣١ كانون الأول ٨٧٣ م وسامراء مقبلة على ليل شتائي طويل(١٧٥) .

تسرّبت أنباء مرض الامام الى أوساط الناس واصبح ذلك محوراً في أحاديث الشيعة وظهرت تساؤلات حول مستقبل الامام وهويّة الامام الجديد!

وفي تلك الليلة الطويلة تمكن الامام من كتابة مجموعة من الرسائل الهامّة كجزء من خططه لابلاغ الأمّة وجود الامام الغائب

١٨٦

الذي اضطرته الظروف الى عدم الاعلان عن ولادته واخفائه عن أعين الجواسيس

كانت ظلمات الليل تشتد حلكة وقد خامر الموظفين في الرواق التعب والنعاس الليل البهيم يتجه الى الفجر والنجوم تشتد سطوعاً في سماء اكتنفتها غيوم متناثرة وكان عقيد الخادم ينظر بأسى الى الشباب كيف يذوي كشمعة تخبوفي قلب الليالي الزمهرير.

طلب الامام بصوت خافت من عقيد أن يحضر اناءً فيه ماء مغلي بالمستكي كان الامام يشعر ببرودة الموت تزحف الى خلايا جسده التي فتك بها السم

جاءت السيّدة نرجس تحمل الاناء ، وقد غمرتها حالة من الفجيعة ان زوجها الطاهر على وشك الرحيل سوف ينهدّ عمود خيمتها وستعوي من حولها آلاف الذئاب

مدّ الشاب يداً ترتجف من برودة الموت الزاحف كليل الشتاء الليل في لحظات الرحيل والفجر على وشك الانفاق

أراد أن يرتشف من الاناء ولكن ارتطم باسنانه وازداد ارتجاف يده قال بصوت واهن مخاطباً عقيداً :

ـ سوف تجده يصلّي في الحجرة ليأت اليّ.

وفي هذه اللحظة هبّت السيدة نرجس الى الحجرة ان ابنها يصلّي فمكثت غير بعيد وجاءت به وفي غمرة لحظات

١٨٧

السحر الأخير مرق الصبي الى حجرة أبيه العظيم

جلس عنده وقد غمره حزن واحساس بالفجيعة يلوح في وجهه كسماء تكتنفها غيوم رمادية

دمعت عينا الأب من أجل ابنه من أجل كل المحن التي سيواجهها خلال الزمان المرير همس بحب :

ـ يا سيدى أهل بيته أعطني شربة!

أخذ الصبي الطاهر الإناء وأدناه من فيه وارتشف الامام شربة منحته قليلاً من الدفء

قال الأب :

جهزني للصلاة!

أخذ الصبي منديلاً ونشره على صدر أبيه وراح يساعد والده على اسباغ الوضوء واستغرق الامام في الصلاة بعد أن يمم وجهه تلقاء المسجد الحرام والبيت العتيق

والتفت الى ابنه وقد انفلق عمود الفجر الصادق.

ـ بني الحبيب! أنت صاحب الزمان أنت المهدي الذي بشر بك الرسول وأخبر بك اسمك اسمه وكنيتك كنيته وهذا هو عهد آبائي قد جاء

وفي تلك اللحظات الندية بالدموع شعر الصبي بأن قلبه يضيء بنور قادم من قلب السماوات

سوف تواجهك المحن يا بشارة الانبياء وسوف تطاردك

١٨٨

رياح الزمهرير كفراشة جاءت تبشر بالدفء وبالربيع آه أيها الأمل القادم من رحم النبوّات الغابرة!!

كانت السيدة نرجس تبكي بصمت كسماء تمطر على هون زوجها يودع الحياة ، وابنها الوحيد تبحث عنه ذئاب مجنونة وأصغت الى كلمات زوجها يوصي ابنه وآخر الأئمة الاطهار :

ـ يا بني : إن الله جل ثناؤه لم يكن ليخلي أرضه ، وأهل الجد من طاعته وعبادته بلا حجة يستعلى بها وإمام يؤتم به ، ويقتدى بسبيل سنته ومنهاج قصده

وأرجو يا بني ان تكون أحد من أعده الله لنشر الحق وطي الباطل ، وإعلاء الدين ، واطفاء الضلال.

وسكت لحظات ليقدّم الى ولده الحبيب آخر نصائحه :

ـ فعليك يا بني بلزوم خوافي الأرض وتتبّع أقاصيها ، فإن لكل وليّ من أولياء الله عدوّاً مقارعاً ، وضدّا منازعاً فلا يوحشنّك ذلك(١٧٦)

اسكن يابنيّ في البراري البعيدة وفي الجبال الوعرة ليحرسك الله يا بني!

ودمعت عينا الأب كان يستنشق أنفاسه الاخيرة في هذه الحياة وكانت كلمات الصلاة تنساب من بين شفتيه قبل أن يغمض عينيه ويغفو اغفاءة الرحيل

وفي تلك اللحظات وقد هيمن صمت ثقيل سمع صوت عواء

١٨٩

قادم من بعيد

نهضت السيدة نرجس وهي تشعر بالبرد واخذت بيد ولدها وانسحبت من المكان لقد بدأ فصل مثير من حياة ابنها الوحيد.

١٩٠

برغم الغيوم ..

١٩١
١٩٢

 ٢٦

لم تشرق شمس اليوم الثامن من ربيع الأول وظلت غائبة وراء السحب الكابية التي تراكمت على امتداد الليل الشتائي الطويل.

اليوم هو الأول من كانون الثاني من العام الميلادي الجديد « ٨٧٤ » حدثت في الرواق حركة غير عادية عندما أعلن عقيد الخادم عن رحيل زعيم البيت العلوي الامام الحسن واستحال المنزل الواقع في « درب الحصا » الى خيمة تعصف بها الريح من كل مكان

برقت عينا جعفر بالغدر وقد ضجّت في أعماقه المظلمة أصوات تشبه عواء ذئاب مجنونة

ها هو يستيقظ على صيحات المأتم فهبّ كمن لسعته عقرب وراح يتصرف كالسيّد المطاع وربّ المنزل وحاول جاهداً أن يضفي على نفسه مسحة من الوقار كإمام جديد للشيعة!

ان جميع الظروف قد باتت مواتية ، فأخوه قد رحل عن الدنيا دون وصية ظاهرة ، واذن فقد أصبح كل شيء له أنه الوريث الذي لن ينازعه أحد ولكن ماذا لو ظهر ابن أخيه؟!

١٩٣

خامره أحساس بالقلق وسرعان ما تبدّد ان صبياً تبحث الجواسيس عنه لن يجرؤ على ذلك

اتخذ جعفر مكانه في باب المنزل لاستقبال الوافدين من المعزّين سوف يصل زعماء كبار من البلاط وشخصيات بارزة في صفوف الشيعة وها هو يشعر بالانتشاء لأول تهنئة يتلقاها من الشيعة مصحوبة بكلمات عزاء رقيقة ها هو يهنأ لأول مرّة بالإمامة لقد أصبح إماما لطبقات واسعة من الناس!

وصل « أبو الأديان »(١٧٧) درب الحصا وسمع من بعيد أصوات المناحة واذ ألفى جعفراً واقفاً في الباب يتلقى التعازي والتهاني همس في نفسه بأسى :

ـ ان يكن هذا هو الإمام فقد بطلت الامامة إذن

كيف يصبح اماماً وهو يكرع كؤوس النبيذ ويقامر في قصر الجوسق ويلعب بالطنبور؟!

واضطر أبو الاديان الى مصافحته وتقديم التعازي والتهاني وعندما ولج المنزل رأى حشداً من المعزّين ، وقد برز فيهم عثمان بن سعيد وكيل الامام الراحل وكان واجماً غارقاً في حزن مرير

و توهّجت في ذاكرة أبي الأديان البصري كلمات الامام الراحل في حقه في حضور وفد قادم من اليمن : « امض يا عثمان فانك الوكيل والثقة المأمون على مال الله »(١٧٨) فقال أحد أعضاء الوفد مخاطباً الامام :« يا سيدنا ان عثمان لمن خيار شيعتك ولقد

١٩٤

زدتنا علماً بموقعه من خدمتك ، وانه وكيلك وثقتك على مال الله؟

فقال الامام عندها : نعم واشهدوا على ان عثمان بن سعيد العمري وكليي ، وان ابنه وكيل ابني مهديكم »(١٧٩) .

كان عثمان بن سعيد قد انتهى توّاً من مراسم تجهيز جثمان الراحل العظيم للصلاة عليه، وانتبه أبو الأديان الى صوت عقيد الخادم يخاطب جعفراً :

ـ يا سيّدي قد كُفّن أخوك فقم للصلاة

مرّت اللحظات حساسة كان جعفر يخطو باتجاه نعش أخيه سوف يكتسب جعفر باقامة الصلاة على الامامه امتيازاً كبيراً فهناك قناعة لدى عموم الشيعة في أن الامام لا يصلّي عليه إلاّ إمام!

وقف جعفر قبال النعش استعداداً للصلاة وانتظمت خلفه صفوف المصلّين كان أبو الأديان واقفاً جنب عثمان بن سعيد في الصف الأول وكان جعفر على وشك التكبير عندما ظهر صبي بوجهه سمرة متموج الشعر تقدّم الصبي بخطى واثقة نحو جعفر وجذب رداءه قائلاً بصوت فيه حزم :

ـ تأخّر يا عمّ ، فأنا أحق بالصلاة على أبي :

اصفر وجه جعفر واربدّ وهو يتأخر واقفاً خلف الصبي الذي بدأ مراسم الصلاة على والده الراحل

١٩٥

ودمعت العيون للصوت الحزين يصلي على الراحل كان ذهن أبي الأديان متوتراً للمفاجأة

انه يشهد أولى علامات الامام الحق لقد أخبره الراحل : ان الذي سيصلي عليّ هو الامام بقيت علامتان

الأولى أن يطالبه الصبي بالرسائل الجوابية التي يحملها من المدائن

تمت مراسم الصلاة والتفت الصبي الى أبي الأديان قائلاً :

ـ يا بصري هات جوابات الكتب التي معك!

لم يكن هناك مجال للشك ، وسلم أبو الأديان مجموعة من الرسائل الى الصبي الذي اتجه نحو ستائر إحدى الحجرات ليتوارى وراءها تقدم رجل نحو جعفر الذي ما يزال حانقاً أراد أن يحرجه أكثر فقال له متسائلاً :

ـ يا سيدي من الصبي؟!

أجاب جعفر بحنق :

ـ والله ما رأيته قط ولا أعرفه!!

وارتسمت على وجه الرجل١٨٠ ابتسامة ساخرة من هذا الذي يدعي ما ليس له وها هو يتراجع أمام صبي يبدو عليه أنه في التاسعة من عمره إنها قوة الحق التي لن يصمد أمامها جعفر وامثال جعفر حتى لو كان من ذرية الامام!

١٩٦

كانت المفاجأة لا تزال تسيطر على بعضهم خاصة الذين رأوا الصبي لأول مرة

وحدثت ضجة خارج المنزل لقد وصل أخو الخليفة وممثله في مراسم التشييع والصلاة الرسمية

استقبل جعفر مبعوث الخليفة وأخاه أبا عيسى بن المتوكل الذي نقل تعازيه وتعازي الخليفة بالمناسبة

وحمل النعش الذي ما كاد يغادر المنزل حتى استقبل بالبكاء والنحيب لقد رحل السلام رحل الانسان الطاهر كحمامة بيضاء شهيدة كان النعش المحمول يسير باتجاه المسجد الجامع مخترقاً الشارع الرئيسي المعروف بشارع أبي أحمد

نسائم كانون الباردة تلفح الوجوه في يوم غائم كئيب وكانت مشاعر مزعجة من الاحساس بالغربة واليتم تغمر القلوب الحزينة لكأن الامام شمس تبعث الدفء والنور فإذا غاب غمرت الظلمات النفوس

وتذكر الناس يوماً حزيناً قبل ستة أعوام يوم شيعوا والد هذا الانسان الطيب الذي وافاه الأجل وهوفي ريعان الشباب

وتساءل البعض في دهشة عن سر وفاته؟! انه لم يشتك من علة قبل ذلك فما الذي حصل؟! لقد اعتادت سامراء على هذه الظاهرة كثيرون لقوا حتفهم في ظروف غامضة!

١٩٧

وُضع النعش قريباً من جدران المسجد لاقامة الصلاة وتقدم مبعوث الخليفة وأخوه الى النعش وكشف عن وجه الراحل ليبدد هواجس قد تراود بعض الناس ويدفع شبهة الاغتيال عن الدولة فأعلن أمام شخصيات البيت الهاشمي من العباسيين والعلويين ، وقادة الجيش وكبار موظفي الدولة والبلاط قائلاً :

ـ هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان والقضاة فلان وفلان ومن الاطباء فلان وفلان وراح يستعرض الشخصيات التي امضت الليالي الأخيرة في منزل الامام لأهداف غامضة ثم غطى باحترام وجه الراحل العظيم(١٨١) .

وأُقيمت الصلاة على الجثمان الطاهر ليحمل مرة أخرى ويعود الى المنزل الواقع في « درب الحصا » وهناك سيوارى الثرى الى جانب والده الراحل تنفيذاً لوصيته.

وبدا ذلك اليوم الغائم اشبه بيوم القيامة(١٨٢) وقد حشر الناس ضحى فالأمواج البشرية تتدافع لتلمس النعش الطاهر تبركاً لكأنها تمد يداً تصافح رسول الله

القلوب يغمرها الأسى وإحساس بالفجيعة يملأ صدور المؤمنين ويلج النعش منزل صاحبه وفاحت رائحة الثرى المعطور حيث سيرقد الامام الى جانب والده لقد وصلا معاً هذه

١٩٨

المدينة على قدر قبل ربع قرن فرحل الوالد قبل ستة أعوام والتحق به الإبن في هذا اليوم

ان الذين يرون ما وراء الأفق البعيد سيرون مآذن تشق قلب التراب في هذا المنزل المبارك لتستحيل هذه البقعة الطاهرة الى مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً. والى واحة خضراء يتفيأ ظلالها الوارفة المتعبون في دورب الحياة والزمان.

١٩٩

٢٧

استمر المأتم وكانت رائحة طيبة تشبه رائحة الطين المعطور تفوح في فضاء المنزل الشمس ما تزال مستورة بالسحب بالرغم من أن قرصها المستدير قد بدا شفافاً يشبه القمر في لحظات الغروب وفي أصيل ذلك اليوم وصل وفد من مدينة قم يحمل معه رسائل من أهلها اضافة الى هميان يشتمل على الحقوق الشرعية التي يتوجب تسديدها الى الإمام أو من يوكله

في حجرة السيدة نرجس جلست النسوة وكانت أم الحسن اكثرهن إحساساً بالفجيعة ، حتى ان المرء إذا رآها في تلك الحال سيحدس أنها لن تعيش بعد ابنها إلا أياماً معدودات أما السيدة نرجس فقد بدا وجهها سماء مثقلة بغيوم ممطرة عيناها تبحثان عن عزيز فقدته زوج كريم رحل وتركها وحيدة وولد طاهر تحمل أمانة كبرى وقرر خوض ملحمة الصراع المرير أمام أعداء لا يعرف لهم عدد حتى عمه جعفر غدر بهم انه لم يعد يرى شيئاً سوى نفسه وسوى اطماعه وحرصه وجشعه وتهافته على حطام الحياة الدنيا!

٢٠٠