الفضائل

الفضائل27%

الفضائل مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 206

الفضائل
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65605 / تحميل: 7309
الحجم الحجم الحجم
الفضائل

الفضائل

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الموصلة في المسجد الحرام، فلمّا قعدوا وأخذوا مراتبهم ثمّ تكلّم عبد المطّلب وقال: اعلموا إنّي قد دبّرت تدبيراً فقال المشايخ: وما دبرت يا رئيس قريش وكبير بني هاشم؟ فقال: يا قوم إنّكم تحتاجون أنْ تخرجوا معي نحو سيف بن ذي يزن لتهنئته في ولايته وهلاك عدوّه؛ ليكون أرفق بنا وأميَل إلينا، فقالوا له بأجمعهم: نِعمَ ما رأيت ونِعمَ ما دبّرت، ثمّ أمر عبد المطّلب أنْ يستحكموا آلات السفَر ففرغوا من ذلك، قال فخرَج عبد المطّلب ومعه سبعة وعشرون رجلاً على نوقٍ جياد نحو اليمن، فلمّا وصلوا إلى سيف بن ذي يزن بعد أيّام سألوا عن الوصول إليه، قالوا لهم: إنّ الملك في قصر الوادي، وكان من عاداته في أوان الورد أنْ يدخل قصر غمدان ولا يخرج إلاّ بعد نيف وأربعين يوماً، ولا يصل إليه ذو حاجة ولا زائر وأنتم قصدتم الملك في أيّام الورد، فذهب عبد المطّلب إلى باب بستانه وكان لقصر غمدان في وسط البستان أبواب، وكان لهذا البستان باب يفتح إلى البرّية وقد وكّل بذلك الباب بوّاب واحد فقال عبد المطّلب لأصحابه: لعلّنا يتهيّأ لنا الدخول بحيلة ولا يتهيّأ لنا إلاّ بها فقال القوم: صدقت.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ عبد المطّلب نزَل واتجه نحو الباب فنظر إلى البوّاب وسلّم عليه وضحَك في وجهه، ولم يُظهر للبوّاب شيئاً ولم يقعد إلاّ إلى جانبه، ثمّ قال له: يا بوّاب دعني أنْ أدخل البستان، فقال له البوّاب: واعجباً منك ما أقلّ فهمَك وأضعَف رأيك أمصروعٌ أنت؟ فقال له عبد المطّلب: ما رأيت من جنوني؟ فقال له البوّاب: أما علمت أنّ سيف بن ذي يزن في القصر مع جواريه وخدَمِه قاعد، فإنْ أبصرك في بستانه أمر بقتلك وإنّ سفك دمَك عنده أهوَن من شربة ماء، فقال له عبد المطّلب: دعني أدخل ويكون من الملِك إلى ما يكون فقال له البوّاب: يا مغلوب العقل، إنّ الملِك في القصر وعيناه للباب والبوّاب وإنّه قدر ما يرفق أنْ يأمر بقتلك.

فقال عقيل ابن أبي وقّاص: يا أبا الحارث، أما علِمت أنّ المسارج لا تُضيء إلاّ بالدهن، فقال عبد المطّلب: صدقت (قال الواقدي): ثمّ إنّ عبد المطّلب دعا بكيس من أديمٍ فيه ألف دينار وقال بعد أنّ صبّ الكيس

٤١

بين يدَي البوّاب: يا هذا، إنْ تركتني أدخل البستان جعلتُ هذا بِرّي إليك فاقبل صلتي وخلّ سبيلي، فلمّا نظر البوّاب إلى الدراهم خرّ مبهوتاً وقال له البوّاب: يا شيخ، إنْ دخلت ونظَر إليك الملِك وسألك عن كيفية دخولك ما أنت قائل له؟ قال عبد المطّلب: أقول له كان البوّاب نائماً.

وشرَط عليه عبد المطّلب أنْ لا يكذّبه إنْ دعاه الملك للمسائلة فيقول: غفوت وليس لي بدخوله علم، قال: نعم، فقال عبد المطّلب إنْ كذبتني في هذا أصدقت الملك عن الصلة التي وصلتك بها، فقال له البوّاب: ادخل يا شيخ، فدخل عبد المطّلب البستان وكان قصر غمدان في وسَط الميدان والبستان كأنّه جنّة من الجنان، قد حُفّ بالورد والياسمين وأنواع الرياحين والفواكه وفيه أنهارٌ جارية في وسطِه، وإذا سيف بن ذي يزن قد اتكأ على عمود المنظرة من قصره وفي قصره يقول الشاعر:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً  في رأس غمدان دارا منك محلالا

اشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم    وأسبل اليوم في بُرديك أسبالا

قال: فلمّا نظر سيف بن ذي يزن عبد المطّلب غضِب وقال لغلمانه: مَن ذا الذي دخَل علَيّ بغير إذني ليؤتَ به سريعاً، فسعى إليه الغلمان والخدَم فاختطفوه من البستان، فلمّا دخل عبد المطّلب عليه رأى قصراً مبنياً على حجَر مطلي بطلاء الورد منقّشاً بنقش اللازورد وورداً على أمثال الورد، ورأى عن يمين الملِك وعن شماله وبين يدَيه من الجواري مالا عدد لهنّ، ورأى قريب الملك عموداً من عقيقٍ أحمر وله رأس من ياقوتٍ أزرَق مجوّف محشّى بالمِسك، ورأى عن يساره ثوراً من ذهبٍ أحمر على فخذه سيف نقمته مكتوب عليه بماء الذهب شعر يقول:

رُبّ ليث مدجّج كان يحمي    ألف قرنٍ مغمد الأغماد

وخميس مُلفف بخميسٍ    بدّد الدهر جمعَهم في البلاد

(قال الواقدي): فوقف عبد المطّلب بين يدَي سيف ولم يتكلّم الملِك ولا عبد المطّلب، حتى كرع الملك في النور الذي بين يديه فلمّا فرغ من

٤٢

شربه نظر إليه وكان سيف قد شاهد عبد المطّلب قبل هذا ولكنّه أنكره، حتى استنطقه فقال له الملك: من الرجل؟ فقال أنا عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن مُضَر بن نِزار بن معد بن عدنان، حتى بلغ آدم (عليه السلام)، فقال له الملك: أنت ابن أُختي، فقال: نعم أنا ابن أُختك؛ وذلك أنّ سيف بن ذي يزن كان من آل قحطان وآل قحطان من الأخ وآل إسماعيل من الأُخت فعلِم سيف بن ذي يزن أنّ عبد المطّلب ابن أُخته، فقال سيف بن ذي يزن: أهلاً وسهلاً وناقةً ورَحلاً، ومدّ يده إلى عبد المطّلب وكذلك عبد المطّلب نحو الملك فأمره الملك بالقعود وكنّاه بأبي الحارث وقال: فأنتم معاشر أهل الشام رجال الليل والنهار، وغيوث الجدب والغلاء، وليوث الحرب لضرب الطلى، ثمّ قال: يا أبا الحارث فيم جئت؟

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك السعيد، جده الرفيع، مجده المطاع أمره المحذور، آفته المدرِك رأفته نحن جيران بيت الله الحرام وسدَنة البيت، وقد جئت إليك وأصحابي بالباب لنهنّئك بولايتك وما فوّضه الله تعالى من النصر بك وأجراه على يَدَيك من هلاك عدوّك، فالحمد لله الذي نصَرَك وأقرّ عينيك وأفلَج حجّتك وأقرّ عيوننا بخذلان عدوّك، فأطال الله تعالى في سوابغ نِعَمةِ مدّتك وهنّأك بما منحك ووصلها بالكرامة الأبدية، فلا خيّب دعائي فيك أيّها الملك، ففرح سيف بدعائه وازداد له محبّة بما سمِع من تهنئته، ثمّ أمره أنْ يصير هو ومَن معه بالباب من أصحابه إلى دار الضيافة إلى أنْ يؤمر بإحضارهم بعد هذا اليوم إلى مجلسه، فمضى وحجّابه وخدَمه بين يديه إلى حيث أمرهم وخرج عبد المطّلب واستوى على جمَلِه واتبعه أصحابه، وبين يديه غلمان الملك حوله حتى أنزلوه وأصحابه وبالغوا بالتوصية به وبأصحابه فأمر الملك أنْ يجرى عليهم في كلّ يوم ألف درهم بيض، فبقي عبد المطّلب في دار الضيافة شهرَين حتى تصرّمت أيام الورد، فلمّا كان في اليوم الذي أراد فيه مجلسه للتسليم عليه والنظر في أمره ذكر عبد المطّلب في شطرٍ من ليلته، فأمر بإحضاره وحده فدخل عليه الرسول فأمره

٤٣

وأعلمه بمراد الملك منه، فقام معه إليه فإذا الملك في مجلسه وحده فقال لخدمه: تباعدوا عنّا، فلم يبقَ في المجلس غير الملك وعبد المطّلب وثالثهم ربّ العزّة تبارك وتعالى، فقال له الملك: يا أبا الحارث، إنّ من آرائي أنْ أُفوّض إليك علما كنت كتمته عن غيرك وأُريد أنْ أضعه عندك؛ فإنّك موضع ذلك وأُريد أنْ تطويه وتكتمه إلى أنْ يظهره الله تعالى، فقال عبد المطّلب: السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك، فقال الملك، اعلم يا أبا الحارث، أنّ بأرضكم غلاماً حسَن الوجه والبدن، جميل القدّ والقامة، بين كتفيه شامة المبعوث من تهامة، أنبت الله تعالى على رأسه شجرةُ النبوّة، وظلّته الغمامة، صاحب الشفاعة يوم القيامة، مكتوب بخاتم النبوّة على كتفيه سطران: الأوّل لا اله إلاّ الله، والثاني محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والله تعالى توفّى أُمّه وأباه وتكون تربيته على يدَي جدّه وعمّه وأنا وجدت في كتب إسرائيل صفته، أبيَن وأشرَح من القمَر بين الكواكب، وأنّى أراك جدّه فقال عبد المطّلب: أنا جدّه أيّها الملك.

فقال الملك: مرحباً بك وسهلاً يا أبا الحارث، ثمّ قال له الملك: إنّي أشهد على نفسي يا أبا الحارث، أنّي مؤمنٌ به وبما يأتي به من عند ربّه، ثمّ تأوّه سيف ثلاث مرّات بأنْ يراه فكان ينصره وينظره فيتعجّب منه الطير في الهواء، ثمّ قال: يا أبا الحارث، عليك بكتمان ما ألقيتُ عليك ولا تظهره إلى أنْ يظهره الله تعالى فقال عبد المطّلب: السمع والطاعة للملك، ونظر عبد المطّلب في لحية سيف بن ذي يزن سواداً وبياضاً وخرَج من عنده وقد وعده في الحنّاء في غد ليرحلوا إلى أرض الحرّم إنْ شاء الله تعالى، فلمّا رجع إلى أصحابه رآهم وجِلين خائفين وقد أكثروا الفكر فيه حين دعاه الملِك في مثل ساعته التي دعاه فيها فقالوا له: ما كان يريد الملك منك قال عبد المطّلب يسألني عن رسوم مكّة وآثارهم، ولم يخبِر عبد المطّلب أحداً بما كان بينه وبين الملك، وغدا عليهم رسول الملك من غد يحضرهم مجلسه فتطيّبوا وتزيّنوا ودخلوا القصر وعبد المطّلب يقدمهم، فدخلوا عليه فنظر عبد المطّلب فإذا برأسه ولحيته سواد حالك فقال له عبد المطّلب:

٤٤

إنّي تركتك أبيض اللحية فما هذا؟ فقال له إنّي استعمل الخضاب فقال أصحاب عبد المطّلب: إنْ رأى الملك أنْ يرانا أهلاً لذلك الخضاب فليفعل،قال: فأمر الملك أنْ يؤخذ بهم إلى الحمّام وكان القوم بيض الرؤوس واللحى فخضّبوا هناك فخرجوا ولشعورهم بريق كأسوَد ما يكون من الشعر، ويقال إنّ سيفاً أوّل من خضّب رأسه ولحيته.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ الملك أمر لكلّ واحد ببدرة دراهم بيض، وحمَل كل واحد منهم على دابّة وبغل، وأمر لكل واحد منهم بجاريةٍ وغلام وبتختِ ثياب فاخرة، ووهب لعبد المطّلب ضعفَي ما وهَب لهم ثمّ دعا الملك بفرسه العقاب وبغلته الشهباء وناقته العضباء وقال: يا أبا الحارث، إنّ الذي أسلمه إليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أنْ تسلّمها إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) إذا بلغ مبلغ الرجال، فقال له: اعلم أنّي ما طلبت على هذه الفرس شيئاً إلاّ وجدته، وما قصَدَني عدوّ وأنا راكبٌ عليها إلاّ أنجاني الله تعالى منه، وأمّا البغلة فإنّي كنت أقطع بها الدكادك والجبال لحسن سيرها ولا أنزل عنها ليلي ونهاري، فأمره أنْ يتحفّظ ويجعلها لي تذكرة وبلّغه عنّى التحية الكثيرة، فقال عبد المطّلب السمع والطاعة لأمر الملك.

ثمّ ودّعوه وخرجوا نحو الحرَم حتى دخلوا مكّة فوقعت الصيحة في البلَد بقدومهم، فخرَج الناس يستقبلونهم وخرَج أولاد عبد المطّلب، وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على صخرة وقد ألقى كمّه على وجهه لئلاّ تناله الشمس حتى قارب عبد المطّلب، فنظر أولاده إليه وقالوا: يا أبانا، خرجت إلى اليمن شيخاً ورجعت شابّاً قال: نعم أيّها الفتيان سأخبركم بما ذكرتم فأخبرهم، ثمّ قال لهم: أين سيّدي محمّد (صلّى الله عليه وآله) فقالوا له: إنّه في بعض الطريق ينتظركم، ثمّ إنّ عبد المطّلب سار نحوه حتى وصل إليه مع أصحابه فنزل عن مركوبه وعانقه وقبله بين عينيه، وقال له: إنّ هذا الفرَس والبغلة والناقة أهداها إليك سيف بن يزَن ويقرأ عليك التحية الطيبة، ثمّ أمر أنْ يُحمل رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) على الفرس، فلمّا استوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على ظهر الفرَس نشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً

٤٥

برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب هذا الفرس: أنّه عقاب بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.

(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.

(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من خيزرانٍ أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل وعمود أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان الفرش والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك وحُمل عبد المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله أولاده وكان له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد كلُّ واحد منهم بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على خدودهم كالمطر وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واجتمعت عند عبد المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه تهملان بالدموع فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد المطّلب، فصاح عبد المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد العزّى، أنت من عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله) اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد المطّلب خجَلاً

٤٦

برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب هذا الفرس: أنّه عقاب بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.

(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.

(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من خيزرانٍ أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل وعمود أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان الفرش والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك وحُمل عبد المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله أولاده وكان له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد كلُّ واحد منهم بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على خدودهم كالمطر وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واجتمعت عند عبد المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه تهملان بالدموع فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد المطّلب، فصاح عبد المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد العزّى، أنت من عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله) اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد المطّلب خجَلاً

٤٧

فقالوا كلّهم: قد سمعنا منك وأطعناك فيه ثمّ قال لهم عبد المطّلب: إنّ الرئيس عليكم من بعدي الوليد بن المغيرة؛ فإنّه أهلٌ لأنْ يجمعنكم على الخير ويلمّ شملكم فضجّت الخلق بأجمعهم وقالوا: قبلنا أمرك فنعم ما رأيته رئيساً ونِعم ما خلّفته فينا بعدك، وصارت قريش وبنو هاشم تحت ركاب الوليد بن المغيرة لعنه الله تعالى، فعند ذلك تغيّر وجه عبد المطّلب واخضرّت أظافر يديه ورجليه ووقع على وجنتيه غبار الموت وأكثر التقلّب من جانب إلى جانب، ومرّة يقيض رجلاه ومرّة يبسط أخرى والخلائق من قريش وبني هاشم حاضرون، وقد صارت مكّة في ضجّة واحدة وأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنْ يقوم من عنده ففتح عبد المطّلب عينيه وقال: يا محمّد، تريد أنْ تقوم قال: (نعم) فقال عبد المطّلب: يا ولدي فإنّي وحقّ ربّ السماء لفي راحة مادمت عندي قال: فقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فما كان إلاّ عن قليل حتى قضى نحبه.

(قال الواقدي): ثمّ قاموا في تغسليه فغسّلوه وحنّطوه وكفّنوه وجعلوه في أعواد المنايا، وحملوه إلى ذيل الصفا وما بقي في مكّة شيخ وشاب ولا حرّ ولا عبد من الرجال والنساء إلاّ وقد ذهبوا في جنازته وعظّموها ودفنوه، ورجَع الخلق من جنازته باكين عليه لفقده من مكّة فقالت عاتكة بنت عبد المطّلب ترثي أباها:

ألا يا عين ويحك أسعديني

بدمع وأكفّ هطل غزيرِ

على رجلٍ أجلّ الناس أصلاً

وفرعاً في المعالي والظهورِ

طويل الباع أروَع شيظَمي

أغرّ كغرّة القمَر المنيرِ

وأبكى هاشماً وبني أبيه

فقد فارقَت ذا كرمٍ وخيرِ

وغيثاً للقرى في كل أرضٍ

إذا ضنّ الغنى على الفقيرِ

فقدنا من قريش في البرايا

سحاب الناس في السنَة النرورِ

وقالت صفية ترثي أباها:

أعينَيّ جَودا بالدموع السواكب

على خيرِ شخصٍ من لؤي بن غالب

أعينَيّ لا تستحسرا من بكاكما

على ماجدِ الأعراق عفّ المكاسب

٤٨

أعينَيّ جودا عبرةً بعد عبرةٍ

على الأسدِ الضرغام محضِ الضرائبِ

أبي الحارثِ الفيّاض ذي الحلم والبها

وذي الباع والماعون زين المناسبِ

وذي المجدِ والعزّ الرفيع وذي الندا

وذي العون عند المعضلات التوائبِ

فإنْ تبكياه تبكيا ذا مهابةٍ

كريم المساعي حلمه غير ذاهبِ

وقالت برّة بنت عبد المطّلب تبكي أباها وترثيه:

أعينَي جودا بالدموع الهواطل

على النحرِ منّي مثل فيض الجداول

ولا تسئما أنْ تبكيا كلّ ليلةٍ

ويومٍ على مولىً كريم الشمائل

أعينَيّ لا يُغني وجيع بكاكما

على خيرٍ حافٍ من معد وناعلِ

على رجلٍ لم يورث اللوم جدّه

أتمّ طويل الساعدين حلاحلِ

أخي ثقة ماضي العزيمة ماجد

له بيت مجدٍ ثابت غير فاصلِ

بي الحارث الفياض ذي الباع والندا

رئيس قريش كلها في القبائل

فسقى مليك الناس موضع قبره

بتو الثريا ديمة بعد وابل

وقالت أروى بنت عبد المطّلب ترثي أباها:

ألا يا عين ويحك أسعديني

بوبل واكف من بعد وبلِ

بدمعٍ من دموعك ذي غروب

فقد فارقت ذا كرم ونبلِ

طويل الباع أروع ذي المعالي

أبيك الخير وارث كلّ فضلِ

وقالت آمنة بنت عبد المطلب تبكي أباها وترثيه:

بكت عيني وحقّ لها البكاء

على سمحٍ سجيته الحياء

على سمح الخليفة ابطحي

كريم الخيم ينميه العلاء

على الفيّاض شبيه ذي المعالي

أبيك الخير ليس له كفاء

اقب الكشح أروع ذي أُصول

له المجد المقدّم والثناء

وكان هو الفتى كرماً وجوداً

وبأساً حين تنسكب الدماء

إذا هاب الكماة الموت

حتى كأنّ قلوب أكثرهم هواء

مضى قدماً بذي شطب خشيب

عليه حين تبصره بهاء

٤٩

(قال الواقدي): ثمّ إنّ الوليد بن المغيرة ترأّس من بعد عبد المطّلب واستقام أمره، وكان لعنه الله معانداً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان أبو طالب يحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) محبّةً لم يُرَ مثلها، وكان ينوّمه بجنبه ويوسّده يمينه، ويدثّره يساره، وإذا قام بالليل قام معه وإذا أراد أنْ ينام ينزعه ثيابه ويعرّيه ويأخذه في فراشه، وكان يحبّ أنْ يلتزق جلده بجلده لمحبّته له وليُرضي الله تعالى بذلك، وكان إذا دخل جوف الفراش لا يصير بينه وبين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حاجز حتى يختلط بدنه ببدنه، فعند ذلك رمدَت عين النبيّ رمداً شديداً وأصابه منه وجَع حتى إنّه كان يأخذ خرقة سوداء ويضعها على عينيه، ولا يقدر أنْ يفتح بصره لما كان به من الأذى والألم فعالجوه فتمادَت به العلّة وطالت به فدخل على أبي طالب من ذلك غمٌّ شديد، وأحضر الأطبّاء فما ازداد إلاّ ألمَاً فأشارت إليه قريش وبنو هاشم إلى أنْ يحمله إلى عند حبيب الراهب، ليدعوا له ربّه بالعافية والرحمة، وكان ذلك لهم باباً فقال أبو طالب: نِعم ما دبّرتم ثمّ جاء إلى منزله فأخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك، فقال له: الرأي رأيك.

(قال الواقدي): فلمّا كان في اليوم الثاني غسَل رأس النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وزيّن لباسه وجمّله بأحسن زينة وأركبه ناقةً جليلة، وكان حبيب على ثلاث مراحل من مكّة في صومعته على طريق الطائف، فأخرج أبو طالب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالليل عن وهَج الشمس، فلمّا بلغ الصومعة نادى الغلام: يا حبيب، فأجابه فقال: إنّ أبا طالب بن عبد المطّلب بالباب، فأمر أنْ يدخلا فدخلا وقعد أبو طالب إلى جنب حبيب ولم يتكلّم حبيب حتى سكنا جميعاً، ثمّ قال أبو طالب: يا سيّدي إنّ هذا ابن أخي (النبيّ) محمّد (صلّى الله عليه وآله) به رمَد، وقد داويناه بكلّ دواء فلَم ينتفع ولم يبرَأ رمدُه، وقد جئتك لتدعوا له ربّ السماء أنْ يعافيه ممّا به فقال له حبيب: تعال إلى عندي يا محمّد فقال له محمّد (صلّى الله عليه وآله): (تعال أنت إلى عندي) فقال أبو طالب: وا عجباً منك يا سيّدي أنت الشاكي، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (بل حبيب الشاكي)، فغضِب حبيب وقال: يا محمّد، فما أشكو؟ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

٥٠

(أنت تشكو البرَص الذي على جسَدِك، وقد دعوَت ربّ السماء ثلاثين سنة أنْ يعافيك فلَم يُجبك)، فقال حبيب: وكيف علِمت يا محمّد، وأنت صبيّ صغير؟ فقال: (رأيته في النوم)، فقال: يا محمّد، تفضّل علَيّ وادع لي بالعافية فكشَف عن وجهه (صلّى الله عليه وآله)، فبرق من وجهه برق حتى أضاء‌ت الصومعة من النور، وشقّ سقف الصومعة ومرّ كالعمود حتى التزق إلى عنان السماء، وإذا بهاتف يهتِف ويقول: يا أهل الديرانية، ويا أهل الرهبانية، ويا أصحاب الكتاب، آمنوا بالله وبرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، قال: فوثب حبيب من صومعته وتعلّق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال: أُشهدك يا محمّد على نفسي أنّي مؤمنٌ بما تأتي به من عند ربّك، صغيراً وكبيراً قديماً وحديثاً، فاعتبَر الخلق بذلك ممّا عاينوه وسمِعوه، ثمّ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا حبيب ارفع ثيابك لتنظر الخلائق ما قلت ويكون صدقاً لكلامي)، فنظر الخلائق بعد ما رفَع أذياله إلى ذلك البرَص الأبيض كالدرهم وعليه نقطة سوداء، فدعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بدعَوَات مستجابات ومسَح يدَه عليه فذهبت العلامة بإذن الله تعالى وبدعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ قال: (يا عم، لو أحببتُ أنْ يعافيني الله تعالى لدَعَوت الله سُبحانه وتعالى أنْ يعافيني ولم أجئ إلى هاهنا، ولكن قلت يا عم، حتى تدري أنّي عند الله أجلّ مِن مثلك ومِن مثل حبيب وغيره من أهل الأرض جميعاً)، ثمّ دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لنفسه فبرِئ من وقته من رمَدِه فصارت عيناه أحسن ما يكون بمشيئة الله تعالى، فقال حبيب: يا أبا طالب، احتفظ على هذا الغلام الذي وجدنا اسمه في التوراة لأشهَر من القمَر في كبد السماء، وكذلك اسمه في الإنجيل في سورة يُقال لها المُبرهنة لأنوَر وأبهى مِن كوكب الصبح، وأنّ لهذا الغلام شأناً عظيماً وسترى أمره عن قريب وتفرَح به يا أبا طالب أشدّ ما يكون من الفرَح، واعلم أنّه طوبى لِمَن آمن به، والويل لمَن كفَر به وردّ عليه حرفاً ممّا يأتي به؛ فإنّ له من الأعداء عدَد نجوم السماء مع أنّ له حافضاً يحفظه وناصراً ينصره فطب نفساً وقر عيناً فإنّك تفرَح به، ثمّ قام أبو طالب من عند حبيب واستوى على الناقة فكتَم أبو طالب ذلك ولم

٥١

يُخبِر به أحداً وقد رجعَت عينا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى حال العافية.

قصّة مفتاح الكعبة

(قال عمر بن الخطّاب): سألت أبي وقلت له: يا أبَتي وكيف صار مفتاح بيت الله الحرام إلى بني شيبة، قال: اعلم أنّ إبراهيم الخليل لمّا فرع من بنائه حفَر وهدةً صغيرة في جوف هذا البيت - يعني الكعبة عن يمين الباب - وقال: (إنّي حكمت على كلّ مَن يدخل جوف بيت الله الحرام أنْ يطرح في هذه الوهدة شيئاً من الدراهم والدنانير، وغير ذلك من صنوف الأموال؛ ليكون ذلك برّاً لسدَنة البيت ولخدَمَته من درهم إلى ما كان، ولم يكن بهذا الرسم لأحد من الملوك والفراعنة نصيب، وكان مفتاح بيت الله الحرام بين يدَي بني أُميّة يرثون إمساك المفتاح عقباً بعد عقب، فلَم يزالوا على عهده حتى وصل مفتاح بيت الله الحرام إلى أبى العاص بن أُمية بن عبد شمس، وكان يفتح بيده وكان لهم بذلك عزٌّ وشرف ونُبل، ثم إنّ أبا العاص بن أُميّة اتخذ دعوةً جلية وضيافةً خطيرة واتخذ الدعوة في بيت الخمار، وكثيراً ممّا كان بنو أُمية ينفقون في دار الخمار ويأكلون ويشربون فيها، فلمّا اتخذ أبو العاص الضيافة وأكَل الناس الطعام وغسَلوا أيديهم وشربوا حتى فُنيَ شرابهم، ولم تكن لهم حيلة في ابتياع الشراب ولم يكن معهم شيء من الدراهم والدنانير ولا من الرهون، فرهنوا مفتاح بيت الله الحرام عند الخمّار وأخذوا الخمر وشربوا وسكَر القوم وناموا، فسمِع بذلك عامر بن شيبة فحمَل زِقّاً من خمْر وردّها إلى الخمّار واسترجع المفتاح من الخمّار، وذهب به إلى بيته وغسَلَه بماء الكافور وطلاه بالغالية المتّخذة من مسكٍ أذفَر فلفّه في خرقة الديباج، وكان المفتاح من ذهبٍ أحمر وهكذا كان حقّه؛ لأنّه مفتاح بيت الله الحرام.

(قال الواقدي): فأفاق القوم من سكرهم فقام أبو العاص وذهب نحو الخمّار ليسترجع المفتاح وقد استرجعه عامر بن شيبة، فغضِب أبو العاص وذهَب بجماعة من أهل بيته إلى باب دار عامر، فضربوه واعتدَوا عليه واسترجعوا منه المفتاح على الكره فانصرف أبو العاص فرِحاً مسروراً فغضب عامر وذهَب إلى مقام إبراهيم

٥٢

الخليل (عليه السلام) ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ البيت العتيق، والركن الوثيق والحجَر الغريق وزمزم الدقيق، أنتَ تعلم أنّ أبا العاص رهَن المفتاح في ثمَن الشراب، واستخفّ ببيتك ولم يعرِف حقّ بيتك وأنا استرجعته وغسلته وفعلتُ به ما فعلت، اللهم إني أسألك أنْ تسلب هذا العزّ عن أبي العاص ومن أهل بيته، ثمّ رجع إلى منزله

(قال الواقدي): فأصبح أهل مكّة يوم الثاني وكان في الحرَم واجتمع الخلق بباب بيت الله الحرام يزورونه، فما كان إلاّ هُنيئة حتى جاء أبو العاص ومعه المفتاح، والناس يتأخّرون عن طريقه تعظيماً له إذ كان هو صاحب مفتاح بيت الله الحرام، فدنا أبو العاص إلى فتح الباب فأدخَل المفتاح في مجرى القفل فلَم يدخل فيه المفتاح، فاحتال أبو العاص كلّ حيلة أنْ ينبعث المفتاح في القفل فلَم يدخل فيه بأمر الله وقدرته، فانتفخت يد أبي العاص من مداومة نفسه من الشدّة فوقَعَت الصيحة في العرَب، إنّ باب بيت الله الحرام قد انغلق حتى ما عاد أنْ ينفتح فتعجّب الخلق من ذلك وبقى الباب مغلوقاً، والناس في مصيبةٍ عظيمةٍ من أمره، فلمّا أتى على الناس شهر اجتمع بمكّة زهاء ألف رجل على أنْ يزوروا بيت الله الحرام وقد نالهم الضجر لتطاول الأمر عليهم.

فلمّا أصبحوا يوم الاثنين هتَف بهم هاتف يقول: إنّ باب بيت الله لا ينفتح على يدِ مَن يرهن المفتاح عند الخمّار، وليس لكم حيلة دون أنْ تصدّوا كلّكم إلى عامر بن شيبة وتدفعوا إليه المفتاح، فإنّ الله قد سلَب من بني أُميّة هذا العز، فصار الناس كلّهم إلى عامر بن شيبة وأخبروه بما كان من قول الهاتف، فسمِع عامر منهم ذلك فسار إلى باب بيت الحرام ومعه المفتاح، فقال: بسم الله ربّ السماء وأدخَل المفتاح في مجرى القفل فانفتح بأمر الله تعالى فدخل الخلق إلى بيت الله الحرام، وسلب الله تعالى من بني أُميّة عزّهم وجعله إلى عامر بن شيبة وجعله عقباً بعد عقب، ثمّ إنّه لا ينفتح إلى الساعة إلاّ على يدَي عامر وأولاده فبقى عنده المفتاح إلى يوم فتح مكّة، فلمّا فتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مكّة وكان في أيّام الحج فجعل غزوه سببا لحجّه، فلمّا

٥٣

دخلها ذهَب إلى مكّة بيت الله الحرام وإذا الباب مغلق وكان عامر قد توارى مع المفتاح، فبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في طلبه فوقَع به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: يا عامر، أين المفتاح فقال: هو ليس معي ففتّشه فلَم يكن معه فذهب إلى امرأته وقال لها: ويلَك أين المفتاح فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واقف، قالت: يا ابن أبي طالب، مالي به عِلم فعلا بسيفه وأراد ضربها فرفَعت المرأة يدها لتتّقي السيف فسقط من تحت ذيلها المفتاح، فوثب عامر بن شيبة وأخذه وقال: يا علي، أنا أسير به معك فذهَب عامر بالمفتاح إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّي قادر على فتحه دون المفتاح غير أنّي أحببت أنْ أفتحه به)، فأخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) المفتاح وفتحه، وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يُريد الدخول وكان يُريد أنْ ينزع هذا الشرف من عامر فاغتمّ لذلك عامر، فأنزل الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ، فردّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المفتاح إلى عامر بن شيبة وبقي ذلك في يده وبيد عقِبه إلى الآن.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ المفتاح بقيَ عند عامر إلى أيّام بني هاشم، فلمّا كان في أيّامهم زار الخلق بيت الله الحرام وطرحوا في تلك الوهدة من العجائب من ذهَب وفضّة ودرّ ومرجان وزبرجَد، فلمّا مرّ خَزَنَة البيت همّوا بغلقه فعمِد رجلٌ منهم إلى البيت فقبض على ما اجتمع في الوهدة وسرَق منه، ولم يعلَمْ به أحد وغلقوا الباب وفرّ السارق بالمال فأخفاه من أصحابه.

قال: فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني اجتمعت خَزَنَة البيت واعترفوا على أخذ باقي المال ليتقاسموه بينهم، ففتحوا الباب فإذا بحيّةٍ قد جمَعت نفسها في الوهدة وهي حمراء كأنّها قطعةُ دم ولها رأسان رأسٌ عند ذنبها ورأسٌ عند عنقها، وهي تنفخ وتصفر فنظر الخَزَنَة فلم يجسِر أحدٌ أنْ يتقدّم إلى الوهدة لصولتها وهيبتها، وكانت منطوية في الوهدة مدورة فبقيَ الخلق متعجّبين منها وممّا عاينوا منها، فقالوا: يا قوم، مَن كان منكم أذنَب فليتب إلى ربّه وليقرّ بذنبه فما ظهَرَت هذه الحيّة في بيت الله الحرام إلاّ لأحدٍ قد أحدَث خطيئة.

(قال الواقدي): فجاء‌هم الرجل السارق فأقرّ بما فعَل، فقالوا كلّهم: ويلَك أما علِمتَ أنّ

٥٤

بيت الله الحرام لا يحتمِل الغشّ والخيانة، فأمروه بردّ ما سرَق جميع ذلك، فأخذه القوم ثمّ قالت الحيّة: أيّها العرَب وجيران بيت الله الحرام، إيّاكم والغش والخيانة فإنّ الله تعالى لا يرضى بذلك، وتأخّرت الحيّة إلى عند الميزاب وغابت في الأرض إلى الساعة، وقال محمّد بن اسحق: بل جاء‌ت حمامة طائرة ودخَلَت بيت الله الحرام وهي عظيمة الحلْق وأخذت الحيّة بمنقارها، وخرجت نحو سكّة الحنّاطين فغابت وما ظهَرَت بعد ذلك إلى أيّام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو بعد ثلاثين سنة وهذا ما وجدناه من الخبر بالتمام والكمال.

٥٥

مولد الإمام عليّ (عليه السلام)

أخبَرنا الشيخ الإمام العالم الورِع الناقل، ضياء الدين، شيخ الإسلام أبو العلاء الحسَن بن أحمد بن يحيى العطّار الهمَدَاني (رحمه الله)، في همَدَان في مسجده، في الثاني والعشرين من شعبان، سنة ثلاث ثلاثين وستّمِئة، قال: حدّثنا الإمام ركن الدين أحمد بن محمّد بن إسماعيل الفارسي قال: حدّثنا عُمَر بن روق الخطابي قال: حدّثنا الحجّاج بن منهال، عن الحسن بن عمران، عن شاذان بن العلاء قال: حدّثنا عبد العزيز، عن عبد الصمد عن سالم، عن خالد بن السري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن ميلاد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال:

(آه آه، سألت عجَبَاً يا جابر، عن خيرِ مولود ولِد بعدِي على سنة المسيح، إنّ الله تعالى خلَقه نوراً من نوري وخلقني نوراً من نوره، وكلانا من نورٍ واحد، وخلقنا من قَبل أنْ يخلق سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحية، ولا كان طول ولا عرض ولا ظلمة ولا ضياء، ولا بحر ولا هواء بخمسين ألف عام، ثمّ إنّ الله عزّ وجل سبّح نفسه فسبّحناه وقدّس ذاته فقدّسناه ومجّد عظَمَتَه فمجّدناه، فشَكَر الله تعالى ذلك لنا فخلق من تسبيحي السماء فمسَكَها والأرض فبطَحَها والبحار فعمّقها، وخلق من تسبيح عليّ الملائكة المقرّبين فجميع ما سبّحت الملائكة لعليّ وشيعته، يا جابر، إنّ الله تعالى عزّ وجل نسَلَنا فقذَف بنا في صلب آدم (عليه السلام)، فأمّا أنا فاستقررت في جانبه الأيمن، وأمّا علي فاستقرّ في جانبه الأيسر، ثمّ إنّ الله عزّ وجل نقلنا من صلب آدم (عليه السلام) في الأصلاب الطاهرة، فما نقَلَني من صلبٍ إلاّ نقَل عليّاً معي فلَم نزَل كذلك حتى

٥٦

أطلعنا الله تعالى من ظهرٍ طاهر، وهو ظهر عبد المطّلب، ثمّ نقلني من ظهرٍ طاهر وهو ظهر عبد الله واستودعني خير رحِم وهي آمنة فلمّا ظهَرَت ارتجّت الملائكة وضجّت وقالت: إلهنا وسيّدنا ما بال وليك عليّ لا نراه مع النور الأزهر؟ - يعنون بذلك محمّداً - فقال الله عزّ وجل: إنّي أعلم بولّيي وأشفَق عليه منكم، فأطلَع الله عزّ وجل عليّاً من ظهرٍ طاهر من بني هاشم فمِن قَبْل أنْ يصير في الرحِم، كان رجلٌ في ذلك الزمان وكان زاهداً عابداً يقال له المثرم بن زغيب الشيقبان، وكان من أحد العبّاد قد عَبَدَ الله تعالى مِتين وسبعين سنَة لم يسأله حاجة إلاّ أجابه، إنّ الله عزّ وجل أسكَن في قلبه الحكمة وألهَمَه بحُسن طاعته لربّه، فسأل الله تعالى أنْ يُريه وليّاً له فبَعث الله تعالى أبا طالب فلمّا بصَر به المثرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بيَن يدَيه، ثمّ قال له: مَن أنت يرحمك الله تعالى؟

فقام رجلٌ من تهامة - قال: أي نهامة، فقال: مِن عبد مناف، ثمّ قال: من هاشم فوثَب العابد وقبّل رأسه ثانيةً وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني وليّه ثمّ قال: أبشر يا هذا فإنّ العليّ الأعلى ألهَمَني إلهاماً فيه بشارتك، فقال أبو طالب: وما هو؟ قال ولَد يُولد من ظهرِك هو وليّ الله عزّ وجل إمام المتّقين ووصيّ رسول ربِّ العالمين، فإنْ أنتَ أدركت ذلك الولد من ظهرِك فاقرأه منّي السلام، وقل له: إنّ المثرم يقرأ عليك السلام ويقول: أشهَدُ أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) به تتمّ النبوّة، وبعليّ تتمّ الوصيّة، قال: فبكى أبو طالب وقال: ما اسم هذا المولود؟ قال: اسمه عليّ، قال أبو طالب: إنّي لا أعلم حقيقةَ ما تقول إلاّ ببرهان مبينٍ ودلالةٍ واضحة قال المثرم: ما تريد؟ قال: أُريد أنْ أعلم ما تقوله حقٌّ من ربِّ العالمين ألهمك ذلك، قال: فما تريد أنْ اسأل لك الله تعالى أنْ يطعمك في مكانك هذا؟ قال أبو طالب أُريد طعاماً من الجنّة في وقتي هذا، قال: فدعا الراهب ربّه قال جابر قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فما استتمّ المثرم دعاءه حتى أُوتي بطبقٍ عليه فاكهةٍ من الجنّة وعذق رطَبٍ وعِنَب ورمّان، فجاء به المثرم إلى أبي طالب فتناول منه رمّانة

٥٧

ثمّ نهض من ساعته إلى فاطمة بنت أسد (رضي الله عنه) فلمّا استودعها النور، ارتجّت الأرض وتزلزلت بهم سبعة أيّام حتى أصاب قريشاً من ذلك شدّة ففزعوا، فقالوا: مروا بآلهتكم إلى ذروة جبَل أبي قُبيس حتى نسألهم يُسكنون لنا ما نزَل بنا وحل بساحتنا، قال: فلمّا اجتمعوا على جبَل أبي قُبيس وهو يرتجّ ارتجاجاً ويضطرب اضطراباً، فتساقطت الآلهة على وجهها فلمّا نظروا ذلك قالوا: لا طاقة لنا ثمّ صعَد أبو طالب الجبَل وقال لهم: (أيّها ألناس، اعلموا أنّ الله تعالى عزّ وجل قد أحدَث في هذه الليلة حادثاً وخلق فيها خلقاً، فإنْ لم تطيعوه وتقرّوا له بالطاعة وتشهدوا له بالإمامة المستحقّة، وإلاّ لم يسكن ما بكم، حتى لا يكون بتهامة سكَن قالوا: يا أبا طالب، إنّا نقول بمقالتك، فبكى ورفَع يدَيه وقال، إلهي وسيّدي أسألك بالمحمّدية المحمودة والعلويّة العالية والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة.

قال جابر: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فوالله الذي خلق الحبّة وبرَأ النسَمة قد كانت العرَب تكتب هذه الكلمات، فيدعون بها عند شدائدهم في الجاهلية وهي لا تعلمها ولا تعرف حقيقتها، متى ولد عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، فلمّا كان في الليلة التي ولِد فيها (عليه السلام) أشرقت الأرض و تضاعَفَت النجوم، فأبصرت من ذلك عجباً فصاح بعضهم في بعض وقالوا: إنّه قد حدَث في السماء حادث، إلا ترون إشراق السماء وضياء‌ها وتضاعف النجوم بها، قال: فخرج أبو طالب وهو يتخلّل سكك مكّة ومواقعها وأسواقها وهو يقول لهم: أيّها الناس ولِد الليلة في الكعبة حجّة الله تعالى ووليّ الله فبقيَ الناس يسألونه عن علّة ما يرون من إشراق السماء، فقال: لهم أبشروا فقَد ولِد في هذه الليلة وليٌّ مِن أولياء الله عزّ وجل، يختم به جميع الشر ويتجنّب الشرك والشبُهات، ولم يزل يذكر هذه الألفاظ حتى أصبح فدخل الكعبة وهو يقول: هذه الأبيات:

يا ربّ ربّ الغسَق الدجي

والقمَر المـُنبلِج المـُضي

بيّن لنا مِن حُكمك الـمَقضي

ماذا ترى لي في اسم ذا الصبي

٥٨

فسمع هاتفاً يقول:

خُصِصتما بالولدِ الزكيّ

والطاهر المطهّر المرضي

إنّ اسمه مِن شامخٍ عليّ

علِيٌّ اشتق من العلي

فلمّا سمِع هذا خرَج من الكعبة وغاب عن قومه أربعين صباحاً. قال جابر: فقلت يا رسول الله، عليك السلام أين غاب؟ قال: (مضى إلى المثرم ليبشّره بمولد عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) في جبَل لكام، فإنْ وجده حيّاً بشّره وإنْ وجده ميّتاً أنذره)، فقال جابر: يا رسول الله، فكيف يعرف قبره وكيف ينذره؟ فقال: يا جابر، اكتم ما تسمع فإنّه مِن سرائر الله تعالى المكنونة، وعلومه المخزونة، إنّ المثرم كان قد وصَف لأبي طالب كهفاً في جبَل لكام وقال له: إنّك تجدني هناك حيّاً او ميّتاً، فلمّا أنْ مضى أبو طالب إلى ذلك الكهف ودخله، فإذا هو بالمثرم ميّتاً جسده ملفوف في مدرعتين مسجّى بهما وإذا بحيّتين إحداهما أشدّ بياضاً من القمَر، والأُخرى أشدّ سواداً من الليل المظلم وهما يدفعان عنه الأذى فلمّا أبصرتا أبا طالب غابتا في الكهف، فدخل أبو طالب وقال:

السلام عليك يا وليّ الله ورحمة الله وبركاته، فأحيى الله تعالى بقدرته المثرم فقام قائماً وهو يمسح وجهه وهو يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنّ عليّاً وليَّ الله وهو الإمام من بعده، ثمّ قال له المثرم: بشّرني يا أبا طالب، فقد كان قلبي متعلّقا حتى مَنّ الله تعالى عليّ بك وبقدومك، فقال له أبو طالب: أبشر فإنّ عليّاً طلَع إلى الأرض قال: فما كان علامة الليلة التي ولِد فيها؟ حدّثني بأتمّ ما رأيت في تلك الليلة.

قال أبو طالب: نعم أُخبرك بما شاهدته لمّا مرّ من الليل الثُلث أخذ فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ما يأخذ النساء عند ولادتها، فقرأت عليها الأسماء التي فيها النجاة فسكَن بإذن الله تعالى فقلت لها: أنا آتيك بنسوة من أحبّائك ليعينوك على أمرك قالت: الرأي لك فاجتمعن النسوة عندها فإذا بهاتف يهتف مِن وراء البيت: (امسك عنهنّ يا أبا طالب فإنّ وليّ الله لا تمسّه إلاّ يدٌ مطهّرة) فلَم يتمّ الهاتف كلامه حتى أتى محمّد بن عبد الله ابن أخي فطرد

٥٩

تلك النسوة وأخرجهن من البيت، وإذا أنا بأربع نسوة قد دخلْن عليها وعليهن ثيابٌ من حرير بيض، وإذا روايحهن أطيب من المسك الأذفر فقلن: السلام عليك يا وليّة الله، فأجابتهن بذلك، فجلسن بين يديها ومعهنّ جونة من فضّة فما كان إلاّ قليلاً حتى ولِد أمير المؤمنين (عليه السلام) فلمّا أنْ ولِد بينهنّ فإذا به قد طلّع (عليه السلام) فسجَد على الأرض وهو يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وحدة لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً رسول الله تُختَم به النبوّة وتُختَم بي الوصيّة).

فأخذته إحداهن من الأرض ووضعته في حِجرها فلمّا حمَلته نظر إلى وجهها ونادى بلسانٍ طلِق يقول: (السلام عليك يا أُمّاه)، فقالت: وعليك السلام يا بني، فقال: (كيف والدي؟) قالت: في نِعَم الله عزّ وجل، فلمّا أنْ سمِعْت ذلك لم أتمالك أنْ قلت: يا بنيّ أو لستُ أنا أباك فقال: (بلى ولكن أنا وأنت مِن صلبِ آدم فهذه أُمّي حوّاء)، فلمّا سمعت ذلك غضضت وجهي ورأسي وغطّيته بردائي وألقيت نفسي حياءً منها (عليها السلام) ثمّ دنت أُخرى ومعها جونة مملوء‌ة من المسك فأخذت عليّاً (عليه السلام) فلمّا نظَر إلى وجهها قال: (السلام عليك يا أُختي)، فقالت: وعليك السلام يا أخي فقال: (ما خبَر عمّي؟) قالت: بخير فهو يقرأ عليك السلام، فقلت: يا بنيّ، مَن هذي ومَن عمّك؟

فقال: (هذه مريم ابنة عمران (عليها السلام) وعمّي عيسى (عليه السلام)) فضمّخته بطيبٍ كان معها من الجنّة ثمّ أخذته أخرى فأدرجته في ثوبٍ كان معها فقال أبو طالب: لو طهّرناه كان أخفّ عليه وذلك إنّ العرب تطهّر مواليدها في يوم ولادتهم فقلن: أنّه ولِد طاهراً مطهّراً؛ لأنّه لا يذيقه الله حرّ الحديد إلاّ على يدَي رجلٍ يبغضه الله تعالى وملائكته والسموات والأرض والجبال، وهو أشقى الأشقياء فقلت لهن، مَن هو؟ قلن هو عبد الله بن ملجم لعنه الله تعالى وهو قاتله بالكوفة سنة ثلاثين من وفاة محمّد (صلّى الله عليه وآله) قال أبو طالب: فأنا كنت استمع قولهنّ ثمّ أخذه محمّد بن عبد الله أخي من أيديهن ووضَع يدَه في يده وتكلّم معه وسأله عن كلّ شيء فخاطب محمّد (صلّى الله عليه وآله) عليّاً وخاطب عليٌّ محمداً بأسرار

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فصل

في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد

(أحدها) أنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بايدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار بمقدار واف بمعظم الفقه بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لا نحل علمنا الاجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الامارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد ساير الامارات غير المعتبرة

______________________________

الوحي وانتهاء التشريع كان ذلك ظاهرا في الاستمرار والامتداد فلاحظ (قوله: احدها انه يعلم اجمالا) يكفي في صدق هذه الدعوى ملاحظة بعض فوائد الوسائل المتضمنة لذكر القرائن على صحة الكتب الاربعة فلاحظ (قوله: بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار) يمكن تصوير العلم الاجمالي في المقام على وجوه (الاول) انا نعلم بصدور جملة من الاخبار مرددة بين جميع الاخبار المودعة في كتب اصحابنا (رض) كما نعلم بانشاء أحكام الزامية في جميع ما هو محتمل الطريقية كالخبر والشهرة وغيرهما بحيث يحتمل انطباق جميع ما هو معلوم من الاحكام على مؤديات تلك الاخبار المعلومة بالاجمال، ولازم ذلك أن لو علم تفصيلا بتلك الاخبار الصادرة لم يبق لنا علم اجمالي بتكليف الزامي غير مؤدياتها وان كان يحتمل، ولا ريب في هذه الصورة في انحلال العلم الاجمالي بالتكليف بالعلم الاجمالي بالاخبار الصادرة فلا يجب الاحتياط في اطراف الاول ويجب الاحتياط في اطراف الثاني كما لو شهدت البينة بنجاسة اناء من اواني زيد وشهدت بينة اخرى بنجاسة اناء ابيض من اواني زيد فلا يجب الاحتياط حينئذ الا بالاواني البيض لزيد لا غير (الثاني) انا نعلم بصدور جملة من الاخبار كما ذكر سابقا ونعلم بانشاء جملة من الاحكام الالزامية اكثر عددا من الاخبار الصادرة المعلومة اجمالا بحيث لا يحتمل انطباقها بتمامها على مؤديات تلك

١٤١

ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع

______________________________

الاخبار وان احتمل انطباق مقدار مساو للاخبار وبقاء مقدار آخر مردد بين الاخبار التي هي اطراف العلم الاجمالي بصدور الأخبار وبين غيرها من محتمل الطريقية، ولازم ذلك أن لو عزلنا مقدارا مساويا للاخبار المعلومة الصدور اجمالا كان العلم الاجمالي بالتكليف فيما عدا ذلك المقدار المعزول باقيا بحاله وان كان نفس المعلوم حينئذ أقل من المعلوم الاصلي قبل العزل ولا ينبغي التأمل في مثل ذلك في وجوب الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي بالتكليف ولا يكفي الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي بالاخبار وان احتمل انطباق تمام المعلوم الاول على اطرافه إذ لا يكفي هذا المقدار في الانحلال بل لابد فيه من احتمال انطباق تمام المعلوم باحد العلمين على المعلوم بالعلم الآخر، وهو غير حاصل لاختلاف المقدار، ونظيره ما لو شهدت البينة بوجود شاة موطوءة في غنم زيد البيض وشهدت بينة اخرى بوجود شاتين موطوءتين في مطلق غنم زيد مرددتين بين البيض والسود فيجب الاحتياط في البيض والسود معا ولا يكفي الاحتياط في البيض فقط (الثالث) انا نعلم بصدور جملة من الاخبار كما سبق ونعلم بانشاء جملة من الاحكام الالزامية مساوية لها في المقدار إلا انها موصوفة بصفة محتملة الثبوت والعدم في مؤديات الاخبار الصادرة فعلى تقدير وجود الصفة في مؤديات الأخبار أمكن انطباق الاحكام عليها، وعلى تقدير العدم امتنع الانطباق وهذا كالأول في انحلال العلم الثاني بالأول فلا يجب الاحتياط الا في اطرافه ومثله ما لو شهدت البينة بوجود شاة موطوءة في قطعة خاصة من غنم زيد وشهدت بينة اخرى بوجود شاة موطوءة بيضاء في غنم زيد مطلقا بحيث كانت مرددة بين جميع افراد غنمه، ولا يجب الاحتياط في مثله الا في القطعة الخاصة لاحتمال انطباق المعلوم الثاني على المعلوم المردد في تلك القطعة والمصنف (ره) قرر الاستدلال على النحو الأول والشيخ (ره) في رسائله قرره على الوجه الثاني، واورد عليه اولا بان اللازم وجوب الاحتياط بالعمل في جميع الامارات ولا يختص بالأخبار كما سيشير إليه المصنف (ره) (قوله: ولازم ذلك لزوم)

١٤٢

الأخبار المثبتة وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل يثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب بناء على جريانه في أطراف علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه وإلا لاختص عدم جواز العمل على وفق الثاني بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال (وفيه) أنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر بحيث يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم وان كان

______________________________

للعلم بوجوب العمل بالخبر الصادر فيجب العمل بكل ما هو محتمل الصدور من الأخبار (قوله: الاخبار المثبتة) لأن العلم الموجب للاحتياط هو العلم بصدور الخبر المثبت لأنه علم بالتكليف الالزامي اما العلم بصدور الخبر النافي فلا يترتب عليه اثر لعدم تعقله بالتكليف نعم يجوز العمل بالخبر النافي لو لم يكن هناك مانع كما لو كان اصل يقتضي الاحتياط كقاعدة الاشتغال أو مثبت للتكليف كاستصحاب التكليف، وكون الاستصحاب لم تثبت حجيته الا بالخبر غير المعلوم الحجية لا يقدح في منعه عن العمل بالخبر بالنافي لأن العمل بالاستصحاب عمل بالخبر المثبت (قوله: بناء على جريانه في اطراف) يعني إنما يمنع الاستصحاب المثبت عن العمل بالخبر النافي لو بنينا على حجيته في اطراف الشبهة المحصورة وأن العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة غير قادح في جريانه مطلقا وانما يقدح إذا كان العلم مثبتا للتكليف والاستصحاب نافيا أما إذا بنينا على قدح العلم الاجمالي مطلقا من جهة لزوم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب وذيله كما أشرنا إليه في مبحث الموافقة الالتزامية ويجيئ بيانه في محله فمخالفة الاستصحاب للخبر النافي غير مانعة من العمل بالخبر لعدم حجيته فيختص المانع عنه بقاعدة الاشتغال فقط، ثم إن المناسب لهذا الاستدراك من المصنف (ره) أن الاستصحاب المثبت مطلقا مبتلى بعلم اجمالي على خلافه هو غير ظاهر (قوله: من عموم أو اطلاق) هذا على طريقة

١٤٣

يسلم عما أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الامارات لا في خصوص الروايات لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي بينها بما علم بين الأخبار بالخصوص ولو بالاجمال فتأمل جيدا (ثانيها) ما ذكره في الوافية مستدلا على حجية الاخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير رد ظاهر وهو أنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ولا سيما بالاصول الضرورية كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والانكحة ونحوها مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر غير القطعي بحيث نقطع بخروج حقايق هذه الأمور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد ومن أنكر فانما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان انتهى، وأورد عليه أولا بان العلم الاجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الاخبار لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكره فاللازم حينئذ إما الاحتياط أو العمل بكل ما دل على جزئية شئ أو شرطيته (قلت): يمكن أن يقال: إن العلم الاجمالي وان كان حاصلا بين جميع الاخبار إلا أن العلم بوجود الاخبار الصادرة عنهم - عليهم السلام - بقدر الكفاية بين تلك الطائفة أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها يوجب انحلال ذاك العلم الاجمالي وصيرورة غيره خارجا عن طرف العلم كما مرت إليه الاشارة في تقريب الوجه الاول. اللهم إلا أن يمنع عن ذلك وادعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره

______________________________

اللف والنشر المرتب (قوله: يسلم عما أورد عليه) قد عرفت الاشارة إلى أن هذا الايراد من الشيخ في رسائله انما صدر من جهة تقريره العلم الاجمالي على الوجه الثاني كما يظهر من ملاحظة كلامه في تقريب الايراد فليلحظ (قوله: وأورد عليه أولا) المورد شيخنا العلامة في رسائله (قوله: المشروطة بما ذكر) يعني كونه موجودا في الكتب المعتمدة وعمل جمع به من غير رد ظاهر (قوله: إما الاحتياط أو العمل) عبارة الرسائل هكذا. فاللازم حينئذ اما الاحتياط

١٤٤

أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها فتأمل (وثانيا) بان قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية دون الاخبار النافية لهما، والاولى أن يورد عليه بان قضيته إنما هو الاحتياط بالاخبار المثبتة فيما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منها أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلا كما لا يخفى (ثالثها) ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه أنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة فان تمكنا من الرجوع اليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه فلابد من الرجوع اليهما كذلك والا فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة

______________________________

والعمل بكل خبر دل على جزئية شئ أو شرطيته واما العمل بكل خبر ظن صدوره مما دل على الجزئية أو الشرطية. انتهى، والمراد منها ظاهرا أن العلم الاجمالي بموافقة جملة من الاخبار الدالة على الجزئية ونحوها يوجب الاحتياط بالعمل بكل خبر دل على ذلك ومع تعذره أو لزوم الحرج ينتقل إلى الظن بالصدور كما يأتي بيانه في دليل الانسداد (قوله: أو ادعي العلم بصدور) لا يحتاج إلى دعوى العلم بصدور اخبار اخر في غير ما جمع الشرائط المذكورة بل يكفي في وجوب الاحتياط دعوى العلم الاجمالي بصدور مقدار من الاخبار اكثر من المقدار المعلوم بالاجمال في خصوص ما جمع الشرائط وان لم يعلم بوجوده في غير ما جمع الشرائط كما ذكرنا (قوله: فيما لم تقم حجة معتبرة) إذ مع قيام الحجة المعتبرة على نفي التكليف لا تجري اصالة الاحتياط في العمل الخبر المثبت له كما لو قامت البينة على طهارة أحد اطراف الشبهة المحصورة، ثم إن هذا التقييد في كلام المصنف (ره) هو الفارق بينه وبين ايراد شيخه (ره) (قوله: بعض المحققين) هو الشيخ محمد تقي في حاشيته على المعالم (قوله: إلى الكتاب والسنة) إن كان المراد بالسنة قول المعصوم وفعله وتقريره فدعوى الاجماع والضرورة منه على

١٤٥

هذا التكليف فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار فلابد من التنزل إلى

______________________________

وجوب الرجوع إليها في محله، لكن لا يحسن قوله: فان تمكنا من الرجوع.. الخ، إذ لا يعتبر في جواز الرجوع إلى الكتاب والسنة بذلك المعنى حصول العلم بالحكم إن أمكن والا كفى الظن به، مع ان هذا لا يرتبط باثبات حجية خبر الواحد الا بتوسط مثل الوجه الاول بان نقول: يجب الرجوع إلى السنة ونعلم بحصولها في جملة من الاخبار التي بايدينا فيجب العمل بالجميع من باب الاحتياط، وان كان المراد بها الخبر الحاكي عن السنة بالمعنى الأول فدعوى الاجماع والضرورة على وجوب الرجوع إليها بهذا المعني ايضا في محلها إلا انه يرد عليه الاشكال السابق من عدم لزوم حصول العلم منها وعدم اقتضائه حجية الخبر الا بضميمة الوجه الاول فيكون هذا الوجه هو الوجه الاول بعينه لأن الاخبار الصادرة عن الأئمة - عليهم السلام - هي الاخبار الحاكية عن السنة. وان كان المراد بها مطلق الخبر الحاكي عن السنة ولو لم يعلم ذلك فتكون عين الاخبار المدونة في الكتب، فدعوى الاجماع والضرورة على وجوب الرجوع إليها مطلقا ممنوع، سوى ما حكي عن الشيخ وغيره من دعوى الاجماع في الجملة كما استشكله بذلك شيخنا (ره) في رسائله. مع أنه لو كان هذا هو المراد لم يحتج إلى إطالة الكلام بالنقض والابرام، ولا جعل دعوى الاجماع والضرورة من مقدمات الاستدلال بل كان راجعا إلى دعوى الاجماع والضرورة على حجية الخبر. ومن هنا حمل المصنف - رحمه الله - كلامه على ارادة دعوى الضرورة والاجماع على وجوب الرجوع إلى السنة بالمعنى الثالث لا مطلقا، بل في الجملة بنحو القضية المهملة كما سيصرح به المصنف (ره) في آخر عبارته وإذا ثبت ذلك فان أمكن الرجوع اليهما بنحو يحصل القطع بالحكم الواقعي للقطع بالصدور والدلالة أو ما بحكم القطع به للقطع بالاعتبار فهو والا فلابد من الرجوع اليهما بنحو يحصل الظن بالحكم فإذا لم يقم دليل على اعتبار الخبر لابد من الرجوع إليه لافادته الظن بالحكم (قوله: هذا التكليف) يعني التكليف بالرجوع إلى السنة (قوله: فلو لم يتمكن من القطع) تفصيل لما بينه في تقرير الدليل

١٤٦

* الظن باحدهما (وفيه) أن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة كما صرح بانها المراد منها في ذيل كلامه - زيد في علو مقامه - إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الاخبار المتيقن الاعتبار فان وفى وإلا أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة لو كان والا فالاحتياط بنحو عرفت لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره وذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا فلا وجه مع من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره. هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة بذاك المعنى فيمما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع وأما الايراد عليه برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية وإما إلى الدليل الأول لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بايدينا من الاخبار ففيه أن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

______________________________

فان صورة التمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار هي صورة حصول العلم بالحكم أو ما بحكم العلم (قوله: انما هي الاقتصار في الرجوع) الظاهر أن هذا مما اعترف به المستدل بقوله: فان تمكنا.. الخ وقوله (ره): فلو لم يتمكن. الخ إلا أن استدلاله المذكور مبني على عدم الدليل على حجية نوع خاص من السنة وبالجملة: المقدار المتيقن الاعتبار مطلقا أو بالاضافة داخل بقوله - رحمه الله -: فان تمكنا، وقوله: فلو لم يتمكن.. الخ واستدلاله مبني على عدم ذلك إذ هو مقتضي كونه دليلا في قبال غيره من الادلة (قوله: بنحو عرفت) يعني ما ذكره في الايراد على الوجه الثاني بقوله: والاولى ان يورد عليه... الخ (قوله: واما الايراد عليه برجوعه) المورد شيخنا العلامة (ره) في رسائله (قوله: فراجع تمام كلامه) لا يحضرني الآن كلامه لأراجعه إلا أن الذي في بالي ان كلامه مضطرب جدا، والله سبحانه

١٤٧

فصل

(في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن)

وهي أربعة (الاول) أن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر ودفع الضرر المظنون لازم أما الصغرى فلان الظن بوجوب شئ أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، وأما الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المضنون ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح

______________________________

أعلم (قوله: بناء على تعبية) قيد لقوله: أو الظن بالمفسدة، يعني أن الظن بالمفسدة بمني على القول المذكور (قوله: والمفاسد) يعني في متعلقات الأحكام (قوله: ولو لم نقل بالتحسين) قد عرفت سابقا أن وجوب دفع الضرر ليس من الأحكام العقلية بل هو من الفطريات التي جبلت عليها النفوس إذ لا ريب في بناء من له أدنى شعور وادراك على الفرار من الاضرار حتى الحيوانات والاطفال في مبدأ نشوئهم وإدراكهم، والوجدان أقوى شاهد عليه، والظاهر أنه لا فرق بين دفع الضرر وجلب النفع في ذلك، والمراد من كونه من الفطريات أنه إذا ادرك الفاعل المختار الضرر في شئ رجح عدمه على وجوده وتعلقت كراهته به فيفر عنه من دون توسط ادراك العقل حسن الفرار عن الضرر، وكذا إذا أدرك المنفعة في شئ رجح وجوده على عدمه وتعلقت ارادته به من دون توسط حكم العقل بحسنه، فادراك الضرر أو النفع في شئ موجب للفرار عنه أو السعي إليه من دون توقف على حكم عقله بحسنه أو قبحه فوجوب الفرار أو السعي انما هو بملاك وجوب تحصيل الغرض حيث أن الغرض دفع الضرر أو جلب النفع لا بملاك الحسن أو القبح العقليين، ومن هنا يظهر أنه لا يحسن تعبير المصنف (ره) بقوله:

١٤٨

* مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه إذا قيل باستقلاله ولذا أطبق العقلاء عليه مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح فتدبر جيدا. والصواب في الجواب هو منع الصغرى أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ومجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به كي يكون مخالفته عصيانه

______________________________

فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم.. الخ إذ لو لم نقل بالحسن والقبح العقليين لا يكون ذلك من المستقلات العقلية أصلا بل فطريا محضا، وان قلنا بالحسن والقبح العقليين يكون من المستقلات العقلية ايضا كما كان من الفطريات، لكنه يبتني على القول بالحسن والقبح العقليين، وبالجملة: وجوب الدفع من الفطريات وكونه من المستقلات العقلية يتوقف على القول بالحسن والقبح العقليين. فتأمل (قوله: مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه) يعني كما أن العقل إذا أدرك حسن فعل بناء عليه يكون إدراكه ذلك موجبا لترجحه وتعلق الارادة به من دون توسط حكم عقلي بوجوب فعل الحسن كذلك الحال في المقام - كما عرفت - فتأثير الضرر أو النفع في ترجح الوجود أو العدم نظير تأثير الحسن والقبح العقليين بناء عليهما في ذلك، وكما أن الثاني من الفطريات والجبليات فكذلك الأول (قوله: أما العقوبة فلضرورة) يعني انه إذا كانت الملازمة بين التكليف الواقعي وبين العقوبة كان الظن بالتكليف موجبا للظن بالعقوبة التي هي الضرر لأن الظن باحد المتلازمين مسلتزم للظن بالآخر أما إذا لم تكن الملازمة كذلك بل كانت بين المعصية وبين استحقاق العقوبة فالظن بالتكليف لا يسلتزم الظن بالعقوبة ولا باستحقاقها على تقدير مخالفة الظن فانه مع الشك في حجية الظن لا تكون مخالفته معصية، وإذا علم بانتفائها علم بانتفاء لازمها وهو العقوبة فمع الظن بالتكليف المشكوك الحجية يقطع بعدم الضرر (قوله: واستحقاق العقوبة) يعني لا فعلية العقوبة إذ

١٤٩

* إلا أن يقال: إن العقل وان لم يستقل بتنجزه بمجرده بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته الا انه لا يستقل ايضا بعدم استحقاقها معه فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظون قريبة جدا

______________________________

المعصية لا توجب فعلية العقوبة كما هو ظاهر (قوله: إلا أن يقال ان العقل) هذا استدراك على الجواب وحاصله: أن العقل وان لم يحكم بالملازمة بين التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة الا انه لا يحكم بانتفائها على تقدير ثبوت التكليف واقعا وحينئذ فمع الظن بالتكليف يشك في العقاب، وكما يجب دفع الضرر المظنون يجب دفع المشكوك فلا تجوز مخالفة الظن فرارا عن الضرر المشكوك الواجب الدفع هذا ولكن لا يخفي أنه ان أراد القائل بذلك منع قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيدعي جواز العقاب على التكليف الواقعي ولو لم يكن الظن حجة فذلك مما لا ينبغي التأمل في بطلانه فان قبح العقاب بلا بيان كاد أن يكون من الواضحات التي لا مجال لتطرق الريب والتردد فيها. وان أراد دعوى ان احتمال حجية الظن كاف في حسن العقاب على الواقع لأن احتمال الحجية مساوق لاحتمال وجود البيان على الواقع. ففيه أن البيان المصحح للعقاب هو خصوص البيان الواصل إلى المكلف، ومجرد كون الظن حجة في نفس الأمر والواقع ما لم يعلم به المكلف لا يصحح العقاب هذا كله مضافا إلى أن عموم ادلة الترخيص مع الشك في التكليف موجبة للقطع بعدم العقاب لامتناع العقاب في ظرف الترخيص وتقدم قاعدة وجوب دفع الضرر على أدلة البراءة الشرعية لا تقتضيه القواعد لأن قاعدة وجوب دفع الضرر لا يوجب علما بالتكليف أو ما هو بمنزلته فتأمل جيدا (قوله: ودعوى استقلاله) يعني أن ما ذكر وان لم يوجب تمامية صغرى الدليل لكن يوجب ثبوت صغرى اخرى وهو الشك في الضرر وهي لا تنطبق عليها كبرى الدليل لكن لا يبعد ثبوت كبرى اخرى وهو وجوب دفع الضرر المشكوك فتكون مع الصغري المتقدمة دليلا على المطلوب. ثم إنه يمكن أن يجاب عن الدليل المذكور (اولا) بناء على

١٥٠

لا سيما إذا كان هو العقوبة الأخروية كما لا يخفى وأما المفسدة فلانها وان كان الظن

______________________________

ارادة العقوبة من الضرر بانه لا يثبت المدعي بل ينافيه وذلك لان المقصود منه اثبات حجية الظن بمعنى كونه يصح لأجله العقاب، وهذا الدليل إنما اقتضى وجوب العمل على وفق الظن من جهة ترتب العقاب على مخالفته وهو عكس المطلوب وبعبارة أخرى المقصود من الحجية في المقام ما يكون علة للعقاب والثابت بالدليل ما يكون معلولا له كما هو ظاهر (وثانيا) بأن القاعدة المذكورة إذا كانت من القواعد الفطرية بملاك وجوب تحصيل الغرض فانطباقها واقعا تابع لنظر الفاعل المدرك، فقد يكون الضرر بلا مزاحم فيفر عنه، وقد يكون مزاحما بضرر أهم أو نفع كذلك فالأثر - اعني الترجيح - تابع لنظر الفاعل، فقد يكون العمل على طبق الظن مما يترتب عليه في نظره ضرر أهم أو فوات نفع كذلك، فلا بد أن يكون الاثر مستندا إليه، ولا مجال للتحكم على الفاعل بلزوم الفرار عن ضرر مخالفة الظن إذا كان يرى في نظره انه مزاحم بالأهم، ولذا ترى العصاة مع علمهم بالضرر في مخالفة العلم بالوجوب يقدمون عليه لمزاحمته بالاضرار أو المنافع الشهوية، وليس ذلك لبنائهم على عدم وجوب دفع الضرر المقطوع، بل لبنائهم على وجوب دفع الضرر الأهم وتحصيل النفع الأهم ولو لزم الوقوع في الضرر المهم، فالظان بالتكليف وان كان ظانا بالضرر في المخالفة من العقوبة والمفسدة إلا أنه إذا أقدم على مخالفة ذلك الظن لمزاحمة بالأهم عنده لا يكون ذلك مخالفا لقاعدة وجوب دفع الضرر المظنون، بل كان ذلك الاقدام منه اعمالا لها وجريا على مقتضاها. وبالجملة: القاعدة المذكورة مما يمتنع ان تكون من دواعي الترجيح لأن جميع الدواعي موضوعات لها بل ليس الغرض من جعل التكاليف المولوية الا تنقيح موضوع القاعدة المذكورة حيث أنها تكون منشأ للضرر في المخالفة على تقدير العلم بها فيكون ذلك الضرر موضوعا للقاعدة المذكورة، ولابد من التأمل التام في المقام (قوله: لاسيما إذا كان هو العقوبة) بناء على كون قاعدة وجوب دفع الضرر من القواعد العقلية فلا ريب في استقلال العقل بوجوب دفع

١٥١

بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه الا انها ليست بضرر على كل حال ضرورة ان كلما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه اصلا كما لا يخفى، وأما تفويت المصلحة فلا شبهة في انه ليس فيه مضرة بل ربما يكون في استيفائها المضرة كما في الاحسان بالمال هذا مع منع كون الأحكام تابعه للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها بل إنما هي تابعة لمصالح فيها

______________________________

الضرر الموهوم إذا كان اخرويا فضلا عن المشكوك، كيف وكل واحد من اطراف الشبهة المحصورة وموارد قاعدة الاشتغال والأصول المثبتة للتكليف بل وسائر موارد الحجج الدالة على التكليف من هذا القبيل غالبا كما هو ظاهر بأدنى تأمل (قوله: يوجب الظن بالوقوع) لأن المفسدة ملزومة للتكليف والظن باللازم يوجب الظن بالملزوم (قوله: ليست بضرر على) إذ لا ريب ان مفهوم المفسدة ليس عين مفهوم الضرر إذ المفسدة عبارة عن الجهة المقبحة في العقل التي صارت باعثا على كراهته تشريعا أو تكوينا وليس من لوازم العناوين المقبحة ان تكون ضررا فان عنوان العبث جهة مقبحة في الفعل وليس من سنخ الضرر أصلا، بل لو سلم انها عين الضرر لكن لا يلزم ان يكون راجعا إلى الفاعل فان مفسدة العدوان على مال الغير لو كانت راجعة إلى الضرر لكنها ليست راجعة إلى ضرر الفاعل بل ضرر غيره وقاعدة وجوب دفع الضرر مختصة بضرر الفاعل لا غيره. ثم إن غاية مقتضي الجواب المذكور أنه لا ملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالضرر، لكن لا مانع من احتمال الضرر فإذا بني على وجوب دفع الضرر المشكوك كما تقدم منه (قدس سره) لم يجز مخالفة الظن لانها اقدام على محتمل الضرر. الا ان يقال: ان ترخيص الشارع في الاقدام يدل على تدارك الضرر المظنون أو المحتمل فيتوقف على اثبات البراءة الشرعية كما افاده شيخنا الأعظم (ره) في رسائله في المقام وفى بحث الشبهة الموضوعية. لكن اورد عليه المصنف (ره) بان المفسدة الواقعية الحاصلة بالفعل

١٥٢

* كما حققناه في بعض فوائدنا. وبالجملة ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال وأنيط بهما الاحكام بمضرة وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال على القول باستقلاله بذلك هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه، ولعمري هذا أوضح من ان يخفى

______________________________

المنهي عنه على تقدير القول بها لا تتداركها مصلحة الترخيص لأنها قائمة بنفس الترخيص لا بالفعل فالفعل باق على ما هو عليه قبل الترخيص من حيث كونه ذا مفسدة فاحتمال الضرر غير المتدارك حاصل فيه. نعم هذا الاشكال لا يتأتى فيما لو كان الضرر المحتمل هو العقاب لان الترخيص ولو عن مصلحة فيه يمنع من ترتب العقاب كما عرفت فلو فرض احتمال العقاب لعدم حكم العقل بقبحه مع الظن بالتكليف فعموم أدلة البراءة الشرعية موجب للأمن منه والقطع بعدمه إلا أن يدعى عدم مجئ أدلة البراءة لحكومة القاعدة عليها، لكن عرفت ان قاعدة التحكيم تقتضي العكس لتوقف مجئ القاعدة على احتمال الضرر وادلة البراءة نافية له ولا يصح العكس لان القاعدة لا توجب علما بالتكليف كما هو ظاهر فلا توجب انتفاء موضوعها الموجب لانتفائها. فتأمل جيدا (قوله: كما حققناه في بعض فوائدنا) لا يخفى أن الذي حققه في بعض فوائده الذي رأيته هو كونها تابعة للمصالح والمفساد في متعلقاتها حيث قال فيها: فهنا دعويان الأولى عدم لزوم الالزام شرعا بما الزم به عقلا.. إلى ان قال: الثانية لزوم أن لا يلزم شرعا إلا بما الزم به عقلا وذلك لان الطلب الحقيقي والبعث الجدي الالزامي لا يكاد يكون الا بملاك يكون في المطلوب والمبعوث إليه... إلى أن اورد على نفسه بقوله: ان قلت: يكفي حسن التكليف وثبوت المصلحة في نفس الطلب والالزام من دون أن يكون مصلحة أو مفسدة في الواجب أو الحرام كما هو كذلك في غير مورد، ثم عد الأوامر الامتحانية والواجبات والمستحبات العبادية والاوامر والنواهي الظاهرية واوامر التقية. ثم قال: قلت: الطلب الحقيقي والالزام الجدي والبعث الواقعي لا يكاد

١٥٣

فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون ها هنا أصلا ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة فافهم (الثاني) أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح (وفيه) أنه لا يكاد يلزم منه ذلك الا فيما إذا كان الاخذ بالظن أو بطرفه لازما مع عدم امكان الجمع بينهما عقلا أو عدم وجوبه شرعا ليدور الامر بين ترجيحه وترجيح طرفه ولا يكاد يدور الامر بينهما الا بمقدمات دليل الانسداد وإلا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الاشخاص أو الاحوال في اختلاف المقدمات على ما ستطلع على حقيقة الحال (الثالث) ما عن السيد الطباطبائي - قدس سره - من أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما وترك ما يحتمل

______________________________

أن يتعلق بشئ ما لم يكن فيه بذاته أو بالوجوه والاعتبارات الطارية عليه خصوصية موافقة للغرض داعية إلى تعلق الطلب به حقيقة وإلا كان تعلق الطلب به دون غيره ترجيحا بلا مرجح، وهذا واضح... الخ، فهذا كله صريح في كونها تابعة لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد فلاحظ، ولعل مراده غير هذا المقام مما لم اعثر عليه والله سبحانه اعلم (قوله: فلا مجال لقاعدة دفع) بل عرفت ان التحقيق انه لا مجال للتمسك بها والعمدة هو الجواب الثاني المطرد في العقوبة وغيرها فلاحظه وتأمل (قوله: ولا استقلال للعقل) دفع لما يتوهم من أن الظن بالتكليف وان لم يستلزم الظن بالضرر لكنه مستلزم للظن بالمفسدة أو المصلحة ويكفي ذلك في وجوب العمل بالظن لاستقلال العقل بقبح ارتكاب ما فيه احتمال المفسدة أو ترك المصلحة، وحاصل الدفع: منع استقلال العقل بذلك (قوله: أو غيرهما) مثل الاستصحاب أو فتوى المجتهد (قوله: على حسب اختلاف الاشخاص) وذلك لاختلافهم في التمكن من الرجوع إلى العلم أو العلمي لاختلافهم في الاستظهار من الأدلة المتقدمة فإذا اتفق ثبوت ذلك لبعض لم يجز له الرجوع إلى الظن للتمكن

١٥٤

* الحرمة كذلك ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله لانه عسر أكيد وحرج شديد فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات لان الجمع على غير هذا الوجه باخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشوكات والموهومات باطل إجماعا، ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد فانه بعض مقدمات دليل الانسداد ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته ومعه لا يكون دليل آخر بل ذاك الدليل (الرابع) دليل الانسداد وهو مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الاطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف ولا يكاد يستقل بها بدونها وهي خمس (اولاها) انه يعلم اجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة (ثانيتها) أنه قد انسد علينا باب العلم

______________________________

من العلمي ولو كان الاحتياط ممكنا في حقه أو كان يرى جواز الرجوع إلى الأصل فلابد في الأخذ بالظن من ثبوت المقدمات الآتية (قوله: ولا يكاد يستقل بها بدونها وهي خمس) اما توقف استقلاله بذلك على ثبوت المقدمة الأولى فغير ظاهر إذ لو فرض كون التكاليف الواقعية محتملة ودار الأمر بين اهمالها، والاحتياط فيها، والرجوع إلى الأصل في كل مسألة بالنظر إليها، والتقليد، والاطاعة الوهمية والشكية دون الظنية وعكس ذلك وبطل ما عدا الأخير بالمقدمات الأربع تعين الأخير نعم يمكن أن تنفع في اثبات المقدمة الثالثة وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مسألة الذي تتكفله الرابعة لكن على هذا التقدير تكون من مقدمات تينك المقدمتين لا في عرضهما كما هو ظاهر، واما المقدمة الثالثة فيغني عنها المقدمة الرابعة فانه إذا لم يجز الرجوع إلى الأصول في كل مسألة كيف يجوز الاهمال وعدم التعرض للاحكام المحتملة بالمرة ؟ ومجرد الاختلاف مفهوما بالقصد أو نحوه لا يكفي في جعلهما مقدمتين متقابلتين يتوقف الاستنتاج على اثبات كل واحدة منهما مستقلا وان شئت قلت: لو قال في المقدمة الرابعة: يجب الأخذ بالاحتياط في موارد

١٥٥

والعلمي إلى كثير منها (ثالثتها) أنه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا (رابعتها) أنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا بل لا يجوز في الجملة كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط ولا إلى فتوى العالم بحكمها (خامستها) أنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا فيستقل العقل حينئذ بلزوم الاطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة وإلا لزم بعد

______________________________

الأصول النافية في الجملة لأغنى عن المقدمة الثالثة. فلا حظ وتأمل، وأما المقدمة الخامسة فالاحتياج إليها يتوقف على تعيين كون المانع من الرجوع إلى الاصل الجاري في كل مسألة مسألة مستقلا هو الاجماع أو العلم بالاهتمام أو انه العلم الاجمالي، فعلى الأخيرين يكون محتاجا إليها فانه لا موجب لتعيين الاحتياط في خصوص المظنونات الا تلك المقدمة أما إذا كان المستند في المنع هو الاجماع فيمكن دعوى عدم الحاجة إليها لقيام الاجماع من أول الأمر على لزوم الاحتياط في خصوص المظنونات. اللهم إلا أن يدعى عدم قيام الاجماع على ذلك وانما معقد الاجماع لزوم الاحتياط في الجملة فيحتاج في تعيينه إلى المقدمة المذكورة فإذا لابد من النظر فيه وسيجيئ في المقدمة الرابعة بيان بعض ما ذكرنا في كلام المصنف (ره) (قوله: والعلمي) المراد به مطلق الامارات المعتبرة (قوله: بل لا يجوز في الجملة) يعني إذا كان موجبا لاختلال النظام. ثم انه لا ينبغي أن يذكر هذا في المقدمات إذ يكفي عدم وجوب الاحتياط وعدم جوازه في الجملة وان كان حقا الا أنه لا يتوقف عليه الاستنتاج (قوله: واحتياط) المراد به اصالة الاحتياط الجارية في المسألة مع قطع النظر عن غيرها، وبذلك يفترق عن الاحتياط في قوله: لا يجب علينا الاحتياط، فان المراد به الاحتياط في كل مسألة وإن كان على خلاف الأصل فيها. ثم انه لا يتوقف الاستنتاج على المنع من العمل باصالة الاحتياط الجاري في المسألة من حيث هي وانما يتوقف على عدم جواز العمل بغيره من الاصول ومقصود المصنف - رحمه الله - ذلك كما يظهر بأدنى تأمل (قوله: ولا إلى فتوى) لا ينبغي

١٥٦

انسداد باب العلم والعلمي بها إما إهمالها، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها، وإما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة مع قطع النظر عن العلم بها أو التقليد فيها أو الاكتفاء بالاطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية والفرض بطلان كل واحد منها (أما المقدمة الاولى) فهي وإن كانت بديهية إلا أنه قد عرفت انحلال العلم الاجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين - عليهم السلام - التي تكون فيما بايدينا من الروايات في الكتب المعتبرة ومعه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات وهو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال ولا إجماع على عدم وجوبه ولو سلم الاجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال (وأما المقدمة الثانية) فاما بالنسبة إلى العلم فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بينة وجدانية يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد، وأما بالنسبة إلى العلمي فالظاهر أنها

______________________________

ذكر هذا في هذه المقدمة لأن فتوى المجتهد من قبيل الامارات العلمية والمتعرض لنفي ذلك هو المقدمة الثانية (قوله: قد عرفت انحلال) تقدم بيان ذلك في الدليل الأول من الأدلة العقلية (قوله: ومعه لا موجب للاحتياط) يعني مع هذا الانحلال يسقط العلم الاجمالي بثبوت التكاليف الكثيرة عن اقتضاء الاحتياط في كل ما هو محتمل التكليف ويكون الاثر للعلم بالاخبار الصادرة فيجب الاحتياط في أطرافه لا غير. وحينئذ لا مانع عن الاحتياط في اطرافه لعدم الحرج في ذلك ولا اجماع على عدم وجوبه فيجب الاحتياط في أطرافه ولا موجب للرجوع إلى الظن بل لا يجوز إذا كان مخالفا للاحتياط المذكور. ثم إنك عرفت ان المقدمة الأولى لا يتوقف عليها الدليل المذكور ويكفي مجرد احتمال التكاليف فيرجع هذا الاشكال في الحقيقة إلى انه لابد أن تتكفل المقدمة الرابعة عدم وجوب التبعيض في الاحتياط بالنحو المذكور أعني الاحتياط في موارد النصوص والرجوع إلى الأصل في غيرها كما تكفلت عدم وجوب الاحتياط مطلقا وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مسألة مسألة (قوله: ولو سلم الاجماع) لو وصلية يعني لو سلمنا الاجماع على

١٥٧

غير ثابتة لما عرفت من نهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقه وهو - بحمد الله - واف بمعظم الفقه لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا منها كما لا يخفى (وأما الثالثة) فهي قطعية ولو لم نقل بكون العلم الاجمالي منجزا مطلقا أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام حسب ما يأتي وذلك لان إهمال معظم الاحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام مما يقطع بانه مرغوب عنه شرعا ومما يلزم تركه إجماعا (إن قلت): إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الاطراف كما أشير إليه فهل كان العقاب على المخالفة في ساير الاطراف حينئذ على

______________________________

عدم وجوب الاحتياط لو كان العلم الاجمالي بالتكاليف غير منحل فلا نسلم الاجماع على عدم وجوب الاحتياط لو كان العلم المذكور منحلا (قوله: غير ثابتة لما عرفت) وعليه فتختلف هذه المقدمة باختلاف أنظار الباحثين عن حجية الخبر وغيره فان ثبت ما به الكفاية بحيث يحتمل انطباق تمام المعلوم بالاجمال عليه لم تتم هذه المقدمة لانحلال العلم الاجمالي المذكور، والا كانت تامة (قوله: أو فيما جاز أو وجب) هذان معطوفان على قوله: مطلقا، ومفسران له: والمراد بما جاز أو وجب العلم الاجمالي الذي جاز الاقتحام في بعض أطرافه أو وجب ذلك، (قوله: كما في المقام) فان العلم فيه مما يجب الاقتحام في بعض أطرافه لكون الاحتياط التام مما يوجب اختلال النظام المحرم شرعا (قوله: حسب ما يأتي) يعني في تنبيهات العلم الاجمالي بالتكليف حيث ذكر هناك: ان العلم الاجمالي إذا قام دليل على جواز الاقدام على مخالفته في بعض أطرافه لم يجب الاحتياط عقلا في الباقي، وحاصل ما ذكر - كما أشار إليه هنا بقوله: ان قلت... الخ -: ان الدليل الدال على جواز الاقدام موجب لانقلاب العلم بالتكليف إلى الشك به ومعه يكون العقاب على مخالفة التكليف في الباقي عقابا بلا بيان قبيحا في نظر العقل ويأتي انشاء الله توضيحه وتوضيح ما فيه في ذلك المقام (قوله: وذلك لأن) تعليل لقوله: فهي قطعية (قوله: فهل كان العقاب) هذا اشارة إلى ما

١٥٨

تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليها الا مؤاخذة بلا برهان ؟ (قلت): هذا انما يلزم لو لم يعلم بايجاب الاحتياط وقد علم به بنحو اللم حيث علم اهتمام الشارع بمراعات تكاليفه بحيث ينافيه عدم ايجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعات ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الاهمال في هذا الحال وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا فلا تكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان كما حققناه في البحث وغيره (وأما المقدمة الرابعة) فهي بالنسة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام فيما يوجب عسره اختلال النظام وأما فيما لا يوجب فمحل نظر بل منع لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط وذلك لما حققناه في معنى ما دل على نفي الضرر والعسر من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين

______________________________

ذكرناه من وجه عدم لزوم الاحتياط في الباقي بعد ارتكاب ما يندفع به الحرج، (قوله: بنحو اللم) يعني استدلالا على المعلول بوجود العلة فان الاهتمام علة لجعل وجوب الاحتياط في ظرف الشك فإذا علم بالاهتمام علم بجعل وجوب الاحتياط فيكون العلم بوجوب الاحتياط حجة في نظر العقل على وجوبه فيجب عقلا كما لو كان عليه دليل سمعي (قوله: ولو كان بالالتزام) ضمير كان راجع إلى الاحتياط يعني ولو كان الاحتياط بالعمل ببعض المحتملات ولم يكن تاما موجبا لحصول اليقين بالواقع (قوله: مع صحة دعوى) هذا وجه آخر لاستكشاف وجوب الاحتياط وهو الاجماع، وعلى كلا الوجهين فالاحتياط مستند إلى جعل الشارع للحجة المستكشفة باحد الطريقين. هذا هو القول بانكشف وسيجيئ في كلام المصنف (ره) التعرض له (قوله: فيما لا يوجب فمحل) يعني إذا لم يكن الاحتياط موجبا لاختلال النظام بل كان موجبا للحرج فعدم وجوبه محل نظر بل منع (قوله: لما حققناه في معنى ما دل) اعلم ان دليل نفي الضرر والحرج ونحوهما يحتمل فيه معان كثيرة إلا الأظهر عند شيخنا الاعظم (ره) في

١٥٩

بما يعمهما

______________________________

رسائله كونه من قبيل نفي السبب بلسان نفي مسببه فالمعني نفي الحكم الذي يأتي من قبله الضرر والحرج، والأظهر عند المصنف (ره) كونه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه فالمعنى نفي الحكم الذي يكون للموضوع الحرجي أو الضرري ويختص بما في رفعه امتنان، وقد فرع المصنف (ره) على الاختلاف بين المعنيين صحة تطبيق قاعدة نفي الحرج في المقام وعدمه إذ لا ريب في أن الأحكام الواقعية في حال الجهل بها موجبة للحرج كما أن موضوعاتها ليست حرجية. فعلى الاول يصح تطبيق القاعدة لرفع تلك الأحكام بعد ما كانت موجبة للحرج، وعلى الثاني لا يصح بعد ما لم تكن موضوعاتها حرجية (فان قلت): الأحكام الواقعية انما تقتضي حفظ وجود موضوعاتها فإذا لم تكن موضوعاتها حرجية كيف تكون موجبة للحرج (قلت): الامر كما ذكرت إلا أن موضوعاتها إذا كانت مرددة بين اطراف يكون مجموعها حرجيا فقد اقتضت حفظ كل واحد من تلك المحتملات فيكون مقتضاها حرجيا ولو بالعرض من جهة الجهل، (فان قلت): فلم لا نقول ان موضوعاتها حرجية (قلت): مع تردد الموضوع بين الاطراف الكثيرة لا يصح دعوى ثبوت الحكم للمجموع بل موضوع الحكم ليس الا الموضوع الواقعي وهو ليس بحرجي ولا تلازم بين اقتضاء ذلك الحكم لفعل جميع المحتملات في ظرف الشك وعدم كونها موضوعا له كما هو ظاهر هذا ويمكن الخدشة فيه (أولا) بالمعنى الذي ذكره خلاف الظاهر جدا وسيأتي انشاء الله بيانه في قاعدة الضرر (وثانيا) بالفرق بين لسان أدلة الحرج ولسان أدلة الضرر ولا يصح قياس أحدهما على الآخر فان قوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) صريح في نفي جعل الحرج على العباد تشريعا وليس مثل: (لا ضرر ولا ضرار) مما هو ظاهر في نفي الموضوع فان دعوى ظهور الثاني فيما ذكر لا تلازم دعوى ظهور الأول فيه كما هو ظاهر جدا بأدنى تأمل، قوله: بما يعمهما) الضمير في (يعمها) راجع إلى الضرر والحرج وفي (نفيهما) إلى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206