سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 356758 / تحميل: 8902
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

لم تزل السيرة المحمَّدية العطرة في جميع أبعادها موضع اهتمام الاُمة الاسلاميّة من لدن بزوغ فجر الإسلام العظيم ، ومنذ الأيّام الاُولى من البعثة النبوية الشريفة.

ولا غرو فقد كان الرسول الأكرم محمَّد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجسد بسيرته المثلى قيم الدين ويمثل بأخلاقه السامية أخلاق القرآن ، ويعكس بمواقفه الرشيدة وبإدارته الحكيمة لشؤون الاُمة طريقة الإسلام في إدارة دفة الحياة.

هذا مضافاً إلى أنه كان القدوة الّتي أمر اللّه تعالى المسلمين بالاقتداء بها ، واقتفاء أثرها ، كما أنه كان الظاهرة الفريدة الباهرة في الأدب الرفيع والإنسانية الشفافة والعاطفة الصادقة والرحمة واللطف ، وغيرها ممّا كانت تفتقر بيئة ظهور الإسلام الاُولى إليه وتتعطش إلى مثله.

من هنا أخذ المسلمون يهتمّون بكل حركات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسكناته ، ويتأمّلون في جميع أعماله وتصرّفاته فاذا رأوا منه خُلقاً بادروا إلى تكراره في سلوكهم ، وإذا شاهدوا منه عملا أسرعوا إلى فعله في حياتهم ، وعمدوا في المآل إلى تسجيل كل صغيرة وكبيرة في هذا المجال ، وضبط كل دقيقة وجليلة في هذا الصعيد.

وفعلا كانت هذه السيرة الطيّبة العطرة المقدّسة هي المنهج العملي للمسلمين ، وهي سرّ تقدُّمهم ، وهي رمز عظمتهم وسموّهم ، وعلوّ شأنهم وشأوهم.

٣

ولا تزال هذه السيرة المشرفة اليوم قادرة على أن تكون ضوء المسيرة ، ومشعل الطريق ، ومنهج العمل ومفتاح الانتصار في معركتنا ضدّ قوى الشرّ والطغيان.

وحيث إن أموراً اقحمت في هذه السيرة ، كما أنّ تطور الزمن وكيفية الدراسات اقتضيا إخراج دراسات في مجال السيرة تتناول البعد الذاتي والرساليّ والسياسيّ والقياديّ والعسكريّ لسيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتحقيق والتحليل ، وتتناسب مع حاجة العصر ولغته ، لهذا رأت مؤسسة النشر الإسلامي أن تقدّم للجيل الحاضر خاصة وللمسلمين عامة هذه الدراسة القيمة في سيرة خاتم الانبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تسامها بكثير من هذه المواصفات.

والدراسة هي مجموعة محاضرات للاستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني الّذي عرف في الأوساط الإسلامية بتحقيقاته العميقة في الكتاب والسنّة والعقيدة والتاريخ.

وفي الوقت الّذي تقوم به المؤسسة ـ وللّه الحمد ـ بطبع هذه الدراسة القيمة ونشرها بعد مقابلتها تقدّم جزيل شكرها وامتنانها لسماحة الاستاذ الألمعي الشيخ جعفر الهادي لما بذله من جهود وافرة من تعريبها واستخراج النصوص من مصادرها سائلة اللّه سبحانه له ولسماحة الشيخ المحاضر ولها المزيد من التوفيق ، كما وتدعو المولى عزّ وعلا أن يتقبّل منا جميعاً وأن تشملنا شفاعة الرسول الأعظم وآله الأطهارعليهم‌السلام في يوم الحشر إنه خير موفق ومعين.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٤

السيرة المحمَّدية

مدرسة الأجيال

          «لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة »

القرآن الكريم

النبيُّ الأكرم « محمّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُسوةٌ للمسلمين أُسوةٌ يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم : الفردية والاجتماعية ، والسياسية اُسوة إلى الأبد في كل زمان ومكان ، في كل عصر ومصر ، لجميع المسلمين من كل لون ولغة.

ولكن كيف يتأسّى المسلمون ـ في مختلف الأجيال والأدوار ـ برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف يقتدون بسيرته المثلى ، ويهتدون بهديه العظيم؟

إنّ هذا لا يتسنّى إلاّ إذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها ، وتفاصيلها ، وفي جميع مجالاتها ونواحيها ، مدوّنة مسجّلة ، بل ومحلّلة تحليلا دقيقاً وعميقاً.

من هنا فان الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوَّن ، مشفوع بالتحليل الدقيق ، والدراسة الموضوعية لشخصية وسيرة سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كافة مجالاتها الشخصية والرسالية والسياسية والعسكرية.

حقاً إن في حياة رسول الإسلام العظيم « محمّد بن عبد اللّه »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما هو واضحٌ لمن تتبعَ وتصفحَ ـ اُموراً دقيقة ، ولكن بالغة العظمة في مداليلها ومعانيها ، بالغة الأهميّة في معطياتها ودروسها.

٥

فرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خاتم الأنبياء ، ورسالته وشريعته خاتمة الرسالات والشرائع ونهضته هي النهضة الكبرى الّتي مهّدلها الأنبياء السابقون ، وقد فتحت هذه النهضة الالهية صفحة جديدة في حياة البشرية ، وغيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييراً جذرياً ، وأسست حضارة كبرى لا تزال أمواجها ـ رغم مرور أربعة عشر قرناً ـ حية نابضة ، فاعلة ، تهزُ الضمائر ، وتتفاعلُ مع العقول.

ولهذا فإنَّ السيرة المحمّدية مشحونةٌ بالمناهج والدروس ، زاخرة بالبصائر والعبر ، بقدر ما هي مليئة بالدقائق والحقائق ، واللطائف والاسرار.

حقا إن حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجة إلى تعمق جديد كلما تجدّد الزمن ، وكلما تقدمت العلوم والمعارف ، وتطورت الحياة ، وانفتحت أمام البشرية آفاق جديدةٌ في شتى الأصعدة والمجالات.

ولا شك أنّ هذه المهمة ليست عملا بسيطاً ومهمّة سهلة ، وخاصة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الاُولى من تصحيف أوتحريف أوتشويه للحقائق ، أوتغيير للاُمور.

فان هذه المهمة تحتاج ـ في ما تحتاج إليه ـ إلى ثلاثة أشياء أساسية :

١ ـ عقلية متفتحة ، متدبرة ، نافذة متأنية.

٢ ـ جهود كبيرة ، وتتبع واسع ، وتمييز للصحيح عن السقيم ، والدخيل عن الاصيل.

٣ ـ معرفة بجوانب تتصل بالسيرة المحمَّدية اتصالا وثيقاً كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم.

فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول على صورة نقيّة ، ومفيدة للسيرة المحمَّدية المباركة ، صورة تتفق مع روح القرآن ، وتلتقي مع الواقع ، وتصلح للاتساء ، والاقتداء ، والاهتداء والاقتفاء.

ولقد توفرت هذه الشروط ـ وللّه الحمدُ ـ في استاذنا العلامة الحجّة المحقّق سماحة الشيخ جعفر السبحاني ، حفظه اللّه.

٦

فهو المعروف بسلسلته القرآنية « مفاهيم القرآن » الّتي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز ، وإلمام قليل النظير بمفاهيمه.

ولهذا كان خيرَ من قام في عصرنا الحاضر بدراسة السيرة المحمَّدية الطاهرة العبقة ، فكان هذا العمل التاريخي المبارك الّذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر : العقلية المتفتحة ، والمعرفة الواسعة بالقرآن الكريم وخاصة في ما يتّصل بالرَّسول الأكرم ، إلى جانب التتبع الواسع والاستقصاء الكبير لمواقع العبرة والاسوة في حياة خاتم الأَنبياء وسيّد المرسلين.

ولا أجدني ـ في هذا التقديم العابر ـ بحاجة إلى ذكر نقاط القوة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية وحياة رسول الإسلام ، بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطلاع على ذلك حتّى لا يفوته شيء ممّا لا يفوّت ، وسيقف بنفسه أيضاً على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد ، وروعة ما ضُمِّنت من تحليل ، وأهمية ما احتوته من حقائق.

وفي الختام اسأل اللّه العلي القدير ان يتقبل منا جميعاً هذا الجهد ، ويجعله ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، انه خير معين.

قم

جعفر الهادي

٣٠ شعبان ١٤٠٩ هجرية

٧

٨

مقدّمة المحاضر

التاريخُ في أَعظَم حَماساتِه

* مُختبرُ « الحياة » العظيم.

* « لقد عُمِّرتُ مع أولهم إلى آخرهم! ».

* حياة العظماء ، والخالدين.

* عندما يلتقي العالم الحاضر بالعالم الغابر.

* التاريخ بين التسجيل.

* أخطاء المستشرقين العجيبة.

يُحاولُ الإنسان دائماً أن ينظر إلى كل قضيّة من القضايا من نافذة الحس ، وإن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي ، لأنَّ أوثقَ المعلومات لديه هي تلك الّتي تتألف من هذه « المعلومات الحسية » ولهذا فإنَ المسائل الّتي تحظى بأَدلة حسّية اكثر تكسب في العادة قسطاً اكبر من ثقة الإنسان وتصديقه.

وعلى هذا الاساس عمَدَ العالم اليوم إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية ، ويعكف العلماءُ في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الامور المتنوعة باسلوب خاص وطريقة معينة.

ولكن هل يمكن ـ تُرى ـ أن تدخلَ المسائلُ والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية ، وتخضع للمجهر والميكرسكوب ، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!

فمثلاً ؛ هل يمكن أن نعرفَ عن طريق التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه

٩

الاختلافُ والتشرذم في المجتمع الواحد ، وما يصيب شعباً من الشعوب أو اُمة من الامم من هذا الطريق؟

أم هل يمكن تقييمُ ما تنتهي إليه جهودُ المستعمرين ، أو ما يؤول إليه الظلمُ والحيف ، من خلال تجربة حسية؟

أم هل يمكنُ الوقوفُ على نتائج « الاختلاف الطبقيّ » ، « والتمييز العنصريّ » في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟

في الاجابة على كل هذه الاسئلة يجب أن نقول : كلا مَعَ الاسف.

وذلك لأنَّه لا توجَد للقضايا الاجتماعية ـ رغم أهميتها القصوى ـ مثل هذه المختبرات ، وحتّى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية ، فان إنشاءها وايجادها يكلِّف نفقات باهضةً ، وتستدعي جهوداً عظيمة.

ولكنَّ الأمر الّذي في مقدوره أن يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أننا نملك اليوم شيئاً يسمى ب‍ : « تاريخ الماضين » والّذي يشرح لنا ما كان عليه البشرُ ـ أفراداً وجماعات ـ طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الارض ، كما ويعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم ، من إنتصارات وهزائم ، ونجاحات وانتكاسات ، ويوقفنا بالتالي على كل ما وقع في حياة الامم والشعوب من حوادث مرة أو حلوة.

إنَّ التاريخ يذكر لنا : كيف وُجدَت الحضارات المشرقة والمدنيات العظمى في العالم ، وكيفَ سلكت ـ بعد مدة ـ طريق السقوط والانقراض ، حتّى أنها قد مُحيت عن صفحة الوجود بالمرّة ، واصبحت خبراً بعد أثر ، وبالتالي ما هي العوامل الّتي كانت وراء سيادة الشعوب ثم اندحارها.

إنّ حياة الماضين وتاريخهم يحتفظ لنا في صفحاته بقسط كبير ومهمّ جداً من هذه الحوادث ، ولهذا صحّ أن يقال : « التاريخ مختبر الحياة العظيم » ، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية ، ودراستها واستخلاص النتائج والعبر المفيدة منها.

١٠

وإنَّ من حُسن الحظ أننا لم نكن أول من حطَّ قدمه على هذا الكوكب ، فهذه الارضُ بسهولها وشعابها العريضة ، وتلك السماء بنجومها وكواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الارض من قبلنا ، وشهدتا افراحهم واتراحهم ، همومهم وغمومهم ، وحروبهم ، ومصالحاتهم ، وكل ما رافق واكتنف حياتهم من حبّ وبغض وظلمات وأنوار ، وارتقاء وهبوط ، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية الّتي يزخربها تاريخ الشعوب والاقوام والامم.

صحيح أنهم قد اختفوا مع الكثير من أسرار حياتهم ، وغابوا جميعاً ـ أشخاصاً وأسراراً ـ في بحر من النسيان وانسدل عليهم الستار ، إلاّ أن قسطاً مُلفِتاً للنظر وجملة يُعتد بها من تلك الامور إما أنها قد دُوّنت بأيدي أصحابها ، أولا تزال طبقاتُ الارض وبطون التلال تحتفظ بها في ثناياها وطياتها ، كما ولا تزال ذات الاطلال الصامتة ـ في ظاهرها ـ تشكل أضخم متحف ، واغنى معرض ، واكبر مختبر ، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه ، ويشرحُ رموزه وأسراره.

إنَّ مُطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الامم الغابرة في الكتب ، أوفي الاطلال العظيمة ، أو في ما يعثر عليه المنقِّبون في بطون التلال ، وثنايا الارض تعلّمنا اُموراً كثيرة ، وتضيف إلى عُمرنا عُمراً جديداً وزمناً اضافياً ، لا يُستهان به وذلك بما تقدمُ لنا مِنَ الخبرة والعبرة ، والهدى والبصيرة.

أليست حصيلة العمر ما هي إلاّ ما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرفنا؟

ولقد اشار الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالبعليه‌السلام في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال :

« أيْ بُنيَّ! إنّي وإنْ لم اكن عمَرتُ عمرَ من كان قبلي ، فقَد نظرتُ في أعمالهم وفكَّرتُ في أخبارهم وسرت في آثارهم حتّى عُدتُ كأحدهم بل كأَنَّي بما انتهى اليَّ من اُمورهم قد عمّرت مع أوَّلهم إلى آخرهم »(١) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، رقم ٣١.

١١

ولكنّ المؤسف أن كُتُب التاريخ الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الاشارة إلى العبر والدروس الاجتماعية المفيدة ، لأن هذه المصنفات لم تدوَّن لأَجل هذا الغرض ، ولهذا اُغفِلَ فيها ـ في الاغلب ـ كل ما هو مؤثرٌ في كشف الحقائق التاريخية ، وإبراز العلل الكامنة وراء الحوادث المتنوعة والوقائع المختلفة ، وبالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب والدراساتُ ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلِّ الرُموز الكبرى في مسيرة التاريخ البشري ، واعتنتْ ـ بدلا عن ذلك ـ بالقضايا التافهة.

لقد تصدّى كثيرٌ من المؤرّخين لتدوين وتسجيل القضايا التاريخية ، تارة بهدف التسلية واُخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم أو طوائفهم ، واظهار تفوقها على الاقوام والطوائف الاُخرى ، وثالثة بدافع الحب والبغض ، او التعصب لهذا أو ذاك ولهذا عجزت هذه المؤلفات والكتب عن حل أية مشكلة ، وتبديد أية حيرة ، بل هي تزيد المرء ضلالا إلى ضلال ، وحيرة إلى حيرة!

ولكن رغم كل هذا يستطيع اُولو النباهة والبصيرة ، واصحاب الفهم والتحقيق ان يتوصلوا ـ من خلال مطالعة هذه المؤلفات التاريخية على ما فيها من عيوب ونقائص ، ومع ما فيها من أساطير عن الشعوب المختلفة ـ إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من اسرار وخلفيات القضايا والامور المتعلقة بالشعوب الماضية ، تماماً كما يفعل الطبيبُ الحاذق ، أو القاضي البارعُ الّذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرقة ، التوصّل إلى اكتشاف نوع « المرض » أو حالة « المتهم » الحقيقية ، وما يعاني منه في واقعه النفسي.

* * *

إنَّ أعظم صفحات التاريخ قيمة هي تلك الّتي تعكس لنا حياة العظماء وسيرة الرجال الخالدين ، وتبحث عنها بصدق وامانة وموضوعية.

إنَّ لحياتهم أمواجاً خاصة ، كما أنها زاخرة بانواع الحوادث.

لقد كانوا عظماء حقاً ، وكذلك كان كل ما يرتبط بهم ، ومن ذلك تاريخهم ، إنه شيء عظيم يستحق التأمّل والتدبر ، فهو يتسِمُ بِلمعان يلفت الأنظار ، ويخلب

١٢

الالباب وإنّه غني بالعظات والعبر ، زاخرٌ بالبصائر والدروس وإلى درجة لا توصف.

إنهم معجزةُ الخليقة بلا ريب ، وإن حياتهم لهي ـ في الحقيقة ـ ملحمة التاريخ الكبرى ، وساحة البطولات الخالدة ، ومسرح الحماسات العظمى ، الحية النابضة على مر العصور ، والايام.

لقد كان اولئك العظماء يعيشون في الاغلب على خط الثورات والتغييرات الاجتماعية الاول ( وبعبارة أصحّ ) كانت الثورات والتحولات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم وتتجسد في مواقفهم ، ولهذا كانوا يشكلون ـ في واقع الأمر ـ حلقة الاتصال بين الدنياوات المختلفة المتناقضة ، وكانت حياتهم الحافلة بالاحداث شاهدة للألوان المختلفة والمشاهد المثيرة المتنوعة.

* * *

وعلى رأس اُولئك الرجال التاريخيين والعظماء الخالدين رسول الإسلام العظيم محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لم تتسم حياة أحد ـ من حيث وفرة الاحداث ، وعظمة الأمواج ، كما اتسمت به حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا اتصفت شخصية بمثل ما اتصف به ذلك النبي العظيم.

فلم يستطع احدٌ سواه أن يؤثِّر في بيئته ، ثم في جميع العالم ، وينفذ إلى أعماق الاعماق بمثل السرعة والسعة الّتي حصلت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولم يوجد أيُّ واحد منهم قط من مجتمعه المنحطّ المتخلّف ، حضارة بتلك العظمة والشموخ ، كما فَعلهُ رسولُ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتلك حقيقة يقرّبها كل مؤرخي الشرق والغرب.

إنّ مطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا الإنسان العظيم ، قادرة على أن تعلمنا الكثير الكثير ، وأن توقفنا على مشاهد متنوّعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة.

إن مشاهد عجيبة مثل الأَيام الاُولى مِن بناء الكعبة المعظمة ، واستيطان اسلاف النبي الكريم « مكة » وهجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظم ، والاحداث والملابسات المرافقة لمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣

كما وإن مشاهد محزنة مثل وفاة « عبد اللّه » و « آمنة » والدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مطلع حياته الشريفة بتلك الكيفية المؤلمة.

ومشاهد عظيمة ومهيبة وحافلة بالاسرار مثل الايام الاولى من نزول الوحي ، وما جرى في جبل « حراء » وما تبعه من مواقف الاستقامة والمقاومة الّتي ابداها واتخذها رسول اللّه واصحابه المعدودون طيلة ثلاثة عشر عاماً ، في سبيل نشر الدين الاسلامي في مكة ، ومكافحة الوثنية والجاهلية.

وكذا مشاهد مثيرة وساخنة وحماسية مثل وقائع السنة الاُولى من الهجرة المباركة وما عقبتها من حوادث ومواقف.

* * *

ولقد الّفت حَول حياة رسول الإسلام أعظم قادة البشرية على الاطلاق كتبٌ ورسائلٌ ودراساتٌ كثيرة بحيث لواتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد لشكلت مكتبة عظيمة وضخمة.

ويمكن القولُ ـ بشكل قاطع ـ بأنه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ والمؤرخين والمفكرين العالميين الكبار ، كما ليس ثمة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلفون والباحثون هذا القدر الهائل من المؤلفات والمصنفات ، والرسائل والكتب ، كما حصل لرسول الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلاّ أن أكثر هذه الكتب والمؤلفات تعاني من أحد إشكالين : إما أن الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرد للحوادث ، أو النصوص التاريخية ، من دون أن يتصدى فيه مؤلفه لتحليلها ، ودراسة خلفياتها ونتائجها ، وإصدار الحكم اللازم فيها ، بل إن البعض قد تجنب عن بيان علل الوقائع الإسلامية واسبابها ، وثمارها ومعطياتها كذلك.

أو أن المؤلّف ـ في بعضها الآخر ـ عمَد إلى طائفة من الآراء الحدسية ، والاجتهادات الباطلة ، العارية عن الدليل واثبتها في مؤلَّفه على أنها الحكم الحق ،

١٤

وخلط هذه الاحكام مع بيان الحوادث ، ومن ثم اخرج كتابه ذاك إلى الجمهور المتعطش إلى تاريخ الإسلام ، على أنّه التاريخ المحقَّق ، المُمخَّص.

إن الإشكال الّذي يَردُ على الطائفة الاولى هو : أن الهدف من التاريخ ليس هو مجرَّد تسجيل الحوادث التاريخية وضبطها وتدوينها ، إنما هو كتابة صفحات التاريخ ، وقضاياه وأحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها ، وإبراز عللها واسبابها ، وثمارها ونتائجها ، والتاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا ، ومثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تُدوَّن ـ أو أنه قلّما دُوَّنت ـ حول أعظم قادة البشر ، محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تجنب اكثر كتاب السيرة النبوية عن اظهار الرأي في الحوادث ، أو القيام باي تحليل للوقائع ، بحجة الحفاظ على اُصول الحوادث ونصوصها.

في حين أنَّ هذه العُذر ، وهذا الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف ، لأنه كان في مقدور اولئك المؤرخين ـ للحفاظ على ما ذكروه ـ أن يؤلفوا نوعين من الكتب ، نوعاً يختص بسرد الوقائع والنصوص التاريخية على ما هي عليه من دون ابداء رأي ، أو تحليل ودراسة ، ونوعاً آخر يعتني بذكر الحوادث والقضايا التاريخية مع تحليلها ودراستها بصورة موضوعية صحيحة أو ان يتم كلا الأمرين في كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل والرأي.

على كل حال قلما نجد بين قدماء الكُتّاب المسلمين من تصدى للسيرة النبوية المحمَّدية الطاهرة بهذه الصورة ، وقلما يوجد هناك كتابٌ يتناولُ حياة خاتم الانبياء وسيّد المرسلين بالتحليل المذكور.

بل لابدّ من القول بان السيرة النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حُرمت من مثل هذا النمط من التأليف والكتابة ، بل شمل هذا الحرمان اكثر الحوادث التاريخية الّتي وقعت على مر العصور الإسلامية فهي اُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق.

نعم إن أول من فتح هذا الطريق على وجه عامة المؤلفين والكتاب هو :

١٥

العلامة المغربي « ابن خلدون »(١) فقد أسس في مقدمته المعروفة باسم مقدمة ابن خلدون نمَط التاريخ التحليلي بنحو من الانحاء.

وأما الطائفة الثانية من تلك الكتب فهي وإن اُلفت على نمط التاريخ التحليلي واتسمت بصفة التحقيق والدراسة ولكن حيث ان بعضهم لم يتجشم عناء التتبع والاستقصاء ، أو أنه اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة وغير الصحيحة ، فقد تورط في أخطاء فضيعة محيّرة ، وأكثر مؤلفات المستشرقين ـ الّتي لم تكتَب في الأغلب بهدف التوصل إلى الحقيقة ـ من هذا النمط ، ومن هذه القماشة.

ولقد دأَب في هذه الدراسة ـ بعد ملاحظة هذه الاشكالات ـ على ان يقدم إلى القراء جهد امكانه كتاباً يخلو عن عيوب ونقائص كلتا الطائفتين.

مزايا هذا الكتاب :

قد لا يكون من الضروري بيان مزايا هذا الكتاب ، واستعراض امتيازاته في مقدمته ، فذلك أمرٌ ينبغي أن يقف عليه القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة ، إلاّ انه إلفاتاً لنظر القارئ نشير إلى مزيتين هامتين هما :

أولاً : أنّنا عمدنا ـ في هذا الكتاب ـ إلى تناول وبيان الحوادث والوقائع المهمة الّتي تنطوي على قَدَر ، اكبر من الفائدة ، والعبرة ، وأعرضنا صفحاً عن ذكر الاحداث الجزئية ، والوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا.

ثم أننا أخذنا الحوادث التاريخية هذه من المصادر الأصلية ، والأولية ، الّتي دُوِّنت في القرون الإسلامية المشرقة الاولى ، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر ، ثم أشرنا إلى مصدر أو مصدرين من المصادر الّتي ذكرت الحادثة

__________________

١ ـ هو القاضي عبد الرحمان بن محمَّد الحضرمي المالكي المتوفى عام ٨٠٨ هـ ، ومقدمته وتاريخه ـ على ما فيهما من أخطاء فضيعة في التحليل ـ معدودان من الكتب الجيدة المفيدة ، وهما مبتكران في نوعهما.

١٦

بصورة اكثر تفصيلا ودقة.

وربما يظن بعضُ القرّاء الكرام أننا اكتفينا في نقل الحوادث والوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في أقصى الصفحة ( أي الهامش ) في حين أن الواقع هو غير هذا ، فنحن قد راجعنا حتّى في نقل الحوادث الصغيرة مهما صغرت ، اكثر المصادر الأصلية المعروفة ، وبعد التحقق والتشبث منها لخصناها وذكرناها في هذا الكتاب.

ولو أننا أشرنا ـ في جميع الحوادث والوقائع ـ إلى جميع المصادر الّتي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب ، وهو أمرٌ من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء ، فلكي لا يحس القرّاء بأيّ تعَب أو مَلَل من جانب ، ولأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب وأصالة أبحاثه وإتقانها من طرف آخر اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر وتجنبنا تحشيدها بتلك الصورة الممِلّة.

وأما المزية الثانية : فإننا أشرنا ـ ضمن الدراسات اللازمة ـ إلى الاعتراضات والاشكالات ، بل وأحيانا إلى مواطن الاساءة الّتي قام بها المستشرقون المغرضون وأجبْنا على جميع الانتقادات والاعتراضات غير المبرَّرة وغير الصحيحة بأجوبة مقنعة وقاطعة وصحيحة ، وجرَّدْناهم من الاسلحة الّتي شَهَرُوها في وجه الإسلام ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقول المثل ، وتلك حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها.

وعلى هذا الاساس عَمَدنا إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة ( في المسائل المختلف فيها بين المؤرخين الشيعة والمؤرخين السنة ) مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة والمبرهنة عليه ، وأزحْنا كل ما يَدُور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال ، ويستهدف إنكار صحته وحقانيته.

إننا إذ نقدّمُ هذه الدراسة التحليليّة لشخصية وحياة خاتم الأنبياة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القراء الكرام نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين وخاصة المثقفين والشّباب منهم بوجه خاصّ ، ويتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنيّة والتأمل

١٧

والتدبر ، ونآمل أن يستطيع شبابُنا المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته وحياة مجتمعه في ضوء ما يستلهمُه ويستوحيه من سيرة وحياة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحقبة البالغة الخطورة. واللّه وليّ التوفيق.

جعفر السبحاني

٢٦ / جمادى الآخرة / ١٣٩٢

١٨

سيّد المرسلين

في ضوء القرآن الكريم

لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على رسول الإسلام محمَّد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آيات كثيرة تناولت بيان أسمائه ونشأته وصفاته وخصاله ، وبشارات الانبياء السابقين به وعصمته واُمّيته ورسالته وخاتميته وجهوده العظيمة التي بذلها في سبيل ابلاغ مهمته ، والخطابات الخاصة الالهية الموجّهة إليه وما يتوجب على المؤمنين تجاهه في حياته وبعد وفاته ، وما يتوجب عليهم تجاه أهل بيته وعترته ، ولكي تكون هذه الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الاساسية في دراسة الشخصية والسيرة المحمَّدية العظيمة آثرنا ادراج طائفة منها

١٩

في مقدمة هذا الكتاب.

*وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُسُلُ . ( آل عمران / ١٤٤ ).

*مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَالَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءٌ عَلى الكُفّار رُحَماءُ بَيْنَهُمْ . ( الفتح / ٢٩ ).

*وَإذ قالَ عيسى ابْنُ مَرْيَمُ يا بَني إسرائيل إنّي رَسُولُ اللّهِ اِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بِيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرية وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتِى مِنْ بَعدي اسْمُهُ أحْمَدٌ . ( الصف / ٦ ).

*مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وَللآخِرَة خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدى وَوَجَدكَ عائلا فَأَغْنى . ( الضحى / ٤ ـ ٨ ).

*ألَم نَشْرَحْ لكَ صَدْركَ وَوَضعْنا عَنْكَ وزْرَكَ الَّذي أنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ . ( الانشراح / ١ ـ ٤ ).

*وَإذ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكْمَة ثمَّ جاءكُمْ رَسولٌ مُصدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُوُمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ ءأَقْرَرتُمْ وَأَخذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إصْري قالوا أقْررنا قالَ فَاشْهَدوا وَأنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدينَ . ( آل عمران / ٨١ ).

*ألَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيِّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكْتوباً عِنْدؤهُمْ في التَّوريةِ وَالأنجِيلِ يَأمرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْههُمْ عِنَ المُنْكَر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخبائثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصّرَهُمْ وَالأَغْلالَ التَّي كانَتْ عَلَيْهِمْ . ( الأعراف / ١٥٧ ).

*الَّذينَ آتيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُم وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ لَيكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . ( البقرة / ١٤٦ ).

*الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ . ( الأنعام / ٢٠ ).

*فآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ الَّذينَ يُؤْمنُ بِاللّهِ وكَلماتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . ( الأعراف / ١٥٨ ).

*هُوَالَّذي بَعثَ في الاُميّينَ رَسُولا مِنْهُمء يَتْلوا عَلَيْهِم آياتِهِ وَيُزكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتاب وَالحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلال مُبين وآخرينَ مِنْهم لَما يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزيزُ الْحَكيمُ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشاءُ واللّهُ ذُوالْفَضلِ الْعَظيمِ . ( الجمعة / ٢ ).

*وَأنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلَّمكَ ما لم تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظيماً . ( النساء / ١١٣ ).

*وَما كُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِنْ كِتاب وَلا تخُطُهُ بِيَمينِكَ إذاً لارتَابَ المُبطِلُونَ . ( العنكبوت / ٤٨ ).

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم.

وعشا عن انواره مناوئوه، وعلى أبصارهم غشاوة الذحول. فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره واخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذ اكثر مما نستوعبها نحن. ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في احقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الاسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.

ونقموا عليه سنه لانه كان في العقد الرابع. ولا عجب اذا رأى ذوو الحنكة المسنون، ان لا يكون الخليفة بعد رسول اللّه مباشرة، الا وهو في العقد السابع مثلاً.

وخفي عليهم ان الامامة في الاسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة، ولا يجوز عليها ما لا يجوز على النبوة في عظمتها. فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص على التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات اللّه وتصريحات نبيه (ص). وكانت سن علي يوم وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سن عيسى بن مريم يوم رفعه اللّه عز وجل، أفيجوز لعيسى ان ينتهي بقصارى نبوته في الارض الى هذه السن، ولا يجوز لعلي أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها اللّه لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنيّ الانسان لما اختارها اللّه للمصطفين من عباده في الجنان.

ونقموا عليه قرباه « فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد » ولا نعرف كيف انقلبت الفضيلة - على هذا المنطق - سبباً لنقمة. ولا نفهم كيف كانت « القرابة » بموجتها القصيرة، وبما هي اقرب الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حائلاً دون الخلافة، ثم هي بموجتها الطويلة، وبما هي

٤١

أبعد عن النبي، دليل الخلافة والحجة الوحيدة في ما دلفوا به من حجاج خصومهم.

وحسبوا انهم أحسنوا صنعاً للاسلام وللمصلحة العامة بفصلهم الخلافة عن بيت النبوة، وبما فسحوا المجال لبيوتات اخرى، تتعاون - بدورها - على غزو المنصب الديني الأعلى، أبعد ما يكون بطبيعته عن مجالات الغزو والغلبة والاستيلاء بالقوة والعنف.

وخفي عليهم ما كان يحتاط به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لامته ولعترته، حين سجل الخلافة في بيته.

وجاءت الاحداث - بعد ذلك - فنبهت العقول الواعية الى اخطاء القوم وصواب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فكانت « عملية الفصل » هذه، هي مثار الخلافات التاريخية الحمر، بين عشاق الخلافة في مختلف الاجيال، ومبعث مآسٍ فظيعة في المسلمين، ومصدر انعكاسات مزرية في مثالية الاسلام، كان المسلمون في غنى عنها لو قدّر للخلافة - من يومها الاول - ان تأخذ طريقها اللاحب الذي لا يجوز فيه اجتهاد، ولا تمسه سياسة، ولا يتصرف فيه احد غير اللّه ورسوله.

« وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى اللّه ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ».

وهل كان التناحر والتطاحن المديد العمر المتوارث مع الاجيال فيما بين الاسر البارزة في المسلمين، الا نتيجة فسح المجال لهذا او ذاك في الطماح الى غزو المقام الرفيع.

وهل كانت المجازر الفظيعة التي جابهها المسلمون في الفترات المختلفة من تاريخ الاسلام: بين بني هاشم وبني امية: وبين بني الزبير وبني امية: وبين بني العباس وبني امية: وبين بني علي وبني العباس الا النتيجة

٤٢

المباشرة لفصم ذلك التقليد الديني الذي احتاط به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليكون حائلاً دون امثال هذه المآسي والاحداث المؤسفة في الاسلام.

وهل كانت « فجائع العترة » الفريدة من نوعها - بالقتل والصلب والسبي والتشريد - الا اثر الخطأة الاولى، التي خولفت بها سياسة النبي (ص) فيما اراده لامته ولعترته، وفيما حفظ به امته وعترته جميعاً، لو انهم اطاعوه فيما اراد.

ولكنهم جهلوا مغزى هذه السياسة البعيدة النظر، فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد، انصهاراً بسياسة اخرى.

وكانت هي المعذرة الظاهرة التي لم يجدوا غيرها معذرة يبوحون بها للناس. اما معذرتهم الباطنة، فلا يعلم بها الا العالم ببواطن الامور وهي على الاكثر لا تعدو الذكريات الدامية في حروب الدعوة الاسلامية، أو الحسد الذي « يأكل الدين كما تأكل النار الحطب » - كما في الحديث الشريف -.

وكان حب الرياسة وشهوة الحكم، شر أدواء الناس وبالاً على الناس، وأشدها استفحالاً في طباع الاقوياء من زعماء ومتزعمين.

وما النبوة ولا الامامة بما هما - منصب إلهي - من مجالات السياسة بمعناها المعروف، وكل سياسة في النبوة أو في شيء من ذيولها الادارية، فهو دين والى الدين. والمرجع الوحيد في كل ذلك، هو صاحب الدين نفسه، وكلمته هي الفصل في الموضوع.

ولكي تتفق معي على مسيس اتصال هذه المناسبة بموضوعنا اتصالاً وشيجاً، عليك ان تتطلع الى اللغة المتظلمة الناقمة التي ينكشف عنها الحسن بن عليعليهما‌السلام في هذا الشأن، بما كتبه الى معاوية، ابان البيعة له في الكوفة. قال:

٤٣

« فلما توفي - يعني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله - تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته واولياؤه، ولا يحل لكم ان تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب ان القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم في امر محمد. فأنعمت لهم وسلمت اليهم، ثم حاججنا(١) نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا اهل بيت محمد واولياءه الى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه وهو الولي النصير.

« ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين ان يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.

« فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، وانت ابن حزب من الاحزاب، وابن أعدى قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار!! »(٢) .

وهكذا نجد الحسنعليه‌السلام ، يعطف - بالفاء - عجبه من توثب معاوية على تعجبه لتوثب الاولين عليهم في حقهم وسلطان بيتهم. ومن هنا تنبثق مناسبة اتصال قضيته بقضايا الخلائف السابقين، وتنبثق معها مناسبات اخرى. بعضها للاخوين. وبعضها للابوين. وبعضها للحق العام.

__________________

١ - وكان من افظع النكايات بقضية اهل البيت:، ان تختفي كل هاتيك المحاججات في التاريخ. ثم لا نقف منها الا على النتف الشاردة التي اغفلتها الرقابة العدوة عن غير قصد وهنا الذكر قول الشاعر المجدد الحاج عبد الحسين الازري:

اقرأ بعصرك ما الاهواء تكتبه

ينبئك عما جرى في سالف الحقب

٢ - ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٢ ).

٤٤

وما نحن بالذاكرين شيئاً منها هنا، لانا لا نريد ان نتصل بهذه البحوث، في سطورنا هذه، الا بمقدار ما تتصل هي بالصميم من موضوعنا.

وعلمنا ان الرشاقة السياسية البارعة التي ربحت الموقف بعد وفاة رسول اللّه (ص) في لحظات، والتي سماها كبير من اقطابها « بالفلتة » وسماها معاوية « بالابتزاز للحق والمخالفة على الامر(١) »، كانت بنجاحها الخاطف دليلاً على سبق تصميم في الجماعات التي وليت الحل والعقد هناك. فكان من السهل ان نفهم من هذا التصميم « اتجاهاً خاصاً » نحو العترة من آل محمد (ص) له اثره في حينه، وله آثاره بعد ذلك.

فكانوا المغلوبين على امرهم، والمقصيين - عن عمد - في سائر التطورات البارزة التي شهدها التاريخ يومئذ(٢) .

فلا الذي عهد بالخلافة قدمهم. ولا الذي حصر الخليفة في الثلاثة من الستة انصفهم. ولولا رجوع الاختيار الى الشعب نفسه مباشرة، بعد حادثة الدار، لما كان للعترة نصيب من هذا الامر على مختلف الادوار.

__________________

١ - تجد ذلك صريحاً فيما كتبه معاوية لمحمد بن ابي بكر. قال: « كان ابوك وفاروقه اول من ابتزه - يعني علياًعليه‌السلام - حقه وخالفه على امره. على ذلك اتفقا واتسقا، ثم انهما دعواه الى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وارادوا به العظيم. ثم انه بايع لهما وسلم لهما. واقاما لا يشركانه في امرهما، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما اللّه - ثم اردف قائلاً -: فان يك ما نحن فيه صواباً، فابوك استبد به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل ابوك من قبل، ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا اليه، ولكنا رأينا اباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله » اه المسعودي على هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ٧٨ - ٧٩ ).

٢ - ونجد في كلمات امير المؤمنين (ع) شواهد كثيرة على ذلك. قال: « فواللّه ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض اللّه نبيه حتى يوم الناس هذا ». وقال: اللهم اني استعديك على قريش ومن اعانهم، فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا على منازعتي امراً هو لي

٤٥

ثم كان لهذا « الاتجاه الخاص » أثره في خلق معارضة قوية للعهدين اللذين رجعا بامرهما الى العترة من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي حروب البصرة وصفين فمسكن شواهد كثيرة على ما نقول.

وفي موقف ابن عمر(١) وسعد بن ابي وقاص واسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وقدامة بن مظعون وعبد اللّه بن سلام وحسان بن ثابت وأبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير وهم « القعّاد » الذين آثروا الحياد، واستنكفوا من البيعة لعلي ولابنه الحسنعليهما‌السلام شواهد اخرى.

ولهذه المعارضة ميادينها المختلفة والوانها المتعددة. ومنها المواقف السلبية النابية التي جوبه بها زعماء العترةعليهم‌السلام ، في المدينة اولاً، وفي الكوفة اخيراً.

والا فما الذي كان يحدو علياًعليه‌السلام ، ليقول من على منبره في الكوفة:

« يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الاطفال وعقول ربات الحجال، أما واللّه لوددت أن اللّه أخرجني من بين أظهركم، وقبضني الى رحمته من بينكم، ووددت أني لم أركم ولم أعرفكم، فقد والله ملأتم صدري غيظاً. وجرعتموني الامرين أنفاساً. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان »

الى كثير مما يشبه هذا القول، مما أثر عنه في خطبه وكلماته.

اليست هي المعارضة التي زرعت نوابتها الخبيثة في كل مكان من حواضر عليعليه‌السلام ، فأخذت على الناس التقاعس عن نصرته بشتى المعاذير.

____________

١ - قال المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٥ ص ١٧٨ - ١٧٩ ): « ولكن عبد اللّه بن عمر بايع يزيد بعد ذلك وبايع الحجاج لعبد الملك بن مروان!. » ورأى المسعودي ان يسمى هؤلاء « القعاد » بالعثمانية. ورأى ابو الفدا ( ج ١ ص ١٧١ ) ان يسميهم « المعتزلة » لاعتزالهم بيعة علي (ع) - اقول: وما هم بالعثمانية ولا المعتزلة ولكنهم الذين ماتوا ولم يعرفوا امام زمانهم.

٤٦

أقول هذا. ولا اريد ان أتتاسى - معه - العوامل الاخرى التي شاركت « الاتجاه » - الآنف الذكر - في تكوين هذه المعارضة بموقفيها - الايجابي المسلح والسلبي الخاذل - تجاه العترة النبوية في العهد الهاشمي الكريم.

ولا أشك بان العدل الصارم، والمساواة الدقيقة في التوزيع التي كانت طابع هذا العهد، بل هي - دون ريب - طابع العهود الهاشمية مع القرن الاول، في نبوتها وفي خلافتها. - هي الاخرى التي تحسس منها الناس أو قسم من الناس، بشيء من الضيق لا يتسع للطاعة المطلقة ولا للاخلاص الحر اللذين لن ينتفع بغيرهما في ميدان سلم أو ميدان حرب.

والظروف الطارئة بمقتضياتها الزمنية التي طلعت بها على الناس خزائن الممالك المهزومة في الفتوح، والطعوم الجديدة من الحياة التي لا عهد لهؤلاء الناس بمثلها من قبل - كل ذلك، كان له أثره في خلق الحس المظلم الذي من شأنه ان يظل دائماً في الجهة المعاكسة للنور.

وفي بحران هذا « الاتجاه الخاص » الذي تعاون على تكوينه ربع قرن من السنين، يتمثل عهد عليعليه‌السلام في خلافته قبل بيعة الحسن في الكوفة.

والحسن من عليعليهما‌السلام كبير ولده، وولي عهده، وشريك سرائه وضرائه، يحس بحسّه ويألم بألمه. وهو - اذ ذاك - على صلة وثيقة بالدنيا التي أحاطت بابيه من قومه ومن رعيّته ومن أعدائه، فهو لا يجهلها ولا يغفل عنها، وكان ينطوي ممّا يدور حوله على شجى مكتوم، يشاركه فيه أخوه كما يشاركه في اخوّته. وكان هذا الشجى المكتوم، هو الشيء الظاهر مما خلف به هؤلاء المسلمون - يومئذ - نبيَّهم في عترته، جواباً على قوله (ص) لهم: « فانظروا كيف تخلفوني فيهما!! ».

٤٧

وكان الحسنعليه‌السلام ، اذ ينطوي على هذا الشجى، لا يلبث ان يستروح الامل - أحياناً - بما يجده في صحابة أبيه البهاليل من النجدة والحيوية والمفاداة وشمائل الاخلاص الذي لا تشوبه شائبة طمع في دنيا، ولا شائبة هوى في سياسة.

ومن هؤلاء، القواد العسكريون، والخطباء المفوّهون. والفقهاء والقراء والصفوة الباقية من بناة الاسلام. كانوا - بجدارة - العدة التي يستند عليها امير المؤمنين، في حربه وسلمه. وكانوا - بحق - دعامة العهد الهاشمي فيما تعرض له هذا العهد، من زلازل وزعازع واخطار.

وكانوا المسلمين الذين وفوا لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما واثقوه عليه في ذريته، بأن يمنعوهم بما يمنعون به انفسهم وذراريهم. فلم لا يستروح الحسن بهم روائح الامل لقضية ابيه، بل لقضية نفسه.

وكانوا المؤمنين الذين آمنوا بكلمات اللّه في اهل بيت نبيهم وذوي قرباه وآمنوا بوصيّنبيهم، وبمراتبه التي رتبها اللّه له أو رتّبه لها. وفهموا علياً كما يجب أن يفهم. وعليٌّ هو ذلك البطل الذي لم يحلم المسلمون بعد رسول اللّه (ص) بمثله، اخلاصاً في الحق، وتفادياً في الاسلام، ونصحاً للمسلمين، واستقامة على العدل، واتساعاً في العلم. ولن ينقص علياً في كبرياء معانيه، جحود الآخرين فضائله ومميزاته، ولهؤلاء الآخرين من مطامعهم واهوائهم شغل شاغل يملأ فراغ نفوسهم. وما في ملاكات عليعليه‌السلام متسع للاهواء والمطامع. فليكن هؤلاء - دائماً - في الملاكات البعيدة عن علي، وليكونوا في المعسكر الذي يقوم على المساومة بالمال والولايات

وليكن مع علي زمرته المنخولة تلك، المسلمة اسلامها الصحيح امثال عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وحذيفة بن اليمان، وعبد اللّه وعبد الرحمن ابني بديل، ومالك بن الحارث الاشتر، وخباب بن الارت، ومحمد بن ابي بكر، وابي الهيثم بن التيهان، وهاشم بن عتبة

٤٨

ابن ابي وقاص ( المرقال )، وسهل بن حنيف، وثابت بن قيس الانصاري، وعقبة بن عمرو، وسعد بن الحارث بن الصمة، وابي فضالة الانصاري، وكعب بن عمرو الانصاري، وقرضة بن كعب الانصاري، وعوف بن الحارث بن عوف، وكلاب بن الاسكر الكناني، وابي ليلى بن بليل واضراب هؤلاء من قادة الحروب وأحلاس المحاريب، الذين انكروا الظلم، واستعظموا البدع، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتسابقوا الى الموت في سبيل اللّه، استباق غيرهم الى المطامع في سبيل الدنيا.

ومن الخير، أن ننبّه هنا، الى ان جميع هذه الصفوة المختارة كانت قد استشهدت في ميادين عليعليه‌السلام ، وان ثلاثاً وستين بدرياً استشهد معهم في صفين(١) وحدها، وان أضعاف هذه الاعداد كانت خسائر الحروب المتعاقبة مدى ثلاث سنوات.

فما ظنك الآن، بذلك الامل الذي كان يداعب الحسنعليه‌السلام بوجود الانصار، وهل بقي للحسن - بعد هذا - الا الشجى المكتوم، مضاعفاً على تضاعيف الايام.

اما معسكر عليعليه‌السلام ، فقد نكب نكبته الكبرى، حين أصحر من خيرة رجالاته، ومراكز الثقل فيه.

واما دنيا عليعليه‌السلام ، فقد عادت لسقيا الغصص وشرب الرنق - على حد تعبيره هو فيما ندب به أصحابه عند مصارعهم -.

وتلفّت عليّ الى آفاقه المترامية التي تخضع لامره، فلم يجد بين جماهيرها المتدافعة، من ينبض بروح اولئك الشهداء، أو يتحلى بمثل مزاياهم، اللهم الا النفر الاقل الذي لا يناط به أمل حرب ولا أمل سلم.

ولولا قوة تأثيره في خطبه، وعظيم مكانته في سامعيه، لما تألف له - بعد هؤلاء - جيش، ولا قامت له بعدهم قائمة.

__________________

١ - اسم موضوع على شاطئ الفرات بين « عانة » و « دير الشعار ». كان ميدان الحروب الطاحنة بين الكوفة والشام.

٤٩

وهكذا أسلمته ظروفه لان يكون هدف المقاطعة من بعض، وهدف العداء المسلح من آخرين، وهدف الخذلان الممقوت من الاتباع ( فلا اخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء ).

وأيّ حياة هذه التي لا تحفل بأمل، ولا ترجى لنجاح عمل. وقد أزمع فيها الترحال عباد اللّه الاخيار، الذين باعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى.

فسُمِعَ وهو يقول ( اللهم عجل للمراديّ شقاءه ) وسُمِعَ وهو يقول ( فما يحبس أشقاها ان يخضبها بدم أعلاها )، وسُمِعَ وهو يقول ( أما واللّه لوددت ان اللّه أخرجني من بين أظهركم وقبضني الى رحمته من بينكم ).

وسلام عليه يوم وُلِد. ويوم سبق الناس الى الاسلام. ويوم صنع الاسلام بسيفه. ويوم امتحن. ويوم مات. ويوم يبعث حياً.

وترك من بعده لولي عهده، ظرفه الزمنّي النابي، القائم على اثافيّه الثلاث - فقر الأنصار. والعداء المسلَح. والمقاطعة الخاذلة.

٥٠

البيعة

٥١

اذا كان الدين في الاسلام، هو ما يبلّغه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لانه الذي لا ينطق عن الهوى « ان هو الا وحي يوحى »، واذا كان الخليفة في الاسلام هو من يعيّنه النبي للخلافة، لانه المرجع الأعلى في الاثبات والنفي، فالحسن بن علي، هو الخليفة الشرعي، بايعه الناس أو لم يبايعوه.

ذكره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه في سلسلة أسماء خلفائه الاثني عشر، كما تضافر به الحديث عنه، فيما رواه علماء السنة(١) ، وفيما أجمع على روايته علماء الشيعة، وفيما اتفق عليه الفريقان، من قوله له ولاخيه الحسين: « انتما الامامان ولأُمَّكما الشفاعة(٢) ». وقوله وهو يشير الى الحسين: « هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة(٣) » - الحديث -.

وأمره أبوه أمير المؤمنين - منذ اعتل - أن يصلي(٤) بالناس، وأوصى اليه عند وفاته قائلاً: « يا بنيّ أنت ولي الامر وولي الدم، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ودفع اليه الكتاب والسلاح، ثم قال له: « يا بنيّ أمرني رسول اللّه أن اوصي اليك، وأن أدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصى اليّ رسول اللّه ودفع اليّ

__________________

١ - تجد ذلك مفصلاً في ينابيع المودة ( ج ٢ ص ٤٤٠ ) فيما يرويه عن الحمويني في فرائد السمطين، وعن الموفق بن احمد الخوارزمي في مسنده. وروى ذلك ابن الخشاب في تاريخه وابن الصباغ في « الفصول المهمة »، والحافظ الكنجي في « البيان ». وأسعد بن ابراهيم بن الحسن بن علي الحنبلي في « أربعينه ». والحافظ البخاري ( خاجه بارسا ) في « فصل الخطاب ».

٢ - الاتحاف بحب الاشراف، للشبراوي الشافعي ( ص ١٢٩ ط مصر ) ونزهة المجالس. للصفوري الشافعي ( ج ٢ ص ١٨٤ ).

٣ - ابن تيمية في منهاجه ( ج ٤ ص ٢١٠ ).

٤ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ٦١ ).

٥٢

كتبه وسلاحه. وأمرني أن آمرك، اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين ». ثم أقبل على الحسين فقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك هذا ». ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك محمد. فأقرِئه من رسول اللّه ومني السلام »(١) .

صورة تحكيها كل كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع، وترفعها مسندة بالطرق الصحيحة الموثقة، الى مراجعها من اهل البيتعليهم‌السلام وغيرهم. وهي الصورة التي تناسق الوضع المنتظر لمثل ظرفها. والا فما الذي كان ينبغي غير ذلك؟

وهذه هي طريقة الامامية من الشيعة في اثبات الامامة.

- نصوص نبوية متواترة من طرقهم، ومروية بوضوح من طرق غيرهم، تحصر الامامة في اثني عشر اماماً كلهم من قريش(٢) ، وتذكر - ضمناً - أو في مناسبة اخرى، أسماءهم اماماً اماماً الى آخرهم، وهو المهدي المنتظر الذي يملأ اللّه به الارض قسطاً وعدلاً، بعد أن تكون قد امتلأت ظلماً وجوراً.

- ونصوص خاصة، من كل امام على خلفه الذي يجب أن يرجع اليه الناس.

ثم يكون من تفوّق الامام، في علمه وعمله ومكارمه وكراماته، أدلة وجدانية اخرى، هي بمثابة تأييد لتلك النصوص بنوعيها.

__________________

١ - اصول الكافي ( ص ١٥١ ) وكشف الغمة ( ص ١٥٩ ) وغيرهما.

٢ - ففي صحيح مسلم ( ج ٢ ص ١١٩ ) في باب « الناس تبع لقريش » عن جابر بن سمرة قال: « سمعت رسول اللّه (ص) يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ». وروى نحواً منه البخاري ( ج ٤ ص ١٦٤ ) وابو داود والترمذي في جامعه والحميدي في جمعه بين الصحيحين. ورواه غيرهم. والحديث بحصره العدد في الاثني عشر من قريش، وبما يفصله صحيح مسلم من كون هذا العدد هو عدد الخلفاء الى ان تقوم الساعة، صريح بما يقوله الامامية في ائمتهم، دون ما وقع في التاريخ من أعداد الخلفاء ومختلف عناصرهم.

٥٣

اما بيعة الناس فليست شرطاً في امامة الامام. وانما على الناس أن يبايعوا من أرادته النصوص النبوية. ولا تصحّح الامامية بيعة غيره. ولا تقع من أحدهم الا اضطراراً.

وقضت الظروف بدوافعها الزمنيّة، أن لا يبايع الناس من الائمة المنصوص عليهم، الا الامامين علياً والحسنعليهما‌السلام .

وابتدأ بعد الحسن عهد « الخلافات » الاسمية، التي ترتكز في نفوذها على السلاح، وتقوم في بيعتها على شراء الضمائر بالمال. أو كما قال الغزالي « وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق(١) ».

وكان الاولى بالمسلمين، أو بمؤرخة الاسلام على الاخص، ان يغلقوا عهد « الخلافة » بنهاية عهد الحسنعليه‌السلام ، ليشرعوا بعده عهد « الملك » بظواهره وسياسته وارتجالاته ولو فعلوا لحفظوا مثالية الاسلام مجلوّةً بما ترسَّمه خلفاؤه المثاليون من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولصانوا الاسلام عن كثير مما وصمه به هؤلاء الملوك الذين فرضوا على المسلمين خلافاتهم فرضاً، ثم جاء التاريخ فرضي أن يسميّهم « الخلفاء » من دون استحقاق لهذا الاسم، وأساء الى الاسلام من حيث أراد الاحسان.

ترى، أيصح للخليفة الذي يجب أن يكون أقرب الناس شبهاً بصاحب الرسالة في ورعه وعلمه والتزامه بحرفية الاسلام، أن يصلي « الجمعة » يوم الاربعاء، أو يصليها مرةً اخرى في ضحى النهار، أو يتطلب محرماً، أو يبيع الذهب باكثر منه وزناً، أو يلحق العهار بالنسب، أو يقتل المؤمن صبراً، أو يرد الكافر بالمال ليتجهز على اخوانه المسلمين بالحرب؟ الى غير ذلك والى أنكى من ذلك من ظواهر الملك التي لا يجوز نسبتها الى الدين. فَلمَ لا يكون صاحبها رئيس دنيا و « ملكاً » بدل أن نسميه رئيس دينٍ و « خليفةً »؟. وناهيك بمن جاء بعد معاوية من خلائف هذه الشجرة المنعوتة في القرآن - نعتها اللائق بها -. فماذا كان من يزيد وماذا كان من

__________________

١ - تراجع « دائرة المعارف » لفريد وجدي مادة « حسن » ( ج ٣ ص ٢٣١ ).

٥٤

عبد الملك ومن الوليد، ومن آخرين وآخرين.

كل ذلك كان يجب أن يستحث المسلمين الى الانتصاف للاسلام، فلا يضيفون الى مراكزه الدينية العليا، الا الاكفاء المتوفرين بتربيتهم على مثاليّته والذين هم أقرب الناس شبهاً بمصدر عظمته الاول (ص).

وعلمنا - مما تقدم - أن الحسن بن عليعليهما‌السلام ، كان أشبه الناس برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقاً وخلقاً وهيأة وسؤدداً(١) . وانه كان عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك. وعلمنا أنه كان سيد شباب أهل الجنة في الآخرة. والسيد في الآخرة هو السيد في الدنيا غير منازع. و « السيد » المطلق لقبه الشخصيّ الذي لقبه به جدّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلمنا أنه كان أشرف الناس نسباً، وخيرهم أباً واماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة. كما وصفه مالك بن العجلان في مجلس معاوية(٢) .

فلم لا يكون - على هذا - هو المرشح بالتزكية القطعية للبيعة العامة. كما كان - الى ذلك - هو الامام المقطوع على أمره بالنص. ولم لا يضاف

__________________

١ - الارشاد ( ص ١٦٧ ) واليعقوبي ( ج ٢ ص ٢٠١ ) وغيرهما.

٢ - قال معاوية ذات يوم - وعنده اشراف الناس من قريش وغيرهم: « اخبروني بخير الناس اباً واماً وعماً وعمة خالاً وخالة وجداً وجدة »، فقام مالك بن العجلان، فأومأ الى الحسن فقال: « ها هو ذا ابوه علي بن ابي طالب، وامه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعمه جعفر الطيار في الجنان، وعمته ام هانئ بنت ابي طالب، وخاله القاسم ابن رسول اللّه وخالته بنت رسول اللّه زينب، وجده رسول اللّه، وجدته خديجة بنت خويلد ». فسكت القوم. ونهض الحسن. فاقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: « أحب بني هاشم حملك على ان تكلمت بالباطل؟ ». فقال ابن العجلان: « ما قلت الا حقاً، وما احد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق، الا لم يعط امنيته في دنياه، وختم له بالشقاء في آخرته. بنو هاشم انضرهم عوداً، وأوراهم زنداً، كذلك يا معاوية؟ قال: اللهم نعم ». ( البيهقي ج ١ ص ٦٢ ).

٥٥

اليه المركز الدينيّ الأعلى، وهو من عرفت مقامه وسموّه ومميزاته. واذا تعذر علينا أن نفهم الامامة والكفاءة للخلافة، من هذه القابليات الممتازة والمناقب الفضلى، فأي علامة اخرى تنوب عنها أو تكفينا فهمها.

خرجعليه‌السلام الى الناس، غير ناظر الى ما يكون من أمرهم معه، ولكنه وقف على منبر أبيه، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتله صلوات اللّه وسلامه عليه.

فقال: « لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه. ولقد تُوفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران. ورفع بها عيسى بن مريم، وانزل القرآن. وما خلّف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله(١) ».

وتأبين الحسن هذا - بأسلوبه الخطابي - فريد لا عهد لنا بمثله، لانه - كما ترى - لم يعرض الى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل، فكان لهم أفضل درجاتها، ومرنوا على المكارم فاذا هم في القمة من ذرواتها، علماً وحلماً وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسباً وحسباً ونبلاً ووفاء واباء، كعلي الذي حيّر المادحين مدح علاه. فلماذا يعزف الحسنعليه‌السلام ، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء؟. ترى أكانت الصدمة القوية في مصيبته به، هي التي سدّت عليه - وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب - أبواب القول فيما ينبغي أن يقول، أم أنه كان قد عمد الى هذا الاسلوب قاصداً، فكان في اختيار

__________________

١ - اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩٠ ) وابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦ ) ومقاتل الطالبيين.

٥٦

الاسلوب الخاص، ابلغ الخطباء وابرعهم اصابة للمناسبات، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات.

نعم انه يؤبّنه بما لا يسع أحداً في التاريخ أن يؤبن به غيره. وكل تأبين على غير هذا الاسلوب، كان بالامكان أن يؤبَّن على غراره غيره وغيره من عظماء الناس. اما الاوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الاولياء.

انه ينظر اليه من زاويته الربانية - نظر امام الى امام - فاذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم، ولا يضاهيه - في شتى مراحله - وليٌّ ولا زعيم.

رجلٌ ولكنه الذي لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون. وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل، وهل هذا الا الانسان الملائكي. ترفع روحه يوم يرفع عيسى، ويموت يوم يموت موسى، وينزل الى قبره يوم ينزل القرآن الى الارض! مراحل كلها بين ملَكٍ مقرّب ونبي مرسلٍ وكتاب منزل، ومع رسول اللّه يقيه بنفسه. فما شأن مكارم الدنيا، الى جنب هذه المكرمات الكرائم، حتى يعرض اليها في تأبينه.

ولعلك تتفق معي الآن الى أن هذا الاسلوب الرائع « الفريد » فيما أبن به الحسن أباهعليهما‌السلام ، كان أبلغ تأبين في ظرفه، وأليقه بهذا الفقيد.

وهذه احدى مواقفه الخطابية، التي دلت بموهبتها الممتازة على نسبها القريب، من جده ومن أبيه ( صلى اللّه عليهما وعلى آلهما ). وسيكثر منذ اليوم أمثالها، من الحسن « الخليفة »عليه‌السلام ، بحكم نزوله الى قبول البيعة من الناس، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات.

٥٧

ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع - وقد غص بالناس - ابن عمه « عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب ». ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرَّنة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبين الامام الحسن لابيهعليهما‌السلام .

ثم قال - بصوته الجهوريّ الموروث - الذي يدوّي في الارض دويّ أصوات السماء، وما كان عبيد اللّه منذ اليوم، الا داعي السماء الى الارض:

« معاشر الناس هذا ابن نبيكم، ووصي امامكم فبايعوه » « يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه، ويهديهم الى صراط مستقيم ».

وفي الناس الى ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على امامته بعد ابيه. فقالوا: « ما أحبّه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ». وبادروا الى بيعته راغبين.

وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة ابيهعليه‌السلام ، سنة اربعين للهجرة(١) .

وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها، من اللّه عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته - معها - البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم « جارية بن قدامة »، وفارس على يد عاملها « زياد بن عبيد »، وبايعه - الى ذلك - من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والانصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته - فيما نعلم - الا معاوية ومن اليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجرى مع الحسن مجراه مع أبيه بالامس. وتخلّف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.

__________________

١ - يرجع فيما ذكرناه هنا الى شرح النهج لابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١١ ) وذكر غيره مكان عبيد اللّه أخاه عبد اللّه. وسنشير في فصل « القيادة والنفير » الى ان عبد اللّه لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن.

٥٨

اما الخلافة الشرعية. فقد تمت « على ظاهرتها العامة » من طريق البيعة الاختيارية، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين وطلعت على المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن. فكانت من ناحية صلتها برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، امتداداً لمادة النور النبويّ، في المصباح الذي يستضيء به الناس. ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته.

فكان على ذلك الأولى بقول الشاعر:

نال الخلافة اذ كانت له قدراً

كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

ويعود الامام الحسنعليه‌السلام - بعد أن أُخذت البيعة له - فيفتتح عهده الجديد، بخطابه التاريخيّ البليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار

فيقول. ( وهو بعض خطابه ):

« نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه الاقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه في امته، ثاني كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة، اذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة، قال اللّه عزّ وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول وقال: ولو ردّوه الى الرسول واولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ».

ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله:

٥٩

« واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوّ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني أرى ما لا تَرون. فستلقون للرماح وردا، وللسيوف جزرا، وللعُمُد حطما، وللسهام غَرَضا. ثم لا ينفع نفساً ايمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً(١) »

ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمَّر الامراء ونظر في الامور(٢) .

قبول الخلافة

وتحذلق بعض المترفهين بالنقد، فرأى من « التسرع » قبول الحسن للخلافة، في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع ونتائج، بعضها ألم، وبعضها خسران.

ولكي نتبين مبلغ الاصابة في التسرع الى هذا النقد. نقول:

اما اولاً:

فلما كان الواجب على الناس ديناً، الانقياد الى بيعة الامام المنصوص عليه، كان الواجب على الامام - مع قيام الحجة بوجود الناصر - قبول البيعة من الناس.

اما قيام الحجة - فيما نحن فيه - فقد كان من انثيال الناس طواعية الى البيعة في مختلف بلاد الاسلام، ما يكفي - بظاهر الحال - دليلاً عليه. ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.

واما ثانياً:

فان مبعث هذا الانعكاس البدائي، عن قضية الحسنعليه‌السلام هو

__________________

١ - روى هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: انها بعض خطبته بعد البيعة له بالامر البحار ( ج ١٠ ص ٩٩ ) والمسعودي.

٢ - وروى هذا النص اكثر المؤرخين.

 

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694