سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358034 / تحميل: 8964
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المذعنين ـ بأن التعاليم الإسلامية الرفيعة التي انقذت العالم من ذلك الوضع المأساوي لم تكن أبداً وليدة الفكر البشريّ وان نسيم الوحدة ، الناعشة ، ونغمة السلام الّتي يهدف إليه الإسلام ويسعى إلى تحقيقه واقراره في الحياة البشرية ليس لها من مصدر إلا الغيب ، إذ كيف يمكن القول بان الإسلام الّذي يعترف حتّى للحيوانات بحق العيش والحياة نابع من تلك البيئة المغرقة في القسوة والوحشية ، وناشئ من ذلك المحيط المفحم بروح الانتقام والتشفي.

لقد أبطل الإسلامُ جميع تلك المجادلات العقيمة والمناقشات التافهة حول مشيئة عيسى وشخصيته ، وقال في نعته ووصفه : « ما المَسِيحُ بنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُلُ واُمَّه صِدِّيقةٌ كانا يأكُلان الطّعام »(١) .

إن هذه الآية انهت الكثير من أبحاث رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول « الروح » و « المسيح » ودمه ، وشخصيته ، وحقيقته ، كما ان الإسلام بفضل التعاليم الرفيعة ، واحياء السجايا والملكات الفاضلة انقذ البشرية من المنازعات ، الفارغة ، والمذابح الفضيعة.

أوضاع إيران إبان عَهد الرسالة :

إن ما دفعَنا إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتم علينا أيضا دراسة اوضاع إيران يومذاك.

لقد صادف ظهورُ الإسلام وبعثة الرسول الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ٦١١ ميلادية ) عهد السلطان الإيراني خسرو برويز ( ٥٩٠ ـ ٦٢٨ م ) ، وفي عهد « خسرو برويز » هذا هاجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى المدينة ( الجمعة ١٦ جولاي ٦٢٢ ) ، وصارت هذه الواقعة مبدء للتاريخ الإسلامي.

في هذه الأَيام كانت الدولتان العظيمتان ( الروم الشرقية وايران

__________________

١ ـ المائدة : ٧٥.

١٠١

الساسانية ) تسيطران على معظم مناطق العالم المتحضر ، ولم تزل هاتانَ الدولتان في نزاع مستمر وصراع دائم على مناطق النفوذ حتّى بعد ظهور الإسلام.

فقد بدأت حروب ايران والروم الطويله من عهد السلطان الإيراني أنوشيروان ( ٥٣١ ـ ٥٨٩ م ) واستمرَّت إلى عهد الملك « خسرو برويز » واستغرقت اربعاً وعشرين عاماً من الزمان(١) .

وقد سبَب تحمل « ايران » و « الروم » للخسائر الكبرى ، في الارواح والثروات خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين ، وتعطيل وشلّ قواهما بحيث لم يبق منهما إلاّ شبحُ دولتين لا اكثر.

ولكي نقف على الوضع العام في ايران آنذاك من جهاته المختلفة ، وابعاده المتنوعة وبصورة أفضل ، يجب ان نلقي نظرة فاحصة على وضع الحكومات الّتي توالت على سدة القيادة الايرانية بعد حكم « انوشيروان » وحتّى بداية دخول المسلمين.

البَذخ والتَرف في البلاط الساساني :

كانت حياة الملوك الساسانيين تتسم عموماً بالبذخ والترف ، والتشريفات الطويلة العريضة ، وكان البلاطُ الساساني الفخم جداً يخلب ببريقه ، بريق العيون ، ويسحر الافئدة والعقول.

وكان للايرانيين في عهد الساسانيين لواء يُعرف ب‍ « درفش كاوياني » اي العلم الكاوياني نسبة إلى كاوه وهو بطل قومي إيراني اُسطوري ، وقد كانوا يحملونه معهم في الحروب ، أو ينصبونه فوق قصورهم اثناء إحتفالات الساسانيين الكبرى ، وقد كان هذا اللواء موشحاً ومزيناً بأغلى أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية ـ حسب قول بعض الكتاب : « ٠٠٠ / ٢٠٠ / ١ » درهماً ( أو ما يعادل

__________________

١ ـ تاريخ علوم وادبيات در ايران ص ٣ و ٤ وايران در زمان ساسانيان ص ٢٦٧ ( باللغة الفارسية ).

١٠٢

٠٠٠ / ٣٠ پوند ).

وقد بلغت مجموعة المجوهرات والاشياء الثمينة والتصاوير والرسوم المحيرة للعقول الّتي كانت تكتضُّ بها قصور الساسانيين من حيث الاهمية والقيمة حداً سحرت العيون وخلبَت الالباب.

ولو أننا أردنا أن نقف على عجائب ما في تلك القصور ، وما كانت تحتوي عليه من غرائب الاشياء لكفانا أن نلقي نظرة واحدة إلى السجّادة البيضاء والكبيرة التي كانت مفروشة في احدى صالات بعض تلك القصور ، وهي السجّادة الّتي كانت تدعى بالفارسية ب‍ « بهارستان كسرى » وهو بساط كانوا يُعدوّنه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكانوا إذا أرادُوا الشرب وتعاطي الخمر فرشوه ، وشربوا عليه فكأنهم في رياض وكان هذا البساط ستيناً في ستين أرضُه بذهب ووشيُه بفصُوص ، وثمره بجوهر وورقه بحرير »(١) !!

وقيل أيضاً أن هذا البساط كان مئة وخمسين ذراعاً في سبعين ذراع وكان منسوجاً من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية جداً!!

وقد كان « خسرو برويز » أكثر الملوك الساسانيين ميلا إلى الترف ، والبذخ ، واتخاذ الزينة ، وقد بلَغَت عددُ نسائه وجواريه عدة الآف.

يقول حمزة الاصفهاني في كتاب « سنيّ ملوك الارض » واصفاً حالة الترَف والبذخ الّتي كان يعيشُها كسرى برويز : ثلاثة آلاف امرأة ، واثنا عشر.

وجاء في تاريخ الطبري : أن « كسرى(٢) برويز » كان قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك ، وكان أرغب الناسِ في الجواهر والأواني(٣) .

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ١٣٠.

وجاء في تاريخ الطبري : كانت هذه السجّادة ستين ذراعاً في ستين ذراعاً ، بساطاً واحداً مقدار جريب فيه طرق كالصور ، وفصوصٌ كالأنهار وخلال ذلك كالدَّير وفي حافاته كالأَرض المرزوعة والأَرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ، ونواره بالذَهب والفضّة!!

٢ ـ سنيّ ملوك الارض والأنبياء : ص ٤٢٠.

٣ ـ تاريخ الطبري : ج ١ ، ص ٦١٦.

١٠٣

الوضع الاجتماعي في ايران :

لم يكن الوضعُ الإجتماعي في عهد الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبداً ، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الّذي كان سائداً في ايران منذ زمن بعيد اشدَّه واقوى درجاته ، واسوء حالاته في العهد الاختلاف الساساني.

فطبقة النبلاء والكهنة كانت تتميز على بقية الطبقات تميزاً كاملا ، فهم يختصون بجميع المناصب الاجتماعية الحساسة والعليا ، بينما حُرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية ، ولم يكن لهم من واجب ودور في النظام إلا دفع الضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب.

يكتب أحدُ الكتّاب الإيرانيين وهو الاستاذ سعيد نفيسي في هذا الصعيد قائلا :

ان ما كان يثير روح النفاق بين الايرانيين اكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جداً الّذي كان الساسانيون يتبعونها في التعامل مع الشعب ، وكان لها جذورٌ في العهود والحضارات السابقة ، ولكنها بلغت ذورتها في العهد الساساني بالذات!!

ففي الدرجة الاُولى كان للعائلات السبع من النبلاء ، ثم للطبقات الخمس إمتيازاتٌ خاصة حُرمَتْ منها عامة أبناء الشعب.

فالملكية كانت محصورة ـ تقريباً في تلك العائلات السبع مع العلم أن الشعب في العهد الساساني كان يقاربُ عدد نفوسه مائة وأربعين مليوناً في حين لا يبلغ عددُ كل واحد من تلك العائلات الممتازة والمتميّزة في شؤونها مائة ألف شخص ، فيكون مجموعُها سبع مائة ألف(١) .

وإذا افترضنا أنَّ حراسَ الحدود وأمراءهم والمُلاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشيء من حق الملكية كان يبلغ عددهم أيضاً سبع مائة ألف أيضاً فيكون حق التملك والمالكية حينئذ خاصاً بمليون ونصف من مجموع مائة

__________________

١ ـ تاريخ اجتماعي ايران : ج ٢ ، ص ٦ ـ ٢٤ ( باللغة الفارسية ).

١٠٤

واربعين مليوناً ، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي الّتي تملك ، وأما الآخرون وهم الاكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحق الطبيعي الموهوب لهم من جانب اللّه أساساً وأصلا.

لقد كان الكسبة والفلاحون الذين كانوا محرومين من جميع الحقوق ، والإمتيازات ولكنّهم كانوا يتحمَّلون نفقات حياة البذخ والرفاهية الّتي كان يرفل فيها النُبلاء والأشراف والطبقات العليا ، لا يأملون خيراً وراء استمرار هذه الاوضاع ، ودوامها ، ولهذا كثيراً ما كان المزارعون والفلاحون والطبقات الدنيا من الشعب يغادرون أعمالهم ، ومزارعهم ويلجأون إلى الأديرة فراراً من الضرائب الباهضة والاتاوات القاصمة للظهور ، المبددة للثروات(١) .

يقول مؤلف كتاب « ايران في عهد الملوك الساسانيين »(٢) .

إن حروب إيران ـ الروم الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني انوشيروان ( ٥٣١ ـ ٥٨٩ م ).

وخلاصة القول أنه كان في الامبراطورية الساسانية يملك أقلية صغيرة تقلّ نسبتُها عن ٥ / ١ % ( واحد ونصف بالمائة ) من مجموع الشعب كل شيء بينما كان اكثر من ( ٨٩ % ) من الشعب الإيراني محرومين من حق الحياة تماماً كالعبيد.

حَقٌّ التعلّم خاصُ بالطبقات الممتازة!! :

في العهد الساساني كان ابناء الاغنياء والبيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحق التعليم ، بينما كان عامة جماهير الشعب ، والطبقات الوسطى والدنيا محرومين من تحصيل العلوم واكتسابها.

وقد كانت هذه المنقصة بادية وواضحة في عصور ايران التاريخية جداً بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم ودواوينهم الملكية المعروفة بالرغم من ان

__________________

١ ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ٧٠ و ٧١.

٢ ـ إيران في عهد الساسانيين : ص ٤٢٤.

١٠٥

الهدف من تلك الملاحم والدواوين كان هو الحماسة ، والتفاخر بالبُطولات وتجييش العواطف ، بعد مدح الملوك والامراء.

فها هو « الفردوسي »(١) الشاعر الملحمي الفارسي المعروف ، بل اشهر شعراء ايران قد ذكر في شاهنامته ( وهي الملحمة الشعرية الّتي يذكر فيها أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت ) قصة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على ما قلناه.

وقد وقعت هذه القصة في زمن « أنو شيروان » ، أي في الوقت الّذي كانت الامبراطورية الساسانية تمرُّ فيه بعهدها الذهبي.

وهذه القصة تشهد بأن اكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضاً كانت محرومة من حق التعلم ، وممنوعة عن اكتساب الثقافة.

يقول الفردوسي : لقد أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني ـ في حربه مع الروم ـ بدفع ما يحتاجون إليه من ذهب وفضة.

ومع أن السلطة في عهد « انوشيروان » كانت بحاجة ماسة إلى مساعدات مالية كبيرة إذ كان يتعين عليها أن تجهز ما يقرب من ثلاثمائة الف مقاتل قد اصيبوا بالمجاعة وقلة العتاد ، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات ، وإلى ظهور الفوضى في الجنود ، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك الإيراني « أنوشيروان ».

والتخوف من مضاعفات هذه الحالة ، وآثاره السيئة في قتاله للروم ، ولذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنك « بزرجمهر » للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج ، ثم امره بالتوجه إلى منطقة « مازندران » وجمع الاموال اللازمة من سكانها.

ولكن « بزرجمهر » حذَّر الملك من مغبّة هذا العمل ، وأضاف بأن هذا من شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الاموال اللازمة عن طريق القروض الشعبية فاستحسن « انوشيروان » اقتراحه وأمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على

____________

١ ـ راجع للتعرف السريع على شخصية هذا الشاعر : الموسوعة العربية الميسرة : ص ١٢٨٦.

١٠٦

التو فيرسل الوزير مندوبين له إلى المدن الإيرانية ليكلم التجار واصحاب الثروة في الامر.

فيبدى الحذّاء المذكور استعداده لتحمل كل نفقات الجيش لوحده الاّ انه اشترط ذلك بان يسمحوا لولده الوحيد الراغب في تحصيل العلم جداً ان يتعلم.

فاستحقر الوزير شرطه ووعده بالانجاز ، والسماح لولده بالتعلم وتحصيل العلم ، ثم عرض الامر على الملك انوشيروان وهو يأمل في ان يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء وطلبه الصغير إذا ما قيس بما سيعطيه من اموال طائلة في تلك الاوضاع الحرجة.

ولكن الملك استشاط غضباً لهذا الطلب ، ونهر الوزير قائلا : دع هذا ، ما أسوأ ما تطلبه ، ان هذا لا يمكن ان يكون ، لان ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقّي المتبع ، فينفرط بذلك عقد الدولة ، ويكون ضرر هذا المال علينا اكثر من نفعه ، وشره اكثر من خيره.

ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان إذ يقول ناظما ذلك في ابيات(١) :

وإذا اصبح ابن الحذّاء عالماً كاتباً عارفاً فعندما يجلس ولدنا على مسند الحكم والسلطنة واحتاج إلى كاتب ، فانه سيضطر إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء ـ الكاتب ـ ( وهو من عامة الشعب ومن ابناء الطبقة الدنيا وفي حين جرت عادتنا إلى الآن على أن نستعين بابناء الاشراف والنبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا )!!!

وإذا حصل ابن الحذّاء وبائع الاحذية على العلم والمعرفة أعاره العلم والمعرفة حينئذ عيوناً بصيرة ، وآذاناً سميعة فيرى حينئذ ما يجب أن لا يراه ،

__________________

١ ـ وإليك هذه الأبيات باللغة الفارسية :

چو بازارگان بچه گردد دبير

هنرمند وبا دانش وياد گير

چو فرزند ما برنشند به تخت

دبيرى ببايدش پيروز بخت

هنر بايد از مرد موزه فروش

سپارد بدو چشم بينا وگوش

بدست خردمند مرد نژاد

نماند جز از حسرت وسرد باد

١٠٧

ويسمع ما يجب أن لا يسمعه ، وحينئذ لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة والتأسف(١) .

وهكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء المسكين إليه رافضاً طلبه ويعود الحذاء خائباً وهو يتوسل بما يتوسل به المستضعفون والمحرومون المظلومون وهو الدعاء والضراعة إلى اللّه في الليل وفي هذا قال الفردوسي : عاد مبعوث الملك بدراهم الحذاء إليه فاصيب الحذاء لذلك بغمّ شديد ثم لما جن الليل تضرع الحذاء إلى اللّه وشكا إليه الملك طالباً عدالته(٢) .

والعجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان بالعادل وهو الّذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه وسلطانه وهي المشكلة الثقافية ، بل تسبب في أن يصاب الشعبُ الإيراني بالمزيد من المشاكل الاجتماعية وغيرها.

فقد وأد ودفن في القبور احياء ما يقرب من ثمانين الف انسان ( اومائة الف كما قيل ) في حادثة واحدة ، وهي فتنة مزدك ، حتّى أنه ظنَّ انه قد قضى على جذور تلك الفتنة وهو لا يعلم أنها لم تُستأصل لأن مثل هذه الأساليب القمعية انما تقضي فقط على المسبَّب دون السبب وتكافح المجرم لا الجرم.

لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك الفتنة هو الظلم الاجتماعي ، والاختلاف الطبقيّ ، واحتكار الثروة ، والمنصب على أيدي طبقة خاصّة وحرمان الاكثرية الساحقة من الشعب وغير ذلك من المفاسد وكان عليه لو أراد الاصلاح أن يعالج هذه الاُمور ليأتي على المشكلة من أساسها ، ولكنه بدل ذلك كان يريد ـ بالقهر والقمع وفي ظلّ الحراب والسياط ـ أن يظهر الناس انفسهم بمظهر الراضي وعن السلطة ، الموافق على تصرفاتها ، وأحوالها وأوضاعها السيئة!!!

ومن هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ راجع شاهنامه ( باللغة الفارسية ) وتاريخ اجتماعي ايران : ص ٦١٨.

٢ ـ

فرستاده برگشت وشد بادرم

دل كفشگر زان درم پر زغم

شب آمد ، غمى شد ز گفتار شاه

خروش جرس خواست از بارگاه

١٠٨

الّذي قال فيه : « وُلدتُ في زمن الملك العادل » ويقصد به انوشيروان(١) .

صفحةٌ سوداءٌ من جرائم خسرو برويز :

ومن جرائم الملك خسرو برويز ومظالمه المنكرة ما فعله بوزيره الشهير « بزرجمهر » الّذي خدم البلاط الشاهنشاهي الايرانيّ ثلاثة عشر عاماً وكان ذلك موجباً لشهرته في البلاد وحسن صيته بين الناس.

فقد عَمَدَ هذا الملك إلى سجن الوزير المذكور ، والنكاية به ، وقدكتب إلى الوزير المسجون رسالة يقول فيها : إنَّ حظَّك مِنَ العلم والمعرفة أنه عرضك للقتل!!

فاجابه « بزرجمهر » بقوله : « فقد انتفعتُ بعلمي مادام قد حالفني الحظُ ، وحيث عاكسني الآن ، فانّني اصبر وأنتفعُ بصبري ، فإذا فاتني فعلُ خير كثير فانني سعيدٌ لأنَّني لم أرتكب كذلك شرّاً كثيراً وإذا ما سلبني منصب الوزارة فاني في الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس ، فلا ابالي بما أنا فيه ».

ولما بلغَت هذه الرسالة إلى الملك « برويز » استشاط غضباً ، وأمر بقطع شفتي الوزير ، وجَدْع أنفه ، وعندما عرف الوزيرُ بهذا الأمر الظالم قال : أجل أن شفتي تستحقان اكثر من هذا.

فسأله خسرو برويز : ولماذا؟ فقال : لأنهما وصفتاك عند العامة والخاصة بما لا تستحق من الأوصاف ، واعطتاك ما ليس فيك من الخصال ، فامالتا اليك القلوب ، ورغَّبتا فيك النفوس ، والافئدة ، وآشاعتا عنك أمجاداً لم تستحقها ، يا اسوأ الملوك وأظلم الحكام ، تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي ، وصدقي ، واخلاصي ، وسلامتي ، فمن بعد هذا يأمل في عدلك ، ومن بعد هذا يثق بقولك؟!

__________________

١ ـ راجع في هذا المجال : تذكرة الموضوعات لابن الجوزي ، اللئالي المصوغة في الاحاديث الموضوعة للسيوطي ، وكذا مجمع الزوائد للهيثمي.

١٠٩

فازداد « خسرو برويز » لسماع هذه الكلمات الساخنة غضباً على غضب ، وأمر من فوره بقتل الوزير ، فضرب عنقه في التوّ(١) .

وتلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف زوراً بالعادل مع اقرب مقربيه ، واكثر معاونيه إخلاصاً ، ووفاء له فكيف كانت تُرى معاملته مع سائر أفراد الرعية وبقية أفراد الشعب؟؟

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين :

لقد اتخذ الحكام الساسانيُّون في عهودهم وحكوماتهم سياسة خشنة قاسية ، وقد أخضعوا الناس بسلطانهم بالسيف والعنف.

كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة وأتاوات باهضة قاصمة للظهور ، ولهذا السبب كان عامة الشعب الايراني غير راضين على حكمهم وسيرتهم ، ولكنهم خوفاً على نفوسهم ، ما كانوا يتمكنون من الاعلان من استيائهم هذا بل لم يكن لأرباب الفكر والرأي والعارفين بالامور شأن ولا قيمة في البلاط الشاهنشاهي.

لقد بلغ الاستبدادي لدى الحكام الساسانيين حداً لم يستطع معه أحدٌ من إظهار رأيه ، ولم يجرأ احد على إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون.

لقد بلغت القوة بخسرو برويز حداً عجيباً وصفه الثعالبي بقوله :

قيل لخسرو برويز ( كسرى ) دعونا فلانا الوالي فتباطأ عن الامتثال ، فأمر الملك من فوره قائلا ان كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كله ، فاننا يكفينا شيء منه ، فليؤتى براسه فحسب(٢) .

__________________

١ ـ يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند ذكر وقائع انوشيروان اثناء حربه مع الروم ( ج ٦ ، ص ٢٥٧ ـ ٢٦٠ ).

٢ ـ ايران در عهد ساسانيان : ص ٣١٨.

١١٠

الفوضى في الحكومة الساسانية :

وممّا يجب ان لا نغفل عن ذكره هو ما تعرضت له الحكومة الساسانية في اواخر عهدها من الفوضى الادراية ، وتفاقم الهرج والمرج في جهازها الحكومي.

فقد دبّ الصراع والنزاع ونشب التنافس الحاد بين الامراء ، والاعيان وقاده الجيش في ذلك العهد وذهب كلُ فريق يختار أميراً من أبناء العائلة المالكة ، ويقوم بتصفية الطائفة الاُخرى الّتي اختارت أميراً آخر.

وعندما فكّر العرب المسلمون في فتح إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضَعف والانقسام.

وممّا يدل على ذلك تعاقبُ ما يقرب من(١٤) ملكاً على مسند الحكم والسلطان خلال مدّة اربعة اعوام من مقتل الملك « خسرو برويز » وجلوس شيرويه مجلسه وحتّى آخر ملك من ملوك بني ساسان.

وهذا يعني أن حكومة إيران انتقلت خلال مدة لا تتجاوز اربعة اعوام من يد إلى يد اُخرى ( ١٤ مرة )!! ومن الواضح ما يلحق باية دولة ومملكة تتعرض ل‍(١٤) انقلاب يُقتل فيه ملك ، ويحل محله ملك آخر في مثل هذه المدة القصيرة.

فقد كان كلُ حاكم يتسلَّم زمام الحكم ويستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل واغتيال كل من كان يطمع في العرش ، ولا يتورع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كل ما يراه ضرورياً ، فكان الأب يقتل ابنه ، والابنُ يقتل أباه ، وربما يقتل الاخ إخوته ، والزوجة زوجها وهكذا

فقد قتل « شيرويه » أباه(١) للحصول على مقعد الحكم والسلطان ، كما أباد اربعين شخصاً من أبناء الملك « خسرو برويز » اي إخوته!!(٢) .

وكان « شهر براز » يقتل كل من لا يثق به ، وقد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل أبناء سلالته من الامراء الساسانيين ممّن كان قد تسنَّم عرش السلطان

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٢٩٦.

٢ ـ تاريخ اجتماعي ايران : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ١٩.

١١١

والملوكية قبله ، رجلا كان ذلك أم إمراة ، صغيراً كان ام كبيراً ، لكيلا يبقى في الوجود من يطمع في السلطان أو يدّعيه!!

وصفوة القول : أن الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حداً بحيث كانوا يجلسون فيه الأطفال والصبيان والنساء على اريكة الحكم ، ثم يثورون عليهم ويقتلونهم بعد ايام أو أشهر ويحلون محلَّهم أشخاصاً آخرين!!

وعلى هذا فإن الدولة الساسانية رغم قوتها الظاهرية كانت آخذة في الانحطاط والانحلال وسائرة نحو التمزق والفناء.

الفوضى الدينية في ايران الساسانيين :

لقد كان أهم عامل للفوضى الّتي كانت تعاني منها الاوضاع في العهد الساساني هو الاختلاف في المعتقدات الدينية الّتي كانت سائدة آنذاك.

فحيث أن « اردشير بن بابك » مؤسس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد ( وهو رجل دين زردشتي ) وقيّماً على بيت نار وقد تمكن من السلطان بفضل الموابدة فانه اجتهد في الترويج لدين آبائه في ايران.

وفي عهد الساسانيين كان الدين الرسمي والشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي ، ولما كانت السلالة الساسانية قد توصلت إلى الحكم بواسطة الموابدة ـ كما أسلفنا ـ لذلك كان الموابدة والقيمون على بيوت النار ( ونعني بهم رجال الدين الزرادشتي ) يحظون بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد الساساني أقوى طبقة ، وأشد الاجنحة نفوذاً في المجتمع الإيراني آنذاك.

ولقد كان الحكام الساسانيّون دائماً ممَّن رشحهم للحكم الموابدة ورجال الدين الزردشتي المجوسي ، ولذلك كان الحكام يأتمرون بأوامرهم ، ولو أن أحداً منهم خالف الموابدة عارضوه أشدَّ المعارضة ، وسحبوا عنه تأييدهم ودَعْمهمْ ، ولهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة ، والعناية بهم اكثر من غيرهم من الطبقات ، وقد تسبَّبت عناية اُولئك الملوك بالموابدة وحمايتهم لهم في تزايد

١١٢

عددهم ، يوماً بعد يوم.

وقد كان الساسانيون يستغلون رجال الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم ، وتقوية مواقعهم في السلطان ولذلك أقاموا في مختلف مناطق القطر الإيراني العريض بيوت النار ، ( وهي معابد المجوس ) جاعلين في كل واحد من هذه المعابد ثلة كبيرة من الموابدة كسدنة.

فقد كتب المؤرخون يقولون : ان « خسرو برويز » شيد بيتاً للنار عظيماً ووكل به ( ١٢ الف ) هيربد ( وهو منصب خاص ورتبة خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية ) لينشدوا فيه الاناشيد الدينية ، ويؤدوا الطقوس والشعائر المجوسيّة!!(١) .

وعلى هذا الاساس كان الدين المجوسي دين البلاط ، وكان رجاله في خدمة الملوك.

هذا وقد اجتهد الموابدة ـ بكل ما في وسعهم ـ في إبقاء الطبقات الكادحة والمحرومة من ابناء الشعب الإيراني في حالة من الركود والجمود وحالة عدم الاحساس بالآلام والرضا بالأمر الواقع.

ولقد تسببت الصلاحياتُ الواسعة والحريات المطلقة المخولة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي والنفور منه ، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتدين به الأشراف من عقيدة ودين.

يقول مؤلف كتاب « تاريخ اجتماعي ايران » وقد سعى الشعب الإيراني ـ في المآل ـ إلى ان يتخلص من ضغوط الاشراف والموابدة واضطهادهم ، ولهذا ظهر بيت الزردشتيين في قبال الدين الرسمي « المزدية الزردشتية » الّذي كان دين البلاط كما عرفنا ، وكان يدعى : بهدين ( اي الدين الافضل ) مذهبان آخران(٢) .

اجل وبسبب ضغوط الاشراف وتشددات الموابدة في العهد الساساني ظهرت في ايران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر ، وقد حاول « مزدك » ومِنْ قبله « ماني » ان يوجدا بأنفسهِما تحولا في الاوضاع الدينية وفي العقائد والمؤسسات ،

__________________

١ ـ تاريخ تمدن ساساني : ج ١ ، ص ١ ( بالفارسية ).

٢ ـ تاريخ اجتماعي ايران : ج ٢ ، ص ٢٠.

١١٣

ألاّ أنهما منيا بالفشل في هذا السبيل(١) .

فحوالي سنة ( ٤٩٧ ميلادية ) قام « مزدك » ، وألغى المالكية الانحصارية ( الخاصة ) ، ونسخ عادة تعدد الزوجات ، ونظام الحريم وكان ذلك في مقدمة برامجه الاصلاحية ، وقد لقيت أفكاره هذه تأييداً قوياً من قِبل الطبقات المحرومة المسحوقة الّتي فجرت بقيادة « مزدك » ثورة كبرى ، وانقلاباً هائلا في المجتمع الإيراني.

ولقد كانت هذه الثورات والانتفاضات الشعبية لأجل أن يتوصل الناس إلى حقوقهم المشروعة ، الممنوحة لهم من قبل اللّه خالقهم وبارئهم.

ولقد قوبل مذهب « مزدك » باعتراض شديد من قِبَل الموابدة ، وامراء الجيش ، وجرّ إلى فتنة كبيرة ، وإلى تردي الاوضاع في ايران آنذاك.

كما ان المذهب الزردشتي قد فقد ـ في أواخر العهد الساساني ـ حقيقته بصورة كاملة ، ووصل الأمر بعبادة النار وتقديسها إلى درجة أنهم كانوا يحرِّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار ولهيبها بمجاورتها لها.

وبكلمة واحدة ؛ لقد كانت اكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألف من الخرافات والأساطير ، وقد أعطت حقائق هذا الدين ـ في هذا العهد ـ مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء ، والطقوس الفارغة ، الّتي أضاف إليها الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتاً لمواقعهم ، ودعماً لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ.

لقد بلغت سيطرة الخرافات والاساطير البعيدة عن العقل والمنطق على هذه العقيدة ، ورسوخها في هذا الدين حداً أقلق حتّى رجال الدين الزردشتي انفسهم أيضاً ، وقد كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس والشعائر الزردشتية الجوفاء فتخلى عنها.

__________________

١ ـ المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية ، فقد اخترع ماني من مسلك قومي وآخر اجنبي مذهباً جديداً ثالثاً.

١١٤

هذا من جانب

ومن جانب آخر كان قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك « أنوشيروان » فما بعد طريق التفكير ، والتأمل ، والتحقيق ، وممّا قد قوّى هذا الامر ما حصل من اتصالات بين العقائد الزردشتية والمعتقدات المسيحية وغيرها من العقائد والاديان وما تحقق من تلاقح بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية والهندية ، وغيرها إلى الوسط الإيراني ، وتسبب كل ذلك في يقظة الشعب الإيراني ، ولذلك اصبح يعاني من هذه الخرافات والاساطير الّتي كانت الديانة الزردشتية تعج بها اكثر من أي وقت مضى.

وعلى أية حال فان الفساد الّذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت ، وتطرق الخرافات والاساطير الواهية الكثيرة إلى المعتقدات الزردشتية تسَبّبَ في حصول مزيد من التشتت والاختلاف والتشرذم في آراء الشعب الإيراني وعقيدته.

ومع ظهور هذا الاختلاف وعلى أثر إنتشار المذاهب المتنوعة ظهر روح الشك والتردد لدى الطبقة المفكرة والمثقفة ، وسرت منهم إلى بقية الاصناف والفئات ممّا أدى ذلك إلى أن يفقد جماهير الشعب ثقتها وايمانها القطعي ، واعتقادها الكامل السابق بتلك المعتقدات.

وهكذا استشرى الهرج والمرج وعمَّت الفوضى واللادينية كل مناطق إيران والمجتمع الإيراني ، كما رسم « برزويه » الطبيب الشهير في العهد الساساني حيث صوّر نموذجاً كاملا عن الاختلاف الاعتقادي والتشرذم الفكري ، وبالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد الساساني ، في مقدمة « كليلة ودمنة ».

الحروبُ الإيرانية الروميّة :

لقد انقذ « بزرجمهر » ـ الوزير الإيراني الشهير الّذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة « انوشيروان » وكان موصوفاً بالتدبير والكفاءة العالية ـ ايران من الاخطار الّتي احدقت بها في اكثر الاحايين ، ولكن علاقته بالسلطان

١١٥

( انوشيروان ) كانت تتأثر احياناً بسعاية الساعين ووشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قراراً بحبسه وسجنه.

وقد أوغرّ هؤلاء السعاة والواشون أنفسُهم صدرَ « انوشيروان » ضد امبراطور الروم ، وألّبوه عليه ، وشجّعوه على توسيع رقعة نفوذه ، وتوسيع حدود بلاده واضعاف سيطرة منافسه الخطير ، متجاهلا وثيقة « الصلح الخالد » الّتي عقدها مع الروم واتفق فيها الجانبان على عدم التعرض بعضهم لبعض.

وأدى هذا التحريض بأنوشيروان إلى مهاجمة الروم ، واشتعلت على اثرها نيران الحرب ، واستطاع جنود ايران ان يفتحوا سورية ( وقد كانت مستعمرة رومية ) في مدة قصيرة تقريباً ، وحرق انطاكية ونهب آسيا الصغرى.

وبعد عشرين عاماً من القتال وسفك الدّماء ، والكرّ والفر بين الروم وايران وبعد أن فقد الجانبان قدراتهم وطاقاتهم في تلك المعارك الطاحنة ، وبعد الخسائر العظيمة الّتي تحمّلهما الطرفان إضطرّا إلى عقد وثيقة الصلح مرة ثانية ، وحدّدوا حدود بلادهما ، ومناطق نفوذهما كما كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كل عام ما يعادل ( عشرين الف ) دينار إلى دولة ايران.

ومِنَ الواضح الّذي لا يخفى ولا يحتاج إلى البيان أن حروباً طويلة الامد تدور رحاها بعيداً عن مركز الدولة من شأنها ان تأتي بالنتائج السيئة والتبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب ، وصناعته وتوجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية ، لا تزول آثارها إلاّ بعد زمان طويل خاصة مع ملاحظة الوسائل والأدوات في تلك العصور.

ومهما يكن فان هذه الحروب ، وهذه الحملات المكلفة هيأت المقدمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية الحتمي.

فان آثار هذه المعارك لم تَزُل بعد إلاّ وقد نشبت حرب اُخرى دامت سبعة اعوام فان « تي باريوس » امبراطور الروم بعد ان تسنم عرش السلطان هدد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع الانتقام.

وفي الأثناء ـ وقبل ان يتضح موقف الطرفين وموقعهما في تلك المعارك من

١١٦

الهزيمة أو الانتصار ـ مات « انوشيروان » وخلفه في إدراة البلاد ابنه « خسرو برويز ».

وقد حمل هذا الأخير على الروم ايضاً ، وذلك عام(٦١٤) بحجج معينة ، وفتح في أول حملة من حملاته : بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ونَهب اورشليم ، وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيّد المسيحعليه‌السلام وهدم المدن ، ودمرها.

وقد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين الف من النصارى لصالح الإيرانيين.

في مثل هذه المرحلة الّتي كان فيها العالمُ المتحضر آنذاك يحترق ـ في نيران الحروب والظلم ، بُعِث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة الإسلامية ، وبلغ نداؤه المحيي للنفوس والعقول سمع البشرية ، وقام يدعو الناس إلى الصلح والسلم ، وإلى النظم والامن.

ولقد أدّى انهزامُ الروميين المتدينين ، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفار ، عبدة النار ، إلى ان يتفاءل اهل مكة الوثنيون بهذا الحدث ، ويحدّثوا ( ويمنّوا ) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عما قريب ، وانطلقوا يرددون هذه الاُمنية أمام المسلمين وهم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم ، وزعزعة إيمانهم ، الامر الّذي أقلق المسلمين.

ولم يتخذ النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موقفاً تجاه هذه الظاهرة انتظاراً لما سينزل به عليه الوحيُ إلى ان نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات الاُولى من سورة الروم الّتي تقول : «الم ، غُلِبَتِ الرُّوْم في أدْنى الأَرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غلَبهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْع سنين للّه الأمرُ منْ قبْل وَمن بَعْد وَيَوْمئذ يَفْرَحُ الْمُؤمِنُونَ بَنَصْر اللّه يَنصُرُ مِنْ يَشاء وَهُوَ الْعَزيزُ الرَّحيمُ. وَعَدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّه وَعْدَهُ وَلكِنَّ اكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون »(١) .

وقد تحقّقت نبوءة القرآن هذه حول الروم في عام ( ٦٢٧ ميلادية ) حيث

__________________

١ ـ الروم : ١ ـ ٦.

١١٧

استولى « هرقل » على « نينوى » في حملة واحدة.

وعلى أيّة حال كانت الدولتان المتنافستان تطويان الدقائق والساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية اخرى لتجميع القوى ، والتهيؤلشن حملات جديدة ، وخوض حروب ومعارك اُخرى ولكن حيث أن الارادة الالهية كانت قد تعلقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نورُ التوحيد وتنتعش نفوسُ الروميين والفرس الذابلة الميتة بنسائم الإسلام الناعشة ، واشعته الهادية ، لذلك لم يلبث أن قُتِل « خسرو برويز » على يدي ابنه « شيرويه » الّذي لم يُدْم سلطانه بعد اغتياله لأبيه اكثر من ثمانية أشهر ، ثم سادت ايران بعد « شيرويه » فوضى شاملة خلال اربعة اشهر ، حيث تناوب على مسند الحكم حُكامٌ وامراء عديدون أربعة منهم من النساء ، إلى أن أنهى الجيشُ الاسلاميّ بحملاته الناجحة هذه الاوضاع ، ووضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الّذي استمرّ خمسين عاماً والّذي ساعد بدوره على تقدم الفتوحات الإسلامية.

١١٨

٤

أسلاف رسول الإسلام (ص)

١ ـ بطل التوحيد : إبراهيم الخليلعليه‌السلام

إن الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليلعليه‌السلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسلافه ، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيمعليهما‌السلام ، وحيث ان لهاتين الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيبٌ هامٌّ في تاريخ العرب والإسلام ، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة ، خاصَّة أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملا ـ كحلقات سلسلة واحدة ـ بالحوادث السابقة ، أو المقارنة لبزوغ الإسلام.

فعلى سبيل المثال تُعْتَبر كفالة « عبد المطلب » لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمايته له ، وجهود « ابي طالب » ودفاعه الطويل عن النبيّ ، وعظمة الهاشميين وسموّ مقامهم واخلاقهم ، وجذور معاداة الأمويين لهم ، الاسس والقواعد الموضوعية لحوادث التاريخ الإسلامي ، ولهذا كان لابدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه الابحاث.

إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ « إبراهيم الخليل »عليه‌السلام نقاطاً مشرقة وبارزة جداً.

فجهاده العظيم في سبيل ارساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا

١١٩

لا ينسى.

وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني مع عَبَدة النجوم والكواكب في عصره والّذي ذكره القرآن الكريم لمعرفتنا ، افضل واسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق.

مولد إبراهيم :

لقد وُلدَ بطَلُ التوحيد في بيئة مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية ، وعبادة البشر في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأَصنام نحتها بيديه ، كما يخضع لكواكب ونجوم.

لقد وُلد حامل لواء التوحيد « إبراهيم الخليل »عليه‌السلام في « بابل » الّذي يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع ، ويذكرون حولها قصصاً واموراً كثيرة تنبئ عن عظمتها وأهمية حضارتها ، فيقول « هيردوتس » المؤرخ المعروف ـ مثلا ـ : لقد كانت بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من اضلاعه الاربعة ( ١٢٠ فرسخاً ) ومحيطه ( ٤٨٠ فرسخاً )(١) .

إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً فيه إلاّ أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار ، إذا ما ضُمَّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.

غير اننا لا نرى من تلك المدينة اليوم ومن مناظرها الجميلة ، وقصورها الرائعة ، إلاّ تلاّ من التراب في منطقة بين « دجلة » و « الفرات » ، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة ، اللّهم الا عندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً ، بحثاً عن آثار تلك المدينة ، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها وسكانها.

لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي اركانه « إبراهيم الخليل »عليه‌السلام عينيه

__________________

١ ـ قاموس الكتاب المقدّس ، مادّة بابل.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه‌السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّعليه‌السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق(١) .

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٨ و ١١٩.

١٤١

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : «ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »(١) .

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : «رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »(٢) .

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٦.

٢ ـ إبراهيم : ٣٧.

١٤٢

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم »عليه‌السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

١٤٣

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيمعليه‌السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

١٤٤

وذهب إبراهيمعليه‌السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيلعليه‌السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(١) .

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيمعليه‌السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيمعليه‌السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام »(٢) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً »(٣) .

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٢ نقلا عن قصص الأنبياء.

٢ ـ إبراهيم : ٣٥.

٣ ـ البقرة : ١٢٦.

١٤٥

عليه‌السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ.

٢ ـ قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان(١) .

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيلعليه‌السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا »(٢) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٢ ـ ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١٠٥ عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٥.

١٤٦

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(١) .

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

٣ ـ عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

__________________

١ ـ لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ٢١.

١٤٧

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام(١) .

٤ ـ هاشم :

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك(٢) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

__________________

١ ـ لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :

١ ـ سدانة الكعبة.

٢ ـ سقاية الحجيج.

٣ ـ رفادتهم وضيافتهم.

٤ ـ زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٣.

١٤٨

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس )(١) .

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء عليعليه‌السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم ـ مثلا ـ توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن(٢) .

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »(٣) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٤٩

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

١٥٠

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

١ ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

٢ ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(١) .

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى ١٣٠ عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ١٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

١٥١

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب(١) .

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٦ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨ و ٩ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٥٢

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

٥ ـ عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

١٥٣

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته »(١) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة(٢) .

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٤

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

١٥٥

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(١) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك »(٢) .

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

__________________

١ ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ، ص ٢٠٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٥٦

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(١) .

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

__________________

١ ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

١٥٧

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٣ ، وبحار الانوار : ج ١٦ ، ص ٧٤ ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيلعليه‌السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيلعليه‌السلام .

١٥٨

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام ٥٧٠ وأتفقت فيه

١٥٩

ولادة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(١) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

__________________

١ ـ وفاء الوفا : ج ١ ، ص ١٥٧ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢١ و ٢٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694