سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله11%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358083 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

في دولة « نمرود بن كنعان ».

وكان نمرود هذا رغم أنه يعبدُ الصنم يدّعي الاُلوهيَّة ويأمر الناس بعبادته.

وقد يبدو هذا الامر عجيباً جداً فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الاُلوهية في الوقت نفسه ، إلاّ أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شان « فرعون مصر » ، وذلك عندما هزّ النبي موسى بن عمرانعليه‌السلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ ، وحجته الصاعقة ، فاعترض أنصار فرعون وملأوه على هذا الأمر ، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين : « أتذَرُ مُوسى وَقَومهُ لِيُفْسِدُوا في الأَرْض وَيَذركَ وآلهَتَكَ »(١) .

ومن الواضح جدّاً أن « فرعون » كان يدعي الالوهية فهو الّذي كان يقول : « أَنا رَبُّكُمُ الاَْعْلى »(٢) وهو القائل : « مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ اله غَيْريْ »(٣) ولكنه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً.

بَيْدَ أَنَّ هذه الازدواجية ليست بأَمر غريب عند الوثنيين ، ولا يمنع مانع في منطقهم أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم ، ومع ذلك يَدَّعي أنه الهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون الهاً معبوداً ، يعبد الهاً أعلى منه ، لأن المقصود من المعبود والاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوق ويتملك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.

هذا والتاريخ يحدثنا أن العوائد في بلاد الروم كانت تعبد كبارها ومع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون لأنفسهم معبوداً أو معبودات اُخرى.

إن أكبر وسيلة توسَّل بها « نمرودُ » في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة والمنجمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر.

فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة المنحطة وغير الواعية من الناس.

هذا مضافاً إلى أنه كان يُناصر « نمرود » بعضُ من ينتسب إلى « الخليل »

____________

١ ـ الأعراف : ١٢٧.

٢ ـ النازعات : ٢٤.

٣ ـ القصص : ٣٨.

١٢١

عليه‌السلام بوشيجة القربى مثل « آزر » الّذي كان يصنع التماثيل ، وكان عارفاً بأحوال النجوم والفلك أيضاً ، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل الّتي كانت تمنع الخليل من انجاح مهمته ، لأنه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له ، كان يواجه مخالفة أقاربه ايضاً.

لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي عندما دق المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر وقالوا له : سوف تنهار حكومتُك ، ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة ، الأمر الّذي أيقظ أفكاره النائمة ، فتساءل من فوره ، وهل وُلد هذا الرجل؟ فقيل له : لا ، انه لم يولد بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء ( وذلك في الليلة الّتي انعقدت فيها نطفة ابراهيم الخليلعليه‌السلام عدو نمرود ، وهادم ملكه ، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حددها وتكهن بها المنجمون والكهنة من انصار نمرود ) ومع ذلك كان جلاوزة « نمرود » يقتلون كل وليد ذكر ، وكان على القوابل ان يسجِّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص.

ولقد اتفق أن انعقدت نطفةُ « الخليل » في نفس الليلة الّتي منع فيها اي لقاء جنسي بين الرجال ، وازواجهم.

لقد حملت اُم إبراهيم به كما حملت اُم موسى به ، وامضت فترة حملها في خفاء وتستر ، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز إلى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه ، وراحت تتفقده بين حين وآخر من الليل والنهار ، قدر المستطاع.

وقد أرضى هذا الاسلوبُ الظالمُ « نمروداً » وأراح باله بمرور الزمن ، إذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه ، وهادم سلطانه ، وتخلص منه.

لقد قضى « إبراهيم »عليه‌السلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار الّذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق ، ثم أخرجته اُمه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاماً ، ودخل « ابراهيم » في المجتمع ، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده وانكروه(١) .

__________________

١ ـ تفسير البرهان : ج ١ ، ص ٥٣٥.

١٢٢

لقد خرج « إبراهيم » من الغار ، مؤمناً باللّه بفطرته ، وقوّى توحيده الفطري ، بمشاهَدة الأَرض والسماء ، والنظر في سطوع الكواكب والنجوم والتأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.

لقد واجه إبراهيمعليه‌السلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها ، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة ، كما راى جماعةٌ اُخرى أحطَّ فكريّاً من سابقتها يعبدون اصناماً منحوتة ، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات الضالة إذ رأى رجلا يستغل جهل الناس وغبائهم ويدعي الالوهية ويفرض عليهم عبادته والخضوع له!!

لقد كان إبراهيمعليه‌السلام يرى أَنَّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجهات الثلاث المختلفة ، وقد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ « إبراهيم »عليه‌السلام في هذه الاصعدة والجبهات الثلاث وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.

إبراهيم ومكافحته للوثنية :

كانت ظلمات الوثنية قد خيَّمت على منطقة بابل ( موضع ولادة الخليل ) برمتها.

فالآلهة المدَّعاة ، والمعبودات ( السماوية والارضية ) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب ، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة والسلطة ، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرب إلى اللّه إلى غير ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد.

وحيث أَن طريقة الأَنبياء في هداية البشرية وارشادهم هي الاستدلال بالبراهين ، والاحتجاج بالمنطق ، لانهم إنما يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم ، ويبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان واليقين ، ومثل هذه الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف أو بالنار والحديد. لهذا يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية.

إن علينا أن نفرق بين الحكومات الّتي يريد الأنبياء تأسيسها ، وحكومة

١٢٣

الفراعنة والنماردة.

ان هدف الطائفة الثانية هو : الرئاسة والزعامة ، والحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم ، وان تلاشت وتهاوت من بعدهم.

ولكن الانبياء والرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الاوقات ، في الخلوة والجلوة ، في وقت الضعف ، وفي وقت القوة ، في حياتهم وبعد مماتهم انهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الابدان ، وهذا الهدف لا يتحقق ابداً عن طريق القوة واستخدام العنف والقهر!! انما يتحقق عن طريق الحجة والبرهان.

لقد بدأ النبيُ « إبراهيم » عملَه بمكافحة ما كان عليه أقرباؤُه الذين كان في طليعتهم وعلى رأسهم « آزر » وهو الوثنية وعبادة الاصنام ، ولكنه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملا في هذه الجبهة بعد إلاّ وواجهعليه‌السلام جبهة اُخرى ، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم والثقافة. لان هذه الجماعة ـ على خلاف أقرباء إبراهيم ـ قد نبذت عبادة الأوثان والأَصنام(١) ، والمعبودات الارضية الحقيرة ، وتوجهت بعبادتها وتقديسها إلى الكواكب والنجوم والاجرام السماوية.

ولقد بيَّن « الخليل »عليه‌السلام في حواره العقائدي مع عُبّاد الاجرام السماوية ، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة ، سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية الّتي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك ، وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال إلى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء ، ورواد الفلسفة والكلام.

والأَهم من ذلك ـ في هذا المجال ـ أن القرآن الكريم نقل أدلة « إبراهيم الخليل »عليه‌السلام باهتمام خاص وعناية بالغة ولهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلا ، وهذا ما سنفعله في هذه الصفحات.

__________________

١ ـ ترتبط آية ٧٤ من سورة الأنعام بحوارهعليه‌السلام مع الوثنيّين ، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.

١٢٤

حوار الخليل مع عبدة الكواكب :

ذات ليلة وقف إبراهيمعليه‌السلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء ـ وهو ينوي هداية الناس ـ وبقي ينظر إلى النجوم والكواكب من أول الغروب من تلك الليلة إلى الغروب من الليلة التالية ، وخلال هذه الساعات الاربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق ، من عبدة النجوم وابطل عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة ، وبراهين متقنة قوية.

فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على كل مكان وهو يخفي كل مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكبُ « الزُهرة » من جانب الاُفق وهو يتلألأ. فقال إبراهيم لِعُباد هذا الكوكب ـ وهو يتظاهر بموافقتهم جلباً لهم ، ومقدمة للدخول معهم في حوار ـ : « هذا ربي ».

وعندما افل ذلك الكوكب وغاب عن الانظار قال : « لا احب الآفلين ».

وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة ، واظهر خواءها وفسادها.

ثمّ إنهعليه‌السلام نظر إلى كوكب القمر المنير الّذي يسحر القلوب بنوره وضوئه ، فقال ـ متظاهراً بموافقة عبدة القمر ـ : « هذا ربي » ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً ، عندما امتدت يد القدرة المطلقة ولمت أشعة القمر من عالم الطبيعة ، وعندها إتخذ إبراهيمعليه‌السلام هيئة الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها إذ قال : « لَئنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لأَكُونَنَّ مِن الْقَوْم الضالِين »(١) لأَن القمر قد أَفل أيضاً كما أَفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلف ، وما كان كذلك لا يمكن ان يُعدَّ رباً يُعبَد ، ويتوَجه إليه بالتقديس والتضرع.

ولما وَلّى الليل وأدبر ، واكتسحت الشمس الوضاءة باشعتها حجب

__________________

١ ـ الأنعام : ٧٧.

١٢٥

الظلام ، وبثت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول ، والتفت عَبدَة الشمس إلى معبودهم ، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعاً لقواعد الجدل والمناظرة ولكن افول الشمس وغروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها ايضاً بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام ، فتبرأ « الخليل »عليه‌السلام من عبادتها بصراحة.

وعندئذ أعرضعليه‌السلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال : « إنّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ الْسَّماواتِ وَالاَْرضَ حَنِيفْاً وَما أنا مِنَ الْمُشْركين »(١) .

لقد كان المخاطبين في كلام إبراهيمعليه‌السلام هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية ، ومنها الإنسان قد انيطت إلى الاجرام السماوية وفوضت اليها!!

وهذا الكلام يفيد أن الخليلعليه‌السلام لم يقصد المطالب الثلاث التالية :

١ ـ اثبات الصانع ( الخالق ).

٢ ـ توحيد الذات وأنه واحد غير متعدد.

٣ ـ التوحيد في الخالقية ، وأنه لا خالق سواه.

بل كان تركيزهعليه‌السلام على التوحيد في « الربوبية » و « التدبير » وادارة الكون ، وانه لا مدبّر ولا مربي للموجودات الأرضية إلاّ اللّه سبحانه وتعالى ، ومن هنا فانهعليه‌السلام فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال : « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ السَماواتِ والأَرْضَ ) وهو يعني ان خالق السماوات والأَرض هو نفسه مدبرها وربُها ، وانه لم يفوَّض أي شيء من تدبير الكون ، ـ لا كله ولا بعضه ـ إلى الاجرام السماوية ، فتكون النتيجة : أن الخالق والمدبر واحد لا أن الخالق هو اللّه والمدبر شيء آخر.

ولقد وقع المفسرون ، والباحثون في معارف القرآن في خطأ ، والتباس عند التعرض لمنطق « إبراهيم »عليه‌السلام وشرح حواره هذا ، حيث تصوروا أن الخليلعليه‌السلام قصد نفي « اُلوهية » هذه الأجرام يعني الالوهية الّتي تعتقد بها

__________________

١ ـ الأنعام : ٧٩.

١٢٦

جميع شعوب الأرض ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده.

بينما تصوّر فريق آخر ان « إبراهيم » كان يقصد نفي « الخالقية » عن هذه الأجرام السماوية ، لأنه من الممكن ان يخلق إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية في حين أن هذين التفسيرين غير صحيحين ، بل كان هدف الخليلعليه‌السلام ـ بعد التسليم بوجود اله واجب الوجود ، وتوحيده ، ووحدانية الخالق ـ البحث في قسم آخر من التوحيد ، الا وهو التوحيد « الربوبي » ، وبالتالي اثبات أن خالق الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً ، وعبارة « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.

من هنا كان التركيز الأكبر في بحث ابراهيم على مسألة « الربّ » و « الربوبية » في صعيد الاجرام كالقمر والزهرة والشمس(١) .

هذا واستكمالا للبحث الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ « ابراهيم »عليه‌السلام .

لقد استدل « ابراهيم » في جميع المراحل الثلاث باُفول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية وبخاصة الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال : لماذا يُعتبر اُفول هذه الاجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها؟

إن هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور مختلفة ، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس.

ان تفسير منطق « الخليل »عليه‌السلام واسلوبه في إبطال مدبِّرية الاجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل شاهد على أن للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة وأن كل بُعد منها يناسب طائفة من الناس.

__________________

١ ـ لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا « معالم التوحيد في القرآن الكريم » وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية ، وأن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية ، وهي غير المراتب الاُخرى للتوحيد ، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.

١٢٧

واليك في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال :

الف : إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول إلى مرحلة الكمال ولابدّ ان يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريبَ مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفاً على أحوالها ، غير منفصل عنها ، ولا غريب عليها.

ولكن كيف يستطيع الكائن الّذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته ، ان يكون رباً للموجودات الأَرضية ومدبراً لها؟!

من هنا يكون اُفول النجم ، وغروبه ، الّذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات الأَرضية ربّاً آخر ، منزهاً عن تلك النقيصة عارياً عن ذلك العيب.

باء : انَّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها وحركتها المنظمة دليل على أنها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها ، وانها في قبضة القوانين الحاكمة عليها ، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات ، ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون ، أو شيء من الظواهر الطبيعية ، وأما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الاجرام وضوئها فلا يدل أبداً على ربوبية تلك الأجرام ، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.

وبعبارة أخرى : إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني ، وارتباط الكائنات بعضها ببعض.

جيم : ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟

وحيث أن الصورة الثانية غير معقولة ، وعلى فرض تصورها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبر للكون من مرحلة الكمال إلى النقص والفناء ، يبقى الفرضُ الاول وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه الموجودات القوية في ظاهرها

١٢٨

من مرحلة إلى مرحلة ، هو ـ في الحقيقة ـ الربُّ الّذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال.

طريقة الأنبياء في الحوار والجدال :

لقد اسلفنا في ما سبق أن « ابراهيم » ـ بعد خروجه من الغار ـ واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما :

١ ـ الوثنيون.

٢ ـ عَبَدة الاجرام السماوية.

ولقد سمعنا حوار « ابراهيم »عليه‌السلام وجداله مع الفريق الثاني ، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة الاصنام؟

إن تاريخ الانبياء والرسل يكشف لنا عن أنهم كانوا يبدأون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين لما امره اللّه تعالى بذلك إذ قال : « وأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الاَْقْرِبِيْن »(١) . وبذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه وعشيرته.

ولقد سلك « الخليل »عليه‌السلام نفس هذا المسلك أيضاً إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه.

ولقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عليا فهو ـ مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها ـ كان منجماً ماهراً ، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط « نمرود » في كل ما يخبر به من أخبار النجوم ، وكل ما يستخرجه وما يستنبطه من الامور الفلكية ويذكره من تكهنات.

لقد ادرك « ابراهيم » انه بجلبه لآزار ( عمّه ) يستطيع أن يسيطر على اوساط الوثنيين ، ويجردهم من ركيزة هامة من كبريات ركائزهم ، ولهذا بادر إلى منع

__________________

١ ـ الشعراء : ٢١٤.

١٢٩

عمّه آزر ـ وبافضل الاساليب ـ عن عبادة الاوثان ، بيد أن بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل « آزر » بنصائح « ابراهيم »عليه‌السلام ، والمهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل وعلى اسلوب حواره مع « آزر ».

ان الامعان في الآيات الّتي تنقل حوار « ابراهيم »عليه‌السلام مع « آزر » توضح لنا أدب الانبياء ، واسلوبهم الرائع في الدعوة والارشاد ، ولنقف عند حوار ابراهيم ودعوته ، ليتضح لنا ذلك.

يقول القرآن الكريم عن ذلك : « إذْ قالَ لأَبيْهِ يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يسْمَعُ وَلا يُبْصر وَلا يُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إنِّي قَدْ جائنِي مِنَ الْعِلْم ما لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوياً. يا اَبتِ لا تَعْبُدِ الشّيطانَ انَ الشّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمن عَصِيّاً. يا أَبتِ إنّي اَخافُ أنْ يَمسَّك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطانِ وَليّاً ».

فاجابه « آزر » قائلا : « أراغبٌ أنْتَ عَنْ الهتي يا إبْراهيمُ لئنْ لَمْ تنْته لأَرْجُمَنَّكَ وَاْهجُرْنيْ مَلِيّاً ».

ولكن « ابراهيم » بسعة صدره وعظمة روحه تجاهل ردّ « آزر » العنيف ذلك وأجابه قائلا : « سَلامٌ عَلَيْك سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيْ »(١) .

وأيّ جواب افضلُ مِنْ هَذا البيان وأيُّ لغة أليَن مِنْ هذه اللغة واحبّ إلى القلب ، واكثر رحمة ولطفاً.

هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟

ان الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية(١١٥) من سورة « التوبة » والآية(١٤) من سورة الممتحنة هو : أنّ « آزر » كان والد إبراهيمعليه‌السلام .

وقد كان إبراهيم يسميه أباً في حين كان « آزر » وثنياً ، فكيف يصحّ ذلك وقد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون والد النبيّ الكريم « محمَّد »

__________________

١ ـ مريم : ٤٢ ـ ٤٧.

١٣٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجميع الأَنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحدين اياه تعالى.

ولقد ذكر الشيخ المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيم « أوائل المقالات »(١) ان هذا الامر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من علماء السنة ايضاً.

وفي هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة الّتي تفيد اُبوّة « آزر » لإبراهيم ، وما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة؟؟

يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة « الأب » وان كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في « الوالد » ، إلاّ أن مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.

بل ربما استعملت ـ في لغة العرب وكذا في مصطلح القرآن الكريم ـ في : ( العمّ ) أيضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية الّتي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم إذ يقول سبحانه :

« إذْ قالَ لِبَنْيهِ ما تَعْبُدونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وإله آبائكَ إبْراهيم واسْماعيل وإسحاقَ إلهاً واحِداً ونحن لهُ مسلمون »(٢) .

فإنّ ممّا لا ريب فيه أن « اسماعيل » كان عماً ليعقوب لا والداً له ، فيعقوب هو ابن اسحاق ، واسحاق هو أخو اسماعيل.

ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب « اسماعيل » الّذي كان ( عمَّهم ) أباً.

ومع وجود هذين الاستعمالين ( استعمال الاب في الوالد تارة ، وفي العم تارة اُخرى ) يصبح احتمال كون المراد بالاب في الآيات المرتبطة بهداية « آزر » هو العمّ أمراً وارداً ، وبخاصة إذا ضَمَمْنا إلى ذلك قرينة قوية في المقام وهي : اجماع العلماء الّذي نقله المفيدرحمه‌الله على طهارة آباء الانبياء واجدادهم من رجس الشرك والوثنية.

ولعل السبب في تسمية النبي « ابراهيم » عمَّه بالأب هو أنه كان الكافل

__________________

١ ـ أوائل المقالات : ص ١٢ ، باب القول في آباء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ البقرة : ١٣٣.

١٣١

لابراهيم ردحاً من الزمن ، ومن هنا كان « ابراهيم » ينظر إليه بنظر الأب ، وينزله منزلة الوالد.

القرآن ينفي اُبوّة « آزر » لإبراهيم :

ولكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين « آزر » و « ابراهيم »عليه‌السلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى توضيح آيتين :

١ ـ لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور الايمان والإسلام بفضل جهود النبيّ « محمَّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتضحياته الكبرى ، وآمن اكثر الناس به عن رغبة ورضا ، وعلموا بأن عاقبة الشرك ، وعبادة الاوثان والاصنام هو الجحيم والعذاب الاليم.

إلاّ أنهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما وُفقوا له من إيمان وهداية ، كانت ذكريات آبائهم واُمهاتهم الذين مضوا على الشرك والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم ، واسفهم.

وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم ، وبغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لابائهم واُمهاتهم كما فعل « إبراهيم » في شأن « آزر » فنزلت الآية في مقام الردّ على طلبهم ذاك ، إذ قال سبحانه :

«ما كانَ لِلنَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْركينَ وَلَوْ كانُوا اُوْلي قَرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبيَِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصْحابُ الْجَحْيمَ وما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيْمَ لأَبيْه إلا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَها إيّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ للّه تَبَرَّاَ مِنْهُ إنَّ إبْراهيْمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ »(١) .

إنَّ ثمة قرائن كثيرة تدل على أنّ محادثة النبيّ « إبراهيم » وحواره مع « آزر » ووعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات ،

__________________

١ ـ التوبة : ١١٣ و ١١٤.

١٣٢

والتبرّي منه في عهد فتوَّة « إبراهيم » ، وشبابه ، اي عندما كان « إبراهيم » لا يزال في مسقط رأسه « بابل » ولم يتوجه بعد إلى فلسطين ومصر وأرض الحجاز.

إننا نستنتج من هذه الآية أن « إبراهيم » قطع علاقته مع « آزر » ـ في أيام شبابه ـ بعد ما أصرّ « آزر » على كفره ، ووثنيته ، ولم يعد يذكره إلى آخر حياته.

٢ ـ لقد دعا « إبراهيم »عليه‌السلام في اُخريات حياته ـ أي في عهد شيخوخته ـ وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى ( تعمير الكعبة ) واسكان ذريته في أرض مكة القاحلة ، دعا وبكل اخلاص وصدق جماعة منهم والداه ، وطلب من اللّه إجابة دعائه ، إذ قال في حين الدعاء :

« رَبَّنا اغْفِرْ ليْ وَلوالديّ وَلِلمؤمِنينْ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب »(١) .

إنَ هذه الآية تفيد بصراحة ـ أن الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة ، وتشييدها ، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة ، فاذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو « آزر » وانه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن « ابراهيم » كان لم يزل على صلة ب‍ « آزر » حتّى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت رداً على طلب المشركين أوضحت بأن « إبراهيم » كان قد قطع علاقاته ب‍ « آزر » في أيّام شبابه ، وتبرّأ منه ، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات.

إن ضَمَّ هاتين الآيتين بعضهما إلى بعض يكشف عن أنّ الّذي تبرّأ منه « ابراهيم » في أيام شبابه ، وقطع علاقاته معه ، واتخذوه عدواً هو غير الشخص الّذي بقي يذكره ، ويستغفر له إلى اُخريات حياته(٢) .

إبراهيم محطِّم الأَصنام :

لقد حلَّ موسم العيد ، وخرج أهلُ بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام ، ولقضاء فترة العيد ، وإجراء مراسيمه ، وقد أخلوا المدينة.

__________________

١ ـ إبراهيم : ٤١.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣٢١ ، والميزان : ج٧ ، ص ١٧٠.

١٣٣

ولقد كانت سوابق « إبراهيم » ، وتحامله على الأصنام ، واستهزاؤه بها قد أوحدت قلقاً وشكاً لدى أهل بابل ، ولهذا طلبوا منه ـ وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم ـ الخروج معهم إلى الصحراء ، والمشاركة في تلك المراسيم ، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الّذي رد على طلبهم بحجة المرض إذ قال : « إنّي سَقِيم » وهكذا لم يشترك في عيدهم ، وخروجهم وبقي في المدينة.

حقاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج وفرح للموحد والمشرك ، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون للاحتفال به ، واقامة مراسيمه وتجديد ما كان عليه الآباء والاسلاف إلى الصحراء حيث السفوح الخضراء والمراع الجميلة.

وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد كذلك ، عيداً لم يسبق له مثيل ، عيداً طال انتظارُه ، وافرح حضوره وحلوله ، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار ، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك والوثنية ، وحدث هذا فعلا.

فعندما خرج آخر فريق من اهل بابل من المدينة ، إغتنم « إبراهيم » تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ ايماناً ويقيناً باللّه في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية ، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة الّتي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها ، وقد لفتت هذه الأطعمة نظر « الخليل »عليه‌السلام ، فأخذ بيده منها كسرة خبز ، وقدمها مستهزء إلى تلك الاصنام قائلا : لماذا لا تأكلون من هذه الاطعمة؟

ومن المعلوم أن معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل اي شيء أو حركة مطلقاً فكيف بالاكل.

لقد كان يخيم على جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعلول الّذي اخذ « إبراهيم » يهوي به على رؤوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك ، وايديها.

لقد حطم « الخليل »عليه‌السلام جميع الاصنام وتركها ركاماً من الاعواد المهشمة ، والمعدن المتحطم ، وإذا بتلك الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل

١٣٤

قد تحولت إلى تلة في وسط المعبد.

غير ان « ابراهيم » ترك الصنم الأكبر من دون ان يمسه بسوء ، ووضع المعول على عاتقه ، وهو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن محطِمَ تلك الأَصنام هو ذلك الصنمُ الكبير ، إلاّ أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان امراً آخراً سنبينهُ في ما بعد.

لقد كان « إبراهيم »عليه‌السلام يعلم بأنَّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء ، ومن عيدهم سيزورون المعبد ، وسوف يبحثون عن علة هذه الحادثة ، وأنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذه الظاهرة واقعاً آخر ، إذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الّذي لا يقدر اساساً على فعل شيء على الاطلاق.

وفي هذه الحالة سوف يستطيع « إبراهيم »عليه‌السلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي ويستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء أبداً ، لتوجيه السؤال التالي اليهم : اذن كيف تعبدونه؟!!

فمنذ أن اخذت الشمس تدنو إلى المغيب ويقتربُ موعد غروبها ، وتتقلص اشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول ، أخذَ الناسُ يؤوبون إلى المدينة أفواجاً افواجاً.

وعند ما آن موعد العبادة ، وتوجّهوا إلى حيث اصنامهم ، واجهوا منظراً فضيعاً وامراً عجيباً لم يكونوا ليتوقّعونه!!

لقد كان المشهد يحكي عن ذلة الآلهة وحقارتها ، وهو أمرٌ لفت نظر الجميع شيباً وشبّاناً ، كباراً وصغاراً.

ولقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة الوطأة على الجميع بلا استثناء.

فقد خَيَّم سكوتٌ قاتلٌ مصحوب بحنق ومضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ.

إلا أن أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب وقال : من الّذي ارتكب هذه الجريمة ، ومن فعل هذا بالهتنا؟!

١٣٥

ولقد كانت آراء « إبراهيم » ومواقفه السلبية السابقة ضد الاصنام وتحامله الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأن « إبراهيم » وليس سواه هو الّذي صنع ما صنع بآلهتم واصنامهم.

ولأجل ذلك تشكلت فوراً محكمة يرأسها « نمرود » نفسه وأخذوا يحاكمون « ابراهيم » واُمه!!

ولم يكن لاُمه من ذنب إلا أنها أخفت ابنها ، ولم تُعلِم السلطات بوجوده ليقضوا عليه ، شأنه شأن غيره من المواليد الذين قضت تلك السلطة الظالمة عليهم حفاظاً على نفسها وكيانها.

ولقد أجابت اُم إبراهيم على هذا السؤال بقولها : أيها الملك فعلت هذا نظراً مني لرعيّتك ، فقد رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النسل فقلت : إن كان هذا الّذي يطلبه دفعتُه إليه ليقتله ويكف عن قتل أولاد الناس ، وإن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا.

ثم جاء دور مساءلة إبراهيمعليه‌السلام فسأله قائلا : « مَنْ فَعَلَ هذا بآلهَتنا يا إبْراهيْم » فقال إبراهيم : « فَعَلهُ كَبيْرُهمْ هذا فاْسأَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُون ».

وقد كان « إبراهيم »عليه‌السلام يهدف من هذه الاجابة اللامبالية المصحوبة بالسخرية والازدراء هدفاً آخر ، وهو ان « إبراهيم »عليه‌السلام كان على يقين بأنهم سيقولون في معرض الاجابة على كلامه هذا : إنك تعلم يا إبراهيم ان هذه الأصنام لا تقدر على النطق ، وفي هذه الصورة يستطيع « إبراهيم » أن يُلفت نظر السلطات الّتي تحاكمه إلى نقطة اساسية.

وقد حدث فعلا ما كان يتوقعه « إبراهيم »عليه‌السلام لما قالوا له وقد نكسوا على رؤوسهم : « لقد عَلِمْتَ ما هؤلاء يَنْطِقُونَ » فقال إبراهيم رداً على كلامهم هذا الّذي كان يعكس حقارة تلك الاصنام والأوثان وتفاهة شأنها : « اَفتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ وَلا يَضُرُّكُمْ اُفّ لكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أفَلا تَعْقِلُون ».

إلاّ أنَّ تلك الزمرة المعاندة الّتي ران على قلوبها الجهلُ والتقليدُ الأعمى لم

١٣٦

يجدوا جواباً لأبراهيم الّذي افحمهم بمنطقه الرصين الاّ أن يحكموا باعدامه حرقاً ، فأَوقدوا ناراً كبيرة وألقوا بإبراهيمعليه‌السلام فيها إلاّ أن العناية الالهية شملت إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وحفظته من اذى تلك النار ، وحولت ذلك الجحيم الّذي اوجده البشر ، إلى جُنينة خضراء نضرة إذ قال : « يا نارُ كُوني بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبْراهِيْم »(١) .

العِبَر القيمة في هذه القصّة :

مع ان اليهود يعتبرون أنفسَهم في مقدمة الموحِّدين ، لم ترد هذه القصة في ثوراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم ، بل تفرّد القرانُ الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهميتها.

من هنا فإننا نذكرُ بعض النقاط المفيدة ، والدروس المهمة في هذه القصة الّتي يَهدِفُ القرآن من ذكرها وذكر امثالها من قصص الأنبياء والرسل.

__________________

١ ـ وقد ذكر تفاصيل هذه القصة في الآيات ٥١ إلى ٧٠ من سورة الانبياء وها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا : «وَلَقَد آتَيْنا إبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عالِميْن. إذْ قالَ لأَبيهِ وَقومِه ما هذه الْتَّماثِيلُ الّتي أنْتُمْ لَها عاكِفونَ. قالُوا وَجَدْنا آباءنا لَها عابديْن قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ وَآباؤكُمْ في ضَلال مُبين. قالوا اجتنا بالْحق أمْ اَنتَ من اللاعبينَ قالَ بَل ربكم ربُ السماواتِ والأَرض الَّذي فطرهُنَّ وأَنا على ذلِكُمْ مِنَ الشاهدينَ وَتالله لأَكيْدَنَّ أَصنامكم بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبرين. فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إلاّ كَبيْراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إليْهِ يَرْجِعُونَ. قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِالهَتِنا إنَّهُ لِمَنَ الظّالِمينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبْراهيْمَ. قالُوا : فَاتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هذا بآلِهَتِنا يا إبْراهيمَ. قال بَلْ فَعَلَهُ كَبْيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرجَعُوا إلى أنفُسِهِمْ فقالُوا إنَّكُمْ أنتمُ الظّالِمونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدء عَلِمْتَ ما هؤُلاء يَنْطِقُونَ. قالَ : اَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّهِ ما لا يَنْفَعكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. اُفّ لَكُمْ وَلما تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّه أفَلا تَعْقِلُونَ قالُوا حَرَّقُوهُ وَانْصُرُوا الِهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ. قلْنا يا نارُ كُونيْ بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبراهيْمَ. وَأَرادُوا به كَيْداً فَجَعَلْناهُمْ الأَخْسرينَ ».

وللوقوف على تفاصيل وخصوصيات ولادة إبراهيمعليه‌السلام وتحطيمه للأصنام راجع كتاب الكامل لابن الأثير : ج ١ ، ص ٥٣ ـ ٦٢ ، وبحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١٤ ـ ٥٥.

١٣٧

١ ـ إن هذه القصة خير شاهد على شجاعة « إبراهيم الخليل »عليه‌السلام وبطولته الفائقة.

فعزم ابراهيم على تحطيم الاصنام ، ومحق وهدم كل مظاهر الشرك والوثنية المقيتة لم يكن امراً خافياً على النمروديين لانهعليه‌السلام كان قد أظهر شجبه لها ، واعلن عن استنكاره لعبادتها وتقديسها من خلال كلماته القادحة فيها ، واستهزائه بها ، فقد كانعليه‌السلام يقول لهم بكل صراحة بانه سيتخذ من تلك الاصنام موقفاً مّا إذا لم يتركوا عبادتها وتقديسها ، فقد قال لهم يوم ارادوا ان يخرجوا إلى الصحراء لمراسيم العيد : « وَتاللّه لأَكيْدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُولُّوا مُدْبِريْن »(١) .

ولقد كان موقف الخليلعليه‌السلام ينم عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد :

« ومنها ( اي وممّا تحلّى به النبيّ ابراهيم ) الشجاعة وقد كشفت ( قضيةُ ) الاصنام عنه ، ومقاومة الرجل الواحد اُلوفاً من أعداء اللّه عزّ وجلّ تمام الشجاعة »(٢) .

٢ ـ ان ضربات « إبراهيم » القاضية وان كانت في ظاهرها حرباً مسلحة ، وعنيفة ضد الاصنام إلا أن حقيقة هذه النهضة ـ كما يُستفاد من ردود « إبراهيم » على أسئلة الذين حاكموه ، واستجوبوه ـ كانت ذات صبغة تبليغية دعائية.

فان « إبراهيم » لم يجد وسيلة لا يقاظ عقول قومه الغافية ، وتنبيه فطرهم الغافلة ، إلا تحطيم جميع الاصنام ، وترك كبيرها وقد علق القدوم على عاتقه ليدفع بقومه إلى التفكير في القضية من اساسها وحيث أن العمل لم يكن اكثر من مسرحية إذ لا يمكن أن يصدق أحدهم بأن تلك الضربات القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير وفعله حينئذ يستطيع إبراهيم أن يستثمر فعله هذا في دعوته ، ويقول انَّ هذا الصنم الكبير لا يقدر ـ وباعترافكم ـ على فعل أيّ شيء

__________________

١ ـ الأنبياء : ٥٧.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ٦٧.

١٣٨

مهما كان صغيراً وحقيراً فكيف تعبدونه اذن؟!

ولقد استفاد « إبراهيم » من هذه العملية فعلا ، وتوصل إلى النتيجة الّتي كان يتوخاها ، فقد ثابوا إلى نفوسهم بعد ان سمعوا كلمات « إبراهيم »عليه‌السلام ، واستيقظت ضمائرهم وعقولهم ووصفوا انفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحق وبطل ما كانوا يعبدون إذ قال تعالى : «فَرجَعُوا إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكُمْ أَنْتُمْ الظّالِمُون »(١) وهذا بنفسه يفيد بأن سلاح الانبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو : سلاح المنطق والاستدلال ليس إلا ، غاية الأمر أن هذا كان يؤدي في كل دورة بما يناسبها من الوسائل ، وإلاّ فما قيمة تحطيم عدد من الأَصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة النبيّ « ابراهيم الخليل » بنفسه وحياته ، وبالقياس إلى الاخطار الّتي كانت تتوجه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ.

إذن فلابد ان يكون وراء هذه العملية الخطيرة هدفٌ كبيرٌ وخدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس ، ويستحق المرء امتداح العقل له إذا عرّض حياته للخطر في سبيلها.

٣ ـ لقد كان إبراهيم يعلم بأن هذا العمل سيؤدي بحياته ، وسيكون فيه حتفه ، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلقٌ واضطرابٌ شديدان ، فيتوارى عن اُعين الناس ، أو يترك المزاح ، والسخرية بالأَصنام على الأقل ، ولكنه كان على العكس من ذلك رابط الجأش ، مطمئن النفس ، ثابتَ القدم ، فهو عندما دخَلَ في المعبد الّذي كانت فيه الأصنامُ تقدم بقطعة من الخبز إلى الاصنام ودعاها ساخراً بها ، إلى الاكل ، وثم ترك الأَصنام بعد اليأس منها تلاّ من الخشب المهشم ، واعتبر هذا الامرَ مسألة عادية لا تستأهل الوَجلَ والخوف ، وكأنه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقَّق ويستوجب الاعدام المحتّم.

فهو عندما يأخذ مكانه امام هيئة القضاة يقول معرضاً بالاصنام : فعله كبير الأصنام فاسئلوه ولا شك أن هذا التعريض والسخرية بالاصنام إنما هو موقف من

__________________

١ ـ الأنبياء : ٦٤.

١٣٩

لا يوجس خيفة ، ولا يشعر بوجَل من عمله ، بل هو فعل من قد هيّأ نفسه لكل الاخطار المحتملة ، واستعد لكل النتائج مهما كانت خطيرة.

بل الأعجبُ من هذا كله دراسة وضع « إبراهيم » نفسه حينما كان في المنجنيق وقد تيقّن أنه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد هنيئة ، وتلتهمه النار المستعرة تلك النار الّتي جمع اهل « بابل » لها الحطب الكثير تقرباً إلى آلهتهم ، وكانوا يعتبرون ذلك العمل واجباً مقدساً تلك النار الّتي كان لهيبا من القوة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة منها.

في هذه اللحظة الخطيرة الحساسة جاءه جبرئيل واعلن عن استعداده لانقاذه وتخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلا له : هل لك إليّ من حاجة؟

فقال « إبراهيم » : أما إليك فلا ، وأما إلى ربِّ العالمين فنعم(١) .

ان هذا الجواب يجسِّدُ ايمان « إبراهيم » العظيم ، وروحه الكبرى.

لقد كان « نمرود » الّذي جلس يراقب تلك النار من عدة فراسخ ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام ، وكان يحب ان يرى كيف تلتهم ألسنة النار « إبراهيم ». فما أرهب تلك اللحظات!

لقد اشتغل المنجنيقُ ، وبهزّة واحِدة اُلقي بإبراهيمعليه‌السلام في وسط النار غير أَن مشيئة اللّه ، وارادته النافذة تدخلت فوراً لتخلص خليل اللّه ونبيه العظيم ، فحوّلت تلك النّار المحرقة الّتي أوقدتها يَدُ البشر إلى روضة خضراء وجنينة زاهرة ادهشت الجميع حتّى أَنَّ « إبراهيم » التفت إلى « آزر » وقال ـ من دون ارادته ـ : « يا آزر ما اكرم إبراهيم على ربّه »(٢) .

إن انقلاب تلك النّار الهائلة إلى روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبب للإسباب والمعطل لها متى شاء ، المعطي لها آثارها ، والسالب عنها ذلك ، متى اراد.

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا : ص ١٣٦ ، وأمالي الصدوق : ص ٢٧٤ ، وبحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ٣٥.

٢ ـ تفسير البرهان : ج ٣ ، ص ٦٤.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وحيث إنّ البحث هنا هو حول التوحيد الذاتي، فنرجئ البحث عن التوحيد في العبادة مطلقاً وبطلان معبودية المسيح خصوصاً إلى الفصل التاسع.

غير أنّ التدبر في هذه الآية والآيات المشابهة لها يوضح لنا نقطة مهمة وهي: أنّ الدافع الأساسي لاتخاذ شخص أو شيء معبوداً إنّما هو لأجل الاعتقاد بمالكية ذلك المعبود لضرهم ونفعهم.

وعلى هذا فكل خضوع وخشوع ينبع من هذه النقطة المهمة يمكن أن يكون مصداقاً للشرك في العبادة.

وأمّا إذا خضع أحد أمام إنسان آخر دون هذا الدافع فإنّ عمله لا يكون حينئذ إلّا احتراماً، وتكريماً وليس عبادة.

وسوف يأتي مفصل هذا القسم في الفصل التاسع إن شاء الله.

وبالتالي فإنّ القرآن الكريم يبدي نظره حول « السيد المسيح » وهو ـ في الحقيقة ـ الرأي الصحيح البعيد عن أية مبالغة أو غمط حق، وهو قوله سبحانه :

( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) (١) .

فلقد وصفت هذه الآية السيد المسيح بأفضل ما يمكن أن يكون مبيناً لحقيقة شخصية رفيعة الشأن جليلة المقام، وكان هذا الوصف والتعريف رفيعاً ومؤثراً جداً بحيث جعل النجاشي ( ملك الحبشة ) الذي سأل جعفر بن أبي طالب أن يبين له رأي القرآن في المسيح فقرأ عليه هذه الآية.

__________________

(١) النساء: ١٧١.

٣٠١

أقول: جعل النجاشي يعمد ـ بعد سماعه الآية ـ إلى عود من الأرض، ويقول :

« ما عدا [ أي ما تجاوز ] عيسى عما قلت هذا العود »(١) .

إنّ الأوصاف التي وصف بها عيسى في هذه الآية هي :

١.( إِنَّما المَسِيحُ ) ، وتعني لفظة المسيح: المبارك وقد وصف عيسى في آية أُخرى بهذا النحو :

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ ) (٢) .

٢.( عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ ) ، فقد وصف في هذا المقطع بكونه « ابناً لمريم » ومع هذا كيف يجوز أن يعتبره النصارى إلهاً، أو ابناً لله ؟

٣.( رَسُولُ اللهِ ) حيث وصف بالرسالة والنبوة، فلا هو إله ولا هو رب كما ادّعى النصارى.

٤.( كَلِمَتُهُ ) ، وهنا لا بد أن نقول: إنّ الكون بأجمعه وإن كان كلمة لله وإنّ النظام البديع وإن كان يحكي عن علمه ويخبر عن حكمته ويعبَّر عن قداسته كما تعبر الألفاظ والكلمات عن معانيها، ولكن حيث إنّ هذه الكلمة ( أعني: المسيح ) خلق دون توسط أسباب وعلل، لذلك أطلقت عليه لفظة الكلمة بخصوصه لإبراز أهميته الخاصة من بين كلمات الله الأُخرى.

٥.( وَرُوحٌ مِنْهُ ) ، أي من جانب الله.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ٢ / ٥٥.

(٢) آل عمران: ٤٥.

٣٠٢

التثليث في نظر العقل

بعد أن فرغنا من البحث حول التثليث من وجهة نظر القرآن، يتعين علينا أن نعرضه على المعايير العقلية لنرى مدى انطباقه على تلك المعايير.

تحكي كلمات المسيحيين ـ في كتبهم الكلامية ـ عن أنّ الاعتقاد بالتثليث ـ عندهم ـ من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأنّ التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهم هذا المطلب، كما أنّ المقايسات التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث لأنّ حقيقته ـ حسب زعمهم ـ فوق القياسات المادية.

ثمّ يقولون: حيث إنّ تجارب البشر مقصورة بالمحدود، فإذا قال الله بأنّ طبيعته غير المحدودة تتألف من ثلاثة أشخاص، لزم قبول ذلك، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك، وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه، بل يكفي في ذلك ورود الوحي على أنّ هؤلاء الثلاثة يؤلِّفون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » !! وانّهم رغم تشخص كل واحد منهم وتميّزه عن الآخرين ليس بمنفصل ولا متميز عن الآخر رغم انّه ليست بينهم أية شركة في الالوهية، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الالوهية !!!(١) .

فالأب مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكاملها متحقق فيه دون نقصان.

والابن كذلك مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكامل الالوهية متحقق فيه دون نقصان.

__________________

(١) انظر إلى التناقض الواضح بين تشخص كل واحد من جانب وعدم تميز كل واحد عن الآخر، ولأجل ذلك جعلوا منطقة التثليث منطقة محرمة على العقل.

٣٠٣

وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده ـ لكامل الالوهية وانّ الالوهية بتمامها متحققة فيه دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها من التوجيهات للتثليث المسيحي توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية، وأنّها بالتالي « منطقة محرمة » على العقل، فلا يمكن الاستدلال الصحيح عليها، بل مستند ذلك هو الوحي والنقل ليس غير.

ولهذا ينبغي ـ قبل أي شيء ـ أن نبحث أوّلاً في الأدلة النقلية، وهم وان كانوا يستندون في هذه الفكرة إلى النقل ولكن ليس للتثليث أي مستند نقلي معتبر.

وأمّا « الأناجيل » الأربعة الفعلية فليست بمعتبرة إطلاقاً، إذ لا تشبه الوحي بل تدل طريقة كتابتها على أنّها من بقايا أدب القرن الأوّل والثاني الميلاديين، وهذا يعني عدم كونها متعلقة بفجر المسيحية حقيقة.

ثمّ إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يمكن أن يقاس بالأُمور المادية المألوفة ولكنّه ليس بمعنى أنّ ذلك العالم فوضى وخلو من المعايير، بل لكل مقياسه الخاص، والدليل على ذلك انّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل تحكم في عالم المادة، وعالم ما وراء المادة سواء كمسألة احتياج كل معلول إلى علة وكمسألة ( امتناع اجتماع النقيضين ).

إلى غير ذلك من القواعد العامة الحاكمة في عالمي المادة والمعنى.

وعلى ذلك إذا أبطلت البراهين العقلية مسألة التثليث لم يعد مجال للاستناد بالأدلة النقلية، بل يتعين أن نعترف ببطلان النصوص هذه، ونذعن بأنّها ليست من كلام الله ووحيه إذ كيف يجوز للوحي أن يخالف ما هو مسلم عقلاً.

إذا عرفت هذا، حان الوقت لأن نعرف حقيقة الأمر من وجهة نظر العقل.

٣٠٤

هل يمكن واحد وثلاثة في آن واحد ؟

يتعين علينا أن نعرف أوّلاً ما هو المقصود من التثليث الذي ربما يعبرون عن الموصوف به ب‍ « الثالوث المقدس » وهم يقولون في تفسير فكرة « التثليث » :

إنّ الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الأب والابن وروح القدس.

والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن، والابن هو الفادي، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة، وعمل واحد(١) .

والأقنوم ـ لغة ـ يعني: الأصل، والشخص، فإذن يصرح المسيحيون بأنّ هذه الآلهة الثلاثة ذات رتبة واحدة، وعمل واحد وإرادة واحدة، بموجب هذا النقل.

ونحن نتساءل ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة ؟ والواقع إنّ للتثليث صورتين لا يناسب أي واحد منهما المقام الربوبي :

١. أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخص ووجود خاص، فكما أنّ لكل فرد من أفراد البشر وجوداً خاصاً، كذلك يكون لكل واحد من هذه الأقانيم، أصل مستقل، وشخصية خاصة، متميزة عما سواها.

غير أنّ هذا هو نظر « الشرك » الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية في

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس.

٣٠٥

صورة تعدد الآلهة، وقد تجلّى في النصرانية في صورة التثليث !

ولكن دلائل « التوحيد » قد أبطلت أي نوع من أنواع « الشرك » من الثنوية والتثليث في المقام الالوهي والربوبي.

وقد وافتك تلك الأدلة حول التوحيد في الذات وسيأتي ما يدل على التوحيد في الربوبية في الفصل الثامن، والعجيب ـ حقاً ـ أنّ مخترعي هذه البدعة من رجال الكنيسة يصرون ـ بشدة ـ على أن يوفقوا بين هذا « التثليث » و « التوحيد » بالقول بأنّ الإله في كونه ثلاثة، واحد، وفي كونه واحداً ثلاثة، وهل هذا إلّا تناقض فاضح ؟! إذ لا يساوي الواحد مع الثلاثة في منطق أي بشر !! وليس لهذا التأويل من سبب غير أنّ ـ هم لما واجهوا ـ من جانب ـ أدلة التوحيد اضطروا إلى الإذعان بوحدانية الله تعالى.

ولكنهم من جانب آخر لما خضعوا للعقيدة الموروثة ( أي عقيدة التثليث ) التي ترسخت في قلوبهم أيما رسوخ، حتى أنّهم أصبحوا غير قادرين من التخلص منها، والتملص من حبائلها، التجأوا إلى الجمع بين التوحيد وألتثليث وقالوا: إنّ الإله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد !!

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟!

هناك تفسير آخر للتثليث وهو: أنّ يقال انّ الأقانيم الثلاثة ليست بذات لكل منها وجود مستقل، بل هي بمجموعها تؤلف ذات إله الكون الواحد، فلا يكون أي واحد من هذه الأجزاء والأقانيم بإله بمفرده، بل الإله هو المركب من هذه الأجزاء الثلاثة.

٣٠٦

ويرد على هذا النوع من التفسير أنّ معنى هذه المقالة هو كون الله « مركباً » محتاجاً في تحقّقه وتشخصه إلى أجزاء ذاته ( أي هذه الأقانيم الثلاثة ) بحيث ما لم تجتمع لم يتحقق وجود الله.

وفي هذه الصورة سيواجه أرباب الكنيسة والنصارى إشكالات أكثر وأكبر من ذي قبل :

ألف. أن يكون إله الكون محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الغير ( وهو كل واحد من هذه الأقانيم باعتبار أنّ الجزء غير الكل ) في حين أنّ المحتاج إلى الغير لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود، بل يكون حينئذ ممكناً مخلوقاً محتاجاً إلى من يرفع حاجته كغيره من الممكنات.

بل يلزم كون الأجزاء الممكنة مخلوقة لله سبحانه من جانب ويلزم أن يكون الإله المتكون منها مخلوقاً لها من جانب آخر.

ب. إمّا أن تكون هذه الأجزاء ممكنة الوجود أو واجبة، فعلى الأوّل يلزم احتياج الواجب ( أعني: الكل ) إلى الأجزاء الممكنة، وعلى الثاني يلزم تعدد واجب الوجود، وهو محض الشرك، وعندئد فلا مناص من أن يكون ذلك الإله الخالق بسيطاً غير مركب من أجزاء وأقانيم.

ج. انّ القول: بأنّ في الطبيعة الإلهية أشخاصاً ثلاثة، وأنّ كل واحد منها يملك تمام الالوهية، معناه أن يكون لكل واحد من هذه الثلاثة وجوداً مستقلاً مع أنّهم يقولون: إنّ طبيعة الثالوث لا تقبل التجزئة.

وبتعبير آخر، إنّ بين هذين الكلامين، أي استقلال كل اقنوم بالطبيعة الالوهية وعدم قبول طبيعة الثالوث للتجزئة، تناقضاً صريحاً.

٣٠٧

د. إذا كانت شخصية الابن إلهاً ( أي أحد الآلهة ) فلماذا كان يعبد الابن أباه ؟ وهل يعقل أن يعبد إله إلهاً آخر مساوياً له، وأن يمد إليه يد الحاجة، أو يخضع أحدهما للآخر ويخفض له جناح التذلل والعبودية وكلاهما إلهان كاملا الالوهية ؟!

هذا حق المقال حول التثليث ومن العجب أنّ أحد القسيسين القدامى وهو « أوغسطين » قال: أؤمن بالتثليث لأنّه محال(١) .

__________________

(١) راجع مقارنة الأديان المسيحية للكاتب أحمد شلبي.

٣٠٨

الفصل السادس

الله وبساطة ذاته تعالى

« وعينية صفاته لذاته »

٣٠٩

بساطة ذاته تعالى

١. التوحيد الذاتي وبساطة الذات.

٢. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي.

٣. ذاته منزهة عن التركيب العقلي.

٤. صفات الله عين ذاته.

٥. الدليل على وحدة الصفات والذات.

٦. تعدد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

٣١٠

بساطة ذاته تعالى

ويقع البحث في هذا الفصل في مقامين :

١. ذات الله منزّهة عن التركيب.

٢. صفات الله عين ذاته.

بعد ما عرفنا « التوحيد الذاتي » بمعنى نفي الشبيه والنظير والمثيل لله سبحانه ببراهينه، يتعين علينا الآن أن نستعرض « التوحيد الذاتي » من زاوية أُخرى، وهي بساطة الذات الإلهية، ونفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والعقلي فيها.

ولما كانت لمسألة بساطة الذات عن التركيب الخارجي والعقلي، ومسألة التوحيد في الصفات ( بمعنى اتحاد الذات مع صفاتها وجوداً وخارجاً ) دلائل مشتركة جعلناهما في فصل واحد وهو الفصل الحاضر، مع الاعتراف بأنّ المسألتين من بابين مختلفين، فمسألة « بساطة الذات » من فروع التوحيد الذاتي، ومسألة اتحاد الذات والصفات من شعب التوحيد في الصفات، ونركز بحثنا أوّلاً على بساطة الذات.

التوحيد الذاتي وبساطة الذات

للتوحيد الذاتي معنيان :

٣١١

١. أنّ الله واحد لا يتصور له نظير ولا مثيل.

٢. أنّ ذاته تعالى بسيطة ومنزهة عن أي نوع من أنواع التركيب، والكثرة العقلية، والخارجية.

وقد اصطلح بعض العلماء على التوحيد الذاتي بالمعنى الأوّل بالواحدية، وبالمعنى الثاني بالأحدية، ولعل هذين الاصطلاحين مبتنيان على أنّ لفظة « واحد » تعني في لغة العرب ما يقابل الاثنين فإذا قلنا: « الله واحد »، يعني: لا ثاني له ولا نظير ولا مثيل ولا عديل، ولكن لفظة « أحد »، تعني الوحدة في مقابل التركيب، وإذا وجدنا القرآن يصف الله بلفظة الأحد ويقول:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فهو يقصد مقابلة « التثليث التركيبي » الذي كانت النصارى تدعيه فتزعم بأنّ المقام الالوهي « مركب » من ثلاثة أقانيم.

ويدل على ذلك أنّه لو كان المقصود من « أحد » في هذه الآية هو أنّ الله واحد، ولا نظير له لما كان ثمة داع لتكرار هذا المضمون في ذيل السورة إذ يقول:( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، ويتضح ما قلناه إذا وقفنا على أنّ هذه السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

وعلى كل حال سواء أطابق هذا الاصطلاح المعنى اللغوي ل‍: « الواحد » أو « الأحد » أم لا(١) ، فإنّ مثل هذا الاصطلاح سبب للتفكيك بين نوعين من « التوحيد الذاتي ».

* * *

__________________

(١) سنثبت في البحث القرآني لهذا الفصل أنّ المعنى اللغوي للواحد والأحد هو الذي جاء في هذا الاصطلاح.

٣١٢

قد يتصور الإنسان ـ في النظرة البدائية ـ أنّه لا توجد في القرآن أية آية أو آيات ناظرة إلى هذا القسم من التوحيد ( أي بساطة الذات )، وكأنّ القرآن أو كل أمثال هذه البحوث إلى عقل البشر، ولكننا عندما نعيد النظر في القرآن بعد الاطلاع على التحقيقات الفلسفية التي من شأنها إعطاء الإنسان نظرة أعمق وأوسع نجد أنّ القرآن يصف الله سبحانه بطائفة من الصفات التي لا تنسجم مع أي نوع من أنواع التركيب في الذات أبداً، وهو يدل ضمنياً على نفي التركيب وإثبات البساطة لذاته تعالى، وقد ذكرنا في السابق أنّ القرآن ذو أبعاد متعددة من حيث الأهداف والمعاني وإنّه يمكن أن يدرك بعد من أبعاد الآية في النظرة الأُولى بينما ينكشف بعد آخر لنفس الآية في النظرة الثانية في حين يكون اكتشاف بعد ثالث ورابع لنفس الآية محتاجاً إلى مزيد تعمّق وإمعان.

ويؤيد هذا الأمر ما قاله الإمام السجاد حول آيات من سورة الحديد :

« إنّ الله عز وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله عز وجل( قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ما هنالك هلك(١) .

لهذا يجب أن لا نكتفي ـ في استخراج المعارف المتعلّقة بالمبدأ أو المعاد من الآيات القرآنية ـ بالنظرة الأُولى بل لابد من الغوص في بحار القرآن، معتمدين على النظر الأعمق، والجهد الفكري الأكثر، فحينئذ سنرى أيّة جواهر ثمينة سنصيب في هذا الغوص المبارك.

لهذا السبب ولكي نقوي من نظرتنا فإنّنا سنعالج مسألة « بساطة أو تركيب

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٢٨٣ ـ ٢٨٤ طبع الغفاري.

٣١٣

الذات » وكذا التوحيد في الصفات من نظر العقل أوّلاً، ثم نطرح بعد ذلك هذه المسألة على القرآن وصحاح الأحاديث.

١. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي

والمراد من « التركيب الخارجي » هو أن يكون الشيء ذا أجزاء خارجية، كالمعادن والمحاليل الكيمياوية، التي تتألف من الأجزاء المختلفة.

ولكن مثل هذا « التركيب » يستحيل في شأن الله سبحانه، لأنّ الشيء المركب من مجموعة الأجزاء سيكون « محتاجاً » في وجوده إلى تلك الأجزاء لا محالة، والمحتاج إلى غيره معلول لذلك الغير ولا يصلح للإلوهية حينئذ.

هذا مضافاً إلى أنّ الأجزاء المؤلفة للذات الإلهية إمّا أن تكون « واجبة الوجود » فحينئذ سنقع في مشكلة « تعدد الآلهة » التي يعبر عنها في علم الكلام بتعدد القدماء.

وإمّا أن تكون « ممكنة الوجود » وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها، فيكون معنى هذا أنّ ما فرضناه « إلهاً » يكون معلولاً لأجزاء ذاته التي هي معلولة لموجود أعلى وبالتالي لا يكون إلهاً.

٢. ذاته منزّهة عن الأجزاء العقلية

ولتوضيح هذا النوع من البساطة نذكر الأُمور التالية :

أ. انّ الشيء، يعرف بجنسه وفصله أو ما يقوم مقامهما التي تسمّى بالماهية وليس للماهية أي دور، إلّا تحديد وجود الأشياء وبيان موقعها في عالم الوجود.

٣١٤

ب. انّ كل موجود ممكن مركب من شيئين: ماهية ووجود وليس المقصود تركبه من الجزءين الخارجيين كالعناصر المتركبة، بل المراد هو أنّ الذهن النقاد يرى الشيء الخارجي الواحد ـ في مختبر العقل ـ مكوناً من جزءين :

أحدهما يحكي عن مرتبته الوجودية وانّه يقع في أي مرتبة من مراتب الوجود، من الجماد والنبات والحيوان، وغيرها، والثاني يحكي عن عينيته الخارجية التي طرد بها العدم عن ساحة الماهية.

ولكن هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهية، لأنّها إذا كانت مؤلفة من وجود وماهية، انطرح هذا السؤال :

إنّ الماهية كانت في حد ذاتها فاقدة للوجود والعينية، فبماذا طرد هذا العدم وأُقيم محله الوجود فإنّ هذا الطرد يحتاج ـ تبعاً لقانون العلية العام ـ إلى عامل خارجي عن ذات الشيء ؟ ومن المعلوم أنّ الشيء المحتاج إلى العلة الخارجة عن وجوده ممكن لا يستحق الالوهية ؟!

ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته وانّها منزّهة عن الماهية، وهو عين الوجود وصرفه.

٣. صفات الله عين ذاته

لا شك في أنّ لله سبحانه صفات، كالعلم والقدرة والحياة، غير أنّه يجب أن نقف على أنّها هل هي أزلية أم حادثة، وعلى الأوّل فهل هي « زائدة » على الذات، وبعبارة أُخرى هل الصفات « عين » الذات أو « غيرها » ؟

إنّ هناك فرقة واحدة أعني الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني ذهبت

٣١٥

إلى حدوث الصفات، وقالوا بخلو الذات الإلهية عنها ـ في البداية ـ ثم اتصفت بها فيما بعد(١) .

ولو تجاوزنا هذه الفرقة لوجدنا جميع الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين متفقين على « أزلية » هذه الصفات.

ومما لا يخفى أنّ الكرامية وغيرها مذاهب ابتدعتها السياسة العباسية آنذاك لإشغال المفكّرين الإسلاميين بالبحوث والمناقشات الجانبية، لكي تسهل لهم السيطرة على الأُمّة الإسلامية، ولأجل هذا لا نجد لهذه المذاهب المفتعلة بأيدي السياسات الزمنية المنحرفة أي أثر إلّا في طيات كتب الملل والنحل فقط.

ولو كانت « الذات الإلهية » فاقدة لهذه الصفات منذ الأزل لاستلزم ذلك حتماً أن تكون الصفات « ممكنة » وحادثة، وحيث إنّ كل ممكن مرتبط بعلة، ومحتاج إلى محدث لزم أن نقف على محدثها.

فهل وجدت من قبل نفسها، أو من قبل الله سبحانه، أو من جانب علة أُخرى ؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل فلا يحتاج إلى مزيد بيان إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه، وأمّا الثاني فكسابقه فإنّ فاقد الشيء لا يكون معطيه، إذ كيف يمكن أن يكون فاقد العلم معطياً له ؟ وأمّا الاحتمال الثالث فكسابقيه أيضاً، إذ ليس هناك عامل خارجي محدث أخذاً بحكم التوحيد في الذات، ولأجل ذلك اختار الجمهور من الإسلاميين، أزلية الصفات.

__________________

(١) الأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٦

فإذا ثبتت أزلية صفاته سبحانه كذاته يبقى بحث آخر وهو :

هل هذه الصفات القديمة الأزلية زائدة عليها لازمة لها، كما ذهب إلى ذلك فريق من المتكلمين الإسلاميين كالأشاعرة(١) ، أم هي « عين » الذات، وأنّه ليس للذات والصفات سوى مصداق واحد لا أكثر، وهنا يتعين علينا أن نتوقف قليلاً لنرى التفاوت بين القولين ثم بمعونة العقل نميز الصحيح عن غير الصحيح منها.

ولوضوح المطلب نقدم أُموراً لها صلة بالموضوع :

١. انّ قولنا: الله سبحانه عالم، مركب من كلمتين: الله وعالم، وكل واحدة تحكي عن أمر، فالمبتدأ يحكي عن الذات، والخبر يحكي عن صفته.

والقائل باتحاد صفاته مع ذاته لا يقول باتحاد مفاهيمها مع ذاته أي اتحاد مفهوم العالم وما وضع عليه ذلك اللفظ مع مفهوم لفظ الجلالة الذي وضع عليه ذلك اللفظ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته وانّ وجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج غير مصداق لفظ العالم.

ثم يبقى هنا سؤال وهو أنّ ذاك الاتحاد لا يختص بذاته سبحانه بل هو حال عامة الموجودات مع صفاتها، فلماذا اختص هذا البحث بالله سبحانه ؟ وهذا ما نرجع إليه في الكلام التالي.

٢. إذا قلنا أنّ زيداً عالم نرى أنّ علمه ليس بمنفصل عن ذاته ووجوده، بحيث لا يمكننا أن نشير إلى علمه على حدة وعلى ذاته إلى انفرادها، فنقول هذا

__________________

(١) كشف المراد: ١٨١، والأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٧

ذاته وهذا علمه، بل الذات والعلم متحدان على الصعيد الخارجي.

وعند ذلك يتوجه السؤال الآتي: ما هو مقصود القائلين باتحاد صفاته سبحانه مع ذاته ؟ فإنّ الاتحاد حسب ما أوضحناه ليس منحصراً به سبحانه بل جار في جميع الموجودات الممكنة، فإنّ كل موجود ممكن يختلف عن صفاته مفهوماً ويتحد معها خارجاً.

عندما نقول: الصدف أبيض، أو العسل حلو، فإنّ البياض متحد بالصدف، والحلاوة متحدة بالعسل بحيث لا يمكن الإشارة إلى الحلاوة بمعزل عن العسل، وهكذا بالنسبة إلى بياض الصدف، فما الفرق بين النوعين من الاتحاد ؟ ويجاب على ذلك، بأنّ المقصود من اتحاد الذات الإلهية مع صفاته تعالى ليس من قبيل اتحاد الصدف مع بياضه، وعلم زيد مع ذاته بل هو نوع خاص من الاتحاد والعينية لا يوجد في غير الله. وتوضيح ذلك هو ما تقرؤه في البيان التالي :

٣. انّ « الصفات والذات » في الممكنات وان كانت تتمتع بنوع من الاتحاد في كل الموارد ولكن كيفية الاتحاد في مورد « الصفات والذات الإلهية » تختلف عن الاتحاد في الممكنات.

فإنّ علم زيد وان كان متحداً مع ذاته بنوع من الاتحاد ولكن علمه لا يتحد مع ذاته في جميع مراحلها، بل يتحد معها في بعض مراحل الذات، بدليل أنّ زيداً كان في مجتمعه ـ ذات يوم ـ ولم يكن معه ذلك العلم ـ فكانت الذات متحققة ولم يكن العلم معها، وهذا يشعر بأنّ ذاته أي ما به يكون زيد، زيداً غير علمه، وهذا يشعر بأنّ ذاك الاتحاد ليس بمنزلة يجعل الصفات في مرتبة حقيقته وذاته.

وبعبارة أُخرى فإنّ ملاك إنسانية زيد والعناصر المكونة لذاته هي ما يوجد

٣١٨

في الآخرين سواء بسواء فإنّ ملاك الإنسانية، والعناصر المكونة لحقيقة الأفراد الآخرين هي « الحيوانية والناطقية » التي تتكون منهما ذات زيد، أما « علمه » فما هو إلّا « حلية » توجت إنسانيته، وزينتها، وفضلتها على الآخرين، ولتوضيح الحقيقة نفترض « بناء » قد تم وبقي طلاؤه الذي يطلى به ظواهر البناء وخارجه وأبوابه وجدرانه.

وفي هذه الصورة، فإنّ كل ما ينقش على جدران هذا البناء، يضيف إلى جمال البناء جمالاً إضافياً، لكن هذا الطلاء رغم أنّه ليس منفصلاً عن البناء وجدرانه وأبوابه، إلّا أنّه لا يشكل حقيقة البناء، لأنّ العناصر والمواد المنشئة لذلك البناء هي الحديد والاسمنت والجص والآجر، وليست الأصباغ والطلاء.

وعلى هذا فإنّ اتحاد الأبواب والجدران مع الطلاء ( عندما نقول الجدار أزرق ) لا يعني أنّ اللون جزء من واقعيته وذاته، بل غاية ما في الأمر أنّ الألوان قد اتحدت بظاهر الجدار لا أنّها اتحدت بذاته وحقيقته، وعلى هذا النمط يكون بياض الصدف وحمرة التفاح وصفرة الليمون، كما أنّ على غرار هذا يكون اتحاد علم زيد بذاته.

وخلاصة القول: إنّ الاتحاد في هذه الموارد ليس بمعنى أنّ « العارض » قد أصبح جزءاً من ذات « المعروض » بل اتحد مع بعض مراحله ومعنى هذا أنّ العارض والمعروض شيء واحد ولكن دون أن يكون العارض داخلاً في ذات المعروض وجزءاً من حقيقته، وعلى هذا فالمقصود من « وحدة صفات الله مع ذاته » ليس على هذا النمط من الاتحاد بل وحدة آكد وأشد بمعنى أنّ « صفات الله تؤلِّف ذاته » سبحانه فهي « عين » ذاته وليست عارضة عليها، وبالتالي ليس يعني، أنّ ذاته شيء وصفاته شيء آخر، بل صفاته هي ذاته وحقيقته، فعلم الإنسان بشيء

٣١٩

إنّما هو بعلم زائد على ذاته فهو بالعلم الزائد يطّلع على ما هو خارج عن ذاته فيدرك المرئيات والمسموعات عن طريق « الصور الذهنية » التي تدخل إلى الذهن بواسطة الحواس الخمس، وإذا أخذت منه هذه « الصور الذهنية » لم يعد قادراً على درك ما هو خارج عن ذاته ولكنه يحتفظ بذاته مع فقد علمه، وبما أنّ ذات الله عين علمه، وليس العلم بزائد على ذاته، فهو تعالى يدرك جميع المبصرات والمسموعات بنفس ذاته بحيث يكون فرض سلب العلم والقدرة عنه تعالى مساوياً لفرض نفي ذاته.

وعلى هذا فالمقصود من « اتحاد صفات الله مع ذاته » هو عينية الصفات للذات في عامة مراحلها، وكون العلم الإلهي عين الذات الإلهية، وكذا القدرة والحياة، وغيرها من صفات الذات فهي عين ذاته سبحانه، لا أنّ الذات شيء وحقيقة مستقلة، والصفات حقائق طارئة على الذات وعارضة لها.

نظرية الأشاعرة في الصفات

إنّ القول بزيادة الصفات على الذات لا يخلو من مفاسد عقلية أظهرها أنّه يستلزم وجود قدماء ثمانية حسب تعدد صفاته تعالى، وليس هذا إلّا الفرار من خرافة التثليث المسيحي، والوقوع في ورطة القول بالقدماء الثمانية بدل الثلاثة في حين أنّ براهين « التوحيد الذاتي » قاضية بانحصار القديم في الله سبحانه وعدم وجود « واجب آخر سواه ».

الدليل على وحدة الصفات والذات

١. انّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته وعينية أحدهما للآخر يوجب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694