سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358122 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ودخل عدي بن حاتم بعد مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام على معاوية ، فسأله معاوية عما أبقى الدهر من حب علي. قال عدي : كله. وإذا ذكر ازداد.

قال معاوية : ما أريد بذلك إلا إخلاق ذكره.

فقال عدي : « قلوبنا ليست بيدك يامعاوية »(1) .

واجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة ، والمغيرة ، وغيرهم ، فقالوا له : « إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدِّق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعه إلى ماهو أعظم ثم طلبوا منه إحضاره للحط منه الخ »(2) . والشواهد على ذلك كثيرة

وقد بدأت بوادر نجاح هذه السياسة تجاه أهل البيت تظهر في وقت مبكر ، ويكفي أن نشير إلى ما تقدم من أن عمر يسأل عمن يقول الناس : إنه يتولى الأمر بعده ، فلا يسمع ذكراً لعليعليه‌السلام .

هـ : عقائد جاهلية وغريبة :

ثم يأتي دور الاستفادة من بعض العقائد الجاهلية ، أو العقائد الموجودة لدى أهل الكتاب ، وذلك من أجل تكريس الحكم لصالح أولئك المستأثرين ، والقضاء على مختلف عوامل ومصادر المناوأة والمنازعة لهم. هذه العقائد التي قاومها الأئمة بكل ما لديهم من قوة وحول

__________________

1 ـ الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 134.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 285 والاحتجاج ج 1 ص 402 والبحار ج 44 ص 70 والغدير ج 2 ص 133 عن المعتزلي وعن المفاخرات للزبير بن بكار ، وعن جمهرة الخطب ج 2 ص 12. ونقل عن شرح النهج للآملي ج 18 ص 288 وعن أعيان الشيعة ج 4 ص 67.

٨١

ونذكر من هذه العقائد على سبيل المثال :

تركيز الاعتقاد بلزوم الخضوع للحاكم ، مهما كان ظالماً ومتجبراً وعاتباً ـ وهي عقيدة مأخوذة من النصارى ، حسب نص الإنجيل(1) ـ وقد وضعوا الأحاديث الكثيرة على لسان النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لتأييد ما يرمون إليه في هذا المجال(2) وقد أصبح ذلك من عقائدهم(3) .

ومن قبيل الإصرار على عقيدة الجبر ، التي هي من بقايا عقائد المشركين ، وأهل الكتاب(4) . الأمر الذي يعني : أن كل تحرك ضد حكام الجور لا يجدي

__________________

1 ـ راجع رسالة بولس إلى أهل رومية ، وراجع الهدى إلى دين المصطفى ج 2 ص 316.

2 ـ راجع : سنن البيهقي ج 8 ص 157 و 159 و 164 و ج 4 ص 115 و ج 6 ص 310. وصحيح مسلم ج 6 ص 17 و 20 ج 2 ص 119 و 122 وكنز العمال ج 5 ص 465 و ج 3 ص 168 و 167 و 170 والعقد الفريد ج 1 ص 8 و 9 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 329 ـ 335 و 339 ـ 344 ولباب الآداب ص 260 والدر المثور ج 2 ص 177 و178 و 176 ومقدمة ابن خلدون ص 194 والإسرائيليات في التفسير والحديث ، ونظرية الإمامة ص 417 وقبلها وبعدها ، وتاريخ بغداد ج 5 ص 274 وطبقات الحنابلة ج 3 ص 58 و ص 56 ، والإبانة للأشعري ص 9 ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 323 ومسند أحمد ج 2 ص 28 و ج 4 ص 382 / 383 البداية والنهاية ج 4 ص 249 و 226 ومجمع الزوائد ج 5 ص 229 و 224 وحياة الصحابة ج 2 ص 68 و 69 و 72 و ج 1 ص 12 والإصابة ج 2 ص 296 والكنى والألقاب ج 1 ص 167 والاذكياء ص 142 و الغدير ج 7 ص 136 حتى ص 146 و ج 6 ص 117 و 128 و ج 9 ص 393 و ج 10 ص 46 و 302 و ج 8 ص 256 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 513 و 290 والسنة قبل التدوين ص 467 ونهاية الإرب ج 6 ص 12 و 13 ولسان الميزان ج 3 ص 387 و ج 6 ص 226 عن أبي الدرداء رفعه : « صلوا خلف كل إمام ، وقاتلوا مع كل أمير » وراجع : المجروحون لابن حبان ج 2 ص 102.

3 ـ راجع كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا (ع) ص 312 متناً وهامشاً.

4 ـ راجع : الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 166 وجامع بيان العلم ج 2 ص 148 و 149 و 150 وضحى الإسلام ج 3 ص 81 زشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 340 و ج 12 ص 78 / 79 وقاموس الرجال ج 6 ص 36 ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 183 والغدير ج 9 ص 34 و 95 و 192 و ج 5 ص 365 و ج 10 ص 333 و 245 و 249 و ج 7 ص 147 و 154 و 158 و ج 8 ص132 والإخبار الدخيلة ( المستدرك )

=

٨٢

ولا ينفع ، ما دام الإنسان مجبراً على كل حركة ، ومسيراً في كل موقف

ثم هناك عقيدة : أنه لا تضر مع الإيمان معصية. وأن الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإن أعلن الكفر

قالوا : « الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية ، وعبد الأوثان ، أو لزم اليهودية ، أو النصرانية في دار الإسلام ، وعبد الصليب ، وأعلن

__________________

=

ج 1 ص 193 و 197 ومقارنة الإديان ( اليهودية ) ص 271 و 249 وأنيس الأعلام ج 1 ص 279 و 257 والتوحيد وإثبات صفات الرب ص 82 و 80 و 81 ومقدمة ابن خلدون ص 143 و 144 والإغاني ج 3 ص 76 ، وتأويل مختلف الحديث ص 35 والعقد الفريد ج 1 ص 206 و ج 2 ص 112 وتاريخ الطبري ط الاستقامة ج 2 ص 445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية من ص 43 حتى 49 عن العديد من المصادر ، والمغزي للواقدي ص 904 وربيع الأبرار ج 1 ص 821 والموطأ ج 3 ص 92 و 93 وطبقات ابن سعد ج 7 ص 417 و ج 5 ص 148 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 265 و 83 /84 ومصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 67 ومناقب الشافعي ج 1 ص 17 والبخاري ج 8 ص 208 وفي خطط المقريزي ج 3 ص 297 : إن جهماً انفرد بالقول بجواز الخروج عل السلطان الجائر وحياة الصحابة ج 2 ص 12 و 95 و 94 و 330 و ج 3 ص 229 و 487 و 492 و 501 و 529 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 3 ص 138 / 139 و ج 8 ص 208 و ج 1 ص 86. وصحيح مسلم ج 2 ص 86 وأبي داود ج 2 ص 16 والترمذي ج 1 ص 202 وابن ماجة ج 1 ص 209 وسنن البيهقي ج 9 ص 50 و ج 6 ص 349 ومسند أحمد ج 5 ص 245 ومجمع الزوائد ج 6 ص 3 و ج 1 ص 135 والطبري في تاريخه مقتل برير و ج 4 ص 124 و ج 3 ص 281 والبداية والنهاية ج 7 ص 79. انتهى.

والمعتزلة ص 7 و 87 و 39 / 40 و 91 و 201 و 265 عن المصادر التالية : المنية والأمل ص 12 وعن الخطط ج 4 ص 181 / 182 و 186 والملل والنحل ج 1 ص 97 / 98 والعقائد النسفية ص 85 ووفيات الأعيان ص 494 والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 3 ص 45 عن الطبري ج 6 ص 33 و ج 3 ص 207 وعن الترمذي ص 508 في رسالة عمر بن عبد العزيز

والتصريح بذلك في الكتب الكلامية ، وكتب فرق أهل السنة ، لا يكاد يحصى كثرة. وكنت قد جمعت فيما مضى قسماً كبيراً من كلمات التوراة وغيرها حول هذا الموضوع ، أسأل الله التوفيق لإتمامه.

٨٣

التثليث ، في دار الإسلام ، ومات على ذلك »(1) .

وهذه العقيدة ، وإن كانت هي عقيدة المرجئة ، إلا أنها كانت عامة في الناس آنئذٍ ، حيث لم يكن المذهب العقائدي لأهل السنة قد غلب وشاع بعد.

ومعنى هذا هو أن الحكام مؤمنون مهما ارتكبوا من جرائم وعظائم.

بل إنهم ليقولون : إن يزيد بن عبد الملك أراد أن بسيرة عمر عمر بن عبد العزيز ، فشهد له أربعون شيخاً : أن ليس على الخليفة حساب ولا عذاب(2) .

وحينما دعا الوليد الحجاج ليشرب النبيذ معه ، قال له : « يا أمير المؤمنين ، الحلال ما حللت »(3) .

بل إننا لنجد الحجاج نفسه يدَّعي نزول الوحي عليه ، وأنه لا يعمل إلا بوحي من الله تعالى(4) كما يدعي نزول الوحي على الخليفة أيضاً(5)

و : قدسية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هذا كله فضلاً عن سياستهم القاضية بتقليص نسبة الاحترام والتقديس للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفضيل الخليفة عليه بل وسلب معنى العصنة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى لقد قالت قريش ـ في حياة الرسول ـ في محاولة منها لمنع عبد الله بن عمرو بن العاص من كتابه أقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه بشر يرضى

__________________

1 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 204.

2 ـ البداية والنهاية ج 9 ص 232 وراجع : تاريخ الخلفاء ص 246 وراجع ص 223.

3 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 70.

4 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 73 وراجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 115.

5 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 72.

٨٤

ويغضب(1)

بل لقد حاولوا المنع من التسمية باسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نجحوا في ذلك بعض الشيء(2)

كما أن معاوية يتأسف ، لأنه يرى : أن اسم النبي المبارك يذكر في الاذان ويُقْسِم على دفن هذا الاسم(3)

إلى غير ذلك من الوقائع الكثير جداً وقد ذكرنا شطراً منها في تمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أراده فليراجعه.

ولعل ذلك قد كان يهدف إلى فسح المجال للمخالفات ، التي كان يمكن أن تصدر عن الحكام ، والتقليل من شأن وأثر وأهمية ما كان يصدر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أقوال ومواقف سلبية تجاه بعض أركان الهيئة الحاكمة ، أو من تؤهلهم لتولي الأمور الجليلة في المستقبل ، ثم التقليل من شأن مواقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإيجابية تجاه خصوم الهيئة الحاكمة ، أو من ترى فيهم منافسين لها.

ز : تولية المفضول :

ويدخل أيضاً في خيوط هذه السياسة : القول بجواز تولية المفضول مع

__________________

1 ـ راجع : سنن الدرامي ج 1 ص 125 وجامع بيان العلم ج 1 ص 85 وليراجع ج 2 ص 62 و 63 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 104 / 105 وتلخيصه للذهبي بهامشه وليراجع أيضاً سنن أبي داود ج 3 /318 والزهد والرقائق ص 315 والغدير ج 11 ص 91 و ج 6 ص 308 و 309 والمصنف لعبد الرزاق ج 7 ص 34 و 35 و ج 11 ص 237 وإحياء علوم الدين ج 3 ص 171 وتمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى عليه وآله وسلم وغير ذلك كثير.

2 ـ الغدير ج 6 ص 309 عن عمدة القاري ج 7 ص 143 والجزء الأول من كتابنا : الصحيح في سيرة النبي (ص).

3 ـ الموفقيات ص 577 ومروج الذهب ج 3 ص 454 وشرح النهج للمعتزلي ج 5 ص 129 و 130 وقاموس الرجال ج 9 ص 20.

٨٥

وجود الفضل ، كما هو رأي أبي بكر(1) الذي صار أيضاً رأي المعتزلة فيما بعد وذلك عندما فشلت محاولاتهم التي ترمي لرفع شأن الخلفاء ، الذين ابتزوا علياً حقه في أن فشلت محاولاتهم في الحط من عليّ(2) ، ووضع الأحاديث الباطلة في ذمه والعمل على جعل الناس ينسون فضائله وكراماته حيث لم يجدهم كل ما وضعوه واختلقوه في هذا السبيل شيئاً ولا أفاد قتيلاً

ح : سياسة التجهيل :

وهناك سياسة التجهيل التي كانت تتعرض لها الأمة من قبل الحكام ، ولا سيما أهل الشام ويكفي أن نذكر : أن البعض « قال لرجل من أهل الشام ـ من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم ـ : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الأمام على المنبر؟! فقال : أراه لصاً من لصوص الفتن »(3) !!

وفي صفين يسأل هاشم المرقال بعض مقاتلي أهل الشام : عن السبب الذي دعاه للمشاركة في تلك الحرب ، فيعلل ذلك بأنهم أخبروه : أن علياًعليه‌السلام لايصلي(4) .

__________________

1 ـ الغدير ج 7 ص 131 عن السيرة الحلبية ج 3 ص 386. ونقل أيضاً عن الباقلاني في التمهيد ص 195 إشارة إلى ذلك..

2 ـ راجع على سبيل المثال : الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59.

3 ـ مروج الذهب ج 3 ص 38.

4 ـ تاريخ الطبري ج 4 ص 30 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 313 والفتوح لابن اعثم ج 3 ص 196 وصفين ليصر بن مزاحم ص 354 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 36 والغدير ج 10 ص 122 و 290 عن أكثر من تقدم. وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 184 وترجمة الإمام عليعليه‌السلام لابن عساكر بتحقيق المحمودي ج 3 ص 99 ونقله المحمودي عن ابن عساكر ج 38 حديث رقم 1139. وراجع : المعيار والموازنة ص 160.

٨٦

وبلغ معاوية : أن قوماً من أهل الشام يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : « إنك بعثت إلي قوماً أفسدوا مصرهم وانغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قِبَلي ، ويعلموهم ما لا يحسنونه ، حتى تعود سلامتهم غائلة »(1) .

قال ابن الاسكافي : « فبلغ من عنايتهم في هذا الباب : أن أخذوا معلميهم بتعليم الصبيان في الكتاتيب، لينشئوا عليه صغيرهم ، ولا يخرج من قلب كبيرهم. وجعلوا لذلك رسالة يتدارسونها بينهم. ويكتب لهم مبتدأ الأئمة : أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، ومعاوية بن أبي سفيان. حتى ان أكثر العامة منهم ما يعرف علي بن أبي طالب ولا نسبه ، ولا يجري على لسان أحد منهم ذكره.

ومما يؤكد هذا ما يؤثر عن محمد بن الحنفية يوم الجمل ، قال : حملت على رجل فلما غشيته برمحي قال : أنا على دين عمر بن أبي طالب وقال : فعلمت أنه يريد علياً فأمسكت عنه(2) .

وجاء حمصي إلى عثمان بنصيحة ، وهي : « لا تكل المؤمن إلى إيمانه ، حتىتعطيه من المال ما يصلحه. أو قال : ما يعيشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك ، ولا ترسل السقيم إلى البرئ ليبرئه ، فإن الله يبرئ السقيم ، وقد يسقم البرئ. قال : ما أردت إلا الخير ـ قال : فردهم ، وهم زيد بن صوحان ، وأصحابه »(3) .

وقدمنا : أنه قد حلف للسفاح جماعة من قواد أهل الشام ، وأهل الرياسة والنعم فيها : أنهم ما كانوا يعرفون أهل البيت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرثونه غير بني أمية

__________________

1 ـ أنساب الأشراف ج 5 ص 43 ، والغدير ج 9 ص 32. وليراجع البداية والنهاية ج 7 ص 165.

2 ـ المعيار والموازنة ص 19.

3 ـ المصنف ج 11ص 334.

٨٧

بل إن أهل الشام يقبلون من معاوية أن يصلي بهم ـ حين مسيرهم إلى صفين ـ صلاة الجمعة في يوم الأربعاء ، كما قيل(1) .

وفي وصية معاوية ليزيد : « وانظر أهل الشام ، وليكونوا بطانتك ، فإن رابك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم : فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنهم إن أقاموا بها تغيرت أخلاقهم »(2) .

وحينما وقف أبو ذر في وجه طغيان معاوية ، وأثرته ، وانحرافاته ، في الشام ، قال حبيب بن مسلمة لمعاوية : « إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة(3) .

وحسب نص آخر : « إن أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله : كيت وكيت. فكتب معاوية إلى عثمان بذلك. فكتب عثمان : أخرجه إلي. فلما صار إلى المدينة ، نفاه إلى الربذة »(4) .

وحينما جاء المصريون إلى المدينة يسألون عمر عن سبب عدم العمل ببعض الأحكام القرآنية ، أجابهم بقوله : « ثكلت عمر أمُّه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ، وقد علم ربنا : أن سيكون لنا سيئات؟ ، وتلا :( إن تجتنبوا كبائِر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلاً كريماً ) هل علم أهل المدينة فيما قدمتم؟! قالوا : لا. قال لو علموا لوعظت بكم ».

قال لهم هذا بعد أن أخذ منهم اعترافاً بأنهم لم يحصوا القرآن لا بالبصر ، ولا في اللفظ ، ولا في الأثر(5) .

وبعد كلام جرى بين معاوية ، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة ، قال لها

__________________

1 ـ مروج الذهب ج 3 ص 32 والغدير ج 10 ص 196 عنه.

2 ـ الفخري في الآداب السلطانية ص 112 والعقد الفريد ج 3 ص 373 مع تفاوت يسير.

3 ـ الغدير ج 8 ص 304 عن ابن أبي الحديد.

4 ـ الأمالي للشيخ المفيد ص 122.

5 ـ حياة الصحابة ج 3 ص 260 عن كنز العمال ج 1 ص 228 عن ابن جرير.

٨٨

معاوية : « هيهات يا أهل العراق ، نبهكم علي بن أبي طالب ، فلن تطاقوا ، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم ، وإنصافها »(1) .

والعجيب في الأمر هنا : أننا نجد عمر بن الخطاب يصر على الهمدانيين ـ إصراراً عجيباً ـ أن لا يذهبوا إلى الشام ، وإنما إلى العراق(2) !!

ونظير ذلك أيضاً قد جرى لقبيلة بجيلة ، فراجع(3) .

وقال عبد الملك بن مروان لولده سليمان ، حينما أخبره : أنه أراد أن يكتب سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه ، ورأى ما للأنصارمن المقام المحمود في العقبتين ، قال له : « وما حاجتك أن تُقدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها؟! » ، فأخبره بتخريقه ما كان نسخه فصوب رأيه(4) .

وحينما طلب البعض من معاوية : أن يكف عن لعن عليعليه‌السلام ، قال : « لا والله ، حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر ذاكر له فضلاً »(5) .

وحينما أرسل عليعليه‌السلام إلى معاوية كتاباً فيه :

محمـد النبـي أخـي وصهـري

وحمـزة سيـد الشهـداء عمّـي

الأبيات

__________________

1 ـ العقد الفريد ج 2 ص 112 وبلاغات النساء ص 104 ط دار النهضة وليراجع صبح الأعشى أيضاً.

2 ـ المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 50.

3 ـ راجع : الكامل في التاريخ ج 2 ص 441.

4 ـ أخبار الموفقيات ص 332 ـ 334 وليراجع الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59 في قضية أخرى.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 4 ص 57 والإمام الحسن بن عليعليه‌السلام لآل يس ص125 ، والنصائح الكافية ص 72.

٨٩

« قال معاوية : أخفوا هذا الكتاب ، لا يقرأه أهل الشام : فيميلون إلى علي بن أبي طالب »(1) .

وليراجع كلام المدائني في هذا المجال ، فإنه مهم أيضاً(2) .

عليُّ عليه‌السلام يبثّ العلم والإيمان :

ولكن أمير المؤمنينعليه‌السلام قد حاول بكل ما أوتي من قوة وحول : أن يبث المعارف الإسلامية في الناس ، وينقذهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، حتى لقد قال ـ كما سيأتي ـ : « وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على معالم الحلال والحرام ». هذاً فضلاً عن التوعية السياسية ، التي كان هو ووُلْدُه الأماجد يتمون في بثها وتركيزها.

ط : موقفهم من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ثم هناك التدبير الذكي والدقيق ، الذي كان من شأنه أن يحرم الأمة من الإطلاع على كثير من توجيهات ، وأقوال ، وقرارات ، ومواقف الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المتمثلة في المنع عن رواية الحديث النبوي مطلقاً ، أو ببينة ، والضرب ، ثم الحبس ، بل والتهديد بالقتل على ذلك.

المنع عن كتابته والاحتفاظ به ،

ثم إحراق ما كتبه الصحابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

__________________

1 ـ البداية والنهاية ج 8 ص 8 و9.

2 ـ النصائح الكافية ص 72 / 73 /74.

3 ـ راجع في ذلك كله وحول كل ما يشير إلى التحديد والتقليل في رواية الحديث : المصادر التالية : جامع بيان العلم ج 1 ص 42 و 65 و 77 و ج 2 ص 173 و 174 و 135 و 203 و 147 و 159 و 141 و 148 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 258 و 262 و 325 و 377 و ج 10 ص 381 وهوامش الصفحات عن مصادر كثيرة ، والسنة

٩٠

..................................................................................

____________

=

قبل التدوين ص 97 / 98 و 91 و 103 و 113 و 92 و 104 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 5 و 7 و 6 و 8 و 3 / 4 وشرف أصحاب الحديث ص 88 و 89 و 91 و 92 و 87 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 273 وكنز العمال ج 5 ص 406 عن التيهقي و ج 10 ص 179 و 174 و 180 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وتأويل مختلف الحديث ص 48 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 248 و 427 حتى 432 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 2 و ج 4 قسم 1 ص 13 ـ 14 و ج 3 قسم 1 ص 306 و ج 5 ص 140 و 70 و 173 ، و ج 2 قسم 2 ص 274 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 61 وأضواء على السنة المحمدية ص 47 و54 و 55 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 64 و 61 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 2 ص 196 وحياة الصحابة ج 2 ص 82 و 569 و 570 و ج 3 ص 257 و 258 و 259 و 272 و 273 و 252 و 630 عن مصادر عديدة ، والبداية والنهاية ج 8 ص 106 و 107 وتقييد العلم ص 50 و 51 و 52 و 53 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 102 و 110 وتاريخ الخلفاء ص 138 عن السلفي في الطيورات بسند صحيح ، ومسكل الآثار ج 1 ص 499 حتى 501 ومسند أحمد ص 157 و ج 4 ص 370 و 99 و ج 3 ص 19 والدر المنثور ج 4 ص 159 ووفاء الوفاء ج 1 ص 488 و 483 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 6 ص 114 وحلية الأولياء ج 1 ص 160 ومآثر الإناقة. وراجع أيضاً : تاريخ الخلفاء ص 138 والمجروحون ج 1 ص 35 / 36.

ونقل أيضاً في الغدير ج 6 ص 294 حتى 302 و 265 و 263 و 158 و ج 10 ص 351 و 352 عن المصادر التالية : الكامل لابن الاثير ج 2 ص 227 وابن الشحنة بهامشه ج 7 ص 176 وفتوح البلدان ص 53 وصحيح البخاري ط الهند ج 3 ص 837 وسنن أبي داود ج 2 ص 340 وصحيح مسلم ج 2 ص 234 كتاب الأدب انتهى.

ونقله في النص والاجتهاد ص 151 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 5 ص 239 رقم 4845 و 4860 و 4865 و 4861 و 4862 والأم للشافعي ، وشرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 120 والمعتصر من المختصر ج 1 ص 459 وابن كثير في مسند الصديق وصفين ص 248 والتاج المكلل ص 265 وشرح صحيح مسلم للنووي ج 7 ص 127.

ونقل أيضاً عن المصادر التالية : قبول الأخبار للبلخي ص 29 ، والمحدث الفاصل ص 133 والبخاري بحاشية السندي ج 4 ص 88 وصحيح مسلم ج 3 ص 1311 و 1694 والموطأ ج 2 ص 964 ورسالة الشافعي ص 435 ومختصر جامع بيان العلم

٩١

ي ـ تشجيع القصاصين ورواية الإسرائيليات :

مع تشجيعهم للقصاصين ، ولرواية الإسرائيليات.

وقد وضعوا الأحاديث المؤيدة لذلك(1) .

ثم السماح بالرواية لأشخاص معينين ، دون من عداهم(2) حتى إن أبا

__________________

=

ص 32 و 33. وثمة مصادر أخرى لامجال لتتبعها..

1 ـ راجع فيما تقدم حول رواية الاسرائيليات وتشجيع القصاصين ، المصادر التالية : التراتيب الإدارية ج 2 ص 224 حتى 227 و 238 و 338 و 345 و 325 و 326 و 327 وأضواء على السنة المحمدية ص 124. حتى 126 و 145 حتى 192 وشرف أصحاب الحديث ص 14 و 15 و 16 و 17 وفجر الإسلام ص 158 حتى 162 وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 34 حتى 37 والزهد والرقائق ص 17 و 508 وتقييد العلم ص 34 وفي هامشه عن حسن التنبيه ص 192 وعن مسند أحمد ج 3 ص 12 و 13 و 56. وراجع أيضاً : جامع بيان العلم ج 2 ص 50 و 53 ، ومجمع الزوائد ج 1 ص 150 و151 و 191 و 192 و 189 والمصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 109 و 110 وهوامشه ومشكل الآثار ج 1 ص 40 و 41 والبداية والنهاية ج 1 ص 6 و ج 2 ص 132 و 134 وكشف الأستار ج 1 ص 120 و 122 و 108 و 109 وحياة الصحابة ج 3 ص 286.

2 ـ راجع : الصحيح من سيرة النبي ج 1 ص 26.

بل لم يسمحوا بالفتوى إلا للأمراء ، راجع : جامع بيان العلم ج 2 ص 175 203 وراجع ص 194 و 174 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 62 وسنن الدرامي ج 1 ص 61 والتراتيب اللإدارية ج 2 ص 367 و 368 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 179 ط ليدن و 258 ط صادر وكنز العمال ج 10 ص 185 عن غير واحد وعن الدينوري في المجالسة ، وعن ابن عساكر. والمصنف لعبد الرزاق ج 8 ص 301 وفي هامشه عن أخبار القضاة لوكيع ج 1 ص 83.

بل إن عثمان يتوعد رجلاً بالقتل ، إن كان قد استفتى أحداً غيره ، راجع تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 54 وحياة الصحابة ج 2 ص 390 / 391 عنه

٩٢

موسى ليمسك عن الحديث ، حتى يعلم ما أحدثه عمر(1) .

أضف إلى ذلك كله : حبسهم لكبار الصحابة بالمدينة ، وعدم توليتهم الأعمال الجليلة ، خوفاً من نشر الحديث ، ومن استقلالهم بالأمر(2) : وذلك بعد أن قرروا عدم السماح بالفتوى إلا للأمراء كما أوضحناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ك : لا خير في الإمارة لمؤمن :

وإذا كان الأمراء هم الذين ينفذون هذه السياسات ، وقد يتردد المؤمنون منهم في تنفيذها على النحو الأفضل والأكمل ، فقد اتجه العلم نحو الفجار ليكونوا هم أعوانه وأركانه.

وقد رووا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : لا خير في الإمارة لرجل مؤمن(3) .

__________________

1 ـ مسند أحمد ج 4 ص 393 وفي ص 372 يمتنع أنس عن الحديث.

2 ـ راجع : تاريخ الطبري حوادث سنة 35 ج 3 ص 426 ومروج الذهب ج 2 ص 321 و 322 وراجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 120 و ج 1 ص 110 وكنز العمال ج 10 ص 180 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 7 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 20 ص 20 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 317 و 334 و 365 وراجع : التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير ص 208 و 209 والفتنة الكبرى ص 17 و 46 و 77 وشرف أصحاب الحديث ص 87 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وطبقات ابن سعد ج 4 ص 135 و ج 2 قسم 2 ص 100 و 112 وحياة الصحابة ج 2 ص 40 و 41 و ج 3 ص 272 و 273 عن الطبري ج 5 ص 134 وعن كنز العمال ج 7 ص 139 و ج 5 ص 239.

وفي هذا الأخير عن ابن عساكر : أن عمر بن الخطاب جمع الصحابة من الآفاق ووبخهم على إفشائهم الحديث.

3 ـ البداية والنهاية ج 5 ص 83 ومجمع الزوائد ج 5 ص 204 عن الطبراني. وحياة الصحابة ج 1 ص 198 / 199 عنهما وعن كنز العمال ج 7 ص 38 وعن البغوي وابن

=

٩٣

وقد قال حذيفة لعمر : إنك تستعين بالرجل الفاجر. فقال : إني أستعمله لأستعين بقوته ، ثم أكون على قفائه.

وذكر أيضاً : أن عمر قال غلبني أهل الكوفة ، استعمل عليهم المؤمن فيضعف ، واستعمل الفاجر ، فيفجر(1) .

ل : أينعت الثمار واخضرّ الجناب :

وبعد ذلك كله فقد تهيأت الفرصة لمن سمح لهم بالرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن بني إسرائيل ، لأن يمدّوا الأمة بما يريدون ، ويتوافق مع أهدافهم ومراميهم ، من أفكار ومعارف ، وأقوال ومواقف ، حقيقية ، أو مزيفة

ثم تحريف ، بل وطمس الكثير من الحقائق التي رأوا أنها لا تتناسب مع أهدافهم ، ولا تخدم مصالحهم.

بل لقد طمست معظم معالم الدين ، ومحقت أحكام الشريعة ، كما أكدته نصوص كثيرة(2) .

بل يذكرون : أنه لم يصل إلى الأمة سوى خمس مئة حديث في أصول

__________________

= عساكر وغيرهما.

1 ـ الفائق للزمخشري ج 3 ص 215 و ج 2 ص 445 والنصائح الكافية ص 175 ولسان العرب ج 13 ص 346 و ج 11 ص 452. والاشتقاق ص 179.

2 ـ راجع الصحيح من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج 1 ص 27 ـ 30 بالإضافة إلى : المصنف ج 2 ص 63و مسند أبي عوانة ج 2 ص 105 والبحر الزخار ج 2 ص 254 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 1 ص 260 ومسند أحمد ج 4 ص 428 و 429 و 432 و 441 و 444 والغدير ج 8 ص 166 ، وراجع أيضاً مروج الذهب 3 ص 85 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 62.

٩٤

لأحكام ومثلها من أصول السنن(1) الأمر ، الذي يلقي ضلالاً ثقيلة من الشك والريب في عشرات بل مئات الألوف ، بل في الملايين(2) من الأحاديث ، التي يذكرون : أنها كانت عند الحفاظ ، أو لاتزال محفوظة في بطون الكتب إلى الأن. ولأجل ذلك ، فإننا نجدهم يحكمون بالكذب والوضع على عشرات بل مئات الألوف منها(3) .

وقد بلغ الجهل بالناس : أننا نجد جيشاً بكامله ، لايدري : أن من لم يُحْدِث ، فلا وضوء عليه ، « فأمر ( أبو موسى ) مناديه : ألا ، لا وضوء إلا على من أحدث. قال : أوشك العلم أن يذهب ويظهر الجهل ، حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل »(4) .

بل لقد رأينا : أنه : « قد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على ترك كثير من النصوص ، لما رأوا المصلحة في ذلك »(5) .

ويقول المعتزلي الشافعي عن عليعليه‌السلام : « وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ؛ لأنه كان متقيداً بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين

__________________

1 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 419 وعن الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 243.

2 ـ راجع على سبيل المثال : الكنى والألقاب ج 1 ص 414 ، ولسان الميزان ج 3 ص 405 وتذكرة الحفاظ ج 2 ص 641 و 430 و 434 و ج 1 ص 254 و 276.

وهذا الكتاب مملوء بهذه الأرقام العالية ، فمن أراد فليراجعه.

والتراتيب الإدارية ج 2 ص 202 حتى ص 208 و 407 و 408.

3 ـ راجع لسان الميزان ج 3 ص 405 و ج 5 ص 228 والفوائد المجموعة ص 246 و 427 وتاريخ الخلفاء ص 293 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 3 ص 96 وميزان الاعتدال ج 1 ص 572 و 406 و 509 و 316 و 321 و 12 و 17 و 108 و 148 والكفاية للخطيب ص 36 و سائر الكتب التي تتحدث عن الموضوعات في الأخبار. وراجع : المجرمون لابن حبان ج 1 ص 156 و 185 و 155 و 142 و 96 و 63 و 62 و ص 65 حول وضع الحديث للملوك وراجع أيضاً ج 2 ص 189 و 163 و 138 و ج 3 ص 39 و 63.

4 ـ حياة الصحابة ج 1 ص 505 عن كنز العمال ج 5 ص 114 وعن معاني الآثار للطحاوي ج 1 ص 27.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 83.

٩٥

تحريمه. وقد قالعليه‌السلام لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمنتع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب »(1) انتهى.

ولعل ما تقدم من موقف عمر من المصريين المعترضين يشير إلى ذلك أيضاً.

كما أن الفقهاء ، قد « رجح كثير منهم القياس على النص ، حتى استحالت الشريعة ، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة »(2) .

كما أن أبا أيوب الأنصاري لا يجرؤ على العمل بسنة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن عمر ، لأن عمر كان يضرب من عمل بها(3) .

ويصرح مالك بن أنس ، بالنسبة لغير أهل المدينة من المسلمين بـ : « أن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك »(4) .

وسيأتي المزيد مما يدل على إصرار الخلفاء ، وغير الخلفاء منهم ، على مخالفة أحكام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى من أمثال مروان بن الحكم ، والحجاج بن يوسف.

ماذا بعد أن تمهد السبيل :

وبعد هذا فإن الحكام والأمراء الذين مُنِحُوا ـ دون غيرهم ـ حق

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 28.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 84.

3 ـ المصنف ج 2 ص 433.

4 ـ جامع بيان العلم ج 2 ص 194.

٩٦

الفتوى! ، من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد أصبح بإمكانهم أن يفتوا بغير علم. بل أن يفتوا بما يعلمون مخالفته لما ورد عن سيد الخلق أجمعين ، محمد رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، ما داموا قد أمنوا غائلة اعتراض من يعلمون الحق ، ولم يعد يخشى من انكشاف ذلك للملأ من غيرهم الأمر الذي ربما يؤدي ـ لو انكشف ـ إلى التقليل من شأنهم ، وإضعاف مراكزهم ، ويقلل ويحد من فعالية القرارات والأحكام التي يصدرونها.

كما أن ذلك قد هيأ الفرصة لكل أحد : أن يدعي ما يريد ، وضع له الحديث الذي يناسبه ، بأييداً ، أو نفياً وتفنيداً.

كما أنهم قد أمنوا غائلة ظهور كثير من الأقوال ، والأفعال ، والمواقف النبوية ، والوقائع الثابتة ، التي تم مركز وشخصية من يهتمون بالتنويه باسمه ، وإعلاء قدره وشأنه ، أو ترفع من شأن ومكانة الفريق الآخر : أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا سيما سيدهم وعظيمهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، وكل من يمت إليه وإليهم بأية صلة أو رابطة ، أو له فيهم هوى ، أو نظرة إيجابية وواقعية ، انطلاقاً مما يملكه من فكر واع ، ووجدان حي.

أضف إلى ذلك كله : أن سياستهم هذه تجاه الحديث ، وسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنسجم مع رأي بعض الفرق اليهودية ، التي كان لأتباعها نفوذ كبير لدى الحكام آنئذ(1) .

ولسنا هنا في صدد شرح ذلك.

وعلي عليه‌السلام ماذا يقول :

هذا ولكننا نجد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشيعته ، والواعين من رجال هذه الأمة ، قد تصدوا لهذه الخطة بصلابة وحزم ، حتى لقد رفضعليه‌السلام في الشورى عرض الخلافة في مقابل اشتراط العمل بسنة الشيخين. وقد

__________________

1 ـ راجع كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ج 1 ص 26 / 27 متناً وهامشاً.

٩٧

طردعليه‌السلام القصاصين من المساجد ، ورفع الحظر المفروض على رواية الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

وقد رووا عنه : أنهعليه‌السلام قال : « قيدوا العلم ، قيدوا العلم » مرتين. ونحوه غيره(2) .

كما أنهعليه‌السلام يقول :

« من يشتري منا علماً بدرهم؟ قال الحارث الأعور : فذهبت فاشتريت صحفاً بدرهم ، ثم جئت بها ».

وفي بعض النصوص : « فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ، ثم جاء بها علياً ، فكتب له علماً كثيراً »(3) .

وعن عليعليه‌السلام قال تزاوروا ، وتذاكروا الحديث ، ولا تتركوه يدرس(4) .

وعنهعليه‌السلام : « إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده ، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر ، وإن يك باطلاً كان وزره عليه »(5) . ومثل ذلك كثير

__________________

1 ـ سرگذشت حديث ( فارسي ) هامش ص 28 وراجع كنز العمال ج 10 ص 171 و 172 و122.

2 ـ تقييد العلم ص 89 و 90 وبهامشه قال : « وفي حض عليّ على الكتابة انظر : معادن الجوهر للأمين العاملي 1 : 3 ».

3 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 259 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 116 ط ليدن و ص 68 ط صادر وتاريخ بغداد ج 8 ص 357 وكنز العمال ج 10 ص 156 وتقييد العلم ص 90 وفي هامشه عمن تقدم وعن كتاب العلم لابن أبي خيثمة 10 والمحدث الفاصل ج 4 ص 3.

4 ـ كنز العمال ج 10 ص 189.

5 ـ كنز العمال ج 10 ص 129 ورمز له بـ ( ك ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ).

٩٨

عنهعليه‌السلام (1) .

والإمام الحسن عليه‌السلام أيضاً :

وفي مجال العمل على إفشال هذه الخطة تجاه العلم والحديث ، وكتابته ، وكسر الطوق المفروض ، نجد النص التاريخي يقول : « دعا الحسن بن علي بنيه ، وبني أخيه ، فقال : « يا بني ، وبني أخي ، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ، فتعلموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه ، فليكتبه ، وليضعه في بيته »(2) .

ثم روى الخطيب ما يقرب من ذلك عن الحسين بن عليعليه‌السلام ، ثم قال : « كذا قال : جمع الحسين بن علي. والصواب : الحسن ، كما ذكرناه أولاً ، والله أعلم »(3) .

ولسنا هنا في صدد تفصيل ذلك ، ونسأل الله أن يوفقنا للتوفر على دراسة هذه الناحية في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

مشرعون جدد ، أو أنبياء صغار :

وطبيعي بعد ذلك كله وبعد أن كانت السياسة تقضي بتقليص نسبة

__________________

1 ـ راجع على سبيل المثال كنز العمال ج 10 كتاب العلم

2 ـ تقييد العلم ص 91 ونور الأبصار ص 122 وكنز العمال ج 10 ص 153 وسنن الدرامي ج 1 ص 130 وجامع بيان العلم ج1 ص 99 ، والعلل ومعرفة الرجال ج 1 ص 412 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 227 وفي هامش تقييد العلم عن بعض من تقدم ، وعن تاريخ بغداد ج 6 ص 399 ، ولم أجده ، وعن ربيع الأبرار 12 عن عليعليه‌السلام وراجع أيضاً التراتيب الإدارية ج 2 ص 246 / 247 عن ابن عساكر ، وعن البيهقي في المدخل.

3 ـ تقييد العلم ص 91.

٩٩

الاحترام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعمل على علو نجم قوم ، ورفعة شأنهم ، وأقول نجم آخرين ، والحط منهم وبعد أن مست الحاجة إلى المزيد من الأحكام الإسلامية ، والتعاليم الدينية ـ كان من الطبيعي ـ أن تعتبر أقوال الصحابة ، ولا سيما الخليفتين الأول ، والثاني ـ سنة كسنة النبي ، بل وفوق سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ساعد الحكام أنفسهم ـ لمقاصد مختلفة ـ على هذا الامر. وكنموذج مما يدل على ذلك ، وعلى خطط الحكام في هذا المجال ، نشير إلى قول البعض : « أنا زميل محمد » بالإضافة إلى ما يلي :

1 ـ « قال الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة : « كلهم في أحكامه ذو اجتهاد : أي صواب »(1) .

2 ـ وقال الشافعي : « لا يكون لك أن تقول إلا عن أصل ، أو قياس على أصل. والأصل كتاب ، أو سنة ، أو قول بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو إجماع الناس »(2) .

3 ـ وقال البعض عن الشافعية : « والعجب! منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه ، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(3) .

4 ـ ويقول أبو زهرة بالنسبة لفتاوى الصحابة : « وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنها من السنة ، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ، إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي. وهذا ينسحب على كل حديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى ولو كان صحيحاً »(4) .

ولا بأس بمراجعة كلمات الشوكاني في هذا المجال أيضاً(5) .

__________________

1 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 366.

2 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 367 ، وراجع ص 450.

3 ـ مجموعة المسائل المنيرية ص 32.

4 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 251 / 255 ومالك ، لأبي زهرة ص 290.

5 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 254 / 255 عن إرشاد الفحول للشوكاني ص 214.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

« ذونواس » من قتل في الاُخدود لاجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ يقال له « دوس » فقدم على « قيصر » فاستنصره على « ذي نواس » وجنوده واخبره بما فَعل بهم ، فقال له قيصر : بعدت بلادك عنا ، ولكن ساكتبُ إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم ، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره ، فارسل معه ملكُ الحبشة سبعين الفاً ، وأمّر عليهم رجلا يقال له « أرياط » وفي جنوده « ابرهة الأشرم » فساروا في البحر حتّى نزلوا بساحل اليمن ، وجمع « ذونواس » جنوده فاجتمعوا وكتب إلى زعماء قومه من اهل اليمن يدعوهم إلى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم ، فلم يجيبوه ، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة ، وسيطر الاحباش على أرض اليمن ، وجُعِلَ « أبرهة » اميراً عليها من قِبَل « النجاشي » بعد مقتل « ارياط » على يد « أبرهة » في صراع السلطة(١) .

وهذه القصة هي الّتي تعرف في القرآن الكريم بقصة « اصحاب الاُخدود » وقد جاء ذكرها في سورة البروج إذ يقول اللّه تعالى : «قُتِلَ أصحابُ الاُخدود. النار ذات الوقود. إذْهُم عَليها قُعُودُ. وهُم عَلى ما يَفعَلُون بالْمؤمنين شُهُودٌ. وما نَقمُوا مِنْهُم إلا أَنْ يُؤمنُوا باللّه العزيز الْحَميد. الَّذي لَهُ مُلك السماواتِ وَالارضِ واللّهُ عَلى كُلِّ شَيء شَهِيد »(٢) .

وقد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة(٣) .

ثم ان « ابرهة » الّذي اسكره الانتصار والغلبة على منافسه ، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّباً إلى ملك الحبشة ، وارضاء له ثم كتب كتاباً إلى « النجاشي » ملك الحبشة يقول فيه : « إني قد بَنيتُ لك ايها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمُنْته حتّى اصرف اليها حج العرب ».

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٢٦٠ ـ ٢٦٣ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١ ـ ٣٧.

٢ ـ البروج : ٤ ـ ٩.

٣ ـ راجع مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٤٦٤ ـ ٤٦٦.

١٦١

وقد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم ، إلى درجة أن امرأة مِن قبيلة « بني افقم » تسللت ذات ليلة إلى تلك الكنيسة واحدثت فيها ، فاثار هذا العمل الّذي كان يدل على مدى ازدراء العرب بكنيسة « أبرهة » واحتقارهم لها ، غضب « أبرهة » ، هذا من جانب ومن جانب آخر كان « ابرهة » كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب ، وحنقهم عليه ، واحتقارهم لكنيسته ، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة وهدمها ، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً ، وقدّم أمامهُ الفِيَلة المقاتلة ، وخرج متوجهاً صوب مكة وهو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!!

فلما عرف زعماء العرب بغايته ، وادركوا خطورة ذلك العمل وايقنوا بان استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط ، لم يمنعهم ما عهدوه من قوة « ابرهة » وانتصاراته بل خرج بعضهم إلى حربه فقاتلوه بكل شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد بالخَطر.

فقد خرج « ذونفر » وهو من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، ودعا قومَه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب « أبرهة » ولكن سرعان ما تغلّب « ابرهة » عليه بجيشه الكبير ، ثم خرج له بعد ذلك « نفيل بن حبيب » وبقي يقاتله مدة طويلة فهزمه « ابرهة » واُخِذَ له اسيراً ، فطلب « نفيل » العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه ، فدلّه نفيل حتّى الطائف ، واوكل الدلالة على بقية الطريق إلى شخص آخر يدعى « ابورغال » فدلّه أبورغال على الطريق حتّى أرض « المغمَّس » وهي منطقة قريبة من « مكة » فنزل « أبرهة » وجيشه بالمغمَّس ، فارسل أبرهة رجلا من الحبشة ـ على عادته ـ إلى ضواحي « مكة » فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب ، ثم امر رجلا آخر يدعى « حُناطة » ليدخل « مكة » ويبلغ أهلها عنه ما جاء من اجله ، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة ، وقال له : سل عن سيد اهل هذا البلد وشريفها ، ثم قل له : ان الملك يقول لك : « إني لم آت لحربكم ، انما جئتُ لهدم هذا البيت ، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في

١٦٢

دمائكم » ، فإن هو لم يرد حربي فاتني به.

فدخل « حُناطة » مكة ولما سأل عن سيد قريش وشريفها ، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في امر « ابرهة » وما يجب اتخاذه من موقف تجاهه.

فدلّوه على بيت « عبد المطلب » ، ولما دخل على « عبد المطلب » أبلغه مقالة « أبرهة٩ فقال له عبد المطلب : « واللّه ما نُريدُ حربَه ، وما لَنا بذلك من طاقة ، هذا بيت اللّه الحرام ، وبيت خليله إبراهيمعليه‌السلام ، فان يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وان يخلي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه »؟

فسرّ « حناطة » رسول ابرهة بمنطق عبد المطلب ومقالته الّتي كانت تحكي عن قوة ايمانه ، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه إلى « أبرهة » ، قائلا : فانطلق معي إليه فانه قد امرني اَن آتيه بك.

عَبدُ المطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة :

فتوجه عبد المطلب هو وجماعة من ولده إلى معسكر ابرهة ، فاعجب « أبرهة » بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً ، وبهر به حتّى أنه نزل له من تخته اجلالا ، واخذ بيده ، واجلسه إلى جنبه ، فسأله عن طريق مترجمه متأدباً : ما الّذي اتى به وماذا يريد؟ فأجابه عبد المطلب قائلا : حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مائتي بعير أصابها لي.

فقال « أبرهة » لترجمانه : قل له : قد كنت اعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير اصبتُها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه ، لا تكلمني فيه؟!

فقال له عبدالمطلبُ : إني أناربُ الإبل ، وان للبيت رباً سيمنعه ، فقال « ابرهة » مغتراً بنفسه : ما كان ليمتنع مني.

ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها.

* * *

١٦٣

إنتظار قريش :

ولقد انتظرت قريش عودة « عبد المطلب » من معسكر « ابرهة » بفارغ الصبر لتعرفَ نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة ، وعندما عاد « عبد المطلب » اخبرهم الخبر ، وامرهم بالخروج معه من مكة ، والتحرز في رؤوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا إلى الشعاب ، والجبال ، ثم لما كان الليل نزل عبد المطلب مع جماعة من قريش إلى الكعبة واخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه على أبرهة وجنده وقال « عبد المطلب » مناجياً اللّه سبحانه : «اللَّهُم أنتَ أنيسُ المستَوْحشين ولا وحشة معك فالبيت ، بيتُك والحرمُ حرمك والدارُ دارُك ونحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء وربُ الدار أولى بالدار » ثم قال :

لاهمّ إن(١) العبد يمنع رَحـ

ـله فامنع حِلالك(٢)

لا يغلِبنَّ صليبُهم

ومحالهم عَدواً مِحالَك(٣)

وقال ايضاً :

يا ربِّ لا أرجُولهم سواكا

يا ربِّ فامنَع مِنهُمو حِماكا

إن عدوَّ البَيتِ مَن عادكا

إمَنعهُمُ أن يخربُوا فِناكا

ثم انه ترك حلقة الباب ، ولجأ إلى الجبل لينظروا ما سيجري.

وفي الصباح وعندما كان « أبرهة » وجنده يستعدون للتوجه إلى « مكة » ، وإذا باسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار ، حجر في منقاره ، وحجرين في رجليه ، فاظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رؤوس الجند ، وتركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود « ابرهة » بتلك الاحجار بامر اللّه ، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلاّ تحطم رأسَه ، وتمزق لحم بدنه ، وهوى صريعاً ،

__________________

١ ـ لاهم أصلها : اللّهم والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي.

٢ ـ الحلال جمع حلة وهي جماعة البيوت.

٣ ـ المحال : القوّة والشدّة.

١٦٤

وهلك من توه ، فاصابت واحدةٌ من تلك الاحجار راس « ابرهة » نفسه فارتعدت فرائصه وايقن بغضب اللّه وسخطه عليه ، فنظر إلى جنوده وهم اشلاء مبثوثون هنا وهناك على الأَرض كورَق الشجر في فصل الخريف ، فصاح بِمَن لم يزل على قيد الحياة من جنده بامرهم بأن يتهيّأوا للعودة إلى اليمن ، من حيث أتوا ، فاخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين ، غير أن هذه البقية قد هَلكَتْ شيئاً فشيئاً في اثناء الطريق حتّى أن ابرهة نفسه بعد أن لم يصل إلى صنعاء إلا بعد ان تفرّق لحمُ بدنه ، وسقطت اعضاؤه وجوارحُهُ ومات بصورة عجيبة.

وقد دَوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة والرهيبة في العالم آنذاك ، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل إذ يقول تعالى : «ألَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيْل. وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أبابيلِ. ترميهِمْ بِحِجارَة مِنْ سَجِّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأكُول ».

وما ذكرناهُ هنا ـ في هذه الصفحات ـ ليس هو في الحقيقة إلاّ خلاصة ما وَردَ في كتب التاريخ الإسلامي ، وصرح به القرآنُ الكريم(١) .

واستكمالا لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ « محمَّد عبده » والعلامة المعروف الدكتور « هيكل » وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.

كلمة حول المعجزة :

لقد أوجدَ التقدم العلميُّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية ، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات ، ضجة عجيبة في الغرب ، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجردَ تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية ، ولم يكن لها أية صلة بالمعتقدات الدينية

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٣ ـ ٦٢ ، والكامل في التاريخ ج ١ ، ص ٢٦٠ ـ ٢٦٢ ، وبحار الأنوار : ج ٥ ، ص ١٣٠ ـ ١٤٦.

١٦٥

فإنّ هذا التحول والتطور وتلك الكشوف أوجدت شكاً عجيباً لدى بعض الناس انسحب على جميع المعارف والمعتقدات الدينية الموروثة على وجه الاطلاق!

والسرّ في ذلك هو أن العلماء رأوا بأن الفرضيات القديمة ، الّتي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية لمدة طويلة من الزمان ، قد اصبحت اليوم عرضةً للبطلان والسقوط تحت مطارق التجربة وبواسطة الاختبارات العلميّة ، والتحقيقات المختبرية ، فلم يُعد ـ بعد هذا ـ مجالٌ للقول بفرضية الافلاك التسعة الّتي طَلع بها « بطلميوس » ، ولا بفرضية مركزية الارض ، ولا غيرها من عشرات الفرضيات ، فقالوا في أنفسهم : ومن أين تَرى لا تكون بقية المعلومات والمعارف الدينية من هذا القبيل؟!

وقد تفاقم هذا النوع من الشك في قلوب جماعة من العلماء بالنسبة إلى جميع المعتقدات والمعارف الدينية ونمى بشكل قويّ في فترة قصيرة ، وعمَّ الاوساط العلمية كأيّ مرض!!

هذا مضافاً إلى أنّ محاكم التفتيش وتشدّد الكنيسة وأربابها كان لها النصيب الاكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها ، واطرادها ، لأن الكنيسة كانت تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب والاضطهاد القاسي بحجة أنها تخالف الكتاب المقدس ، وتعارض مقرَّرات الكنيسة!!

وممّا لا يخفى أنَّ مثل هذه الضُغُوط ، وهذا الاضطهاد والتعجرف ما كان ليمرَّ من دون حدوث ردة فعل ، وقد كان من المتوقَع منذ البداية أن العلماء في الغرب لو اتيحت لهم الفرصة لانتقموا من الدين ، بسبب سوء تصرف الكنيسة ، وسوء معاملتهم لهم خاصة ، وللناس عامة.

وقد حدث هذا فعلا فكلّما تقدم العلمُ خطوةً ، واطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية ، واكتشفوا المزيد من الحقائق الكونية ، والعلل الطبيعية لكثير من الحوادث والظواهر المادية ، وكذا علل الامراض ، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية ، وما يدور حول المبدأ والمعاد والافعال الخارقة للعادة

١٦٦

كمعاجز الانبياء ، وازداد عدد المنكرين لها والشاكين فيها ، والمترددين في قبولها يوماً بعد يوم!!

لقد تسبَّب الغرورُ العلميُّ الّذي أُصيب به العلماء في الغرب في ان ينظر بعض اولئك العلماء إلى جميع القضايا الدينية بعين الازدراء والتحقير ، وأن يمتنعوا حتّى عن التحدث في المعاجز الّتي يخبر بها التوراة والانجيل ، ويعتبروا عصا موسىعليه‌السلام الّتي كانت تشفي المرضى وتحيي الموتى من الأساطير ، وراحوا يتسائلون ـ في عجب واستنكار ـ : وهل يمكن أن تتحول قطعةٌ من الخشب اليابس إلى أفعي ، أو ثعبان ، أو هل يمكن ان تعود الحياة إلى ميّت بكلمات من الدعاء؟

لقد تصور العلماء الذين أسكرتهم فتوحاتهم العلمية ، انهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم ، ووقفوا على جميع العلاقات بين الكائنات الطبيعية والظواهر الكونية ، ومن هنا تصوَّرُوا أنه لا توجد ايةُ علاقة بين قطعة الخشب والثعبان ، أو بين جملة من الدعاء والتفاتة من بشر وعودة الروح إلى الموتى ، ولهذا أخذوا ينظرون إلى هذه الامور بعين الشك والترديد ، وربما بعين الانكار والرفض المطلق!!

وقد سرى هذا النوعُ من التفكير إلى اوساط بعض العلماء المصريين الذين تأثروا بهذا الاتجاه اكثر من غيرهم ، مع بعض التعديل في ذلك الموقف ، وشيء من الاختلاف في النظرة المذكورة ، ولهذا اتبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية والعلمية من هذا النوع ، والسِرّ في تأثر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل واكثر من غيرهم هو احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم ، ومن هذه المنطقة سَرتْ بعضُ النظريات والآراء الغربية إلى البلاد الإسلامية الاُخرى.

لقد اختار هؤلاء طريقاً خاصاً قَصَدُوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز ، والاحاديث القطعية ومكانتها من جهة ، وكسب نظر العلماء الماديين الطبيعيين إلى انفسهم من جهة اُخرى ، أو ارادوا ان لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين القوانين العلمية الطبيعية وتطبيقه عليها.

١٦٧

لقد وجَدَ هؤلاء من جهة أن القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات والخوارق الّتي لا يمكن تفسيرها بالعلوم العادية المتعارفة ، لأن العلم لا يستطيع أن يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة والثعبان ، ومن جهة اُخرى كان القبول بالنظريات الّتي لا يمكن إثباتها بالحسّ والتجربة أمراً في غاية الصعوبة لهم.

ولهذا السبب ، وفي خِضمِّ الصراع بين هذين العاملين : العلم والعقيدة ، اختار هؤلاء الكتاب والعلماء نهجاً يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع ، والتنازع ، فيحافظون على ظواهر القرآن والاحاديث من جانب ، ويتجنبون القول بما يخالف منطق العلم من جانب آخر ، ويتلخص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز وجميع خوارق العادة الّتي جرت على ايدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر بصورة تبدو وكأنها اُمورٌ طبيعية ، وبهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن الكريم والاحاديث القطعية المسلّمة ، ولم يتفوهوا بما يخالف العلم الحديث ويتعارض مع معطياته.

ونحن هنا نذكر من باب النموذج والمثال : التفسير الّذي ذكره العلامة المصري المعروف « محمَّد عبده » لقصة اصحاب الفيل وماجرى لهم :

فهو يقول عند تفسيره لسورة الفيل :

« فيجوز لك ان تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الّذي يحمل جراثيم بعض الامراض ، وان تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الّذي تحمله الرياح فيعلق بارجل هذه الحيوانات ، فاذا اتصل بجسد دخل في مسامّه فاثار فيه تلك القروح الّتي تنتهي بافساد الجسم وتساقط لحمه ، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعُدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير ـ الّذي يسمونه الآن بالميكروب ـ لا يخرج عنها »(١) .

__________________

١ ـ راجع تفسير في ظلال القرآن : ج ٣٠ ، ص ٢٥١.

١٦٨

وقال أحد الكتاب مؤيداً هذا الاتجاه بقوله : « إن الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير ، ويشمل الذباب والبعوض ايضاً ».

ولابدَّ ـ قبل دراسة هذه الأقوال ـ أن نستعرض مرة اُخرى الآيات النازلة في اصحاب « الفيل ».

يقول اللّه تعالى : «ألمْ تَر كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيدهُمْ في تَضْلِيْل. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيْل. تَرْميْهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأكُولٍ ».

إن ظاهر هذه الآيات يفيد أن جيش ابرهة اُصيب بالغضب والسخط الالهي ، وان هلاكه وفناءه كان بهذه الأحجار الّتي حملتها تلك الطيور ، والقتْ بها على رؤوس الجند وأبدانهم.

إن الإمعان في مفاد هذه الآيات يعطي أن مَوتهم كان بسبب هذه الاسلحة غير الطبيعية ( الصغيرة الحقيرة في ظاهرها ، القوية الهدامة بفعلها وأثرها ).

وعلى هذا فإنَّ أي تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه وحمل الآيات عليه ما لم يقم على صحته دليل قطعي.

نقاطٌ تقتضي التأمل في التفسير المذكور :

١ ـ إِنَّ التفسير المذكور لا يستطيع كذلك أَن يجعل كل تفاصيل هذه الحادثة أمراً طبيعياً ، بل هناك جوانب في تلك الواقعة التاريخية العجيبة لابد من تفسيرها بالعوامل والاسباب الغيبية ، لأنه مع فرض أن هلاك الجند وتلاشي أجسادهم تمَ بواسطة ميكروب : « الحصبة » و « الجدري » ، ولكن من الّذي ارشد تلك الطيور إلى تلك الاحجار الصغيرة الملوثة بميكروب الحصبة والجدري ، فتوجهت بصورة مجتمعة إلى تلك الاحجار الخاصة بدل التوجه إلى الحَبّ والطعام ، ثم كيف بعد حمل تلك الأَحجار بمناقيرها وأرجلها حلَّقتْ فوق معسكر « أبرهة » ورجمت جنده كما لو أنّها جيشٌ منظّم موجّه؟؟

هل يمكن اعتبار كل ذلك أمراً عادياً ، وحدثاً طبيعياً؟

١٦٩

ترى لو أننا فسَّرنا طرفاً من هذه الحادثة العظيمة والعجيبة بالعوامل الغيبية ، وبارادة اللّه النافذة فهل تبقى مع ذلك أية حاجة إلى أن نفسّر جانباً من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف ، ونركض وراء التوجيهات الباردة ، لنجعلها امراً مقبولا.

٢ ـ إنَّ الكائنات الدقيقة ، أوما يسمى الآن ب‍ « الميكروب » لا شك انها عدوة لمطلق الإنسان ، وليس بصديقة لهذا أو ذاك ، ومع ذلك كيف توجهت إلى جنود « ابرهة » وقتلتهم دون غيرهم ، وكيف نسيت المكيّين بالمرة؟!

انَّ التاريخ المدوَّنْ يثبت لنا أن جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند « ابرهة » ولم يلحق فيها : أيّ أذى ـ إطلاقاً ـ بقريش ، وغيرهم من سُكان الجزيرة العربية ، في حين أن الحصبة والجُدَريِّ من الأمراض المعدية ، الّتي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح وغيرها من منطقة إلى اُخرى ، ورُبَما تُهلِك اهل قطر باجمعهم.

فهَل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة حدثاً طبيعياً عادياً؟!

٣ ـ ان اختلاف هذا الفريق في تحديد نوعية الميكروب ، يضفي على هذا الادعاء مزيداً من الإبهام ، ويجعله اقرب الى البطلان.

فتارة يقولون : انَّه ميكروب الوباء وتارةً اُخرى يقولون : انَّه داء الحصبة والجدري ، في حين اننا لم نجد مستنداً صحيحاً لهذا الخلاف ، ومبرراً وجيهاً لهذا الاختلاف ، اللّهمَ إلاّ ما احتمله « عكرمة » من بين المفسرين ، وعكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء والاّ لما ذهب « ابن الاثير ». من بين المؤرخين وارباب السير إلى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف ، والقيل ، ثم عاد فردّ هذا القول فوراً(١) .

والأعجب من الجميع ما أعطاه مؤلف كتاب « حياة محمَّد » الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من تفسير ، عند ذكر قصة الفيل.

__________________

١ ـ الكامل : ج ١ ، ص ٢٦٣.

١٧٠

فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة الفيل ، ومع أنه اتى بقول اللّه تعالى « وأرسل عليهم طيراً أبابيل » قال عن هلاك جنود أبرهة : « ولَعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر ، وأصابت العدوى أبرهة نفسه »(١) فاذا كان الّذي جاء بهذا الميكروب هو الريح ، فلماذا حلّقت طيورُ الأبابيل على رؤوس جيش أبرهة ، والقت بالأَحجار الصغيرة على رؤوسهم ودون غيرهم ، وأي أثر كان لهذه الاحجار في هلاك أُولئك الجنود وموتهم؟

فالحق هو : أن لا يُتبعَ هذا النمط من التفكير ، وأن لا نسعى لتفسير معجزات الأَنبياء ـ الكبرى بمثل هذه التأويلات والتفسيرات ، بل إن طريق المعجزات والإعجاز أساساً يختلف عن طريق العلوم الطبيعية الّتي تتحدد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر الطبيعية ، ولهذا يجب علينا أن لا نعمد ـ ارضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أية معلومات دينية ، وليست لديهم أية معرفة بهذا النوع من القضايا ـ إلى التنازع عن أُسُسنا الدينية المسلّمة ، في حين لا توجد أية حاجة مُلزمة إلى مثل ذلك التنازل والاعتذار!

نقطتان هامّتان :

وهنا لابد من أن نذكّر بنقطتين هنا :

الاُولى : يجب ان لا يظن أحدٌ ـ خطأ ـ أننا بما قلناه هنا نريد تصحيح كل ما تلوكه ألسنُ الناس ، وتنسبه إلى الانبياء العظام ، أو إلى عباد اللّه الكرام ، من دون أن يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول بل وربما اتَّسَمْ بطابع الخرافة في بعض الاحيان والموارد.

بل مقصودنا هو : أن نثبت ـ وطبقاً للمصادر الصحيحة والقطعية المتوفرة ـ ان الأنبياء كانوا يقومون ـ لا ثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة ـ بأعمال خارقة للعادة ، خارجة عن الناموس الطبيعيّ المألوف ، تعجز العلومُ الطبيعية الرائجة عن

__________________

١ ـ حياة محمَّد لمحمَّد حسين هيكل : ص ١٠٢ و ١٠٣.

١٧١

إدراك عللها ، وأسبابها.

فهدُفنا هو الدفاع عن هذه الطائفة من المعاجز.

الثانية : إننا لا نقول مطلقاً : أَنَّ وجود المعجزة هو تخصيصٌ لقانون العلية العامّ ، بل اننا في الوقت الّذي نحترمُ فيه هذا القانون المسلّم نعتقد بأَن لجميع حوادث هذا العالم عللا خاصة واسباباً معينة ، وانه من المستحيل أن يوجَد شيء بعد عدمه من دون علة ، بَيْد أننا نقول ان لهذه الطائفة من الظواهر والوقائع ( أي المعاجز ) عللا غير طبيعية ، وان هذه العلل ميسَّرة ومتاحة لأنبياء اللّه ورسله والرجال الإلهيين خاصة ، وليس في مقدور أحد ـ لم يستطع لا عن طريق الحس ولا عن طريق التجربة أن يكتشف هذه العلل ـ أن يتنكّر لها ، وينكرها ، بل ان جميع الاعمال الخارقة الّتي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل الطبيعية المألوفة ، ولو أنها خضعت للتفسير والتوجيه لخرجت عن كونها معجزة ، ولم يصدُق في حقها عنوان الاعجاز.

ولكي نقف على حقيقة هذا الامر ، ونعرف مدى بطلان المذهب المذكور ( مذهب تفسير الخوارق والمعاجز بالتفسير المادي والمألوف المحض ) ينبغي أن نتبسط قليلا في شرح مسألة الاعجاز ونبحث في مدى علاقتها بقانون العلية العام.

بحثٌ علميُّ حول المعجزة في خمس نقاط :

إن الحديثَ العلميَّ عن المجعزة لابدَّ أن يتركَّز على عدة نقاط أساسيَة هي :

١ ـ ما هي المعجزة وما هو تعريفها؟

٢ ـ هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

٣ ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير عادية فقط؟

٤ ـ كيف تدل المعجزة على صدق ادعاء النبوة؟

٥ ـ كيف وبماذا نميز المعجزة عن الخوارق الاُخرى؟

إنَّ الاجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة ، وبيان مدى بطلان الاتجاه المذكور نعني : تفسير المعاجز بالتفسير المادي الطبيعي.

١٧٢

على أننا ـ نظراً لضيق المجال ـ سنختصر الجواب على هذه الأسئلة ، وعلى من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام والعقيدة.

١ ـ ما هي المعجزةُ وما هو تعريفها؟

لقد عرَّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو : انّ المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة ، مقرونٌ بالدَعوى ، والتحدّي ، مع عدم المعارضة ، ومطابقة الدعوى(١) .

ويعني الشرطُ الأولُ ( اي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة ) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلة حتماً ، فلا يمكن صدورها من دون علة ، وهذا الكون مشحون بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو العلميّة ، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلة ، بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية ، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث ، والمقصود من خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه في الظواهر الاُخرى وعِللها ، مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود ، واخراج الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف ، وتحويل العصا إلى أفعي من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل ، بل بمسح من يد ، أو بعبارة من لسان ، أو بضرب من عصا!!

من هنا نكتشفُ أَن كل ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه

__________________

١ ـ راجع للوقوف على هذا التعريف : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلّي شرحاً والمحقق نصير الدين الطوسي متناً : ص ٢١٨ ، وأيضاً شرح تجريد الاعتقاد للعلامة القوشجي : ص ٤٦٥.

١٧٣

الصورة لم يقع أي شيء على خلاف العادة ، والمألوف ليدل على مزية في الانبياء.

فان مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس ، أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفها علماء ومتخصصوا ذلك العلم يمكن أن يقوم بايجاد أمثالها جميعُ الناس ، فلا يكون حينئذ معجزة.

ولا يعني هذا ـ وكما اسلفنا ـ أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أية علة ، اصلا ، بل هي تستند إلى علة غير متعارفة وغير عادية ، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على السؤال الثالث.

ويُقصَد من الشرط الثاني ( أي كون الاعجاز مقروناً بالدعوى ) أن يَدّعي صاحبُ المعجزة النبوة والسفارة من جانب اللّه تعالى ، ويأتي بالمعجزة دليلا على صحة دعواه هذه ، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ « الكرامة » كما كان لمريم بنت عمران الّتي كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فاذا سألها من أين لها ذلك؟

قالت : هو من عند اللّه(١) .

ويعني الشرطُ الثالثُ أن يكون الاعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان بمثله ، وعجز الناس عن هذه المعارضة ، وعدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقاً إذ في هذه الصورة يتضح أَنَّ النبي يعتمد على قوة الهية غير متناهية ، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي.

واما الشرط الرابع فيعني أن الامر الخارق للعادة إنّما يكون عملا إعجازياً ، ويستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ ، إذا وافق الامرُ الواقعُ ما يدعي أنه قادر على الأتيان به.

فلو قال : سأجعلُ هذا البئر الجاف الفارغ من الماء ، يفيض بالماء باشارة اعجازية ، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقاً ، وأما إذا قال : سأجعل هذا

__________________

١ ـ راجع سورة آل عمران : ٣٧.

١٧٤

الماء القليل الموجود في البئر يفيضُ ماء ، بالإعجاز ، ولكن جفَّ ذلك البئرُ على عكس ما قال ، لم يكن ذلك إعجازاً ، بل كان تكذيباً لمدعيها.

هذا هو خلاصة ما يمكن أن يُقال حول تعريف المعجزة والاعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.

٢ ـ هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

وبهذا يتضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال : إن قانون العليّة ( اي : ارتباط كل معلول حادث بعلة ) ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبلَه العلمُ والفلسفة ، ولذلك فاننا نلاحظ : كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة مهما كانت ـ بحَثَ عن علّتها فوراً فاذا رأى حية ـ مثلا ـ عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة ، ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذه العلل ولا تمرُّ بمثل هذه المقدمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة ، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان ، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.

أليس هذا هدمٌ ، أو تخصيصٌ لذلك القانون العقليّ المسَلَّم العام؟

فان الجواب على هذا السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلاّ الَّذين يحصرُون العلل والعلاقات بين الاشياء في العلل والعلاقات المادية الطبيعية.

ولكن الحق هو أنَّ أيَّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل :

١ ـ العلةُ العادية الّتي تخضع للتجربة.

٢ ـ العلةُ غير العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية.

وهذا يعني أنه لا توجد أية ظاهرةُ في هذا العالم بدون علة.

وتوضيحُ هذا أن اصل وجود الحية ونبوع الماء من الصخرة وتكلم الطفل ـ مثلا ـ أمرٌ ممكنٌ ، ولا يُعدّ من المحالات ، لأَنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبداً.

١٧٥

نعم أَنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق ، والعلة ـ سواء في المعاجز أو غيرها ـ يمكن أن تكون إحدى الامور التالية :

أ ـ العلة الطبيعية العادية وهي ما الفناها وأعتدنا عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.

ب ـ العلة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل ، وطريقان للتحقق والوجود أحدهما معروف ومعلوم ، والآخر مجهول غير معلوم ، والانبياء بحكم اتصالهم بالعلم والقدرة الالهية ، يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل ـ عن طريق الوحي ـ ويوجدوا الظاهرة.

ج ـ تأثير النفوس والارواح :

فانَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأَنبياء ونفوسهم القوية ، كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفرادُ العاديُّون ، وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها. وهو ما يسمى باليوجا أحياناً ، وقد كتبت حوله كتب ودراسات(١) .

وقد أشار إلى هذا جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول :

« لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوةٌ الهيةٌ تكون بقوتها كأنها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها ، فكلّما ازدادت النفسُ ـ تجرداً وتشبّها بالمبادئ القصوى ازدادت قوةً وتأثيراً في ما دونها.

وإذا صار مجردُ التصوّر والتوهم سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة ، وتعلّق جبلّي لها إليه ، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير ، لأجل مزيد قوة شوقية ، واهتزاز علوي للنفس

__________________

١ ـ راجع كتاب الطاقة الإنسانية لأحمد حسين.

١٧٦

ومحبة الهية لها ، فيؤثر نفسُه في إصلاحها ، وإهلاك ما يضرّها ويفسدها »(١) .

د ـ العللُ المجردة عن المادة :

فيمكن ان تكون للظواهر عللٌ مجردة عن المادة كالملائكة ، بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية ، أو تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.

والملائكة مظاهرُ القدرة الالهية في الكون ، وهي الّتي تدبّر اُمور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم : «فالمُدَبَّراتِ أَمْراً »(٢) وهي بالتالي جنوداللّه في السماوات والأَرض «وللّه جُنودُ السَماواتِ »(٣) .

فلابد من ارجاع الظواهر الطبيعية الواقعة إلى أحد هذه العوامل الاربعة ، ولا يمكن أبداً حصر العلة في العلة الطبيعية العادية المعروفة كما تصور منكروا الاعجاز ، بل يمكن أن تكون كلُ واحدة من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية ، فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر ـ فوراً ـ إلى تصوّر أنها ناشئةٌ من غير علة.

ويجب ارجاع معاجز الأَنبياء إلى إحدى الطرق الاخيرة ، والقول بأن الانبياء استخدموا ـ في ايقاع الخوارق والمعاجز ـ إما العلل المادية غير المعروفة للعُرف ، والعلم ، وأما نفوسهم القوية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.

كما ويمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بامر اللّه ومشيئة.

إذن فلا تتحقق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر ، ولا يهدم الاعجاز القوانينَ العقلية المسلّمة.

__________________

١ ـ راجع المبدأ والمعاد : ص ٣٥٥ و ٣٥٦ لصدر المتألهين المشهور بصدر الدين الشيرازي ، وشرح المنظومة للحكيم السبزواري : ص ٣٢٧ قال السبزواري ناظماً :

يطيعه العنصرُ طاعة الجَسَد

للنفس فالكلُ كجسمهُ يُعَدّ

٢ ـ النازعات : ٥.

٣ ـ الفتح : ٤.

١٧٧

٣ ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟

قد يتصور البعض أن المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها ايَّة علل مادية معروفة أو غير معروفة ، في حين لا يصحّ هذا السلب الكلي ، إذ ما اكثر الخوارق الّتي تنشأ عن اُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.

فعندما يرقُد مرتاض هندي ليمرَّ عليه تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك اُموراً مادية كثيرة دخلت في هذا الامر الخارق مثل : وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص ، والمكان الخاص ، ومثل جسم المرتاض ، وماكنة الحراثة.

فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت في ظهور هذا العمل الخارق.

وهكذا عندما تنقلب عصا الكليمعليه‌السلام إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شيء مادي وهكذا الحال في غيره من الموارد.

ولهذا لا يمكن ان نتجاهل تأثير العوامل والامور المادية في ظهور الاُمور غير العادية ، وننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.

وهذه هي اكثر النظريات اعتدالا في هذا المجال.

وفي مقابل ذلك التفريط(١) أفرط آخرون إذ قالوا : ان جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.

وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها حتّى النوابغ من الناس فضلا عن العاديين ، لأن العوامل الطبيعية على نوعين : المعروفة وغير المعروفة ، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية ـ في الأغلب ـ من القسم الاول ، بينما يستخدم الانبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها وادركوها دون غيرهم.

__________________

١ ـ أي حصر علل الخوارق والمعاجز في العوامل المجرَّدة ونفي تأثير العلل الماديّة على نحو الاطلاق.

١٧٨

والسبب في وصفنا هذه النظرية بالافراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لا ثباته ، بل يمكن ان يقال ان مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي ، أو انه لارضاء الماديين ، والنافين لما يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها ، وحيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة عن المادة يخالف منطق الماديين ، ويضادد اتجاههم وتصورهم لهذا عمد أصحاب هذه النظرية ( نظرية إرجاع المعاجز والخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية ) إلى مثل هذا التفسير إقناعاً للماديين ، وارضاء لهم فقالوا : ان جميع الخوارق والمعاجز ناشئة من علل طبيعية ومادية على الإطلاق ، غاية ما في الأمر أَنها علل غير معروفة ، شأنها شان كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.

ونحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الاجمال وبقعة الإمكان ، لعدم الدليل لا على طبقها ولا على خلافها.

٤ ـ كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟

إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً ، واستثماراً للناس ، مستغلِّين سذاجة الاغلبية الساحقة من جانب ، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والايمان من جانب آخر.

فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟

إن المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحة إدعاء النبوة.

وإِنما تدلُّ المعجزةُ على صدق ادّعاء النبوّة ، وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّدَ الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة ، لأن في تزويد الكاذب تغريراً للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ.

وإلى هذا أشار الامامُ جعفر الصادقعليه‌السلام بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لانبيائه ورسله :

١٧٩

« لِيَكُونَ دَليلا عَلى صِدق من أتى به ، والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلا انبياءه وَرسلَه ، وحجَجَه ، ليعرفَ به صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب »(١) .

٥ ـ بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟

لا شَكَّ في أنَّ السَحَرة والمرتاضين يقومون بأَفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى ان البسطاء ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون بقوى غامضة غيبية لا يتوصلُ اليها البشر.

فكيف يمكن اذن أن نُمَيّز بَينَ المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟

إن التمييز بين هذه وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من الاعمال الخارقة للعادة ، كاعمال السحرة والمرتاضين ( اصحاب اليوجا ) ونظائرهم.

وهذه الفوارق هي عبارة عن الامور التالية :

١ ـ إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم والتحصيل عند اساتذة تلك العلوم ، وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.

بينما لا يرتبط الاعجاز بالتعلّم والتلمّذ أبداً ، والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام.

٢ ـ إن أَفعال السَحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها ، وربما بما هو اقوى منها ، على عكس الإعجاز ، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض وتقابل بمثلها ابداً.

٣ ـ المرتاضون والسَحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم ولا يطلبُون معارضة أحد لَهُمْ وإلا لافْتضَحُوا وكبتوا.

بينما يتحدى الانبياء والرسل بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم

__________________

١ ـ علل الشرائع : ج ١ ، ص ١٢٢.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694