سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358146 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

والاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا ، واستطاعوا.

فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور : «قُل لَئنْ اجْتَمَعت الإنسُ والجنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هذا الْقُرآنِ لا يأتُونَ بِمثْلِه وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيْراً »(١) .

وذلك لأنَ أفعال السَحرة الخارقة مما كانت فانها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة ، ولا تتجاوزها بينما يعتمد الانبياء والرسل العنصر الغيبي ، والإرادة الآلهية.

٤ ـ إن أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة اُمور محدودة ومقتصرةٌ على ما تعلَّموها وتمرنوا عليها ، بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على اُمور خاصة ، فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم ، طبعاً حسب شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز(٢) .

فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية ، والمقترحة ، ومعاجز المسيحعليه‌السلام المتنوعة خير مثال على هذا الأمر.

٥ ـ إن اصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات الهية سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد ، والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحَرة إلا تحقيق مآرب دنيوية حقيرة ، ونيل مكاسب مادية رخيصة.

هذا مضافاً إلى أن الأَنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين

____________

١ ـ الاسراء : ٨٨.

٢ ـ مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالا عقلياً كرؤية اللّه ، ومثل أن لا يكون ما سيأتي لهم به دليلا على ارتباطه بالمقام الربوبي ، كما لو طلبوا منه أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب وبيتٌ من ذهب ، لأنّ هذه الاُمور لا تكون دليلا على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيراً مِنَ الناس يملكون هذه وليسوا مع ذلك بأنبياء.

وأن لا يكون المقترحون من ذوي اللجاج والعناد الذين لا يقصدون من طلب المعاجز إلا الهزل والاستهزاء والتنزّه. وأن لا تكون نتيجة المعجزة هلاكهم كما لو طلبوا ان يُنزِّل عليهم ناراً من السماء تحرقهم لأن في ذلك نقضاً للغرض.

١٨١

في نفسيّتهم العالية ، وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق ، وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة والمرتاضين.

هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين المعاجز الّتي تدل على نبوة الانبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون والسحرة.

وبعد أن تبيَّن كل هذا اتضح أنَّ الخوارق الالهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الاُمور العادية في أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلا عن الاُمور المادية المعروفة ، بل ربما تكون مستندة إلى العلل المجرّدة ، فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية مثل : « قصة الفيل » الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش « أبرهة » العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من اشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث(١) .

ولهذا عَدلَ « سيد قطب » عن رأية الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الاُمور ، إذ قال :

ان الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره أن ينفُض الإنسان من ذهنه كلَ تصوّر سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقرَّرات تصوُرية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرَّراته كلها حسبما يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود ، ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن ، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَولَه ، ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله ، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته.

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود(٢) .

__________________

١ ـ أي الاستاذ الشيخ محمَّد عبده والاستاذ محمَّد حسين هيكل.

٢ ـ وهنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام مانصه « وما اُبرئ نفسي اُنني فيما سبق من مؤلّفاتي

١٨٢

فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقاً! فالعلمُ لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي يستخدمها في تجاربه ، وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلا عن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ، لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم ـ عن طريق العلم ذاته ـ أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليس فيه سمةُ الادعاء ، ولا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم ، ومدّعو التفكير العلمي ، ممن يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول(١) .

ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقداً لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي احدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة :

ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة اقرب واولى ، وان الطير تكون هي : الذباب والبعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير.

ثم ينقلُ كلام الاستاذ « عبده » الّذي ذكرناه بنصه مع قوله : هذا ما يصحّ الاعتماد عليه في تفسير السورة ، وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلاّ بتأويل ان صحت روايته ، وممّا تعظم به القدرة ان يُؤخذَ من استعز بالفيل ـ وهو اضخم حيوان من ذوات الاربع جسماً ـ ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر حيث ساقه القدرُ لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر واعجب وأبهر.

__________________

وفي الأجزاء الاُولى من هذا الضلال قد انسقتُ إلى شيء من هذا وارجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق اللّه ».

١ ـ في ظلال القرآن : ج ٢٩ ، ص ١٥١ ـ ١٥٣.

١٨٣

ثم يقول : ونحن لا نرى أن هذه الصورة الّتي افترضها الاستاذُ الامامُ ـ صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم ـ أدلَّ على قدرة ، ولا اولى بتفسير الحادث ، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع ، ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه ، وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم ، هي الّتي جرت ، فأهلكت قوماً أراد اللّه اهلاكهم ، أو أن تكون سنة اللّه قد جَرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.

ثم يقول : لقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت(١) أمراً ، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحفُ منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احدٌ من خارجها ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها ، ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال ، ليضربها مثلا لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها.

فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكل مقوماته وبكل اجزائه ، ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ فذٌ.

وبخاصة ان المألوف في الجدري والحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده فإن الجدري أو الحصبة لا يُسقطُ الجسم عُضواً عضواً ، وأنملة انملة ، ولا يشق الصدر عن القلب!!

ثم ان « سيد قطب » يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي ، والمدرسة العقلية الّتي كان الاستاذ « عبده » على رأسها ، وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت آثارها في تلك المدرسة ، ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة ، وإشعاراً بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية

__________________

١ ـ أيّ الكعبة المشرّفة.

١٨٤

والغيبية(١) .

هذا ويجدر بنا ان ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالا لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث.

قال صاحب المجمع : وكان هذا من اعظم المعجزات القاهرات ، والآيات الباهرات في ذلك الزمان ، اظهرهُ اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته ، وفيه ارهاص لنبوة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه ولد في ذلك العام ، وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية ، إذ لا يمكنهم أن يروا في اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجارٌ معدّة مهيَّاة لهلاك أقوام معينين قاصدات إيّاهُمْ دون من سواهم فترميهم بها حتّى تهلِكهم ، وتدّمرَ عليهم ، لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم ولا يشك من له مسكة عن عقل ولب ان هذا لا يكون الا من فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب ومذلِّل الصعاب ، وليس لأحد أن ينكر هذا لأَن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به وصدّقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه ، واعتنائهم بالردِّ عليه وكانوا قريبي عهد بأَصحاب الفيل ، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلٌ لأنكَرُوهُ ، وجحدوه ، وأنهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة ، وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك.

وقد اكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله ( اُميّة ) بن ابي الصلت :

إن آيات ربِّنا بَيِّنات

ما يُماريْ فيهِنّ إلا الكَفُورُ

حبَس الفِيْلَ بالمُغمَّس حَتى

ظَلّ يحبو كأنه مَعْقُورُ

__________________

١ ـ في ظلال القرآن : ج ٣٠ ، ص ٢٥١ ـ ٢٥٥.

١٨٥

وقال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم :

أنتَ الجليل ربَنا لم تُدْنِس

أنت حبَسْت الفيل بالمغمَّس

مِنْ بعد ما همَّ بشيء مَبْلسِ

حبَستَه في هيئة المكركس(١)

وقال ابن قيس الرقيات في قصيدة :

وَاسْتَهلَّتْ عَليْهِمُ الطَيْر با

لجندلِ حَتى كأَنَّه مَرْجُومُ(٢)

ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟

لقد استوجب مقتل أبرهة وتحطّم جيشه وهلاكهم ، وبالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرفة ، وأعداء قريش ، أن يتعاظم شأن المكيّين ، وشأن الكعبة الشريفة في نظر العرب ، فلا يجرأ أحدٌ ـ بعد ذلك ـ في أن يحدِّث نفسه بغزو مكة ، والإغارة على قريش ، أو أن يفكر في التطاول على الكعبة المعظمة صرح التوحيد الشامخ ، فقد اخذ الناس يقولون في انفسهم : إنّ اللّه أهلك أعداء بيته المعظم بمثل ذلك الاهلاك إحتراماً لبيته وتعظيماً لشأن قريش ، وقلّما كان يتصور أحد أن ما وقع كان لاجل المحافظة على الكعبة فقط ، اي من دون أن يكون لمكانة قريش ومنزلتهم وشأنهم دخل في ذلك ، ويشهد بذلك أن قريشاً تعرضت مراراً لحملات متكررة من غزاة ذلك العصر دون أن يُصابُوا بمثل ما اُصيب به جندُ « ابرهة » الّذي قصد الكعبة بالذات ويواجهوا ما واجهه ، من الردع والكبت.

إنَّ هذا الفتح والظفر الّذي نالته قريش من دون تعب ونصب ، ومن دون إراقة أية دماء من أبنائها ، أحدثت في نفوس القرشيين حالات جديدة خاصة ، فقد زادت من غرورهم وحمّيتهم ، وعنجهيتهم ، واعتزازهم بعنصرهم ، فأخذوا يفكرون في تحديد شؤون الآخرين ، والتقليل من وزنهم ، اعتقاداً منهم بانهم الطبقة الممتازة من العرب دون سواهم. كما أنها دفعتهم إلى أن يتصوَّروا أنهم وحدهم موضع عناية الأَصنام ( الثلاثمائة والستين ) فهم وحدهم الذين تحبُّهم

__________________

١ ـ المنكَّس.

٢ ـ تفسير مجمع البيان للطبرسي : ج ١٠ ، ص ٥٤٣ في تفسير سورة الفيل.

١٨٦

تلك الاصنامُ ، وتحميهم وتدافع عنهم!!

ولأجل هذا تمادوا في لَهوهم ، ولعبهم ، وتوسعوا في ممارسة اللذة والترف حتّى أنهم أظهروا وَلعاً شديداً بالخمر ، فكانوا يحتسونها في كل مناسبة ، وربما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة ، واقاموا مجالس سَمرهم وأنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية ، والحجرية ، الّتي كان لكل قبيلة من العرب بِينها صَنمٌ أو اكثر ، ويقضون فيها اسعدَ لحظات حياتهم ـ حَسب تصورّهم ، وَهم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار وقصص حول « مناذرة » الحيرة و « غساسنة » الشام وقبائل اليمن ، وهم يتصورون أن هذه الحياة الحلولة اللذيذة هي من بركة تلك الاصنام والاوثان ، فهي الّتي جعلت عامة العرب تخضع لقريش ، وجعلت قريشاً افضل من جميع العرب!!

أوهام قريش تتفاقم!!

إنَّ أخطرَ ما يمرُّ به إنسانٌ في حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل ، ردحاً من الزمن ويحس لنفسه بنوع من الحصانة الوهمية ، فعندها تجده يخص الحياة بنفسه ويستأثر بكل شيء في الوجود ولا يرى لغيره من ابناء نوعه وجنسه من البشر اي حق في الحياة ، ولا ايّ شأن وقيمة تذكر ، وذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار والاستعلاء ، والاحساس بالتفوق ، والغطرسة.

وهذا هو بعينه ما حصل لقريش بعد اندحار جيش « ابرهة » وهلاكه ، وهلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب.

فقد عزمت قريش منذ ذلك اليوم ـ وبهدف إثبات تفوقها وعظمتها للآخرين ـ ، على أن تلغي أي احترام لأهل الحلّ لانهم كانوا يقولون : ان جميع العرب محتاجون إلى معبدنا ، وقد رأى العرب عامة كيف اعتنى بنا آلهةُ الكعبة ، خاصة ، وكيف حمتنا من الاعداء!!

ومن هنا بدأت قريش تضيّق على كل من يدخل مكة من أهل الحل للعمرة أو الحج ، وتتعامل معهم بخشونة بالغة ، وديكتاتورية شديدة ففرضت على

١٨٧

كل من يريد دخول مكة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاماً من خارج الحرم ، ولا يأكل منه ، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم ، ويأكل منه ، وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكة التقليدية القومية ، أو يطوف عرياناً بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها واقتناؤها ، ومَن كان يَرفُض الخضوع لهذا الأمر ، مِن رؤساء القبائل وزعمائها ، كان عليه أن ينزع ثيابه ـ بعد انتهائه من الطواف ـ ويلقيها جانباً ، ولا يحق لأحد ان يمسها أبداً لا صاحبها ولا غيره(١) .

اما النساء فكان يجب عليهن إذا أردنَ الطواف أن يُطفنَ عراة على كل حال ، وان يضعن خرقة على رؤوسهن وَيُردِّدنَ البيت التالي في اثناء الطواف :

اليوم يبدو بعضُه أو كُلّه

وبعدَ هذا اليوم لا اُحِلُّه

ثم إنه لم يكن يحق لأيّ يهودي أو مسيحي ـ بعد هزيمة « ابرهة » الّذي كان هو أيضاً مسيحياً ـ أن يدخل مكة إلاّ أن يكون أجيراً لمكيٍّ ، وحتّى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شيء من أمر دينه ومن أمر كتابه.

لقد بلغت النخوةُ والعصبية بقريش حداً جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج الّتي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!!

لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة(٢) كما يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة ، والافاضة منها مع أن آباءهم ( من ولد إسماعيل ) كانوا يُقّرون أنها من المشاعر والحج ، وكانت هيبة قريش وعظمتها الظاهرية رهنٌ ـ برمتها ـ بوجود الكعبة بين ظهرانيها ، وبوظائف الحج ومناسكه هذه ، إذ كان يجب على الناس في كل عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع وهذه الصحراء اليابسة لأداء المناسك ، إذ لو لَم يكن في هذه النقطة من الأَرض أىُ مطاف أو مشعر لما رغب احد حتّى في العبور بها فضلا عن المكث فيها عدة ايام وليال.

__________________

١ ـ وكانت تسمّى عندهم « اللّقى ».

٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٢٦٦.

١٨٨

لقد كان ظهورُ مثل هذا الفساد الاخلاقي وهذا الموقف المتعصِّب من الآخرين أمراً لابدَّ منه بحسب المحاسبات الاجتماعية.

فالبيئة المكيّة لابد أن تغرق في الفساد والانحراف حتّى يتهيأ العالم لانقلاب أساسيّ ونهضة جذرية.

إن كل ذلك الانفلات الاخلاقي والترف والانحراف كان يهيء الارضية ويعدّها لظهور مصلح عالمي ، أكثر فاكثر.

ولهذا لم يكن غريباً أن يغضب « أبو سفيان » فرعون مكة وطاغيتها على « ورقة بن نوفل » حكيم العرب الّذي تنصر في اُخريات حياته واطلع على ما في الانجيل ، كلما تحدَّث عن اللّه والانبياء ويقول له : « لا حاجة إلى مثل هذا الاله وهذا النبي ، تكفينا عناية اصنامنا »!!

عَبدُ اللّه والدُ النبيّ :

يوم فدى « عبدُالمطلب » ولده « عبد اللّه » بمائة من الابل نحرها ، وأطعم الناس في سبيل اللّه ، لم يكن يمض من عمر « عبد اللّه » اكثر من اربعة عشر ربيعاً ، وقد تسبَّبَتْ هذه الواقعةُ في أن يكتسب « عبدُ اللّه » شهرة خاصة بين عشيرته مضافاً إلى شهرته الكبرى بين قريش ، وأن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه : « عبد المطلب » بنحو خاص ، لأن ما يُكلِّفُ الإنسان غالياً ، ويتحملُ في سبيله عناء اكثر لابدَّ أن يحظى لديه بمكانة اكبر ، ويحبّه محبة تفوقُ المتعارف.

ومن هنا كان « عبدُ اللّه » يتمتعُ باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته وأفراد عائلته وأقربائه.

ثم إن « عبدَ اللّه » يوم كان يتوجه برفقة والدهِ إلى المذبح كان يعاني من مشاعر وأحاسيسَ متناقضة ومتضادة ، فهو من جانب كان يُكِنّ لوالده احتراماً كبيراً وحباً شديداً ، ولهذا لم يكن يَجدُ بداً من طاعته ، والانصياع لمطلبه ، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق ، واضطراب شديدين على حياته الّتي كان يرى كيف تعبث بها يدُ القدر ، وتكادُ تقضي عليها كما يقضي الخريفُ على

١٨٩

أوراق الشجر.

كما أن « عبد المطلب » نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوتان متضادتان : قوةُ الايمان والعقيدة من جانب ، وقوةُ العاطفة والمحبة الأبوية من جانب آخر ، وقد أوجدَت هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثاراً مُرّة يصعُب زوالها ، بيد أن تلك المشكلة حيث عولجت بالطريقة الّتي ذكرناها ونجا « عبد اللّه » من الموت المحقق فكر « عبد المطلب » فوراً في ان يغسل عن قلب « عبد اللّه » تلك المرارة القاسية بزواج « عبد اللّه » بآمنة ، وبذلك يقوّي من عرى حياته الّتي بلغت درجة الانصرام ، بأقوى السُبُل ، وأمتن الوسائل.

ومن هنا توجّه « عبد المطلب » إلى بيت « وهَب بن عبدمَناف » ـ فور رُجوعه من المذبح آخذاً بيد ولده عبد اللّه ـ وعقد لولده على « آمنة بنت وَهَب » الّتي كانت تُعرَفُ بالعِفة ، والطُهر ، والنجابة ، والكمال.

كما أنه عقد لنفسه ـ في ذات المجلس ـ على « دلالة » ابنة عم آمنة ، ورُزقَ منها « حمزة » عمّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشابه له في السن(١) .

غير أن الاستاذ المؤرخ « عبدالوهاب النجار » المدرس بقسم التخصص في الازهر الّذي صحح « التاريخ الكامل » لابن الاثير ، وعلَّق عليه بملاحظات وهوامش مفيدة شكك في صحة هذه الرواية ، واستغربها ، وقال : لا أظنُ أنه يصحّ شيء في هذه الرواية ، إذ المعقولُ أن يتريث « عبد المطلب » بعد ذلك المجهود المضني حتّى يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه(٢) .

ولكنَّنا نعتقد بأن المؤرخ المذكور لو نَظرَ إلى المسألة مِن غير هذه الزاوية لسَهُل عليه التصديقُ بهذه الرواية.

ثم أن « عبد المطَّلب » عَيَّن موعداً للزفاف ، وعند حلول ذلك الموعد تمّت مراسمُ الزفاف في بيت « آمنة » طبقا لما كان متعارفاً عليه في قريش ، ولبث

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧ والمذكور في هذا المصدر « هالة ».

٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤ ، قسم الهامش.

١٩٠

« عبد اللّه » مع « آمنة » ردحاً من الزمن حتّى سافر إلى الشام للتجارة ، وعند عودته توفّي اثناء الطريق كما ستعرف.

دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام :

لا شك أَنَّ التاريخ سَجَّلَ في صفحاته كلَ ما يتعلق بالشعوب والاقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة ، كقصص للعبرة والعظة.

ولكن الحب والبغضَ تارة والتساهل والبدعة تارة اُخرى وحب اظهار المقدرة وابراز القوة الأدبية تارة ثالثة وغير ذلك من العوامل والاسباب عملت عملها فتدخلت ـ في جميع الأدوار والعصور ـ في صياغة التاريخ ، وخلَطت الغث بالسمين والحقيقة بالخرافة ، وتلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرخ الّذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة وإستقامة ، ولذلك يجب عليه أن يميز الحق عن الباطل ، والصدق عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين العلمية ، والممارسة الكاملة للتاريخ. ولقد كان للعوامل المذكورة تاثير ايضاً في تدوين التاريخ الإسلامي ، فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال ، بل وربما عمد بعض الاصدقاء ـ بهدف تعظيم شأن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى نسبة بعض الاُمور الّتي يظهرُ عليها آثار الاختلاق والإفتعال إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو منها بُراء.

فقد جاء في التاريخ أن نور النبوَّة كان يسطع في جبين « عبد اللّه » والد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دائماً(١) ، كما نقرأ أن « عبد المطلب » كان يأخذ بيد ولده « عبد اللّه » في سنين الجدب والقحط ، ويصعد الجبل ويستسقي متوسِّلا إلى اللّه بالنور الّذي كان بيّنا في جبين « عبد اللّه »(٢) فهذا هو ما كتبه وسجَّله كثيرٌ من علماء الشيعة والسنة في مؤلفاتهم ، ونحن لا نملك اي دليل على عدم صحته.

ولكن هذه القصة وقعت أساساً لبعض الاساطير التى لا يمكن ان نقبل بها مطلقاً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٩.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤.

١٩١

واليك فيما يأتي ما الحِقَ بهذه القضية التاريخية الثابتة.

قِصَّة فاطمة الخَثعَمِيَّة :

و « فاطمةُ » هذه هي أختُ « ورَقَة بن نوفل » الّذي كان من حكماء العرب وكُهّانهم ، وكان له معرفة كبيرة بالإنجيل. وقد ضبط التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسوف نشير إليه في محله من هذا الكتاب.

وكانت « فاطمة » اخت « ورقة » قد سمعت من أخيها عن نبوة رجل من احفاد « اسماعيل » ، ولهذا ظلّت تنتظر ، وتبحث.

وذات يوم وعندما كان « عبد المطلب » متوجها إلى بيت آمنة بنت وهب بعد قفوله ومنصرفه من المذبح وهو آخذ بيد « عبد اللّه » ، شاهدت « فاطمة الخثعمية » ـ الّتي كانت تقف على مقربة من منزلها ـ النور الساطع من جبين « عبد اللّه » ، والّذي كانت تنتظره مدة طويلة وتبحث عنه بشوق ، فقالت : اين تذهب يا عبد اللّه؟ لكَ مِثلُ الإبل الّتي نحِرَت عنك ، وقعْ عليَّ الآن.

فقال : أنا مع أبي ولا استطيع خلافه وفراقه!!(١) .

ثم تزوج « عبد اللّه » بآمنة في نفس ذلك اليوم ، وقضى معها ليلة واحدة.

ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة « الخثعمية » الّتي عرضت نفسها عليه ، وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها ، ولكن « الخثعمية » قالت له : ليس لي بك اليوم حاجة ، فلقد فارقك النورُ الّذي كان مَعك أمس!!(٢) .

وقيل : إنه لمّا عرضت تلك المرأة « الخثعمية » على « عبد اللّه » ما عرضت أجابها « عبد اللّه » بالبداهة ببيتين من الشعر هما :

أمّا الحَرامُ فالمماتُ دُونَهُ

وَالحِلُّ لاحلٌ فاستبينهُ

فكيفَ بالأَمر الّذي تبغِينَهُ

يحمي الكريمُ عرضَه ودينَهُ

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٦ النصّ والهامش.

١٩٢

ولكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة ، واقامته عندها حتّى دعته نفسُه إلى ان يأتي الخثعمية ، وعرض نفسه عليها قائلا : هل لك فيما كنت اردت؟ فقالت : لقد رأيت في وجهك نوراً فاردت ان يكون لي فابى اللّه الاّ أن يجعله حيث اراد فما صنعت بعدي؟

قال : زوَّجني أبي « آمنة بنت وهب »!!(١) .

علائم الإختلاق في هذه القصة!

لقد غَفل مختلِقُ هذه القصة عن اُمور كثيرة عند صياغته لها ، ولم يستطع اخفاء آثار الاختلاق عنها.

فلو كان يكتفي بالقول ـ مثلا ـ بان « فاطمة » صادفت « عبد اللّه » ذات يوم في زقاق من الأزقة ، أو سوق من الاسواق ، وشاهدت نورَ النبيّ ساطعاً من طلعته ففكرت في الزواج به رغبة في ذلك النور لكان من الممكن التصديق بهذه القصة ، بيدَ أن نصَ القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها للأسباب التالية :

١ ـ ان هذه القصة تفيد أنَّ المرأة « الخثعمية » عند ما عرضت نفسها على « عبد اللّه » ، كانت يد « عبد اللّه » في يد والده « عبد المطلب » ، فكيف يمكن ان تعرض تلك الفتاة نفسَها عليه وتبين مطلوبها له ويدور بينهما ما يدور ، ولا يحسُ عليهما عبد المطلب؟!

ثم الم تستحِ من عظيم قريش « عبد المطلب » الّذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شيء حتّى مقتلُ ولده وذبحه.

ولو قلنا أن مطلبها كان حلالاً مشروعاً فان ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللَّذين ردّ بهما « عبد اللّه » طلبها.

٢ ـ والأصعب من ذلك قصة عبد اللّه نفسه. فان ولداً مثل « عبد اللّه » يحترم والده إلى درجة الاستعداد لأن يُذْبَحَ وفاءً لنذر والده ، كيف يمكن أن يتفوّه في

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧ ، والكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤.

١٩٣

حضرة والده بما نُقِلَ عنه؟!

ترى أيمكن لشاب نجا لتوّه من السيف والذبح ، ولا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة ، أو يبدي استعداده ورضاه القلبيّ لذلك لولا وجود والده معه؟!! ترى هل كانت تلك المرأة جاهلة بالظروف ، لا تقدّر الاحوال ، ولا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها ، أو أنَّ مختلق هذه القصة غَفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!!

ثم إن ممّا يفضح هذه القصة ويُظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية لها ، فان عبد اللّه ـ كما لا حظنا جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر وقال ما حاصله بأن الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الّذي يأتي على دين الرجل وشرفه ، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء ، والرغبات الرخيصة الفاسدة ، والحال انه لم ينقض من زواجه اكثر من ثلاث ليال ، وتدفعه غريزته الجنسية إلى ان يبادر إلى بيت المرأة الخثعمية.

إنَّ ماجابَه به « عبد اللّه » دعوة تلك المرأة ، وما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللذين يطفحان بالغيرة ، والإباء ، لخيرُ دليل على طهارة « عبد اللّه » وعفته ، وتقواه ، وترفعه عن الآثام والادران ، وابتعاده عن الانجاس والادناس.

وقد علّق الاستاذ العلامة « النجار » على هذه الاسطورة بقوله : « ليس من المعقول أن يذهب عبد اللّه يبغي الزنا في الساعة الّتي تزوج فيها ، ودخل فيها على امرأته ».

ولكن الاستاذ « النجار » أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين « عبد اللّه » حيث قال معقباً على كلامه السابق : « ولكنها مسألة النور في وجهه يريدون إثباتها ورسول اللّه غني عن هذا كله »(١) .

فان ذلك ممّا رواه جميع المؤرخين بلا استثناء ، فلا داعي ولا وجه للتشكيك فيه!

__________________

١ ـ هامش الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤.

١٩٤

طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الاُمهات :

وينبغي هنا ـ وبالمناسبة ـ ان نشير إلى مسألة مهمة في تاريخ النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا وهي طهارة النسب النبوي من دنس الآباء ودناءتهم وعهر الامّهات وفسادهن فلا يكون في اجداده وجدّاته سفاح ، وزنا.

وهذا ممّا اتفق عليه المسلمون ، بعد ان دلّ عليه العقل إذ لو لم يكن النبيّ منزها عن دناءة الاباء وعهر الامّهات لتنفر عنه الطباع ولم يرغب احد في متابعته ، والانقياد لاوامره ونواهيه.

ولقد صرح رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في احاديث رواها السنة والشيعة.

فقد جاء عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال :

« نقلت من الاصلاب الطاهرة إلى الارحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً »(١) .

وجاء ايضاً انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

« لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة »(٢) .

وقال الإمام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالبعليه‌السلام :

« وأشهد اَنّ محمَّداً عبدُه ورسولُه وسيّدُ عباده كلما نسخَ اللّه الخلقَ فرقتين جعله في خيرهما لم يسهِم فيه عاهرٌ ، ولا ضربَ فيه فاجرٌ »(٣) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد عند تفسير قول اللّه تعالى : «وتقلّبَكَ في السَّاجِدينَ » :(٤)

« في أصلاب النبيّين ، نَبي بعد نبي ، حتّى اخرجه من صلب ابيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم »(٥) .

وقد صرح علماء الإسلام من الفريقين بهذا الأمر ، واشترطوه في النبيّ.

__________________

١ ـ كنز الفوائد : ج ١ ، ص ١٦٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢١٥ ، طبعة عبده.

٤ ـ الشعراء : ٢١٩.

٥ ـ تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.

١٩٥

قال المحقق نصير الدين الطوسي في تجريد الاعتقاد : ويجب في النبيّ العصمة وعدم السهو ، وكل ما ينفّرُ عنه من دناءة الآباء وعهر الاُمّهات(١) .

وقد وافقه على هذا العلامة القوشجي الاشعري في شرح التجريد(٢) .

وقال العلامة المتكلم المقداد السيوري في اللوامع الالهية : ويجب أن لا يكون مولوداً من الزنا ولا في آبائه دنيّ ولا عاهر(٣) .

وفاةُ عَبْد اللّه في « يَثْرب » :

لقد بَدَأ « عبدُ اللّه » بالزواج فصلا جديداً في حياته ، وأضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفة والكمال هي زوجته الطاهرة « آمنة » وبعد مدة من هذا الزواج المبارك توجه في رحلة تجارية ـ وبصحبة قافلة ـ إلى الشام بهدف التجارة.

دقت أجراسُ الرحيل ، وتحركت القافلة التجارية وفيها عبد اللّه ، وبدأت رحلتها من « مكة » صوب الشام ، وهي مشدودة بمئات القلوب والافئدة.

وكانت « آمنة » تمر في هذه الايام بفترة الحمل ، فقد حملت من زوجها « عبد اللّه ».

وبعد مُضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف مكة بوادر القافلة التجارية وهي عائدة من رحلتها ، وخرج جمع كبير من أهل مكة لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين.ها هو والد « عبد اللّه » ينتظر ـ في المنتظرين ـ ابنه « عبد اللّه » ، كما ان عيون عروسة ولده « آمنة » هي الاُخرى تدور هنا وهناك تتصفح الوجوه وتبحث عن زوجها الحبيب « عبد اللّه » في شوق لا يوصف.

____________

١ ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٤٩ تحقيق الشيخ حسن زاده الآملي.

٢ ـ راجع : شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد : ص ٣٥٩.

٣ ـ اللوامع الالهية : ص ٣١١.

١٩٦

ولكن ومع الأسف لا يجدان أثراً من « عبد اللّه » بين رجال القافلة!!

وبعد التحقيق يتبين أن « عبد اللّه » قد تمرّض أثناء عودته في يثرب ، فتوقف هناك بين اخواله لكي يستريح قليلا ، فاذا تماثل للشفاء عاد إلى أهله في « مكة ».

وكان من الطبيعي أن يغتم هذان المنتظران « عبد المطلب وآمنة » لهذا النبأ ، وتعلو وجهيهما آثار الحزن ، والقلق وتنحدر من عيونهما دموع الأسى والاسف.

فأمرَ « عبدُ المطّلب » اكبر ولده : « الحارث » إلى أن يتوجَّه إلى « يثرب » ، ويصطحب معه « عبد اللّه » إلى مكة.

ولكنه عند ما دخل يثرب عرف بأن أخاه : « عبد اللّه » قد توفي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد ، فعاد الحارث إلى مكة ، فاخبر والده « عبد المطلب » ، وكذا زوجته العزيزة « آمنة » بذلك ، ولم يخلف « عبد اللّه » من المال سوى خمسة من الابل ، وقطيع من الغنم ، وجارية تدعى « اُم أيمن » صارت فيما بعد مربية النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧ و ٨ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥٠.

١٩٧

١٩٨

٥

مَولدُ رَسُول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي سماء الجزيرة العربية ، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة ، والحروبُ الداميةُ ، والنهبُ والسلبُ ، ووأدُ البنات ، وقتلُ الاولاد ، كلَ فضيلة أخلاقية. في البيئة العربية وكان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من الشقاء ، ليس بينهم وبين الموت الاّ غشاء رقيق ومسافة قصيرة!!

في هذا الوقت بالذات طلع عليهم شمس السعادة والحياة فاضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس ، وذلك عندما اشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك « محمَّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبهذا تهيأَت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل ، والتخلف ، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فانه لم يمض زمن طويل الاّ وملأ نور هذا الوليد المبارك ارجاء العالم واسس حضارة انسانية عظمى في كل المعمورة.

فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء :

ان جميع الفصول في حياة العظماء جديرةٌ بالتأمل ، وقمينة بالمطالعة ، فربما تبلغ العظمة في شخصية احدهم من السعة ، والسموّ بحيث تشمل جميعُ فصول حياته

١٩٩

بدء من الطفولة ، بل وفترة الرضاع فتكون حياته وشخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.

إن جميع الأدوار ، والفترات في حياة العظماء ، والنوابغ وقادة المجتمعات البشرية ، وروّاد الحضارات الإنسانية وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الاعجاب.

إن صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة الّتي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الاُمهات ، وحتّى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالاسرار ، زاخرة بالعجائب.

فنحن كثيراً ما نقرأ عن اُولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنهما كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة ، والمعجزة.

ولو سهل علينا التصديق بهذا الامر في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الانبياء والرسل اسهل من ذلك بكثير ، وكثير.

إن القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسىعليه‌السلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار ، فهو يقول ما خلاصته : ان مئآت من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا بامرْ من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه.

ولكن ارادة اللّه شاءت ان يُولد الكليم ، وظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين ولهذا لم يعجز اعداؤه عن القضاء عليه أو الحاق الاذى به فحسب ، بل تربى في بيت فرعون أعدى اعدائه.

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : «وَلَقد مَننّا عَلَيْكَ مَرّة اُخرى إذْ أَوْحَيْنا إلى اُمِّكَ ما يُوحَى أَن أقذفيهِ في التابُوت فاقذفيه في اليمَّ فَليُلْقِهِ اليمُّ بِالْساحِلَ ياخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وعَدوُ لَهُ وَأَلقَيْتُ عَلَيْكَ مَحبَّةً مِنّي وَلِتُصنَعَ عَلى عَيْني ».

ثمّ يقول : «إذْ تَمشِيْ اُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجعْناكَ إلى اُمِّكَ كيْ تَقَرَّ عَينُها وَلا تَحْزنْ »(١) .

__________________

١ ـ طه : ٣٧ ـ ٤٠.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

٥١

غزوة الطائف

« الطائف » من مصايف الحجاز ومن المناطق الخصبة ، الكثيرة الزرع فيها ، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (١٢) فرسخا منها ، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف ، وبساتينها المثمرة ، ونخيلها الكثيرة مقصدا بل مركزا وموطنا لطلاب اللذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تعدّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة « حنين » ضدّ الاسلام والمسلمين ، ثم لجئوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

من هنا كلّفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقا من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى « أوطاس » فقتل القائد الأوّل في هذه الواقعة ، واستطاع الثاني أن يحرز انتصارا كبيرا على العدو ويفرق جمعه(١) .

وأما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩١٥ و ٩١٦.

٥٢١

الطائف(١) ، ومرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصرى مثير فتنة « حنين » ورأس المؤامرة ، فهدمه وسوّاه بالأرض.

على أن تهديم حصن « مالك » لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأ للعدوّ.

تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاخرى ، واستقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصنا منيعا ، مرتفع الجدران ، قوي البنيان ، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصاره لها ، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعد حتى عمد العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها ، فقتل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ ، والتمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة

وهنا اقترح « سلمان الفارسي » الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب ، وكان ذا خبرة بفنون القتال ، اقترح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يرمي الحصن بالمنجنيق(٢) ، وكان هذا الجهاز الذي كان يستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام امراء الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد وتوجيه من سلمان ، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوما متوالية.

ولكن العدوّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٦٣.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤١٧.

٥٢٢

فزاد من رميه واستمر في ذلك ، فوقعت بين المسلمين بعض الاصابات نتيجة ذلك(١) .

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق ، هذا؟

يرى البعض أن سلمانا هو الذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة(٢) .

ويرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر ، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال ، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصرا في المنجنيق الذي حصل عليه من يهود خيبر ، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة « دوس » في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفل فاتحا مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة ، وكانوا برمتهم من أبناء قبيلته ، فقد قدم الطائف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدد واحد من جهاز المنجنيق وعربتين حربيتين خاصتين ، وقد استخدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق :

كان لا بدّ لاخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الاطراف والنواحي ، ولهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام ، مضافا إلى

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٨.

(٢) السيرة النبوية : ج ٤ ص ١٢٦ ، وابن هشام يرى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو اول من أستخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.

٥٢٣

رمي الحصن بالمنجنيق ، إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى ، لأن السهام والاحجار ، والنيران كانت تنصبّ على رءوس المقاتلين المسلمين كالمطر ، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن ، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تصنع من الخشب وتغطى بجلود البقر ، ويدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه ، ويقوم الجنود بعملية إيجاد ثغرة او نقب في جدار الحصن ، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة ، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها ، واضطرّ أفرادها الى الخروج منها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلا واحدا ولم ينتج هذه التكتيك القتالي ، ولم يتحقق أي نجاح في هذا المجال ، فانصرف المسلمون عن استخدامه(١) .

ضغوط اقتصادية ونفسية :

إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية ، بل للقائد الحكيم أن يستخدم ـ لاضعاف قوة العدو وكسر صموده ـ الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربة النفسية والاقتصادية اقوى مفعولا بدرجات أى إن أثرها تفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية ، والإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة ، ونخيل وأعناب ، وكانت معروفة

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩٢٨.

٥٢٤

في الحجاز بخصبها ، وكثرة محاصيلها وخيراتها ، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيرا في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها ، ويولون الحفاظ عليها اهتماما كبيرا ، ويعطون هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

فأعلن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن ، والمعتصمين به ، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف ، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدو بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو النبي الذي عرف برحمته ورافته ـ يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت « ثقيف » أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدر أوامره بقطع الأعناب ، واتلاف المزارع وتحريقها ، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

فعجّت « ثقيف » لذلك وضجّت ، واستغاثت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكف عن ذلك ، فتركها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتراما لوشيجة القربى التي كانت بينه وبين « ثقيف ».

ان المعتصمين بحصن الطائف وان كانوا من مثيرى معركة حنين والطائف ، وتانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا ، فابدى وللمرة الاخرى وجه الاسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدود في ميدان القتال ، وأمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب وتحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه ونعهده من أخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب وتحريق المزارع كان مجرد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفّ عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما.

٥٢٥

آخر محاولة لفتح حصن الطائف :

كانت قبيلة « ثقيف » جماعة ثريّة ، وذات مال كثير ، وعبيد وإماء كثيرين ، ولكي يحصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن ، ويعرف بالتالي حجم امكانات العدو ومدى استعداداته من جهة ، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي : وينادى : أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ.

ونفعت هذه الطريقة إلى حدّ ما ، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلا من عبيد ثقيف ورقيقهم ، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام ، وأنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاما واحدا ، فإنهم قد أعدّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي ، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيش الاسلام يعود الى المدينة :

استخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة جميع الاساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ ، وقد اثبتت التجربة أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر والعمل على حين لم تكن ظروف الجيش الاسلامي وامكاناته ـ يومذاك ـ لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقب ، والانتظار والتوقف ، اكثر ممّا توقف ومكث في تلك المنطقة وذلك :

أولا : لأنه قتل في اثناء هذه المحاصرة (١٣) مسلما سبعة منهم من قريش ، وأربعة من الانصار ، ورجل واحد من قبيلة اخرى.

هذا مضافا إلى من استشهد من المسلمين في وادي « حنين » إثر هجوم العدوّ الغادر ، وانفراط صفوف الجيش الاسلامي ، والذين لم يذكر التاريخ مع

٥٢٦

الأسف أسماءهم ، وخصوصياتهم ، ولهذا كان قد دبّ نوع من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهله.

وثانيا : أن شهر شوال قد انتهى ، وبدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدودا عند العرب من الاشهر الحرم وقد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السنّة ، وأكّد حرمة الاشهر الحرم.

من هنا كان من الضروري ـ حفاظا على هذه السنّة ـ(١) إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهم عرب ثقيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمخالفة السنّة الصالحة وخرقها.

أضف إلى ذلك دنوّ حلول موسم الحج ، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين ، بعد أن كانت ـ قبل ذلك ـ تدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شك أن موسم الحج الذي كان سببا لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر وافضل فرصة لتبليغ الاسلام ، وبيان حقيقة التوحيد ، وكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يستغل هذه الفرصة العظيمة التي اتيحت له لأوّل مرة ، في مجال الدعوة ، ويستفيد منها اكثر قدر ممكن ويولي اهتمامه لقضايا اخرى اكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرّانة التي جعلها محلا لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

__________________

(١) ويدلّ على هذا الأمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك مكة متوجها إلى الطائف في الخامس من شهر شوال واستغرقت مدة الحصار عشرين يوما ، وصرفت بقيّة الايام ( وهي خمسة ) في المسير إلى حنين ، وفي المعركة.

وقولنا بأن الحصار طال عشرين يوما يستند إلى رواية نقلها ابن هشام ، إلاّ أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوما ( الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٨ ).

٥٢٧

حوادث ما بعد الحرب :

انتهت حوادث معركة « حنين » و « الطائف » وعاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون تحقيق نتيجة قطعية الى « الجعرانه » لتقسيم غنائم معركة « حنين ».

والغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة « حنين » كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم قدم « الجعرّانة » كان هناك ستة آلاف أسير و (٢٤) ألف من الإبل واكثر من (٤٠) ألف رأس غنم و (٨٥٢) كيلو غرام من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم(١) وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسما كبيرا من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « الجعرّانة » ثلاثة عشر يوما ، وفي هذه المدة قسّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى ، وتركهم لذوبهم ، وخطّط لاخضاع ( او بالاحرى إسلام ) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب ، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم ، وجذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام ، ورغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة ، وأنهى نقاشا حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

وإليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة :

١ ـ لقد دأب رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على احترام حقوق الأفراد ، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت ، وعلى أن لا يبخس أحدا عمله ، فإذا أحسن

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٢.

٥٢٨

إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد رضع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن ، وقد ارضعته امرأة من هذه القبيلة تدعى « حليمة السعدية » ، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدّ الاسلام فسبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين ، كما وقعت بعض أموالهم بأيديهم أيضا ، وقد ندمت على فعلها ندما شديدا.

وقد كانوا يعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نشأ وترعرع فيهم ، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى كانوا يعرفون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل ، فاذا سنح لهم أن يذكّروه بذلك لأطلق أسراهم حتما.

فقدم أربعة عشر رجلا من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعا « الجعرانة » على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو « زهير بن صرد » والآخر عم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضاعة ، فقالوا : يا رسول الله إنّما في هذه الأسرى من يكفلك من عماتك وخالاتك ، وحواضنك ، وقد حضنّاك في حجورنا وارضعناك بثدينا ، ولقد رايتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك ، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك ، ورأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك ، وقد تكاملت فيك خلال الخير ، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا منّ الله عليك.

وقال زهير بن صرد : يا رسول الله إنّما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر ، أو النعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين.

٥٢٩

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم :

« إن أحسن الحديث أصدقه ، وعندي من ترون من المسلمين ، فابناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم »؟

قالوا : يا رسول الله خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كنّا نعدل بالأحساب شيئا ، فردّ علينا أبناءنا ونساءنا.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم واسأل لكم الناس وإذا صلّيت الظهر بالناس فقولوا : إنا لنستشفع برسول الله الى المسلمين ، وبالمسلمين الى رسول الله فاني سأقول : لكم ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس ».

فلما صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنا نستشفع برسول الله الى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.

وبهذا وهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم نصيبه من الاسرى.

فقال المهاجرون : أمّا ما كان لنا فهو لرسول الله.

وقال الانصار : ما كان لنا فهو لرسول الله.

وهكذا وهب الانصار والمهاجرون نصيبهم من الاسرى تبعا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتأخر عن ذلك إلاّ قليلون مثل « الاقرع بن حابس » و « عيينة بن حصن » فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما ، ويطلق سراح ما عندهم من السبايا ، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد استأنيت بهم ، فخيّرتهم بين النساء والأبناء ، والأموال ، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء ، فمن كانت عنده منهنّ شيء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل ،

٥٣٠

ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليردّ عليهم ، فله بكل انسان ست فرائض ( أي سوف أعطيه بدل الواحد ستا ) من أول ما يفيء الله به علينا(١) .

فكان لعمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى والسبايا إلا امرأة عجوز امتنع « عيينة » من ردّها إلى ذوبها.

وهكذا أثمر عمل صالح غرست شتيلته ـ قبل ستين عاما ـ في أرض قبيلة بني سعد على يدى حليمة السعدية ، فاتت اكلها بعد مدة طويلة ، واطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميع الاسرى والسبايا من هوازن(٢) .

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا اخته من الرضاعة « الشيماء »(٣) وبسط لها رداءه ثم قال : اجلسي عليه ، ورحّب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن امّه وابيه من الرضاعة ، فاخبرته بموتهما في الزمان ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها :

« إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة وإن أحببت أن امتّعك وترجعي الى قومك فعلت ».

فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي ، فمتّعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وردّها الى قومها ، بعد أن أسلمت طوعا ورغبة ، وأعطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أعبد وجارية(٤) .

وقد قوّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الاسلام ، فاسلموا من قلوبهم ، وهكذا فقدت

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩٤٩ ـ ٩٥٣.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٣ و ١٥٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٠ ، والحادثة التاريخية هذه جسّدت مضمون قول الله تعالى : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » ( النحل : ٩٧ ).

(٣) هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.

(٤) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٣٦٣ و ٣٦٤ ، الامتاع : ج ١ ص ٤١٣.

٥٣١

« الطائف » آخر حليف من حلفائها.

٢ ـ اسلام مالك بن عوف :

في هذا الأثناء اغتنم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرصة ليعالج مشكلته مع « مالك بن عوف النصري » مثير حرب حنين ، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الاسلام ، وعزله عن حليفه : « ثقيف ».

ولهذا سألهم عن مالك ما فعل؟ فقالوا يا رسول الله هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أخبروا مالكا أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل ».

فبلّغ وفد هوازن مالكا كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمانه المشروط ، فقرّر مالك الذي كان يرى بامّ عينيه تعاظم أمر الاسلام ، واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه ، أن يخرج من الطائف ، ويلتحق بالمسلمين ، ولكنه كان يخشى أن تعرف « ثقيف » بنيته فتحبسه في الحصن ، ولهذا عمد الى خطة خاصة للفرار ، فقد أمر باعداد راحلته فهيّئت له ، وأمر بفرس له فأتي به إلى الطائف ، فركب فرسه وركّضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها ، فلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فادركه بالجعرانة أو بمكة ، فردّ عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهله وماله ، وأعطاه مائة من الابل كما وعد من قبل ، واسلم فحسن إسلامه ، ثم استعمله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من أسلم من قومه وقبائل « ثمالة » و « سلمة » و « فهم ».

وقد انشد « مالك بن عوف » أبياتا عند ما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، ويمدحه أجمل مديح اذ يقول :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

في الناس كلّهم بمثل محمّد

أوفى وأعطى للجزيل إذ اجتدي

ومتى تشأ يخبرك عما في غد

٥٣٢

وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها

بالسمهريّ وضرب كلّ مهنّد

فكأنّه ليث على أشباله

وسط الهباءة خادر في مرصد

وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزة في الاسلام ، وبعد أن أدرك قبح موقف « ثقيف »(١) .

٣ ـ تقسيم الغنائم :

كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب ، ولكي يدلّل النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال :

« أيّها الناس والله مالي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلاّ الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فادّوا الخياط والمخيط فإن الغلول ( أي الخيانة في بيت المال ) يكون على أهله عارا ، ونارا ، وشنارا يوم القيامة ».

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم أموال بيت المال بين المسلمين ، واما الخمس الذي هو حقه الخاص به فقد وزّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألّفهم ، ويتألف بهم قومهم ، فأعطى من هذا المال لـ : أبي سفيان بن حرب ، وابنه معاوية ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، والعلاء بن جارية وصفوان بن أميّة ، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رءوس الشرك ورموز الكفر ، لكلّ واحد منهم مائة بعير(٢) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩١ وعرّدت أي عوّجت.

(٢) راجع المحبّر : ص ٤٧٣ ، المغازي : ج ٣ ص ٩٤٤ ـ ٩٤٨ ، السيرة النبوية : ج ٣ ص ٤٩٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٢٣.

٥٣٣

وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برحمته ، ولطفه ، وعنايته ، وكرمه ، واشتدت رغبتهم في الاسلام.

وهذا الفريق هم من يصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبهم ، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم : وأعطى ذلك كله من الخمس وهو أثبت الاقاويل عندنا(١) .

ولقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شقّ على بعض المسلمين ، وبخاصة الانصار وقد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها ، والأهداف العليا التي كان يتوخّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا النوع من البذل والعطاء ( وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام باكثر الغنائم ).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم ( وهو ذو الخويصرة التميمي ) قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل وقاحة : يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم ، لم أرك عدلت!!

فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كلامه هذا وقال :

« ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون »؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأذن له بقتله ، فلم يأذن له النبي وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين ( أي يتتبّعون أقصاه ) حتى

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٣ ص ١٥٣.

٥٣٤

يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة »(١) .

وقد كان هذا الرجل ـ كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّعليه‌السلام ، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة ، غير أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم على عقوبته على ما بدر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع « سعد بن عبادة » شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعد : اجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

فجمع سعد الانصار في تلك الخطيرة ، فلما اجتمعوا دخل عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه جلال النبوة ، وهيبة الرسالة ، فحمد الله واثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال :

« يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله وعالة فاغناكم الله ، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم »؟

قالوا : بلى الله ورسوله أمنّ وافضل!

قال :

ألا تجيبوني يا معشر الانصار »؟

قالوا : وما ذا نجيبك يا رسول الله ولرسول الله المنّ والفضل؟

قال :

« أما والله لو شئتم قلتم فصدقتم أتيتنا مكذّبا فصدّقناك ومخذولا فنصرناك

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٦ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٢٢ ، وفي المغازي : ج ٣ ص ٩٤٨ أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيه : « دعه إنّ له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يخرجون على فرقة من المسلمين ». وراجع امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٢٥ وجاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.

٥٣٥

وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك!(١) وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدّنيا تألّفت به قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟

والذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ».

ثم ترحّم على الأنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال :

« اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ».

وقد كانت كلمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه من القوة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأنصار ، فبكوا بعد سماعها بكاء شديدا حتى اخضلّت لحاهم وابتلّت بالدموع وقالوا : رضينا يا رسول الله حظّا وقسما!!!

ثم انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتفرّقوا(٢) .

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن حنكته السياسيّة البالغة ، وكيف أنه كان يعالج المشاكل باساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول الله يعتمر :

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من الجعرانة معتمرا ، بعد ان قسم الغنائم ، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا الى المدينة ، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة ، أو أوائل شهر ذي الحجة.

__________________

(١) إن هذا يفيد ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان ينسى فضل أحد عليه وان كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٨ و ٤٩٩ ، المغازي : ج ٣ ص ٩٥٧ و ٩٥٨.

٥٣٦

٥٢

لاميّة كعب بن زهير المعروفة

« بانت سعاد »

فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منتصف شهر ذي القعدة ، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة ، وكان موسم الحج على الأبواب ، وكانت هذه السنة هي السنة الاولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب ، مسلمين ومشركين ، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

وكان اشتراك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالا ، وكان من الممكن ـ وبفضل قيادته الحكيمة ـ أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوة صحيحة وقوية وواسعة إلى الاسلام ، بينما كانت ثمة مسئوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر ، وكانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتفي بعمرة ، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى أنه لا بدّ أن يعيّن شخصا صالحا لادارة الامور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي ( نعني مكة ) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها ، وحتى تجري الامور على النسق الصحيح والمطلوب.

٥٣٧

من هنا استخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عتّاب بن اسيد » على مكة ، وكان عتاب شابا لبيبا يتسم بالصبر والجلد ، وكان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة ، وقد قرّر له النبي راتبا قدره درهم واحد كل يوم.

وبهذا العمل ( أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام والايمان في مقتبل العمر ، ولكن كفؤ لتسيير الامور في مكة ، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ ) حطّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سدّا خياليا ، ومفهوما باطلا في مجال التوظيف والتأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عتابا » على أهل مكة قالوا : إن محمّدا لا يزال يستخفّ بناحتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة ، ونحن مشايخ ذو والاسنان فاجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله في كتاب كتبه لعتاب :

« لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه ، فليس الاكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الاكبر وهو الاكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا فلذلك جعلناه الأمير عليكم والرئيس عليكم فمن أطاعه فمرحبا به ومن خالفه فلا يبعد الله غيره »(١) .

وبهذا أثبتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمليا أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة ، والكفاءة ، وأنّ صغر السنّ لا يمنع من ذلك اذا كان صاحبه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان « عتّابا » قام فخطب في الناس فقال : أيّها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درهما كل يوم ، فليست بي حاجة إلى أحد(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٢٢ و ١٢٣. امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٣٢ و ٤٣٣.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠٠.

٥٣٨

وأحسن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاختيار أيضا عند ما عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ويفقههم في الدين ، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه ، والمعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بعثه للقضاء ، الى اليمن سألهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بم تقضي إن عرض قضاء فقال : أقضى بما في كتاب الله.

قال : فان لم يكن في كتاب الله؟

قال : أقضي بما قضى به الرسول.

قال : فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟

قال : أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدره ، وقال :

« الحمد الله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله »(١) .

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى :

كان « زهير بن أبي سلمى » من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي ، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتى قبيل نزول القرآن الكريم ، وكانت تفتخر بها العرب ، وتبدأ معلّقته تلك بقوله :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

بحومانة الدرّاج فالمتثلّم

وقد توفي « زهير » قبل عصر الرسالة ، وخلّف ولدين هما : « بجير » ، و « كعب » وكان الأول ممّن آمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصره ، وأحبّه ، بينما عادى الثاني ( كعب ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدّة ، وحيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية ، لهذا كان يهجو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصائده

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٣٤٧ و ٣٤٨ ، ويكتب الجزري في اسد الغابة : ( ج ٣ ص ٣٥٨ ) كان عتاب رجلا خبيرا صالحا فاضلا.

٥٣٩

وأشعاره ويؤلّب الناس ضدّ الإسلام.

ولما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان « بجير » قد شارك مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فتح مكة ، وحصار الطائف ، وقد شاهد عن كثب كيف هدّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤلّبون الناس ضدّ الإسلام ، وأهدر دماءهم.

فكتب بهذا إلى أخيه ( كعب ) ونصحه في آخر كتابه قائلا : إن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا.

فاطمأنّ كعب بكلام أخيه ، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهيأ لصلاة الصبح ، فصلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأوّل مرّة ثم جلس إليه ، ووضع يده في يده ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعرفه ، فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم.

قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير(١) .

ثم أخرج كعب قصيدته اللاميّة العصماء التي مدح فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي كان قد أنشأها من قبل ، وانشدها بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ليتلافى بها ما سبق أن بدر منه من هجاء وطعن في سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

__________________

(١) روي أنه وثب على كعب ـ في تلك الحال ـ رجل من الانصار فقال : يا رسول الله دعني وعدوّ الله أن أضرب عنقه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعه عنك فانه قد جاء تائبا نازعا ( عما كان عليه ) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠١.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٤٢.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694