سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله11%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358082 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ثمّ إن القرآن الكريم يذكر قصة ولادة المسيح ، ويصور طفولته ونشأته بشكل أعجب إذ يقول : «وَاذْكُر في الكتاب مرَيَم إذ اْنتَبذَتْ مِنْ أهلهَا مَكاناً شَرْقيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونهمْ حِجَاباً فأَرسَلْنا إليها رُوحَنا فَتَمثَّلَ لَها بَشَراً سَويّاً. قالَت إنّي أعُوذُ بالرَّحْمن مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقيّاً قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهبَ لَكِ غُلاماً زكيّاً. قالَت أَنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغِيّاً. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنجعلَهُ آية لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكانَ أمْراً مَقْضِيّاً. فَحَملَتْهُ فانتَبِذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيّاً. فاَجاءها الَمخاضُ إلى جِذْع النَخلة قالَت يالَيتَني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً. فَنادَاهَا مِنْ تَحْتِها ألا تحزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَحتَكِ سَريّاً. وَهُزِّي إلَيْكِ بِجذْع النَخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطباً جَنيّاً. فَكُلي واْشرَبي وَقَرّي عَيْناً فَإمّا ترينَّ مِنَ البَشَر أحداً فقُولي إنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ اُكلِّمَ الْيَوْمَ إنسِيّاً. فَأتتْ بهِ قَوْمَها تَحمِلُه قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئتِ شَيئاً فَريّاً. يا اُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبوكِ امْرَأَ سَوء وَما كانَتْ اُمُّكِ بَغِيّاً. فأشارَتْ إليْهِ قالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ في المَهْدِ صَبيّاً. قالَ إنّي عَبْدُ اللّه آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعلَني نَبيّاً. وَجَعلَني مُباركاً أينَ ما كُنْتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكاة مادُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بوالِدتي وَلَمْ يَجْعَلْني جَبّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَليّ يَومَ وُلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَث حَياً »(١) .

فإذا كان أتباع القرآن والتوراة والانجيل يشهدون بصحة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من اولي العزم لموسى وعيسىعليهما‌السلام ، ويقرون بصدقها ، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول الإسلام ، ونتعجب من الحوادث العجيبة الّتي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك ، ونعتبرها اُموراً سطحية لا تدل على شيء.

فنحن نقرأ في الكتب التاريخية وفي كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة

__________________

١ ـ مريم : ١٦ ـ ٣٣.

٢٠١

يوم ولادة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل : ارتجاس أيوان كسرى ، وسقوط اربع عشرة شرفة منه ، وانخماد نار فارس الّتي كانت تُعبد ، وانجفاف بحيرة ساوة ، وتساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها ، وخروج نور معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اضاء مساحة واسعة من الجزيرة ، والرؤيا المخيفة الّتي رآها انوشيروان ومؤبدوه ، وولادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مختوناً مقطوع السُرّة ، وهو يقول : « أللّه اكبر ، والحمدُ للّه كثيراً ، سُبحان اللّه بكرة وأصيلا ».

وقد وردت جميع هذه الامور في المصادر التاريخية الأُولى ، والجوامع الحديثية المعتبرة(١) .

ومع ملاحظة ما ورد في حق موسى وعيسى ونقلنا بعضه هنا ، لا يبقى أيّ مجال للشك في صحة هذه الحوادث.

نعم ينبغي أن نسأل هنا : ماذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟

وفي الاجابة على هذا السؤال يجب ان نقول :

إن هذه الحوادث الخارقة والعجيبة كانت تهدف إلى أمرين :

الأول : أن تدفع بالجبابرة ، والوثنيين وعَبدة الاصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم : لماذا انطفأت نيرانُهم الّتي طالما بقيت مشتعلة تحرسها اعيان السَدنة والكهنة؟

لماذا سبّبت هزةٌ خفيفةٌ في ارتجاس ايوان كسرى العظيم المحكم البنيان ، ولم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شيء؟

لماذا تهاوت الاصنامُ المنصوبة في الكعبة وحولها ، وانكبَّت على وجودهها بينما بقيت غيرها من الاشياء على حالها لم يصبها شيء ابداً؟

لو كانوا يفكرون في تلك الحوادث لعرفوا أن تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد عصر انتهاء فترة الوثنية وزوال مظاهر السلطة الشيطانية

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٥ ، بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٢٤٨ ـ ٣٣١ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦٧ ـ ٧٨ وغيرها.

٢٠٢

واندحارها؟

الثاني : ان هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم ، وانه ليس وليداً عادياً ، فهو كغيره من الانبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة ، والوقائع الغريبة ، كما يخبر بذلك القرآن الكريم فيما يحدثه عن حياة الانبياء ـ كما عرفت ـ وتخبر بها تواريخ الشعوب والملل المسيحية واليهودية.

واساساً لا يلزم ان تكون تلك الحوادث سبباً للعبرة ووسيلة للاتعاظ يوم وقوعها ، بل يكفي ان تقع حادثة في احدى السنين ، ثم يعتبرُ بها الناس بعد أعوام عديدة ، وقد كانت حوادثُ الميلاد النبويّ من هذه المقولة ، لأن الهدف منها كان هو ايجاد هزة في ضمائر اُولئك الناس الذين كانوا قد غرقوا في اوحال الوثنية ، والظلم ، والانحراف الاخلاقي حتّى قمة رؤوسهم ، وعشعشت الجهالة والغفلة في اعماقهم حتّى النخاع.

إن الذين عاشوا في عصر الرسالة ، أو من اتى من بعدهم عندما يسمعون نداء رجل نهض ـ بكل قواه ـ ضدّ الوثنية ، والظلم ، ثم يطالعون سوابقه ، ويلاحظون إلى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث العظيمة الّتي تتلاءم مع دعوته ، فانهم ولا شك سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث دليلا على صحة دعواه ، وصدق مقاله فيصدِّقونه ، وينضوون تحت لوائه.

إن وقوع أمثال هذه الحوادث الخوارق عند ميلاد الانبياء مثل « إبراهيم » و « موسى » و « المسيح » و « محمَّد » صلّى اللّه عليه وعليهم اجمعين لا يقل اهمية عن وقوعها في عصر رسالتهم ونبوتهم ، فهي جميعاً تنبع من اللُطف الالهي ، وتتحقق لهداية البشرية ، وجذبها إلى دعوة سفرائه ورسله.

في أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على أن ولادة النبيِّ الكريم كانت في عام الفيل سنة ٥٧٠ ميلادية.

لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحل إلى ربه عام (٦٣٢) ميلادية عن (٦٢)

٢٠٣

أو (٦٣) عاماً ، وعلى هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة (٥٧٠) ميلادية تقريباً.

كما أنّ اكثر المحدثين والمؤرخين يتفقون على أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولدَ في شهر ربيع الأول.

انما وقع الخلاف في يوم ميلاده ، والمشهور بين محدثي الشيعة أنه كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر.

والمشهور بين أهل السنة أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وُلدَ في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك الشهر(١) .

أيُّ هذين القولين هو الصحيح؟

ان من المؤسف جداً أن يعاني التقويم الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاته بل مواليد ووفيات اكثر قادتنا وائمتنا لمثل هذا الارتباك ، وان لا تكون اوقاتها وتواريخها محددةً معلومة على وجه التحقيق واليقين!.

ولقد تسبب هذا الارتباك في أن لا تستند اكثر احتفالاتنا ومآتمنا إلى تاريخ قطعي ، في حين نجد أن علماء الإسلام كانوا يهتمون ـ عادة بتسجيل الوقائع الّتي حدثت على مدار القرون الإسلامية في نظم خاص وعناية كبيرة ، ولكننا لا ندري ما الّذي منع من تسجيل مواليد هذه الشخصيات العظيمة ووفياتهم على نحو دقيق ، وصورة قطعية؟!

على أن مثل هذه المشكلة يمكن حلها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيتعليهم‌السلام ، فان اي مؤرخ لو أراد ان يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات واراد أن يُلمّ بكل تفاصيلها ودقائقها لم يسمح لنفسه بان يفعل ذلك من دون ان يراجع ابناء أو اقرباء تلك الشخصية الّتي يزمع ترجمتها والكتابة عنها.

__________________

١ ـ وقد ذكر المقريزي في « الامتناع » ص ٣ جميع الاقوال المذكورة في يوم ميلاد النبي وشهره وعامه ، فراجع.

٢٠٤

ولقد مضى رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلّف من بعده ذرية وقربى وهم الذين يطلق عليهم اهل البيت.

واهل بيته يقولون : لو كان صحيحاً وحقا ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبونا وجدنا ، وقد نشأنا في بيته وترعرعنا في حجره فاننا نقول انه قد ولد يوم كذا وتوفي يوم كذا فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم ورأيهم ، ونختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين ، وقديماً قالوا : أهل البيت ادرى بما في البيت؟(١) .

فَتْرَةُ الحَمْل :

المعروفُ أن النورَ النبويَ الشريف استتقر في رحم آمنة ـ الطاهر في ايام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة(٢) ، ولكن هذا الامر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامة المؤرخين من كون ولادة النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر ربيع الأول ، إذ في هذه الصورة يجب ان نعتبر مدة حمل « آمنة » بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إما ثلاثة أشهر واما سنة وثلاثة اشهر ، وكلا الامرين خارجان عن الموازين العادية في الحمل ، كما أنه لم يعدّهُ احدٌ من خصائص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

ولقد عالَج المحققُ الكبير الشهيد الثاني ( ٩١١ ـ ٩٦٦ هـ ) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال :

إنَ ذلك مبنيّ عَلى النسيُّ الّذي كانوا يفعلونه في الجاهلية ، وقد نهى اللّه تعالى عنه ، وقال : « إنَّما النسيُّ زيادَةٌ في الكُفْر ».

وتوضيح هذا هو أن أبناء « إسماعيل » كانوا تبعاً لاسلافهم يؤدون مناسك الحج في شهر ذي الحجة ، ولكنهم رأوا ـ في ما بعد ـ أن يحجّوا في كل شهر عامين

__________________

١ ـ ومن هنا لابد من الاعتراف بان ما ينقله ويكتبه الامامية من تفاصيل تتعلق بحياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي اقرب من غيرها إلى الحقيقة لأنها مأخوذة عن اقربائه وابنائهعليهم‌السلام .

٢ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٤٣٩ أبواب التاريخ باب مولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاته.

٣ ـ قد ذكر الطريحي فقط في مجمع البحرين في مادة شرق قولا بهذا لم يُسم قائله.

٢٠٥

يعنى ان يحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وفي صفر عامين وهكذا.

وهذا يعني أن الحج يعود كل اربعة وعشرين سنة في موضعه الطبيعي ( اي شهر ذي الحجة ).

وقد جرى العربُ المشركونَ على هذه الطريقة حتّى صادفت أيامُ الحج شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية فحج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك السنة حجة الوداع ، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة ( الّتي تسمى بالنسيء بمعنى تأخير الحج عن موضعه وموعده ) فقال : « ألا وَإنَّ الزَّمان قد استَدارَ كَهيئتهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ السَّنة إثنا عشَرَ شَهراً ، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ : ثَلاثٌ مَتوالِياتٌ : ذوالقعدة وذوالحجة ، ومحرَّم ، ورجَب الّذي بَين جمادي وشعبان »(١) .

وقد أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك أن الأشهر الحرم رجَعت إلى مواضعها ، وعاد الحُج إلى ذي الحجة وبَطل النسيء.

ونزل في هذه المناسبة قولُ اللّه تعالى : «إنَّما النسيء زيادَةٌ في الكُفْر يُضَلُّ بِهِ الذَّينَ كَفَرُوا يُحلُّونَهُ عاماً ويحرِّمُونهُ عاماً »(٢) .

من هنا تنتقل أيامُ التشريق كلَ سنتين من مواضعها ، على ما عرفت ، وحينئذ لا منافاة بين القول بأن نور النبيّ انتقل إلى رحم اُمه « آمنة بنت وهب » في ايام التشريق ، وبين ما اجمع عليه عامة المؤرخين من أنه وُلدَ في شهر ربيع الأول. وانما تكون المنافاة بين هذين الامرين إذا كان المراد من ايام التشريق هو اليومُ الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر من شهر ذي الحجة خاصة ، ولكن قلنا ان ايام التشريق كانت تنتقل من شهر إلى آخر باستمرار ، فيلزم أن يكون عام حمل اُمّه به ، وعام ولادته أيام الحج الواقعة في شهر جمادي الاولى ، وحيث أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وُلدَ في شهر ربيع الأَول فتكون مدَة حمل « آمنة » به عشرة أشهر تقريباً.

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٢٩.

٢ ـ التوبة : ٣٧.

٢٠٦

مُؤاخَذاتٌ وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان :

إن النتيجة الّتي توصّل اليها المرحومُ « الشهيد الثاني » ليست صحيحة ، كما أن المعنى الّذي ذكره للنسيء لم يقل به من بين المفسرين إلا مجاهد ، واما الآخرون فقد فسَّروهُ بنحو آخر فلا يكون التفسيرُ الّذي مَرَّ قوياً ، وذلك :

اوّلاً : لأن « مكة » كانت مركزاً لجميع الاجتماعات كما كانت معبداً للعرب جميعاً ، ولا يخفى أنَّ تغيير الحج في كل سنتين مرةً واحدةً من شأنه أن يسبب الالتباسَ لدى الناس ويوقعهم في الخطأ والاشتباه ، وبالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم ، وتلك العبادة الجماعية إلى خطر الزوال.

ولهذا يُستَبعد ان ترضى قريش والمكيّون بان يخضع ما هو وسيلة لعزتهم وافتخارهم للتغيير والتبدل الّذي من عواقبه ان يتعرض وقته وموعده للنسيان ، فيذهب ذلك الإجتماع ، ويزول من الاساس.

ثانياً : إذا أخضَعنا ما قاله « الشهيد الثاني » لمحاسبة دقيقة فان كلامه يستلزم ان تكون ايام التشريق والحج في السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادي الاولى في حين أن اميرالمؤمنين عليّاًعليه‌السلام كُلِّفَ في هذه السنة بالذات بأن يقرأَ سورة البراءة على المشركين في ايام الحج ، والمفسرون والمحدثون متفقون على أنهعليه‌السلام تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجة ثم امهلهم اربعة اشهر ابتداء من شهر ذي الحجة لا ذي القعدة(١) .

ثالثاً : ان النسيء يعني أنَّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في الاغلب ، على النهب والغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك الحرب ، في الاشهر الحرم الثلاث ( وهي ذوالقعدة وذوالحجة ، والمحرم ) لهذا ربما طلبوا من سدَنة الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم ، ثم يتركون

__________________

١ ـ ولقد قام العلامة المجلسي في بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٢٥٣ بهذه المحاسبة ، وان لم يشر إلى الإشكال الّذي أوردناه فليراجع.

٢٠٧

الحرب في شهر صفر ، وهذا هو معنى النسيء فلم يكن نسيء وتأخير للشهر الحرام في غير شهر محرَّم ، وفي الآية نفسها اشارةٌ إلى هذا المطلب : « يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحرِّمُونَهُ عاماً ».

والّذي نراه في حل هذه المشكلة هو : أن العرب كانوا يحجُّون في وقتين : أحدهما شهر ذي الحجة ، والثاني شهر رجب ، وقد كانوا يؤدُّون كلَ مناسك الحج في هذين الوقتين على السواء ، فيمكن أن يكون المقصودُ من حَمْل « آمنة » برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايام التشريق هو شهر رجب فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع الاول كانت مدة حمل « آمنة » به ثمانية أشهر واياماً.

الاحتفال بذكرى المولد النبوي :

وينبغي ان يحتفل المسلمون جميعاً بمولد النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة الّتي كانت مبدأ الخير والبركة ، ومنشأ السعادة والكرامة للبشرية جمعاء ، وأية مناسبة احرى بالاحتفال والاحتفاء من هذ المناسبة؟

على ان اقامة مثل هذه الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو امر مطلوب ومحبوب في الشريعة المقدسة.

فقد قال اللّه تعالى : «فالَّذين آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصروُه واتّبعُوا النُورَ الَّذي اُنزِل مَعَهُ اُولئكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ »(١) .

وعزّر بمعنى كرَّم وبجّل كما في اللغة(٢) وهو لا يختص بزمان دون زمان ، فعلى المسلمين في كل وقت وزمان ان يعظّموا شأن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكرّمونه ، سواء في حياته أو بعد مماته ، لما له من فضل عظيم على الناس ، ولما

__________________

١ ـ الأعراف : ١٥٧.

٢ ـ راجع مفردات الراغب : مادّة عزر.

٢٠٨

له من منزلة عند اللّه تعالى.

كيف لا والاحتفال بميلاده لا يعني سوى ذكر أخلاقه العظيمة ، وسجاياه النبيلة ، والاشادة بشرفه وفضله وهي اُمور مدحه القرآن الكريم بها إذ قال سبحانه : «وإنّك لَعلى خُلُق عظيم »(١) وقال تعالى أيضاً : «ورَفعنا لك ذكرك »(٢) وغير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فان الاحتفال بميلاد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي يتحقق بذكر صفاته وأخلاقه والاشادة به خير مصداق لرفع ذكره ، الّذي فَعلهُ اللّه بنحومّا.

ولو كان رفع ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً غير جائز ولا صحيح ، بل فعلا قبيحاً لما فعله اللّه ، فيكفي في حسنه وصحته بل ومشروعيته ومطلوبيته ان اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واظهار السرور والشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم البعض إذ يقول :

« الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم »(٣) .

والحال ان العبادة في مفهومها الاصطلاحي الموجب للشرك والكفر ليس إلاّ الخضوع لمن يُعتَقَدْ بالوهيته وتعظيمه بهذه النية(٤) واين هذا من ذكر فضائل النبي في يوم مولده والابتهاج بمقدمه والشكر للّه على ولادته.

ثم ان تعظيم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينطلق من كونه عبداً مطيعاً للّه تعالى ، ادى رسالته بصدق واخلاص ، وجسّد بسلوكه وسيرته كل مكارم الاخلاق اصدق تجسيد فالاحتفال بمولده الكريم احتفال بالقيم السامية ، وشكر للّه على منّه ، واظهار للحب الكامن في النفوس ليس إلاّ.

والزعم بانه محرّم لكونه بدعة ، أو لأنه لا يخلو عن اشتماله على منكرات

__________________

١ ـ القلم : ٤.

٢ ـ الانشراح : ٤.

٣ ـ فتح المجيد : ص ١٥٤ ، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

٤ ـ راجع مفاهيم القرآن في معالم التوحيد : ص ٤٠٤ ـ ٤٤٠.

٢٠٩

ومحرمات كالرقص والغناء فهو مرفوض ، مردود لان الكلام انما هو حول اصل الاحتفال مجرداً عن المحرمات والمنكرات.

ان الاحتفاء والاحتفال بمولد خاتم النبيين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى ، وامر بتكريمه ، وحث على احترامه وحبه ، ومودته ، وانه بالتالي اداء شكر للّه تعالى على تلك الموهبة العظيمة ، وتلك العطيّة المباركة حيث مَنّ سبحانه على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة بأن شرف الارض بمولد عظيم نعمت الارض ببركة شخصيته وخلقه ، واشرقت بنور رسالته ودعوته ، فاية نعمة ترى اولى بالشكر من هذه ، واي شكر اجمل وافضل من الأحتفاء بمولد هذا النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر فضائله ، ومناقبه ، للتعرف عليها ، والاقتداء بها ، وتشديد الحب له بسببها ، والابتهال إلى اللّه في يوم ميلاده ، وطلب التوفيق الالهي لمتابعته ، والسير على نهجه ، والدفاع عن رسالته ، والذبّ دون دينه ، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟

هذا ولقد درج المسلمون في العصور الإسلامية الاولى على الاحتفال بذكرى المولد النبوّي وأنشأوا القصائد الرائعة في مدحه ، وذكر خصاله ومكارم اخلاقه ، واظهروا السرور بمولده والشكر للّه تعالى بلطفه ، وتفضله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على البشرية.

قال الإمام الدياربكري في تاريخ الخميس في هذا الصدد :

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولدهعليه‌السلام ويعملون الولائم ، ويتصدقون في لياليه بانواع الصدقات ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرات ويعتنون بقرائة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم(١) .

اجل ينبغي على المسلمين ان يحتفلوا بمقدم نبيهم الكريم ولا يعبأوا بما قاله البعض حيث قال : « الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من

__________________

١ ـ تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس : ج ١ ، ص ٢٢٣ نقلا عن المواهب اللدنية : ج ١ ، ص ٢٧ للقسطلاني.

٢١٠

العبادة لهم وتعظيمهم »(١) .

فهذا القول مغالطة صريحة ، ان لم يكن نابعاً عن الغفلة والجهل بعد ان تبين حقيقة الاحتفال واقامة الذكريات احتفاء بالمولد النبويّ(٢) .

مَراسمُ تسمية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

حلَّ اليومُ السابعُ من الميلاد المبارك ، فعقَّ عبد المطلب عن النبيّ بكبش شكراً للّه تعالى ودعا جماعة ليشتركوا في الاحتفال الّذي حضرهُ عامة قريش لتسمية النبيّ ، وسمّاه « محمَّداً » ، وعندما سألوه عما حَمله على أن يسمي هذا الوليد المبارك « محمَّداً » وهو اسم لم يعرفه العرب الا نادراً أجاب قائلا : أردتُ أن يحمَد في السماء والأَرض(٣) .

وإلى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله :

فَشقَّ لَهُ مِنْ إسُمهِ لِيُجلَّهُ

فَذُفاء والعَرْشَ مَحْمُودٌ وَهذا محمَّدُ(٤)

ومن المسلّم أن هذا الإختيار لم يكن ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي ، لأَن اسم « محمَّد » وإن كان موجوداً عند العرب إلاّ أنه قَلّ من كان قد تسمى بهذا الإسم ، فحسب ما استقصاه بعضُ المؤرخين لم يتسَم به إلى ذلك اليوم من العرب الاستة عشر شخصاً كما يقول شاعرهم :

إنَ الذينَ سَمُوا باسم محمدٍ

مِنْ قَبلِ خير الخَلقِ ضِعف ثمان(٥)

ولا يخفى أن نُدرة المصاديق لأي لفظ من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنِها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه ، وحيث أن الكتب السماوية كانت قد أخبرتْ عن إسم النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاته ، وعلائمه الرُوحية والجسمية ، لذلك يجب أن تكون علائمُهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحةً جداً جداً

____________

١ ـ هوامش الفتح المجيد.

٢ ـ راجع للتوسّع : معالم التوحيد في القرآن الكريم.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٧٨ و ٧٩.

٤ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ١٢٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٧٨ و ٧٩.

٥ ـ السيرةُ الحلبية : ج ١ ، ص ٨٢ ثمّ يذكر صاحب السيرة اولئك الأشخاص في بيتين آخرين.

٢١١

حتّى لا يتطرق إليها التباسٌ أو اشتباهٌ ، وقد كان من علائمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسمُه الشريف ، فيجب أن تكون مصاديقُها قليلة جداً حتّى يزيل ذلك أي عروض للشك والترديد في تشخيص النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة إذا ضمَّتْ إليه بقية أوصافِه وعلائِمهِ ، وخصوصياته.

خَطأ الْمُستَشْرقينْ :

لقد ذكر القرآنُ الكريمُ اسمين أو عدة أسماء للنبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ففي سورة آل عمران ومحمَّد والأحزاب والفتح في الآيات ١٤٤ و ٢ و ٤٠ و ٢٩(١) سماه « محمَّداً »(٢) .

وفي سورة الصف الآية ٦(٣) دعاه « أحمد ».

والعلةُ في تسميته بهذين الإسمين أن امّهُ « آمنة » سمّته « أحمداً » قبل أن يسميه جده ، كما هو مذكور في التاريخ.

وعلى هذا فانَ ما ذكرهُ بعضُ المستشرقين ـ في معرض الإعتراض ـ بأن الإنجيل ـ حسب تصريح القرآن الكريم في سورة الصف الآية ٦ ـ بشَّر بنبي اسمُه « أحمد » لا « محمَّد » كلامٌ لا اساسَ له ولا مبرر ، لأن القرآن الكريم الّذي سمى نبيّنا ب‍ « أحمد » سماه في عدة مواضع ب‍ « محمَّد » فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبي هو : القرآن الكريم ، فان القرآن سَمّاه بكلا الاسمين ، في موضع باسم

__________________

١ ـ يعتقد البعضُ أنّ هذا ليس اسماً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هو من الحروف المقطعة في القرآن.

٢ ـ قال تعالى : « وَما مُحمَّدٌ إلا رَسولٌ قَد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ».

وقال تعالى : «والَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحمَّد ».

وقال سبحانه : «ما كانَ مُحمَّد أبا أحَد مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللّه وَخاتَمَ النَّبيّين ».

وقال عزّ وجلّ : «مُحمَّدٌ رَسُولُ اللّه والَّذينَ مَعهُ أشدّاء عَلى الكُفّار رُحماء بَيْنَهُمْ »

٣ ـ إذ قال سبحانه : « وَمُبَشِّراً بِرَسُول مِنْ بَعْدِيْ اسمُهُ أَحمَد ».

٢١٢

« محمَّد » ، وفي موضع آخر باسم « احمد ».

« أحمد » كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة :

كلُّ من كان له ادنى إلمام بتاريخ النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَلِمَ أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يُدعى بإسمين في الناس منذ صغره أحدهما : « محمَّد » الّذي سَمّاه به جَدُه « عبد المطلب » ، والآخر « أحمد » الّذي سمته به اُمه « آمنة ».

وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الإسلامي ، وقد روى المؤرخون هذا الأمر ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في السيرة الحلبية(١) .

ولقد أنشأ عمُّه « أبو طالب » ، الّذي اُنيطَت إليه كفالته بعد وفاة عبد المطلب ، فبقي يقوم بهذه المهمة طوال اثنين وأربعين عاماً بكل حرص ورغبة ، ولم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كل ما استطاع من غال ورخيص انشأ في ابن أخيه أبياتاً سمّاه في بعضها « محمَّد » وفي بعضها الآخر « أحمد » ، وهذا يكشف عن انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان معروفاً آنذاك بكلا الاسمين.

واليك فيما يأتي بعض هذه الأبيات الّتي سَمى فيها « أبو طالب » النبيَ باسم احمد :

١ ـ إنْ يكُنْ ما أتى بهِ أحمدُ اليومَ

سَناءً وكانَ في الحشر ديناً

٢ ـ وقولُه لأحمد أنتَ اْمرءٌ

خَلُوفُ الحديث ضَعيف النُسبْ

٣ ـ وإن كانَ أحمدُ قد جاءهم

بحقٍ ولم يَأتِهمْ بالكَذِبْ

٤ ـ أرادُوا قَتْل أحمد ظالموه

وَليس بقتلهم فيهم زعيم

٥ ـ ألا إنَّ خيرَ الناس نفْساً ووالداً

إذا عُدَّ ساداتُ البرية أحمدُ

٦ ـ فَلسْنا وبيتُ اللّه نسلم أحمداً

لِعزّاء من عض الزمان ولا كرب(٢)

وقد سمى « أبو طالب » النبيَصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ابيات اخرى بأحمد

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٨٢ و ٨٣.

٢ ـ ديوان أبي طالبعليه‌السلام .

٢١٣

أيضاً قد ذكرها كبار المحققين من المؤرخين والمحدثين ونسبوها إلى أبي طالب ولكنها غير موجودة في ديوانه(١) .

كما وأنه قد سَمّاه غيرُ ابي طالب في أبياته بأحمد ممّا يدل على أنه كان مشتهراً بهذا الاسم في ذلك الزمان ، وتلك الابيات كثيرة تفوق حدّ الحصر والاحصاء لكنّنا ننقل نماذج منها هنا :

قال حسان بن ثابت في رثائه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

مفجعةٌ قد شفّها فقدُ أحمد

فظلَّت لآلاء الرسول تُعّددُ

أطالت وقوفاً تذرف العينَ جُهدها

على طَلل القبر الّذي فيه أحمدُ(٢)

وقال في رثائه أيضاً :

صَلّى الالهُ وَمنْ يُحيق بعرشهِ

والطَّيِبُونَ عَلى المبارك احمدِ(٣)

وقال في رثاء جعفر بن أبي طالب الطيّار :

فمن كان أو يكون كأحمد

نظام الحق أو نكال لملحد(٤)

وقال حَسّان وهو يذكر معجزة من معاجز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ففي كَفِّ أحمدَ قد سَبَّحتْ

عُيونٌ مِنَ الماءِ يومَ الظمأ(٥)

وقال كَعبُ بن مالك :

فهذا نَبِيُّ اللّه أحمدُ سَبّحت

صِغارُ الحصى في كَفِّه بالتَرنّم(٦)

وقال « ورقة بن نوفل » يومَ أخبرتهُ خديجةُ بنزول الوحي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

١ ـ مثل قوله :

لَعمري لقد كلِفتُ وَجْداً بأحمد

وَأحبَبْتُهُ حُب الحبيب المواصلِ

زعمتْ قريشٌ أَن أحمد ساحرٌ

كَذِبَتْ وَربّ الراقصاتِ إلى الحَرم

 راجع ديوان أبي طالب ، وسيرة ابن هشام : ج ١ ، ص ٢٧٢ ، وشرح النهج لابن ابي الحديد : ج ١٤ ، ص ٧٩ وغيرها.

٢ و ٣ ـ ابن هشام في سيرته : ج ٢ ، ص ٦٦٧ و ٦٦٦ ، وابن سعد في طبقاته : ج ٢ ، ص ٣٢٣.

٤ ـ شاعر عهد الرسالة : تحقيق محمَّد عزت نصر اللّه.

٥ و ٦ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٤١٣ و ٤١٥.

٢١٤

فإنْ يَكُ حَقاً يا خَديجةُ فاعلمي

حَديثك إيانا فاحمدُ مُرسَلُ(١)

وقالت عاتكةُ بنتُ عَبدالمطلب ترثي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا عينُ جُودي ما بقيتِ بعبرة

سَحّاً على خير البرية أحمدِ(٢)

وقال العباسُ في مناسبة تزويج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخديجة :

أحمدُ سَيّدُ الوَرى

خيرُ ماشٍ وَراكِب(٣)

فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لم يرتضع وليدُ قريش المبارك « محمَّد » من اُمّه سوى ثلاثة أيام ، ثم حَظِيَت بفخر إرضاعه ـ بعد ذلك ـ امرأتانُ هما :

١ ـ « ثويبة » مولاة « أبي لهب » ، وقد أرضعته أربعة أشهر فقط ، وكان النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوجتُه الوفية : « خديجة بنت خويلد » يقدّران هذا العمل لها حتّى آخر لحظات حياتها(٤) .

و « ثويبة » هذه كانت قد أرضَعْتْ قبلَ ذلك « حمزة » عمَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و « ابا سلمة بن عبد اللّه المخزومي » أيضاً فكانوا إخوة من الرضاعة(٥) .

وقد بعث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد مَبعثه ، من يشتريها من « أبي لهب » ليعتقها فابى(٦) .

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرمها كلما دخلت عليه ، وكان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبرُ وفاتها عند منصرفه من وقعة « خيبر » فسأل عن إبنها فقيل : مات قبلها ، فسْأل عن قرابتها ، فقيل : لم يبق منهم أحد(٧) .

٢ ـ « حليمة السعدية » بنت ابي ذؤيب الّتي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن ، وكان أولادها عبارة عن : « عبد اللّه » ، « أنيسة » ، « شيماء » ، وقد

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ١٩٥.

٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ٢ ، ص ٣٢٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٧٢.

٤ ـ تاريخ الخميس في احوال انفس نفيس : ج ١ ، ص ٢٢٢.

٥ ـ السيرة النبوية : ج ٣ ، ص ٩٦.

٦ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٢٧١.

٧ ـ تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٢٢ ـ ٢٢٥ نقلا عن سيرة مغلطاي وغيره.

٢١٥

قامت آخر أولادها وهي « الشيماء » بحضانة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً :

وقد كان من عادة العرب يومذاك هو أن يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كُنَّ يَعِشنَ في البوادي لينشأوا في تلك البيئات المعروفة بطيب هوائها ، وقلة رطوبتها ، وعذوبة مائها ببنية قوية ، هذا مضافاً إلى صيانتهم عن خطر الوباء الّذي كان يهدد الأطفال في « مكة » ، ولأن ذلك كان له مدخلٌ عظيم ، وتاثيرٌ بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل الساكنة في البوادي آنذاك.

وكانت مراضعُ بني سعد من المشهورات بهذا الأمر بين العرب ، فقد كانت نساء هذه القبيلة الّتي كانت تسكن حوالي « مكة » ونواحي الحرم يأتين « مكة » في كل عام في موسم خاص يلتمسنَ الرضَعاء ويذهبن بهم إلى بلادهنَّ حتى تتم الرضاعة.

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد « مكة » يلتمسنَ الرضعاء في سنة جدب وقحط ، ولهذا كنَّ بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف « مكة » واعيانها.

ويقول بعض المؤرخين : أنه لم تقبل أيّةُ واحدة من تلك المراضع أن تأخذ « محمَّداً » بسببُ يتمه ، وقد كان اغلبهن يُردْنَ أن تأخذن من يكون له أبٌ حيٌّ حتى يُغدق عَلَيْهنَّ بالمساعدات والصّلات ، وحتّى « حليمة » هي الاُخرى أبتْ أخذَهُ ، ولكنَّها ايضاً لم تحصل على طفل لِهزال جسمها ، فاضطرت إلى أن تأخذ حفيد « عبد المطلب » وقالت لزوجها : واللّه لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم فلاخذنَّه ، فقال لها زوجُها : لا عليك ان تفعلي ، عسى اللّه ان يجعل لنا فيه بركة.

ولقد اصاب الزوجان في ظنّهما هذا ، فمنذ أن أبدت « حليمة » استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الالطاف الالهية كل مجالات حياتها(١) .

إن القسم الأول من هذه القصة ليس سوى اسطورة ، لأن مكانة البيت

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٢ و ١٦٣.

٢١٦

الهاشمي الرفيعة ، وشخصية رجل عُرفَ بِكمال الجود والاحسان ، وبعون المحتاجين والمحرومين كانت سبباً في أن لا تعرض المرضعات عن اخذ « محمَّد » فحسب ، بل يتنازعن على اخذه ولهذا لا يكون هذا القسمُ مِنَ التاريخ سوى اسطورة تكذبها الحقائق.

واما علة عدم اعطاءهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غير « حليمة » من المرضعات فهي : أن وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من أثداء تِلكم المرضعات ، ولم يزل كذلك حتّى قبلَ ثدي « حليمة السعدية » ، فسرّ بذلك « عبدُالمطلب » وأهله سروراً عظيماً ، بعد أن حزنهم امتناعُه عنهنَّ قبل ذلك(١) .

قالت « حليمة » : استقبلني عبدُالمطلب فقال : من انت ، فقلت : أنا امرأة من بني سعد ، قال : ما أسمُك؟ قلتُ : حليمة ، فتبسَّم « عبد المطلب » وقال : بَخ بَخ سَعدٌ وحلْمٌ ، خصلتان فيهما خيرُ الدهر ، وعز الأبد(٢) .

نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع :

وهنا ينبغي بالمناسبة أن نشير إلى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان.

فقد سبق الإسلامُ العلمَ الحديثَ في الكشف عن آثار اللبن في تكوين الإنسان الخُلقي والنفْسيّ والعضوي سَلباً وإيجاباً.

ولهذا حثَّ الإسلام على استرضاع الام ، كما حث على اختيار المرضعات الصالحات ونهى عن استرضاع اليهودية والمجوسية والنصرانية والمجنونة منعاً من انتقال طباعِهنَ إلى الطفل عن طريق اللبن.

واستكمالا لهذا البحث نورد جملة من الأحاديث الّتي تصرح بهذه الحقيقة العلمية الهامة :

١ ـ قال اميرالمؤمنين عليعليه‌السلام :

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٣٤٢ و ٣٤٣.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٨٩.

٢١٧

« تَخَيّرُوا للرضاع كما تَخيَّرون لِلنِّكاح فانَ الرِّضاعَ يُغيّرُ الطِباعَ »(١) .

٢ ـ وعنهعليه‌السلام ايضاً :

« اُنظرُوا مَنْ يُرضعُ أولادكُمْ فَإنَ الوَلَد يَشُبُّ عَليهِ »(٢) .

٣ ـ عن الإمام ابي جعفر الباقرعليه‌السلام انه قال :

« لا تَسْتَرضعُوا الحَمقاء فانَ اللبن يُعدي ، وإن الغُلامَ يَنزع إلى اللَبن »(٣) .

٤ ـ وعنهعليه‌السلام ايضاً :

« استرضعْ لولَدك بِلَبنِ الحِسان وإيّاكَ وَالقِباحُ فإنَّ اللَبنَ قد يُعدي »(٤) .

٥ ـ وعن عليعليه‌السلام انه قال :

« ما مِنْ لَبَن يَرضَعُ به الصَبيُّ أعظمُ بَركَةً عَليْه مِنْ لَبنِ اُمَّهِ »(٥) .

__________________

١ ـ قرب الأسناد : ص ٤٥.

٢ ـ فروع الكافي ج ٢ ، ص ٩٣.

٣ ـ وسائل الشيعة : ج ١٥ ، ص ١٨٨.

٤ ـ التهذيب : ج ٢ ، ص ٢٨٠.

٥ ـ روضة المتّقين : ج ٨ ، ص ٥٥٤.

٢١٨

٦

فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة الّتي تعَدُّ بأجمعها من كراماتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.

وينقسم المؤلفون في تفسير هذه الحوادث إلى طائفتين :

١ ـ الماديُّون ، وجماعة من المستشرقين : فان العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة ، ويعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادية ، وينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية ، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا يُعيرونها أية أهمية ، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادية ، ولهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال ، وممّا نسجته اَوهامُ التابعين لذلك الدين ، أو الطريقة.

وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم ـ حسب الظاهر ـ في عداد الموحِّدين ، والمؤمنين باللّه ، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب ، إلاّ أنهم ـ لضعف إيمانهم وبسبب غرورهم العلمي ، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم ـ اتبعوا ـ لدى تحليلهم لهذه الحوادث ـ المنهج الماديّ ، فنحن

٢١٩

نقرأ في كتاباتهم مراراً وتكراراً زعمهم بانَ النبوة ما هي إلاّ نبوغٌ بشريٌّ ، وأن النبيّ مجرد نابغة اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيَّرة!!

ولا شك أن مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادي الّذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وافرازات الذهن الانساني ، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في : مباحث « النبوَّة العامة » انَّ النبوة عطية الهية ، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات والارتباطات المعنوية ، ومصدر لمناهج الانبياء وبرامجهم ، ليست ابداً وليدة نبوغهم الإنساني ، ولا نسيجة فكرهم البشري ، وليس لها مصدر إلاّ الإلهام من الغيب ، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي إلى هذه القضايا من زاوية الفكر المادي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاُسس العلمية الّتي كشفت عنها التجربةُ ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي ، وربما انكرها من الاساس.

٢ ـ المؤمنون باللّه : الذين يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته وخواصه يخضع لتدبير عالم آخر ، وأن ذلك العالم ( اي عالم التجرد وما وراء الطبيعة ) هو المنظِم لهذه الطبيعة ، وهو المدبِر لهذا الكون المادي.

وبعبارة اُخرى إن عالم المادة ليس عالماً مسيِّباً ، مستقلا عن غيره ، وان جميع الانظمة والقوانين الطبيعية والعلمية مسبَّبةٌ عن تأثيرات موجودات عليا ، وبخاصة ناشئةٌ عن إرادة اللّه الخالقِ ، الّذي اعطى للمادة وجودها ، وأوجد القوانين والعلاقات الصحيحة بين أجزائها ، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.

إنَ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية ، واذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات ، والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم واكّده ، يعتقدون بأن مثل هذه القوانين الطبيعية ليست اُموراً لا تقبل التغيير ، والتبدل.

فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه ـ إذا أراد ـ أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصة ، وليس في مقدوره ذلك فقط ، بل فعلَ ذلك في جملة من الموارد

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

التقوى وخير الملل ملة إبراهيمعليه‌السلام وخير السنن سنن محمّد وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن وخير الامور عواقبها وشرّ الامور محدثاتها وأحسن الهدى هدي الأنبياء وأشرف القتل قتل الشهداء ».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية والتي ادرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ثم أصدر رسول الله أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قصة مالك بن قيس :

رجع مالك بن قيس « ابو خيثمة » بعد أن سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياما إلى أهله في يوم حار ، فوجد المدينة فارغة ، وعرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له ، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش ، وبردّتا له ماء ، وهيأتا له طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه ، وما صنعتا له ، وفكّر في ما فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه من الحال ، وقد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشمس والريح والحرّ ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيّأ ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟

ما هذا بالنصف.

ثم قال : لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا ، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك ، وقد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة « عمير بن وهيب الجمحى » وهو يطلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ١٠١٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢١٠ ـ ٢١٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٢٠ وقد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير ونسبها الى عبد الله بن خيثمة.

٥٦١

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق ـ في بداية الامر ـ لمرافقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنه التحق بركبه المقدس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار والتقدير ، ولم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنهم رفضوها ، وابتعدوا عنها ، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا « عبد الله بن ابي » رئيس المنافقين وكبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين ، ولكنه لخبث سريرته ، وعدائه الشديد للاسلام ونبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي ، وعاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب ، وحيث إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على علم بنفاقه ، وخبث سريرته وكان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة ، لذلك لم يهتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانفصاله عن الجيش الاسلامي ورجوعه الى المدينة.

مصاعب الطريق :

لقد واجه جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاق كثيرة ، ولهذا سمّي هذا الجيش بجيش « العسرة » ولكن ايمانهم العميق بالله ، وحبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب ، وهوّن عليهم تلك المشاق ، التي استقبلوها بصدور رحبة.

وعند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهه بثوبه ، واستحثّ راحلته ومرّ على بيوتهم ، وأطلالهم بسرعة وقال لأصحابه :

« لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ».

وهو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

٥٦٢

والشعوب ، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عتوّهم وعنادهم ، وتمرّدهم على الحق ، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع ، والأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال والاقوام الاخرى.

ثم نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا ، وأن لا يتوضئوا به للصلاة ، وأن لا يحاس به حيس ، ولا يطبخ به طعام ، وأن العجين الذي عجن به ، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل ، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ، ولا يأكلوا منه شيئا(١) .

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبيعليه‌السلام ، فنزلوا عليها بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

تعليمات احتياطيّة :

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين والآخر ، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه ، وتلقيه في واد آخر.

ولهذا أصدرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم ولا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده ، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد اثبتت التجارب والاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا ، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢١ و ٥٢٢ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ و ١٣٥.

٥٦٣

خبائهما ليلا ، فاختنق أحدهما لشدة الرياح ، بينما احتملت الريح الرجل الآخر ، وضربت به الجبل ، ولما علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك انزعج بشدّة وقال :

« ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلاّ ومعه صاحبه »(١) .

هذا وقد استعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حرس العسكر « عباد بن بشر » فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس ولا ماء معهم ، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم ، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها ، ويشربوا ماءها ، بينما صبر آخرون ، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد ، وقلوب ملتهبة عطشا.

ولقد أعان الله تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء ، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول الله بالمغيّبات :

لا شك في أن في مقدور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس ، ويخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك ، إلاّ أنّ هذا العلم لا ريب محدود ، ويحتاج إلى تعليم الله سبحانه. يقول تعالى :

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ »(٢) .

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الاحايين ، أبسط الامور ، كأن يفقد مفتاحا ، أو يضيّع مالا ولا يعرف بمكانه ومصيره ، بينما يقدرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضا فيثير حيرة

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٢.

(٢) الجن : ٢٦ و ٢٧.

٥٦٤

الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كل ذلك هو ما ذكرناه ، فان مشيئة الله سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علم وأخبر ، وإلاّ كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيره من أفراد البشر العاديين.

وفي ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية :

لما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها ، فقام أحد المنافقين ، وقال : أليس محمّد يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يكشف النقاب ببيانه الرائع :

« إن رجلا قال : هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلاّ ما علّمني الله ، وقد دلّني الله عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها ».

فذهب بعض الصحابة من فورهم ، وجاءوا بها(١) .

إخباره بمغيّب آخر :

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أبطأ به بعيره ، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره ، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير ، وأخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماشيا ، ونزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت ، وفجأة لاح من بعيد رجل ، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال : يا رسول الله هو والله أبو ذر ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٥٦.

٥٦٥

« رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده »(١) .

وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة ، فقد توفي أبو ذر في صحراء « الربذة » ، وعنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية(٢) .

لقد تحققت نبوءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاما ، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشيء إلاّ لأنّه جهر بالحق ، وطالب بالعدل ، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش ، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات ، وامرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه ، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها : ما يبكيك؟

فقالت : أبكي أنه لا يد لي بتغييبك ( أي ليس لي من يعيننى على دفنك ، أوليس عندي ثوب يسعك كفنا )!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة وقال : لا تبكي عليّ ، فاني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول : ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين ( ثم قال : ) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، فلم يبق منهم غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق ، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني والله ما كذبت ولا كذبت.

قال هذا وفاضت روحه المباركة(٣) .

ولقد صدق أبو ذر ، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٥.

(٢) المغازي : ج ٣ ص ١٠٠٠ و ١٠٠١.

(٣) اسد الغابة : ج ١ ص ٣٠٢ ، الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٢٢٣ ، حلية الاولياء : ج ١ ص ٣٠٢.

٥٦٦

كبرى مثل « عبد الله بن مسعود » و « حجر بن عدي » و « مالك الاشتر » تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى « عبد الله » من بعيد مشهدا عجيبا مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق ، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف « عبد الله » زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضا ، وما أن وقعت عينا عبد الله على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه ، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع ، ووقف عند جثمان أبي ذر ، وتذكّر نبوءة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك وقال : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ».

ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر ، ثم واراه الثرى ، وبعد أن فرغ من دفنه ، وقف مالك الاشتر عند قبره وقال :

اللهمّ إنّ هذا صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه وقلبه ، حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا(١) .

وقد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية :

وعاش أبو ذر كما قلت وحده

ومات وحيدا في بلاد بعيدة

__________________

(١) ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة ، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها ، ولكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر وابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلاّ القافلة على محل جثمانه الطاهر ، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٣٤ ـ ٢٣٢ ، والدرجات الرفيعة : ص ٥٣.

٥٦٧

جيش الإسلام في أرض تبوك :

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك ، ولكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم ، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام ، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة « مؤتة » رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين ، ويثبتوا بذلك عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين ، ويتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط ، وأن هذا النبأ لم يكن إلاّ شائعة لا أكثر ، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية(١) .

في هذه اللحظة جمع رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادة جيشه الكبار ، وتبعا للاصل الاسلامي « وشاورهم في الأمر » تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة ، أن يعود إلى المدينة ، ليستعيد نشاطه ، وقواه ، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم ، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين ، وهذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي الله ما يقضي في المستقبل.

__________________

(١) يكتب الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠١٤ و ١٠١٥ أقام رسول الله بتبوك عشرين ليلة وهكذا يقول : إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس ، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ وتعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

٥٦٨

ولقد اضاف كبار المشيرين ـ حفاظا على مكانة الرسول القائد ، وإشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ والرد ـ قائلين : إن كنت امرت بالسير فسر(١) .

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لو امرت به ما استشرتكم فيه ».

وهكذا احترم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة(٢) .

وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم ومناطقهم ، وكانوا جميعا نصارى ، ولهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام ، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاهدة عدم اعتداء ، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع ، فأجرىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيا بزعماء « أيلة » و « أذرح » و « الجرباء » ، وتمّ عقد معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و « أيلة » مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر ، ولا تبعد عن الشام كثيرا ، وكان زعيم تلك المنطقة هو « يوحنا بن رؤبة » ، فهو يوم اتي به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى ، قدّم لرسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠١٩.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤٢.

٥٦٩

وآله فرسا أبيضا ، وأعلن عن طاعته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاحترمه النبي واكرمه ، وصالحه ، وكساه بردا يمينا.

وقد قبل « يوحنا » هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنويا وعلى أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين وكتب له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاب أمان وقّعه الطرفان ، وإليك نص الكتاب المذكور :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من الله ومحمّد النبيّ رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسياراتهم في البرّ والبحر ، لهم ذمة الله وذمة محمّد رسول الله ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر ، ومن أحدث حدثا ، فانه لا يحول ماله دون نفسه ، وأنه طيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ وبحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين وفرّ الاسلام له كل أمن وسلام(١) .

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام « أذرح » و « جرباء » التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية ، وبذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دومة الجندل :

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضم حصنا منيعا ، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا ، تسمى « دومة الجندل »(٢) وكان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى « اكيدر بن

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٦ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤١ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٦٠.

(٢) يقول الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠٢٥ تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

٥٧٠

عبد الملك ».

وحيث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخشى هجوما آخر من الروم ، والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر ، لذلك رأىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها ، وكمنوا قريبا منه.

وفي تلك الليلة خرج « اكيدر » وأخوه « حسان » من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد وأسروا « اكيدرا » بعد قليل من القتال والمواجهة ، وقتل اخوه « حسان » ولجأ البقية إلى الحصن ، واعتصموا به ، فصالح خالد « اكيدرا » على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلها الاسلحة.

فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم ، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين ، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال ، وكانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع ، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يكثرث بتلك الثياب :

« فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا ».

لقد حضر « اكيدر » عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامتنع عن قبول الاسلام إلاّ أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين ، وصالحه النبي صلّى الله

٥٧١

عليه وآله على ذلك وكتب له كتابا ، ثم أهدى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدية واستعمل على حرسه « عباد بن بشر » ليوصله الى دومة الجندل سالما(١) .

تقييم إجمالي لغزوة تبوك :

إن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا ولم يواجه العدوّ ، ولم يقاتل إلاّ أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية والروحية هي :

أولا : صعود مكانة وسمعة الجيش الاسلاميّ ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز ، وحكّام المناطق الحدودية السورية ، وعرف الصديق والعدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية وتقارعها ، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد والطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان والمعارضة ، والتآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن ، وأن لا تفكّر في هذه الامور.

ولهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رجوعه من تبوك الى المدينة ، وتظهر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاعتها وخضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات التي قدمت المدينة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثانيا : ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة ، واطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم ، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٦٦ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٦.

٥٧٢

الاسلام والمسلمين.

ثالثا : مهّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام ، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها ، وعلمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر ، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

رابعا : تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي :

أقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدة بضع عشرة يوما في تبوك(١) وبعد أن بعث خالد إلى « دومة الجندل » توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (١٢) منافقا ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أثناء الطريق وقبل أن يصل إلى المدينة ، وذلك بتنفير ناقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة ( العقبة ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم ».

فأخذ الناس بطن الوادي ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ طريق العقبة فيما يسوق « حذيفة بن اليمان » ناقة النبي ، ويقودها « عمار بن ياسر » فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خلفه ، فرأى في ضوء

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٧ وذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما ( ج ٢ ص ١٦٨ ).

٥٧٣

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته ، وهم يتخافتون ، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا : اضرب وجوه رواحلهم.

فأرعبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصياحه بهم إرعابا شديدا ، وعرفوا بان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم بمكرهم ومؤامرتهم ، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة : فعرفتهم برواحلهم وذكرتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلت : يا رسول الله ألا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لحن ملؤه الحنان والعاطفة :

« إن الله أمرني أن اعرض عنهم ، واكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم ولكن دعهم يا حذيفة فانّ الله لهم بالمرصاد »(١) .

وقد أنزل الله سبحانه إثر هذه الحادثة الآية ٦٥ من سورة التوبة التي قال تعالى فيها : « ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب »(٢) .

النية تقوم مقام العمل :

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن ، كما ليس هناك أمر ألذّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ ، التي تحفظ أمجاده ، وتضمن بقاء كيانه ، وسلامته ، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥ ، مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٧ ، الدرجات الرفيعة : ص ٢٩٨ و ٢٩٩ وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٧٧.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦.

٥٧٤

بين « تبوك » و « المدينة » ، وكانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة ، وتظهر على كلماتهم وأعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ ، ومن أداء لحق الجندية ، وكان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية ، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها ، وهم طوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية ، وأخضعوهم للدولة الاسلامية.

لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش ، وكان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر ، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام ، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم ، وأتراحهم لهذا التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم على مشارف المدينة وقد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت :

« إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم ».

قالوا يا رسول الله : وهم بالمدينة؟

قال : « نعم ، حبسهم العذر »(١) .

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير ، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار ـ في الحقيقة ـ إلى واحد من البرامج الاسلامية التربوية ، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب ، وأن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢١٩.

٥٧٥

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك ، واشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر ، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب والفكر ، باصلاح الباطن والسريرة ، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات ، وأعمالنا كلها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين وغرورهم ، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلاّ أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقّنهم درسا لن ينسوه ، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ :

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم : « هلال بن أميّة » ، و « كعب بن مالك » و « مرارة بن الربيع » فقد حضر هؤلاء عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد ، فاعتذر أحدهم ، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر ، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار ، وتهمّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة ، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي ، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

ولهذا كان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد العودة ـ أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب ، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، فإنهم انشغلوا بالتجارة ، وجمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

٥٧٦

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلاّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم ، وعند ما تحدث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو :

« لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة ».

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا ، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين ، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل « مرارة » و « هلال » ، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا ، فقد تعطّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين ، وكسدت بضائعهم ، ولم يشترها أحد ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها ، وضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

«حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ » (١) .

ولكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين ، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة ، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

__________________

(١) التوبة : ١١٨ ، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وإنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

٥٧٧

جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب ، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي ، وأن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى الله ، والانابة إليه ، وقبل الله تعالى توبتهم ، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم(١) .

قصة مسجد الضّرار :

كانت « المدينة » و « نجران » تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية ، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر ، ولهذا اعتنق فريق من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أن « ابا عامر » والد « حنظله غسيل الملائكة » المستشهد في غزوة احد ، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي ، فانسلك في صفوف الرهبان ، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها ، واحتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج « أبو عامر » من هذه الظاهرة بشدة ، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخططهم التخريبية ، وأراد اعتقاله ، فخرج « أبو عامر » من المدينة الى مكة ، ومن مكّة الى الطائف ، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام ، واخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٥ ، بحار الأنوار : ج ١٠ ص ١١٩ وهذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا ومفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة ، وهو لا يحتاج إلاّ إلى الاخلاص والاتحاد والعزم هذا ويذكر الواقدي في المغازي : ( ج ٣ ص ١٠٤٩ ـ ١٠٥٦ ) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

٥٧٨

وقد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا وابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم ـ تحت غطاء أداء الفرائض ـ التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام والمسلمين ، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان « ابو عامر » على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين ، ومن المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان « ابو عامر » يعلم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلاّ إذا كان لذلك صبغة دينية ، وكان تحت عنوان مسجد.

عند ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتجهّز إلى « تبوك » أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، فأوكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك(١) .

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء ، واسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد ولما عاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم ، وفي هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بحقيقة هذا الأمر ، وسمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار ، ووصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين ، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى :

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٦.

٥٧٩

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ »(١) .

فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فورا بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأرض فحرّق وهدّم وسوّي بالأرض وتحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد(٢) .

إن تحريق وهدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث ، وهلك حاميهم الوحيد عبد الله بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يشاركصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدها في أي قتال.

__________________

(١) التوبة : ١٠٧ و ١٠٨.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٣٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٥٣.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694