سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358100 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

إنه يقول هذا الكلام عن اُمّه الّتي وصفها القرآن الكريم بأن اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين(١) .

إنه يفَضِّل تلاميذه الذين لم يؤمنوا به في قلوبهم ذرة من خردل ، والذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود(٢) ـ كما يقول الانجيل ـ على اُمه الصدّيقة.

كما إن الانجيل يقول : إن المسيح حوّل الماء إلى الخمر في عرس(٣) بل يقول إنهعليه‌السلام : شرب الخمر(٤) ، والحال أن الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة.

هذا هو « عيسى » النبي الطاهر وحواريوه حسب رواية الانجيل!!(٥) .

أما القرآن الكريم فيقول عنه غير ما يقوله : « الانجيل » وإليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول « المسيح »عليه‌السلام .

قال اللّه تعالى : «وَآتينا عِيْسى بْن مَريَم البيّنات وأيَّدْناهُ برُوْح القُدُس » (البقرة : ٧٨).

وقال تعالى أيضاً : «إنّما المسيحُ عيْسى بنُ مريم رَسُول اللّه وكلمته » (النساء : ١٧١).

ويكفي في عظمة المسيحعليه‌السلام وعلو شأنه أنهعليه‌السلام كلَّم الناس في المهد صبياً وقال : «إنّي عَبْدُ اللّه آتاني الكتابَ وَجَعَلني نَبِيّاً. وَجَعَلني مُبارَكاً أيْنَ ما كُنْتُ وَأوْصانِي بِالصَّلاة والزّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً. وبرّاً بِوالِدَتي وَلَمْ يَجْعَلني

____________

١ ـ آل عمران : ٤٢.

٢ ـ انجيل متّى : الاصحاح السابع والشعرون ١ ـ ٦ انظر كيف وافق يهوذا الاسخريوطي وهو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح ، وأيضاً راجع نفس السفر : الاصحاح السادس والعشرين : وراجع انجيل متّى : الاصحاح العاشر أيضاً.

٣ ـ إنجيل يوحنا : الاصحاح الثاني : ١ ـ ١١.

٤ ـ إنجيل لوقا : الاصحاح الأول ١٥ وغيره.

٥ ـ على أنّ خرافات التوراة والانجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا ، وللتوسع راجع : أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام ، والهدى إلى دين المصطفى للعلامة البلاغي.

٢٤١

جَبّاراً شَقِيّاً. والسَّلامُ عَليَّ يَوْم وُلدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَومَ اُبْعَثُ حيّاً. ذلِكَ عِيْسى بْن مَرْيَم قَوْل الْحَقِّ الَّذيْ فيه يَمْترُون » (مريم : ٣٠ ـ ٣٤).

هذه هي مواقف القرآن الكريم من الأنبياء الكرام ، والرسل العظام ، وتلك هي مواقف « التوراة » و « الانجيل » المشينة ، المسيئة إلى شخصيّة سفراء اللّه مبلّغي رسالاته ، فكيف يُعقل ان يكون القرآن الكريم مقتبساً من تلك الكتب وبينهما بُعد المشرقين؟!

ثم لو أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد اطّلع على هذه القضايا والقصص قبل إخباره بنبوّته فلماذا لم يرشح منها شيء في أحاديثه قبل الرسالة وقد عاش بين قومه طويلا.

قال اللّه سبحانه في معرض الردّ والجواب على اقتراح المشركين على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يأتي لهم بقرآن غير الّذي جاء به : «قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلوْتُهُ ولا أدْريكُمْ به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أفلا تعْقِلُونَ »(١) .

فالآية تؤكد على أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آياً من آياته ، فكل ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد ان بعثه بالرسالة(٢) .

__________________

١ ـ يونس : ١٦.

٢ ـ للتوسّع راجع مفاهيم القرآن : ج ٣ ص ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٢٤٢

٨

فَترة الشَباب

في حياة النبيّ الأكرم

يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان ، لايرهبون أحداً ، ولا يخافون شيئاً ، يمتلكون قوة روحية كبرى ، ويتمتّعون بصبر عظيم. وإرادة قوية ، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء والمتردّدون ، وضعاف النفوس قيادة المجتمع ، والخروج به من المآزق والمشاكل ، وكيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا أو ذاك؟!

إن لعظمة القائد الروحية ، ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره ، فعند ما اختار الإمام اميرُ المؤمنينعليه‌السلام أحدَ اصحابه المخلصين لولاية « مصر » كتب إلى أهل « مصر » المظلومين الذين ذاقوا الأَمرّين على ايدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد ، الروحية وقدرته النفسية الفائقة ، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الّذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد :

« أما بعدُ فقَد بَعثتُ اليكم عَبداً مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف ، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع ، أشدّ على الفُجار من حريق النّار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابقَ الحق ، فإنه سَيْفٌ مِن

٢٤٣

سُيوف اللّه ، لا كليلُ الظَبَّة ، ولا نابِي الضريبة »(١) .

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة :

لقد كانت آثار الشجاعة ، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه ، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة ، وقبيلة هوازن من جهة اخرى ، وتدعى « حرب الفجار » ، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَبل.

فها هو « ابن هشام » ينقل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « كُنْتُ اُنبّلُ عَلى أعْمامِيْ »(٢) .

إن مشاركتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدرته الروحية الكبرى وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالبعليه‌السلام في حق النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ إتّقيْنا برَسُول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ »(٣) .

وسوفَ نشير ـ وبعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفار والمشركين ـ إلى نظام العسكرية الإسلامية وكيفية جهاد المسلمين وقتالهم لأعدائهم الّتي تمَّت بأجمعها بتوجيه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو في نفسه من الابحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام.

حُروبُ الفِجار :

إنَّ الحديث بتفصيل هذه الوقائع وعن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرقم ٣٨.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٦ ، وقد قال ابن الأثير في النهاية بعد نقل هذا الحديث وضبط الكلمة « انبل » مشدّدة « اُنبِّل » : « إذا ناولته النبل يرمي » راجع مادّة نبل.

٣ ـ نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه الرقم ٩.

٢٤٤

خارج عن إطار هذه الدراسة ، بيد أننا ـ مع ذلك ـ نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب الّتي شارك في إحداها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بناء على رواية بعض المؤرخين وحوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال والاغارة ، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم ، واضطراب اُمورهم ، ولأجل هذا كانوا يحرّمون القتال ويتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام ( هي شهر رجب ، ذوالقعدة ، ذوالحجة ، محرم ) ليتسنى لهم ـ في هذه المدة ـ أن يقيموا أسواقهم ، ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء(١) .

ولهذا كانت أسواق « عكاظ » و « مجنَّة » و « ذو المجاز » تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات حافلة وحاشدة ، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب ، يتبايعون ، ويتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى ، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً قوية ، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة ، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجل.

ولكنَ هذه الحرمة قد هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب ، وتقاتلت القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم ، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب بحروب « الفجار » ، وفي ما يلي نشير إليها على نحو الاجمال :

الفِجارُ الأوَّل :

ووقعت الحربُ فيها بينَ قبيلتي « كنانة » و « هوازن » وجاء في سبب نشوب

__________________

١ ـ يُستفاد من قوله تعالى في الآية ٣٦ من سورة التوبة : «إنَّ عِدَّة الشّهور عِندَ اللّه اثنا عَشَر شَهْراً في كِتابِ اللّه يَوْم خلَقَ السَّماواتِ والأَرْض مِنْها أربعةٌ حُرُم » أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية ، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعاً لسُنّة « إبراهيم الخليل »عليه‌السلام .

٢٤٥

هذه الحرب أن رجلا يدعى « بدر بن معشر » كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق « عكاظ » يحضر فيه ، ويذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهراً سيفه يقول : أنا واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجلٌ من قبيلة اُخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها ، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان ، ولكنهما اصطلحتا من دون أن يُقتل أحدٌ(١) .

الفِجار الثّاني :

وكان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى أمرأة من « بني عامر » وهي جميلة ، عليها برقع ، فقالوا لها : إسْفري لننظر إلى وجهِك ، فلم تفعلْ ، فقام غلامٌ منهم ، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمُها ، فضحكوا ، فصاحت المرأة قومها ، فأتاها الناسُ ، واشتجروا حتّى كاد ان يكون قتالٌ ، ثم اصطلحوا ، وانفضُّوا بسلام.

الفِجارُ الثالِث :

وسببه أن رجلا من « كنانة » كان عليه دَيْنٌ لرجل من « بني عامر » ، وكان الكناني يماطل ، فوقع شجارٌ بين الرجل ، واستعدى كل واحد منهما قبيلته ، فاجتمع الناسُ ، وتحاوروا حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ ، ثم اصطلحوا.

الفِجارُ الرابع :

وهي الحرب الّتي ـ قيل أنه ـ شارك فيها النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولقد ادّعى البعض انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يومذاك في الخامسة عشرة ، أو الرابعة عشرة من عمره.

__________________

١ ـ ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت ، وستعرف هذا في الابحاث القادمة.

٢٤٦

وقال بعضٌ : انه كان في العشرين من عمره وحيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الاقوال صحيحة(١) .

وقيل في سببه : أن « النعمان بن المنذر » ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق « عكاظ » في كل عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب ، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من أقمشة « الطائف » الجميلة المزر كَشة ممّا يحتاج إليه ، فأجارها « عروة الرجال الهَوازني » في تلك السنة ، ولكن « البراض بن قيس الكناني » انزعج لمبادرة « عروة » إلى ذلك ، فشكاه عند « النعمان بن المنذر » ولم يجد اعتراضه وشكواه ، فحسد على « عروة » حسداً شديداً ، فتَربَّص به حتّى غدر به في اثناء الطريق ، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني.

وكانت قريش يومذاك حليف كنانه ، وقد اتفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ ، ولهذا عرفت قريش وحليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن ، وأسرعوا في الخروج من « عكاظ » وتوجهوا نحو الحرم ( والحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من مكة ، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة ) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريشاً وحليفتها فوراً ، وادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال ، ولما جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت « قريش » وحليفتُها فرصة الليل ، وواصلت حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو.

ومنذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والاخرى وتقاتل هوازن ، وقد شارك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه.

وقد استمر الامر على هذه الحال مدة أربع سنوات ، حتّى ان وُضعَت نهاية

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ١ ، ص ٣٥٨ و ٣٥٩ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٤ الهامش ، تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٥٩.

٢٤٧

لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن(١) .

وقد أسلفنا أن تحريم القتال في الأشهر الحرم كانت له جذورٌ دينية ، وحيث أن حرب « الفجار » استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع ، خاصة انه لما سئلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مشهده يومئذ فقال : « ما سَرّني أنّي أَشْهدهُ ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي عرضوا ( اي قريش ) عَلَيْهم ( اي على هوازن ) أنْ يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ ( اي الّذي قتل عروة ) فأَبُوا »(٢) .

ويحتمل أن تكون مشاركتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة اربعة اعوام ، وإنما سميت مع ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم.

وبذلك لا يبقى مجال لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أيام تلك الحرب.

حِلْفُ الْفُصُول :

لقد كان في ما مضى ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميين يدعى بحلف « الفُضُول » ، وكان هذا الحِلفْ يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين ، وكان المؤسسون لهذا الحلف هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل ، واسماؤهم ـ كما نقلها المؤرخ المعروف « عماد الدين ابن كثير » ـ هي عبارة عن : « فضل بن فضالة » ، و « فضل بن الحارث » ، و « فضل بن وداعة »(٣) ، وحيث أن الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحداً في الهدف ( وهو الدفاع عن حقوق المظلومين ) مع حلف « الفضول » لذلك سمّي هذا الاتفاق

__________________

١ ـ سيرة ابن هشام : ج ١ ، ص ١٨٤ ـ ١٨٧ ، الأغاني : ج ٢٢ ، ص ٥٦ ـ ٧٥.

٢ ـ الأغاني : ج ٢٢ ، ص ٧٣.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ١ ، ص ٢٩٠.

٢٤٨

وهذا الحلف بحلف « الفُضول » أيضاً.

فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاماً دخل رجلٌ من « زبيد في مكة في شهر ذي القعدة ، وعرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه « العاص بن وائل » ، وحبس عنه حقه ، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً ، وطلب منهم أن ينصروه على العاص ، وقريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة ، فنادى بأعلى صوته :

يا آل فِهر لمظلوم بضاعتُه

بِبطن مكة نائي الدار والنَفَر

ومُحرمٌ أشعثُ لم يَقض عُمْرتَه

يا للرِّجال وبَيْن الحجر والحَجَر

إن الحرامَ لِمَن تمَّت كرامتُه

ولا حَرام لِثوب الفاجر القذر

فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش ، وهيّجت غيرتهم ، فقام « الزُبير بن عبد المطّلب » وعزم على نصرته ، وأيّده في ذلك آخرون ، فاجتمعوا في دار « عبد اللّه بن جَدْعان » وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقه ما أمكنهم ذلك ثم مَشوا إلى « العاص بن وائل » فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وقد أنشدَ الزبير بن عبد المطلب في ذلك شعراً فقال :

إنَ الفُضُولَ تَعاقَدُوا وتَحالَفوا

ألاّ يقيمَ بِبطن مَكَّة ظالمُ

أمرٌ عَليْهِ تَعاقَدُوا وتواثقُوا

فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ

وقال أيضاً :

حَلفْت لَنعْقَدن حلفاً عليهمْ

وإن كُنّا جميعاً أهلَ دار

نسمّيه « الفُضُولَ » إذا عَقَدْنا

يَعُزُّبه الغَريبُ لِذي الجوار

ويعْلَمُ منْ حَوالي البيتِ أنّا

اُباة الضَيْم نَمنَعُ كُلَّ عار(١)

وقد شارك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم ، وقد نُقِلت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه وها نحن ننقل حديثين منها في

__________________

١ ـ البداية والنهاية : ج ١ ، ص ٢٩٠.

٢٤٩

هذا المقام.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لقد شَهدْتُ في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ ».

كما أن ابن هشام نقل في سيرته أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف : « ما اُحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم ».

ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أن الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه ، ويدل على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة « الوليد بن عتبة » الأموي(١) على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسينعليه‌السلام ، ويبدو أنَ « الوليد » تحامل على الحسين في حقه لسلطانه ، فقال له الإمامُ السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط ، ولم يسكت على ظلم أبداً :

« أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ حَقّي ، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول »(٢) .

فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم « عبد اللّه بن الزبير » ، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلا : وأنا أحْلِفُ باللّه لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أوْ نَمُوتَ جَميعْاً.

وبلغت كلمة الحسين السبطعليه‌السلام هذه إلى رجال آخرين ك‍ « المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري » و « عبد الرحمان بن عثمان » فقالا مثل ما قال « ابن الزبير » ، فلما بلغ ذلك « الوليد بن عتبة » أنصف الحسينعليه‌السلام من حقه حتّى رضي(٣) .

__________________

١ ـ من قبل عمّه معاوية.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٢.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٢٩٣.

٢٥٠

٩

من فترة الشباب

إلى مزاولة التجارة

يحمل القادة الالهيون العظماء وأصحاب الرسالات السماوية على كواهلهم مسؤوليات كبرى ، ومهام عظمى تلازم ـ في الأغلب ـ التعرض للمتاعب والمصاعب ، والعذاب ، وتحمل الأذى ، بل وربما التعرض للقتل والاغتيال ، وكلما كبرت الاهداف ، عظمت المشاكل ، والمتاعب.

وعلى هذا الاساس ، فان نجاح القادة الرساليّين يتوقف على مدى صبرهم واستقامتهم في وجه الاتهامات والمضايقات ، وفي وجه الأذى والعذاب ، لأن الصبر والتحمل في جميع مراحل الجهاد والعمل هو الشرط الاساسيّ للوصول إلى المقصود ، وإلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المطلوبة.

من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة العدو ، وليس له ان ينسحب ، أو يضعف لقلّة الاتباع والمؤيدين وبالتالي ليس له أن يقلق للنوائب فتخور عزيمته ، أو ترخو إرادته ، مهما عظمت حلق البلاء واشتدت ، ومهما تزايدت ، أو تواترت.

إنّنا نقرأ في تاريخ الأَنبياء وقصصهم اُموراً يعسر على الإنسان العاديّ هضمها ، ويصعب تصوُّرها.

فعن نوح النبيّعليه‌السلام نقرأ أنه دعا قومه تسعمائة وخمسين عاماً ، ولم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنيةُ سوى قلة من المؤمنين والمؤيدين الذين لم

٢٥١

يتجاوز عددهم الواحد والثمانين ، وهذا يعني أنه لم يوفق في كل اثنى عشر عاماً الا لهداية شخص واحد.

إنَّ إرادة الصبر ، وقوَّة التحمّل ، والتصبر تظهر لدى الإنسان شيئاً فشيئاً ، فلابدّ أن تتلاحق حوادثٌ صعبةٌ ، ولابد أن يمرَّ المرء بنوائب مزعجة حتّى تأنس روحُه بالامور الثقيلة ، والقضايا الصعبة.

لقد قضى رسولُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار ، ليكون بذلك صبوراً في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم ، وليستسهل كل صعب في هذا المجال.

إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب الأمور الّتي تواجه القادة ، ورجال الاصلاح. والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح ولا تتهيَّأ لأَحد إلاّ بعد مزاولة الاُمور الصعبة ، وممارسة الأعمال الشاقة ، وربما يكون قيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برعي الغنم من هذا الباب ، ولهذا جاء في الحديث.

« ما بَعثَ اللّهُ نَبيِّاً قَطُّ حَتّى يَسْتَرْعيْه الغَنم ليُعلّمهُ بذلِكَ رعْيَةَ النّاسِ »(١) .

لقد قضى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شطراً من عمره الشريف في هذا المجال ، وينقل كثيرٌ من ارباب السير والمؤرخين هذه العبارة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ما مِنْ نَبيّ إلاّ وَقَدْ رَعى الغَنم » قِيْلَ : وَأَنتَ يا رَسُول اللّه؟

فقال : « أنا رَعيْتُها لأَهْل مَكَّة بِالقَراريْطِ »(٢) .

إنَ شخصية عظيمة يُفتَرضُ فيها أن تواجه ـ في المستقبل ـ أشخاصاً عنودين كأبي جهل وابي لهب ، وأن تصنع ممن انحطت أفكارهم حتّى أنهم سجدوا لكل حَجر ومَدر ، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى ارادة الحق ومشيئته ، لابدَّ أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر ، وتتجهز بأداة التحمل ، وتتزود مسبقاً بقدرة الاستقامة على طريق الهدف ، وهذا لا يكون إلاّ بتعويد النفس على هذه

__________________

١ ـ سفينة البحار : مادّة نبأ.

٢ ـ السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ، ص ١٦٦.

٢٥٢

الصفات ، وحملها على مشاق الاعمال :

سبب آخر لرعي الغنم :

ويمكن أن نذكر هنا سَبباً آخر أيضاً وهو ان رجلا حرّ النفس والعقل كرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجري في شرايينه وعروقه دماء الغيرة والشجاعة كان يشق عليه ان يشاهد كل ذلك الظلم والحيف الّذي كان يمارسه طغاة مكة ، وعتاة قريش وزعماؤها الظالمون القساة بحق الضعفاء ، والمحرومين ، وكذا كان يشق عليه ان يرى تظاهرهم بالعصيان والفسوق في حرم اللّه ، وعند بيته المعظم.

إن اعراض سُكّان مكة عن عبادة اللّه الواحد الحق ، وطوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي ـ بلا ريب ـ أسوأ واقبح ما يكون في نظر الرجل الفاهم ، والعاقل العالم ، واثقل ما يكون عليه.

من هنا رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي ردحاً من الزمن في الصحاري والقفار وعند سفوح الجبال الّتي كانت يومئذ بعيدة بطبيعة الحال عن تلك المجتمعات الفاسدة وأحوالها وأوضاعها ، ليستريح ( أو يتخلص ) بعض الشيء من آلامه الروحية الناشئة مِن رؤية تلك الأوضاع المزرية ، والأحوال المشينة.

على أَنَّ هذا الأمر لا يعني أن للرجل المتقي أن يسكت على الفساد والظلم ، ويقرّ عليهما.

ويفرّق بين حياته وحياة الآخرين ويعتزل عنهم ويتخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة ، والاحوال الشاذة ، بل ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان مأموراً من جانب اللّه سبحانه بالسكوت والانتظار ، لانه لم تكن ظروف « البعثة » والهداية قد توفرت وتهيأت بعد لذلك اتخذصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل هذا الموقف.

* * *

٢٥٣

سببٌ ثالث :

ولقد كان هذا العمل ( أي الاشتغال برعي الاغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال ) فرصة جيدة لأن يتمكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النظر في خلق السماوات والتطلع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها ، وبالتالي الامعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود اللّه تعالى ، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته.

ان قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنها منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الايمان والتوحيد منذ بدء فطرتها ، وخلقتها ، ولكنهم مع ذلك لا يرون انفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق ، والتفكر في الآيات الالهية ، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الايمان ، ويبلغون اسمى درجات اليقين ، وبالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت السماوات والأرضين.

إقتْراحُ أبي طالب :

لقد دفع وضع ( محمَّد ) المعيشي الصعب « أبا طالب » سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً بالشهامة ، وعلو الطبع ، وإباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه ، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.

ومن هنا اقترح على ابنه أخيه « محمَّد » العمل والتجارة بأموال « خديجة بنت خُويلد » الّتي كانت امرأة تاجرة ، ذات شرف عظيم ، ومال كثير ، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم اياه بشيء تجعله لهم منه.

فقد قال أبو طالب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها اكثر الناس وهي تبحث عن رجل أمين ، فلو جئتها فوضعتَ نفسَك عليها لأسرعتْ اليك ، وفضَّلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك.

ولكن إباء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلوّ طبعه ، منعاه من الإقدام

٢٥٤

بنفسه على هذه الأمر من دون سابق عهد ، ولهذا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّه : فلعلّها أن ترسل إليّ في ذلك ، لأنّها تعرف بأنه المعروف بالأمين بين الناس.

فبلغ « خديجة » بنت خويلد ، ما دار بين النبيّ وعمه « أبي طالب » ، فبعثت إليه فوراً تقول له : إنّي دعاني إلى البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك ، وأنا اعطيك ضعفَ ما اُعطي رجلا من قومك وابعثُ معكَ غلامين يأتمران بأمرك في السفر.

فاخبر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه بذلك فقال له ابو طالب : « إنّ هذا رِزقٌ ساقهُ اللّهُ إليك »(١) .

هل عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟

وهنا لابدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال وهي :

هل عمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجيراً في أموال خديجة ، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اُخرى كالمضاربة ، وذلك بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك التجارة؟

انّ مكانة البيت الهاشميّ ، وإباء النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومناعة طبعه ، كل تلك الاُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة قد تمَّ بالصُورة الثانية ( أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة ) ، وتؤيّد هذا المطلب امور هي :

أولا : انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة ولا أي كلام عن الإجارة ، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته ( أعمام النبيّ ) في هذه المسألة من قبل وقال : « امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها ان تعطي محمَّداً ما لا يتجربه »(٢) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٢ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٢ و ١٣٣ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٢٤.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٢.

٢٥٥

ثانياً : ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب في تاريخه : ان النبي ما كان أجيراً لأحد قط(١) .

ثالثاً : ان الجنابذي صرّح في كتابه « معالم العترة » بأن « خديجة » كانت تضاربُ الرجال في مالها ، بشيء تجعله لهم منه ( اي من ذلك المال أومن ربحه )(٢) .

* * *

تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر إلى الشام ، وفيها أموال « خديجة » أيضاً ، في هذه الاثناء جعلت « خديجة » بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها ( أي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وامرت غلاميها ( ميسرة وناصح ) اللذين قررت ان يرافقاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان يمتثلا أوامراه ، ويطيعاه ، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة ، ولا يخالفاه في شيء(٣) .

وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً ، إلا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربح اكثر من الجميع ، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق « تهامة ».

ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى « مكة » بعد ذلك المكسب الكبير ، والحصول على الربح الوفير.

ولقد تسنيّ لفتى قريش « محمَّد » أن يمرّ ـ للمرة الثانية في هذه السفرة ـ على ديار عاد وثمود.

وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان يخيّم على ديار واطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية إلى العوالم الاُخرى اكثر فاكثر ، هذا مضافاً إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره وذكرياته في السفرة الاُولى ، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه « ابي طالب » هذه الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها ، وما كان يحظى

____________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٩ نقلا عن معالم العترة.

٣ ـ قالت خديجة لهما : إعلما أنني قد أرسلتُ اليكما أميناً على أموالي وأنّه أمير قريش وسيّدها ، فلا يدٌ على يده ، فإن باع لا يُمنع وإن ترك لا يؤمر وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه. ( بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٩ ).

٢٥٦

فيها من عمه من الحدب والعناية.

وعند ما اقتربت قافلة قريش إلى « مكة » ، وصارت عند مشارفها ، التفت « ميسرة » غلامُ خديجة ، إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : « يا محمَّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في اربعين سنة ، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا » فأخذ النبي باقتراح ميسرة ، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكة ، وتوجه نحو بيت « خديجة » بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها ، فلما رأت النبي مقبلا عليها ، نزلت من منظرتها وركضت نحوه واستقبلته ، وأدخلته في غرفتها ، فخبّرها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما ربحوا ، ببيان جميل ، وكلام بليغ ، فسرت « خديجة » بذلك سروراً عظيماً ، ثم قدم « ميسرة » في الأثر ، ودخل عليها ، وأخبرها بكل ما رآه وشاهده من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك السفرة من الكرامة والخير ، والخُلق العظيم ، والخصال الكريمة ، ومن الاُمور الّتي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمو خصاله(١) ، ومن جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل : إحلف باللات والعُزى ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما حلفتُ بهما قط ، وإني لأمرُّ فاعرضُ عنهما(٢) .

وحدثها أيضاً بأنه لما مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة : « ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ » سأل عن اسمه ، فأخبره ميسرة باسمه فقال : « هو نبيّ وهو آخر الأنبياء ، إنه هو هو ومُنزّلِ الانجيل ، وقد قرأت عنه بشائر كثيرة »(٣) .

__________________

١ ـ الخرايج : ص ١٨٦ ، بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٥.

٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٣٠ وفي بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ١٨ : انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إليك عني ثكلتك اُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة اثقل عليَّ من هذه الكلمة.

٣ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ١٨ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٣٠ ، الكامل لابن الأثير : ج ٢ ، ص ٢٤ و ٢٥.

٢٥٧

خَديجة زَوجةُ الرَّسول الاُولى :

حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه ، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه « أبي طالب » المالية ، ولم يكن شغله على النحو الّذي يكفي لضمان نفقاته ، من جانب ، وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة ، من جانب آخر.

ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة ، معروفة في قريش ( أعني خديجة ) ساعدت وإلى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية.

ولقد اعجبت « خديجة » بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه ، ومقدرته التجارية حتّى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه ، تقديراً له ، واعجاباً به ، ولكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في البداية ثم توجه إلى بيت عمه « أبي طالب » وقدّم كل ما أخذه من « خديجة » إلى عمه « أبي طالب » ليوسّع به على أهله.

ففرح « أبو طالب » بما عاين من ابن اخيه ، وبقية أبيه « عبد المطلب » ، وأخيه « عبد اللّه » وأغرورقت عيناه بالدموع ، وسرّ بما حقق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً ، واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر ، وراحلتين يُصلح بهما شأنه ، ليتسنى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمه ليختار له زوجة.

في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزماً قاطعاً على أن يتخذ لنفسه شريكة حياة ويكوّن اُسرة ، ولكن كيف وقع الاختيار على « خديجة » الّتي سبق لها أن رفضت كل طلبات الزواج الّتي تقدم بها كبار الاثرياء والشخصيات القرشية مثل « عقبة بن أبي معيط » ، و « أبو جهل » و « أبو سفيان » للزواج بها؟؟! ، وماذا كانت العلل الّتي جمعت هذين الشخصين غير المتشابهين ، من حيث مستوى الحياة ، والثراء؟ وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية ، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة ، والاُلفة والمحبة بينهما إلى درجة أنَّ

٢٥٨

« خديجة » سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينفقها في نشر الإسلام ، وإعلاء كلمة الحق ، وإرساء قواعد التوحيد ، وبث الدين الجديد ، واصبحت تلك الدار المفخمة الّتي كانت تزينها الكراسي المرصّعة ، والستر المطرّرزة ، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية ، والإيرانية ، ملجأ للمسلمين ، وملتقى لانصار الرسالة؟!!

لابدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة « خديجة » نفسها ، فان من المسلَّم والبديهيّ أن هذا النوع من الفداء ، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة.

إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان « خديجة » بتقوى عزيز قريش وفتاها الامين « محمَّد » وطهره ، وحبها الشديد لعفته وكرم أخلاقه ، ولهذا قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقها :

« أفضل نساء الجنة أربع : خديجة »(١) .

إنها أول إمرأة آمنَتْ برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد قال علي أمير المؤمنينعليه‌السلام : في خطبته الّتي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة :

« لَمْ يَجمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذ في الإسْلام غَيرَ رَسُول اللّه وَخَديجَة وأَنا ثالِثُهما »(٢) .

ويكتب « إبن الأثير » قائلا : إنّ عفيف الكندي كان إمرأً تاجراً قدم مكة أيام الحج فرأى رجلا قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراةٌ تصلّي معه ، ثم خرج غلامٌ فقام يصلي معه ، فمضى يسأل العباسَ عمَّ النبيّ عن هؤلاء ، وعن هذا الدين ، فقال العباس :

__________________

١ ـ خصال الصدوق : ج ١ ، ص ٩٦ وغيره.

٢ ـ الكامل : ج ٢ ، ص ٣٧ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي الشافعي : ج ١٣ ، ص ١٩٧ ـ ٢٠١.

٢٥٩

هذا محمَّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم أن اللّه ارسله ، وهذه امرأته خديجة آمنت به ، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به ، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأَرض أحداً على هذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة(١) .

وينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة.

خديجة في أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لقد اكتسَبَت « خديجةٌ » بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمدية ، وتفانيها في سبيل الإسلام وبسبب حرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة وسلامته ، وعملها المخلص على انجاح مهمته ، ومشاركتها الفعّالة ، في دفع عجلة الدعوة إلى الامام ، ومشاطرتها للنبي في اكثر ما تحمله من محن واذى بصبر واستقامة وحب ورغبة.

لقد اكتسبت خديجة بفضل كل هذا وغيره مكانة سامية في الإسلام ، حتّى ان النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها ، ومكانتها وشرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات ، وذلك ولا شك ينطوي على اكثر من هدف.

فمن جملة الأهداف التي ربما توخاها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاشادة بخديجةعليها‌السلام الفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والأبعاد ، والظروف ، والحالات.

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدمه المرأة وهي نصف المجتمع ( إن لم تكن اكثره أحياناً ) من دعم جدّي للرسالة ، مادياً كان أو معنوياً.

وفيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشريفة الّتي تعكس مكانة خديجة ، ومقامها ، ومدى إسهامها في نصرة الإسلام ودعم دعوته ، وإرساء قواعده.

١ ـ عن أبي زرعة عن ابي هريرة يقول قال رسول اللّه صلى الله عليه [وآله] :

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

« فلو شاء اللّه لجعله » أي : المحس من نفسه رباطة جأش .

« مثله » أي : مثل أخيه الذي رأى منه فشلا ، فيجب عليه الذبّ عنه شكرا .

« إنّ الموت طالب حثيث » أي : سريع .

« لا يفوته المقيم »أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيّدة .١ .

« و لا يعجزه الهارب »قل ان الموت الذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم .٢ .

« ان أكرم الموت القتل » فلم لا يذبّ عن أخيه خوف القتل و زاد في ( ابن ميثم ) « بالسيف »٣ .

« و الذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي » هكذا في ( المصرية )٤ و كلمة « علي » زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم )٥ .

« من ميتة على الفراش في غير طاعة اللّه » هكذا في ( المصرية ) أخذا من ( ابن أبي الحديد ) في قوله « في غير طاعة اللّه » حيث جعله بين قوسين كما هو دأبه في ما يأخذ منه ، و ليس في ( ابن ميثم ) ، و الظاهر زيادته لصحّة نسخة ابن ميثم و لعدم وجوده في رواية الواقدي و رواية الكليني المتقدّمتين ، و لأنّ المقام لا يقتضيه٦ .

هذا ، و قد عرفت أن رواية الواقدي « و الذي نفسي بيده لألف ضربة

____________________

( ١ ) النساء : ٧٨ .

( ٢ ) الجمعة : ٨ .

( ٣ ) ابن ميثم ٣ : ٥٥ .

( ٤ ) في الطبعة المصرية : العبارة هي « ابن ابي طالب » راجع : ٢٨٩ .

( ٥ ) ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة لم ترد العبارة ، ٧ : ٣٠٠ اما ابن ميثم شرح نهج البلاغة ٣ : ٥٥ .

( ٦ ) راجع المصادر المتقدمة في الهوامش ٥ ، ٦ .

٤٨١

بالسيف أهون عليّ من موتة على فراشي » .

في ( العقد ) : كانوا يتمادحون بالموت قتلا و يتهاجون بالموت على الفراش و يقولون فيه : مات حتف أنفه ، و أوّل من قاله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

و خطب ابن الزبير لمّا بلغه قتل أخيه مصعب فقال : ان يقتل فقد قتل أبوه و أخوه و عمّه ، إنّا و اللّه لا نموت حتفا و لكن تحت ظلال السيوف١ .

و قال ابن أبي الحديد روي أنّه قيل لأبي مسلم الخراساني : ان في بعض الكتب المنزلة : « من قتل بالسيف فبالسيف يقتل » فقال : القتل أحبّ إليّ من اختلاف الأطباء و النظر في الماء و مقاساة الدواء فذكر ذلك للمنصور فقال : قد أبلغناه محبته قلت : و قال المنصور له وقت قتله :

زعمت أن الدين لا يقتضى

فأستوف بالكيل أبا مجرم

سقيت كأسا كنت تسقي بها

أمرّ في الحلق من العلقم٢

و في ( الطبري ) : كان أبو مسلم قتل في دولته و حروبه ستمائة ألف صبرا٣ .

٤ الكتاب ( ١٦ ) و كان يقولعليه‌السلام لأصحابه عند الحرب :

لاَ تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ وَ لاَ جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ وَ أَعْطُوا اَلسُّيُوفَ حُقُوقَهَا وَ وَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا وَ اُذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى اَلطَّعْنِ اَلدَّعْسِيِّ وَ اَلضَّرْبِ اَلطِّلَحْفِيِّ وَ أَمِيتُوا اَلْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ

____________________

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ١ : ١٠١ .

( ٢ ) شرح نهج البلاغة لبن ابي الحديد ٧ : ٣٠٣ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٦ : ١٣٧ .

٤٨٢

لِلْفَشَلِ فَوَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ مَا أَسْلَمُوا وَ لَكِنِ اِسْتَسْلَمُوا وَ أَسَرُّوا اَلْكُفْرَ فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ أقول : انّما ذكره في باب الكتب و الملحق بها من العهود و الوصايا لأنّه عطفه كسابقه على قوله في ( ١٤ ) « و من وصية لهعليه‌السلام لعسكره » ، و لو كان ذكره في الأوّل أو الثالث كان له وجه أيضا .

قول المصنف : « و كان يقولعليه‌السلام » هكذا في ( المصرية )١ و مثله ابن أبي الحديد و لكن في ( ابن ميثم ) : « و كانعليه‌السلام يقول »٢ .

« لأصحابه عند الحرب » ظاهر ذيل العنوان « فو الذي . » دليل على أنّهعليه‌السلام قاله في صفين ، لأنّ معاوية هو الذي ما أسلم و لكن استسلم ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المصنّف التقط من مواضع ، فرواه ( الكافي ) بدون ذيله ، فروى في باب ما يوصيعليه‌السلام عند القتال أنّهعليه‌السلام قال : و إذا حملتم فاحملوا فعل رجل واحد ،

و عليكم بالتحامي ، فان الحرب سجال ، لا يشتدن عليكم كرّة بعد فرّة ، و لا حملة بعد جولة ، و من ألقى إليكم السلم فاقبلوا منه ، و استعينوا بالصبر فان بعد الصبر النصر من اللّه عز و جل ان الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين٣ .

قولهعليه‌السلام « لا يشتدن عليكم فرّة بعدها كرّة و لا جولة بعدها حملة » لانجبار الاولى بالثانية ، و انّما يجب أن يشتدّ عليهم فرّة بدون كرّة و جولة بدون حملة ،

ثم قد عرفت ان ( الكافي ) رواه بلفظ آخر .

« و اعطوا السيوف حقوقها » فان المقصود من حملها الضرب بها ، قال :

____________________

( ١ ) راجع الطبعة المصرية : شرح محمد عبده : ٥٣٢ ، و كذا ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ١٥ : ١١٤ الرواية : ١٦ .

( ٢ ) ابن ميثم ٤ : ٣٨٦ الرواية ١٦ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٥ : ٤١ .

٤٨٣

بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

و لم تكثر القتلى بها حين سلت١

أي اذا سلّوها لم يشيموها إلاّ بعد كثرة القتلى بها ، و من لا يعطي السيف حقّه يكون كمن قيل فيه :

و ما تصنع بالسيف

وضع سيفك خلخالا

« و وطئوا » هكذا في ( المصرية )٢ و نقله ابن ميثم « و وطنوا » و نسب « وطئوا » إلى رواية٣ .

« للجنوب مصارعها » فسّره بعضهم بأن المراد جنوبهم ، فيكون كناية عن أمرهم بالعزم على القتل في سبيل اللّه ، و فسّره بعضهم بأن المراد جنوب الأعداء فيكون كناية عن إحكام الضرب ليحصل هلاكهم .

« و اذ مروا » أي حثّوا ، و في ( الصحاح ) : تذامر القوم أي حثّ بعضهم بعضا ، و ذلك في الحرب٤ .

« أنفسكم على الطعن الدعسي » أي : الشديد ، فعن أبي عبيد : المداعس الصمّ من الرياح .

« و الضرب الطلخفي » بالكسر فالفتح أي : الشديد ، و مر في سابقه عن ( الإرشاد ) أنّهعليه‌السلام قال في الجمل : « و لقد وطنتم أنفسكم على الطعن الدعسي و الضرب الطلخفي »٥ .

و في ( الجمهرة ) ضرب طلخف و طلحف شديد و طلحفي و طلخفي

____________________

( ١ ) لسان العرب ٤ : ٥٧ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٥٣٢ .

( ٣ ) ابن ميثم : ٤ : ٣٨٨ و الرواية ٤ : ٣٨٦ .

( ٤ ) الصحاح للجوهري : ٦٦٥ .

( ٥ ) الإرشاد للمفيد : ١٣٤ مر صفحة ١٦٣ .

٤٨٤

بالحاء و الخاء ، و الطلخف رباعي ذكره ابن دريد في الرباعي١ .

و قول ابن أبي الحديد : « اللام زائدة » غلط ، و منشأ و همه أنّ ( الصحاح ) عنون طخف ثم قال و بزيادة اللام و هو أعم٢ .

« و أميتوا الأصوات » أي : اخفوها أو اعدموها بالصمت .

« فانّه أطرد » أي : أدفع .

« للفشل » أي الجبن .

سمع أبو طاهر الجنابي ضوضاء عسكر المقتدر و دبادبهم و بوقاتهم و هم عشرون ألفا و أبو طاهر في مائة و خمسين رجلا ما كان يسمع لهم صوت حتى كأنّ الخيل ليس لها حمحمة ، فقال أبو طاهر لبعض أصحابه : ما هذا الزّجل ؟ قال : فشل قال : أجل٣ .

« فو الذي » هكذا في ( المصرية )٤ و الصواب : « و الذي » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )٥ ، و لأنّه لا معنى للتفريع له على ما قبله .

« فلق الحبّة و برأ » أي خلق .

« النسمة » أي : الإنسان .

« ما أسلموا » للّه .

« و لكن استسلموا » للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قهرهم يوم فتح مكّة .

« و أسرّوا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه » هكذا في ( المصرية )٦ و مثله ابن

____________________

( ١ ) جمهرة اللغة لابن دريد ٤ : ١١٤٢ .

( ٢ ) شرح نهج البلاغة لبن ابي الحديد : ١٥ : ١١٤ .

( ٣ ) لم نعثر عليه في كتب التاريخ و التراجم .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٥٣٢ .

( ٥ ) انظر ابن ابي الحديد ١٥ : ١١٤ .

( ٦ ) الطبعة المصرية : ٥٣٢ .

٤٨٥

أبي الحديد و لكن في ( ابن ميثم و الخطية ) : « عليه أعوانا » .

« أظهروه »١ في ( صفين نصر ) : قال شيخ من بكر بن وائل : كنّا مع عليعليه‌السلام بصفين فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح ،

فقال ناس : هذا لواء عقده له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فبلغ عليّاعليه‌السلام فقال : ان النبيّ أخرج هذه الشقّة و قال : من يأخذها بما فيها ؟ فقال عدوّ اللّه عمرو : و ما فيها ؟ قال : ألا تقاتل بها مسلما و لا تفر بها من كافر فأخذها و قد و اللّه فرّبها من المشركين و قاتل بها اليوم المسلمين ، و الذي فلق الحبّة ما أسلموا و لكن استسلموا و أسرّوا الكفر فلما وجدوا أعوانا رجعوا إلى عداوتهم منّا إلاّ إنّهم لم يدعوا الصلاة٢ .

و فيه قال منذر العلوي : قال محمّد بن الحنفية لمّا أتاهم اللّه من أعلى الوادي و من أسفله و ملأوا الأودية كتائب : استسلموا حتى وجدوا أعوانا٣ .

و فيه : قال حبيب بن أبي ثابت : قال رجل في صفين لعمّار : ألم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : قاتلوا الناس حتى يسلموا فاذا أسلموا عصموا مني دماءهم و أموالهم قال : بلى و لكن و اللّه ما أسلموا و لكن استسلموا و أسرّوا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا٤ .

و ممّا يدلّ على كفر معاوية ما رواه نصر مسندا عن رجل شامي قال :

سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : شرّ خلق اللّه خمسة : إبليس ، و ابن آدم الذي قتل أخاه ،

و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني اسرائيل ردّهم عن دينهم و رجل من هذه الامة يبايع على كفره عند باب له قال الرجل : فلما رأيت معاوية يبايع عند باب

____________________

( ١ ) انظر ابن ابي الحديد ١٥ : ١١٤ .

( ٢ ) وقعة صفين ، لنصر ابن مزاحم : ٢٤١ ٢٤٢ طبعة مصر .

( ٣ ) المصدر نفسه : ٢٤٢ طبعة مصر و هو منذر الثوري .

( ٤ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٤٣ طبع مصر .

٤٨٦

له ذكرت قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فلحقت بعليعليه‌السلام فكنت معه١ .

و ما رواه مسندا عن جابر الأنصاري قال : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : يموت معاوية على غير ملّتي٢ .

و ما رواه مسندا عن الحسن البصري قال : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : اذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه٣ .

قال الحسن : قال أبو سعيد الخدري : فلم نفعل و لم نفلح٤ .

٥ الكتاب ( ١١ ) و من وصية لهعليه‌السلام وصّى بها جيشا بعثه إلى العدوّ :

فَإِذَا نَزَلْتُمْ بِعَدُوٍّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِي قُبُلِ اَلْأَشْرَافِ أَوْ سِفَاحِ اَلْجِبَالِ أَوْ أَثْنَاءِ اَلْأَنْهَارِ كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً وَ دُونَكُمْ مَرَدّاً وَ لْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَوِ اِثْنَيْنِ وَ اِجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ فِي صَيَاصِي اَلْجِبَالِ وَ مَنَاكِبِ اَلْهِضَابِ لِئَلاَّ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَةٍ أَوْ أَمْنٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ مُقَدِّمَةَ اَلْقَوْمِ عُيُونُهُمْ وَ عُيُونَ اَلْمُقَدِّمَةِ طَلاَئِعُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ وَ اَلتَّفَرُّقَ فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً وَ إِذَا اِرْتَحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً وَ إِذَا غَشِيَكُمُ اَللَّيْلُ فَاجْعَلُوا اَلرِّمَاحَ كِفَّةً وَ لاَ تَذُوقُوا اَلنَّوْمَ إِلاَّ غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً أقول : رواه نصر بن مزاحم في ( صفينه )٥ و ابن أبي شعبة في ( تحفه )٦

____________________

( ١ ) المصدر نفسه : ٢١٧ .

( ٢ ) بحار الأنوار ٣٣ : ١٨٧ ح ٤٦٥ ب ١٧ .

( ٣ ) بحار الأنوار ٣٣ : ١٨٦ ، ح ٤٦١ ٤٦٢ ب ١٧ .

( ٤ ) المصدر نفسه .

( ٥ ) وقعة صفين لنصر ابن مزاحم : ١٢٢ .

( ٦ ) تحف العقول لابن أبي شعبة : ١٣٠ .

٤٨٧

و الدينوري في ( طواله )١ ففي الأول : عمرو بن سعد عن يزيد بن خالد قال : ان عليّاعليه‌السلام حين أراد المسير من النخيلة دعا زياد بن النضر و شريح بن هاني و كانا على مذحج و الأشعريين بعثهما في اثنى عشر ألفا على مقدّمته شريح على طائفة و زياد على جماعة ، فأخذ شريح يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة و لا يقرب بزياد ، فكتب زياد إليهعليه‌السلام : أما بعد فانّك و ليتني أمر الناس و ان شريحا لا يرى لي عليه طاعة و لا حقّا ، و ذلك من فعله بي استخفافا بأمرك و تركا لعهدك و كتب إليه شريح : أما بعد فان زيادا حين اشتركته في أمرك و ولّيته جندا من جنودك تنكّر و استكبر و مال به العجب و الخيلاء و الزهو إلى ما لا يرضاه الربّ تعالى ، فان رأى أمير المؤمنين أن يعزله عنّا و يبعث مكانه من يحب فليفعل فانّا له كارهون .

فكتبعليه‌السلام إليهما : أما بعد فاني قد ولّيت مقدّمتي زياد بن النضر و أمّرته عليها و شريح على طائفة منها أمير ، فان ائتما جمعكما بأس فزياد على الناس و ان افترقتما فكلّ واحد منكما أمير على الطائفة التي وليناه أمرها ، و اعلما ان مقدّمة القوم عيونهم و عيون المقدمة طلائعهم ، فاذا انتما خرجتما من بلادكما فلا تساما من توجيه الطلائع و من نقض الشعاب و الشجر و الخمر في كلّ جانب كيلا يغير كما عدو أو يكون لهم كمين ، و لا تسيرن الكتائب من لدن الصباح إلى المساء إلاّ على تعبئة ، فان دهمكم دهم أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدّمتم في التعبئة ، و اذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الاشراف أو سفاح الجبال أو أثناء الأنهار كيما يكون ذلك ردءأ و تكون مقاتلتكم من وجه أو اثنين ، و اجعلوا رقباءكم في صياصي الجبال و بأعالي

____________________

( ١ ) الطوال للدينوري : ١٥٦ .

٤٨٨

الأشراف و مناكب الأنهار يرون لكم لئلا يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن ،

و إيّاكم و التفرق ، و اذا نزلتم فانزلوا جميعا و اذا رحلتم فارحلوا جميعا ، و اذا غشيكم ليل فنزلتم فحفوا عسكركم بالرماح و الأترسة ، و رماتكم يلون ترستكم و رماحكم ، و ما أقمتم فكذلك فافعلوا كيلا تصاب لكم غفلة و لا تلفى لكم غرّة ، فما قوم حفوا عسكرهم برماحهم و ترستهم من ليل أو نهار إلاّ كانوا كأنّهم في حصون ، و احرسا عسكر كما بأنفسكما ، و إيّاكما أن تذوقوا نوما حتى تصبحا إلاّ غرارا أو مضمضة ، ثم ليكن ذلك شأنكما و دأبكما حتى تنتهيا إلى عدوّكما ، و ليكن عندي كلّ يوم خبر كما و رسول من قبلكما ، فاني و لا شي‏ء إلاّ ما شاء اللّه حثيث السير في آثار كما ، و عليكما في حربكما بالتودة و إيّاكم و العجلة إلاّ أن تمكّنكم فرصة بعد الإعذار و الحجّة ، و إيّاكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما إلاّ أن تبدآ أو يأتيكما أمري .

و في الثاني بعد ذكر وصيته إلى زياد بن النضر ثم أردفه بكتاب يوصيه و يحذّره ، و فيه : اعلم ان مقدّمة القوم عيونهم . .

و في الثالث : لما اجتمع إلى عليّعليه‌السلام قواصيه و انضمت إليه أطرافه تهيأ للمسير من النخيلة ، فدعا زياد بن النضر و شريح بن هاني ، فعقد لكلّ واحد منهما على ستة آلاف فارس و قال : ليس كلّ واحد منكما منفردا عن صاحبه ،

فان جمعتكما حرب فأنت يا زياد الأمير ، و اعلما أن مقدّمة القوم عيونهم و عيون المقدّمة طلائعهم .١ .

قول المصنف : « و من وصيّة لهعليه‌السلام وصّى بها جيشا » قد عرفت من رواية نصر المتقدّمة انّهعليه‌السلام كتب بالعنوان إلى رئيسي جيشه زياد بن النضر و شريح بن هاني في جعلهم مقدّمة له إلى الشام و كذا من رواية ( التحف )

____________________

( ١ ) الأخبار الطوال : ١٠٦ .

٤٨٩

المتقدّمة ، و اما رواية الدينوري المتقدّمة فالظاهر انّه أراد الاختصار و ذكر المجمل .

« بعثه إلى العدوّ » و هو معاوية و أهل الشام .

قولهعليه‌السلام « فاذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم » أي مكان عسكركم .

« في قبل » أي : استقبال .

« الاشراف » أي : الأمكنة العالية قال شاعر :

كبر حتى لم يستطع ان يركب

حماره إلاّ من مكان عال

و أقود للشرف الرفيع حماري « أو سفاح الجبال » في ( الصحاح ) :١ سفح الجبل أسفله حيث يسفح فيه الماء و هو مضطجعه .

« أو أثناء الأنهار » في ( الصحاح ) : الثني من الوادي و الجبل منعطفه٢ .

« كيما يكون لكم ردءا » أي : عونا على الظفر .

« و دونكم مردا » للعدو .

« و لتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين » لئلا يحاصركم العدو .

« و اجعلوا لكم رقباء » أي رصدا و قالوا : الاكليل رقيب الثريا اذا طلعت احداهما عشاء غابت الاخرى .

« في صياصي الجبال » أي : حصونها .

« أو بمناكب الهضاب » جمع الهضبة : الجبل المنبسط على وجه الأرض ،

و مناكبها رؤوسها .

____________________

( ١ ) الصحاح للجوهري ١ : ٣٧٥ مادة ( سفح ) .

( ٢ ) الصحاح للجوهري ٤ : ٢٢٩٤ مادة ( ثنى ) .

٤٩٠

« لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن » في ( كامل المبرّد ) : كان المهلب يبثّ الاحراس في الأمن كما يبثّهم في الخوف ، و يذكي العيون في الأمصار كما يذكيها في الصحاري ، و يأمر أصحابه بالتحرّز و يخوّفهم البيات و ان بعد منهم العدو و يقول : احذروا أن تكادوا كما تكيدون و لا تقولوا غلبنا فالضرورة تفتح باب الحيلة .

و لما اجتمعت الخوارج بأرجان فنفحهم المهلب نفحة رجعوا ، فأكمن للمهلب في غمض من غموض الأرض يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه ،

فسار المهلب يطوف بعسكره و يتفقّد سواده ، فوقف على جبل فقال : ان من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا ، فبعث عشرة فوارس فاطلعوا على المكمنة ، فلما علموا انّهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة و يئسوا من ناحيته .

قال قطري بن الفجأة و هو أحد رؤسائهم لأصحابه : المهلب من قد عرفتموه ان أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر ، يمده اذا أرسلتموه و يرسله اذا مددتموه لا يبدؤكم الا أن تبدؤوه الا أن يرى فرصة فينتهزها ، فهو الليث المبر و الثعلب الرواغ و البلاء المقيم١ .

« و اعلموا ان مقدّمة القوم » في ( الصحاح ) :٢ مقدّمة الجيش بكسر الدال أوّله .

« عيونهم » في ( الصحاح ) : و العين الديدبان و الجاسوس .

« و عيون المقدّمة طلائعهم » في ( الصحاح )٣ طليعة الجيش من يبعث

____________________

( ١ ) الكامل للمبرّد ٣ : ١٠٨٢ .

( ٢ ) الصحاح للجوهري ٤ : ٢٠٠٨ مادة ( قدم ) .

( ٣ ) الصحاح للجوهري ٤ : ٢١٧٠ مادة ( عين ) .

٤٩١

ليطلع طلع العدو .

« و إيّاكم و التفرّق فاذا نزلتم فانزلوا جميعا و اذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا » و في ( المروج ) : كانت سياسة يعقوب بن الليث الصفار انّه كان بأرض فارس و قد أباح الناس أن يرتعوا ، ثم حدث أمر أراد الرحيل من تلك الكورة ، فنادى مناديه بقطع الدواب عن الرتع ، فرؤي رجل من أصحابه قد أسرع إلى دابته و الحشيش في فمها فأخرجه من فيها مخافة أن تلوكه بعد سماعة النداء ، و أقبل على الدابة مخاطبا لها بالفارسية « دواب را از تر بريدند » يعني قطعوا الدواب عن الرطبة .

و رؤي في عسكره في ذلك الوقت رجل من قواده ذو مرتبة و الدرع الحديد على بدنه لا ثوب بينه و بين بشرته ، فقيل له في ذلك ، فقال : نادى منادي الأمير البسوا السلاح و كنت أغتسل من جنابة ، فلم يسعني التشاغل بلبس الثياب١ .

« و اذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفّة » بالضم ، فعن الأصمعي : كلّ ما استطال نحو كفة الثوب و كفّة الرمل فهو بالضمّ ، و كلّ ما استدار نحو كفّة الميزان و كفّة الصائد و كفّة اللثة فهو بالكسر .

« و لا تذوقوا النوم إلاّ غرارا » أي : قليلا ، و الأصل فيه الغرور ، و هو ما يتغرغر به من الأدوية و عن الأصمعي : يقال غارت الناقة تغار غرارا قل لبنها ،

و منه غرار النوم و هو قلته .

و قال اعرابي :

لا أذوق النوم إلاّ غرارا

مثل حسو الطير ماء الثماد

« أو مضمضة » قال المروح السلمي :

لمّا اتكأن على النمارق مضمضت

بالنوم أعينهن غير غرار

____________________

( ١ ) المروج للمسعودي ٤ : ١١٤ .

٤٩٢

و قال آخر على نقل ( الأساس ) :

يمسح بالكفين وجها أبيضا

اذا الكرى في عينه تمضمضا١

و على نقل ( الصحاح ) :

و صاحب نبهته لينهضا

اذا الكرى في عينه تمضمضا٢

و لحسان على ما في ( ديوانه ) :

ما بال عينك يا حسان لم تنم

ما ان تغمض إلا مؤثم القسم٣

٦ الكتاب ( ١٢ ) و من وصية لهعليه‌السلام لمعقل بن قيس الرياحيّ

حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له :

اِتَّقِ اَللَّهَ اَلَّذِي لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ وَ لاَ مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ وَ لاَ تُقَاتِلَنَّ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَكَ وَ سِرِ اَلْبَرْدَيْنِ وَ غَوِّرْ بِالنَّاسِ وَ رَفِّهْ فِي اَلسَّيْرِ وَ لاَ تَسِرْ أَوَّلَ اَللَّيْلِ فَإِنَّ اَللَّهَ جَعَلَهُ سَكَناً وَ قَدَّرَهُ مُقَاماً لاَ ظَعْناً فَأَرِحْ فِيهِ بَدَنَكَ وَ رَوِّحْ ظَهْرَكَ فَإِذَا وَقَفْتَ حِينَ يَنْبَطِحُ اَلسَّحَرُ أَوْ يَنْفَجِرُ اَلْفَجْرُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اَللَّهِ فَإِذَا لَقِيتَ اَلْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً وَ لاَ تَدْنُ مِنَ اَلْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ اَلْحَرْبَ وَ لاَ تَبَاعَدْ مِنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ اَلْبَأْسَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي وَ لاَ يَحْمِلَنَّكُمْ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَ اَلْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ أقول : المفهوم من كتب السير أن وصيتهعليه‌السلام إلى معقل إلى قوله « فسر

____________________

( ١ ) أساس البلاغة للزمخشري : ٤٣١ مادة ( مضض ) .

( ٢ ) الصحاح للجوهري ٢ : ١١٠٦ مادة ( مضمض ) .

( ٣ ) ديوان حسّان بن ثابت : ٣٠٠٩ .

٤٩٣

على بركة اللّه » ، و أما ما بعده « فاذا لقيت العدو . » ، فانّما وصيتهعليه‌السلام إلى الأشتر حين بعثه مددا لزياد بن النضر و شريح بن هاني و كانعليه‌السلام قدمهما من قرقيسا إلى معاوية .

اما الأول ، ففي ( صفين نصر ) عن أبي الوداك قال : ان عليّاعليه‌السلام بعث معقل بن قيس في ثلاثة آلاف و قال له : خذ على الموصل ثم نصيبين ثم القني بالرقة فإنّي موافيها و سكّن الناس و آمنهم ، و لا تقاتل إلاّ من قاتلك ، و سر البردين و غور الناس و أقم الليل و رفّه في السير ، و لا تسر أول الليل فان اللّه جعله سكنا ، أرح فيه بدنك و جندك و ظهرك ، فاذا كان السحر أو حين ينبطح الفجر فسر فخرج حتى أتى الحديثة و هي اذ ذاك منزل الناس انّما بنى مدينة الموصل بعد ذاك مروان بن محمد فاذا هم بكبشين ينتطحان و مع معقل رجل من خثعم يقال له شداد بن أبي ربيعة قتل بعد ذلك مع الحرورية ، فأخذ يقول ايه ايه فقال معقل : ما تقول ؟ فجاء رجلان نحو الكبشين فأخذ كلّ واحد كبشا ثم انصرفا .

فقال الخثعمي لمعقل : لا تغلبون و لا تغلبون قال له معقل : من أين علمت ذلك ؟ قال : أما أبصرت الكبشين أحدهما مشرق و الآخر مغرب التقيا فاقتتلا و انتطحا فلم يزل كلّ واحد منهما من صاحبه منتصفا حتى أتى كلّ واحد منهما صاحبه فانطلق به .

ثم مضوا حتى أتوهعليه‌السلام بالرقّة١ .

و أمّا الثاني فروى نصر٢ و الطبري٣ أن عليّاعليه‌السلام أرسل إلى الأشتر ان

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ١٤٨ .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ١٥٣ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٦٤ .

٤٩٤

زيادا و شريحا ارسلا إليّ يعلماني انّهما لقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام بسور الروم ، فنبأني الرسول انّه تركهم متوافقين ، فالنجا إلى أصحابك النجا ، فاذا أتيتهم فأنت عليهم ، و إيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلاّ أن يبدؤوك حتى تلقاهم و تسمع منهم ، و لا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم و الاعذار إليهم مرّة بعد مرّة ، و اجعل على ميمنتك زيادا و على ميسرتك شريحا ، وقف بين أصحابك وسطا و لا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب و لا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتى أقدم إليك فاني حثيث السير إليك إن شاء اللّه١ .

قول المصنف : « و من وصيّة لهعليه‌السلام لمعقل بن قيس الرياحي » في ( الطبري ) : خرج المستورد الخارجي على المغيرة لما كان واليا على الكوفة من قبل معاوية ، فقال المغيرة لقبيصة رئيس شرطته : الصق لي بشيعة علي فأخرجهم مع معقل فان معقلا كان من رؤساء أصحابه ، فاذا بعث بشيعته الذين كانوا يعرفون فاجتمعوا جميعا استأنس بعضهم إلى بعض و تناصحوا و هم أشد استحلالا لدماء هذه المارقة و أجرأ عليهم من غيرهم ، و قد قاتلوا معهم قبل هذه المرّة إلى أن قال فمشى المستورد و معقل كلّ منهما إلى صاحبه و بيد المستورد الرمح و بيد معقل السيف ، فأشرح المستورد الرمح في صدر معقل حتى خرج السنان من ظهره ، فضربه معقل بالسيف على رأسه حتى خالط السيف أمّ الدماغ فخرّا ميتين٢ .

« حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف » قد عرفت من رواية نصر٣

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ١٥٣ ، و تاريخ الطبري ٣ : ٥٦٤ .

( ٢ ) تاريخ الأمم و الملوك للطبري ٤ : ١٤٤ .

( ٣ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ١٦٥ طبع النجف .

٤٩٥

أنّهعليه‌السلام أنفذه من الطريق في ثلاثة آلاف من المدائن و قال له : خذ على محل الموصل ثم نصيبين ثم القني بالرّقة ، فأتاهعليه‌السلام بالرقة .

قولهعليه‌السلام « اتق اللّه الذي لا بدّ لك من لقائه »يا أيها الإنسان إنّك كادح إلى ربِّك كدحاً فملاقيه ١ .

« و لا منتهى لك دونه » ألاّ تزر وازرة وزر اُخرى و أن ليس للإنسان إلاّ ما سعى و أنّ سعيه سوف يرى ثُم يُجزاه الجزاء الأوفىو أنّ إلى ربك المنتهى ٢ .

« و سر » أمر من السير .

« البردين » أي : الغداة و العشي .

« و غور بالناس » في ( الجمهرة ) : غوّروا اذا نزلوا في الهاجرة و أراحوا٣ .

« و رفّه بالسير » أي : وسّع به عليهم من ( رفّه من خناقه ) .

« و لا تسر أوّل الليل فان اللّه جعله سكنا »فالق الإصباح و جعل الليل سكنا ٤ .

« و قدره مقاما لا ظعنا » أي : حركة .

« فأرح » أي : اعط الراحة ، قال النابغة :

و صدر أراح الليل عازب همّه .

« فيه بدنك و روّح ظهرك » قال ابن أبي الحديد : أمرهعليه‌السلام أن يريح في الليل بدنه و ظهره و هي الإبل و ( بنو فلان مظهرون ) أي : لهم ظهر ينقلون عليه كما

____________________

( ١ ) الانشقاق : ٦ .

( ٢ ) النجم : ٣٨ ٤٢ .

( ٣ ) جمهرة اللغ لابن دريد ٣ : ١٢٦٧ .

( ٤ ) الأنعام : ٩٦ .

٤٩٦

تقول منجبون أي لهم نجائب١ .

و قال الراوندي : « الظهور الخيول » و ليس بصحيح٢ .

قلت : الأظهر كون الظهر أعم من الخيل و الإبل ، فالعسكر معهم خيل يركبون عليها و إبل يحملون عليها ، فلو لم يكن الظهر هنا أعمّ لكانعليه‌السلام يقول « و روح ظهرك و خيلك » و أيضا قال في ( النهاية ) : في حديث الخيل : « و لم ينس حقّ اللّه في رقابها و لا ظهورها » حق الظهور ان يحمل عليها منقطعا به أو يجاهد عليها ، و منه الحديث الآخر : « و من حقّها إفقار ظهرها . »٣ .

اللّهم إلاّ أن يقال ان الحديثين أعم ، لأن فيهما « ظهور الخيل » و « ظهر الخيل » ، و هو غير الظهر المطلق ، كما انّه يمكن أن يقال اقتصرعليه‌السلام في ترويح الإبل لأن أتعابها أكثر بحمل الأثقال بخلاف الخيل التي يركبها الرجال .

« فاذا وقفت حين ينبطح » أي : ينبسط .

« السحر أو حين ينفجر » أي : ينشق .

« الفجر فسر على بركة اللّه ، فاذا لقيت العدوّ فقف من أصحابك وسطا » في ( عيون القتيبي )٤ : قرأت في الائين : من سنّة الحرب أن يرتاد للقلب مكانا مشرفا ، فان أصحاب الميمنة و الميسرة لا يقهرون و لا يغلبون ، و ان زالتا بعض الزوال ما ثبت القلب .

« و لا تدن من القوم دنوّ من يريد أن ينشب » أي ينشئى .

الحرب ، و لا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس » أي : يخاف الحرب .

« حتى يأتيك أمري » و قد عرفت ان في رواية نصر « حتى اقدم عليك » .

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ : ٩٤ .

( ٢ ) منهاج البراعة للقطب الراوندي : عنده ٣ : ٢٥ « روح ظهرك » .

( ٣ ) النهاية لابن الأثير ٣ : ١٦٦ .

( ٤ ) العيون للقتيبي ١ : ١١٢ .

٤٩٧

« و لا يحملنّكم شنآنهم » أي : بغضهم .

« على قتالهم قبل دعائهم و الاعذار إليهم »يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط و لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى . .١ .و لا يجر منّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . .٢ .

٧ الكتاب ( ١٤ ) و من وصية لهعليه‌السلام لعسكره قبل لقاء العدوّ بصفين :

لاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اَللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَتِ اَلْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لاَ تُصِيبُوا مُعْوِراً وَ لاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَ لاَ تَهِيجُوا اَلنِّسَاءَ بِأَذًى وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ اَلْقُوَى وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلْعُقُولِ إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَ إِنْ كَانَ اَلرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ اَلْمَرْأَةَ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ اَلْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ قول المصنف : « و من وصيّة لهعليه‌السلام لعسكره قبل لقاء العدوّ بصفين » هكذا في ( المصرية ) :٣ و الصواب : « و من وصية لهعليه‌السلام لعسكره بصفين قبل لقاء العدو » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم )٤ .

____________________

( ١ ) المائدة : ٨ .

( ٢ ) المائدة : ٢ .

( ٣ ) الطبعة المصرية : ٥٣٠ .

( ٤ ) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١٥ : ١٠٤ ، لا نرى أي اختلاف في المعنى بين العبارة التي أوردها محمد عبده و العبارة التي أوردها ابن ابي الحديد .

٤٩٨

و كيف كان ففي ( الطبري ) : أمر عليّعليه‌السلام في انسلاخ المحرم من سنة ( ٣٧ ) مرثد بن حارث الجشمي فنادى عند غروب الشمس : ألا ان أمير المؤمنين يقول لكم : « اني قد استدمتكم لتراجعوا الحق و تنيبوا إليه ، و احتججت عليكم بكتاب اللّه عز و جل فدعوتكم إليه فلم تناهوا عن طغيان و لم تجيبوا إلى حق ،

و اني قد نبذت إليكم على سواء ان اللّه لا يحبّ الخائنين » ففزع أهل الشام إلى أمرائهم و خرج معاوية و عمرو بن العاص يكتّبان الكتائب و بات عليعليه‌السلام ليلته كلّها يعبى‏ء الناس و يكتّب الكتائب و يدور في الناس يحرّضهم .

قال أبو مخنف : حدّثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي عن أبيه أن عليّاعليه‌السلام كان يأمرنا في كلّ موطن لقينا فيه عدوّا فيقول : لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم ، فأنتم بحمد اللّه عز و جل على حجّة ، و ترككم إيّاهم حتى يبدأوكم حجّة اخرى لكم ، فاذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تكشفوا عورة و لا تمثّلوا بقتيل ، فاذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا و لا تدخلوا دارا إلاّ باذن و لا تأخذوا شيئا من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم ، و لا تهيجوا امرأة بأذي و ان شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم ، فانّهنّ ضعاف القوى و الأنفس١ .

و رواه نصر بن مزاحم مثله و زاد : و العقول و لقد كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ و انهنّ لمشركات و ان كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده٢ .

و روى ( الكافي ) في باب ما يوصيعليه‌السلام عند القتال عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه أنّهعليه‌السلام كان يأمر في كلّ موطن لقينا فيه عدوّنا فيقول : لا

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ٦ .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٠٣ .

٤٩٩

تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم ، فانّكم على حجّة و ترككم إيّاهم حتى يبدأوكم حجّة لكم اخرى فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تمثّلوا بقتيل١ .

و في حديث مالك بن أعين قال : حرّض عليعليه‌السلام الناس بصفين فقال : ان اللّه تعالى قد دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم إلى أن قال و اذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا و لا تدخلوا دارا و لا تأخذوا شيئا من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم ، و لا تهيجوا المرأة بأذى و ان شتمن أعراضكم و سببن امراءكم و صلحاءكم ، فإنّهنّ ضعاف القوى و الأنفس و العقول ، و قد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ و إنّهنّ مشركات ، و ان كان الرجل ليتناول المرأة فيعيّر بها و عقبه من بعده٢ .

قولهعليه‌السلام « لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم فانّكم بحمد اللّه على حجّة و ترككم إيّاهم حتى يبدأوكم حجّة أخرى لكم عليهم » و كذلك ابنه الحسينعليه‌السلام يوصي أصحابه يوم الطف ، ففي ( الطبري ) : بعد ذكر إرسال عبيد اللّه بن زياد للحرّ مع ألف لإدخاله الكوفة ثم إتباعه برسول أن ينزلهعليه‌السلام على غير حصن و لا ماء :

و أخذ الحر الحسينعليه‌السلام بالنزول فقالعليه‌السلام : دعنا ننزل في هذه القرية يعني نينوى أو هذه يعني الغاضرية أو هذه يعني شفية فقال : لا و اللّه ما أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث عينا عليّ فقال له زهير : يابن رسول اللّه ان قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به فقال الحسينعليه‌السلام : ما كنت لأبدأهم بالقتال٣ .

____________________

( ١ ) الكافي ٥ : ٣٨ ح ٣ .

( ٢ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه عن نصر بن مزاحم بحار الأنوار ٣٣ : ٣٦١ .

( ٣ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ٣٠٨ .

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694