سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358077 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

أتاني جبرئيلعليه‌السلام فقال يا رسول اللّه هذه خديجة قد أتتك ومعها آنية فيها ادام أو طعام أو شراب ، فاذا هي أتتك فاقرأعليها‌السلام من ربّها ومنّي ، وبَشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ »(١) .

٢ ـ عن عائشة قالت : ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة ، ولقد هَلَكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين ، لما كنتُ اسمعه يذكرها ، ولقد أمره ربُه عزّ وجلّ ان يبشرها ببيت من قصب في الجنة ، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها ( اي خليلاتها وصديقاتها )(٢) .

٣ ـ وعن عائشة أيضاً قالت ما غِرت على نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا على خديجة ، واني لم أدركها ، ( قالت ) : وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ذبح الشاة فيقول : أرسلوا بها إلى اصدقاء خديجة قالت : « أي عائشة » فاغضبتُه يوماً فقلت : خديجة!! فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اني قد رزقت حبّها »(٣) .

٤ ـ ومن هذا القبيل ما كان يقوم به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن والاحتفاء بهنّ :

فقد وقفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عجوز فجعل يسألها ، ويتحفاها ، وقال :

« ان حسن العهد من الايمان ، انها كانت تأتينا ايام خديجة »(٤) .

٥ ـ وروي عن انس قال كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُتي بهدية قال : « إذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة إنها كانت تحب خديجة »(٥) .

__________________

١ ـ صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٣٣ ، مستدرك الحاكم : ج ٣ ، ص ١٨٤ و ١٨٥ بطرق متعددة صحيحة على شرط الشيخين.

٢ و ٣ ـ صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٣٤ ، ومثلها في صحيح البخاري : ج ٥ ، ص ٣٨ و ٣٩.

٤ ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٨ ، ص ١٠٨.

٥ ـ سفينة البحار : ج ١ ، ص ٣٨٠ ( خدج ).

٢٦١

٦ ـ روى مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الايام فادركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ، فغضب حتّى أهتز مقدَمُ شعره من الغضب ، ثم قال : « لا واللّه ما أبْدلَني اللّه خيراً منها ، آمنَتْ بي إذْ كَفَر الناسُ ، وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء » قالت عائشة فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة ابداً(١) .

٧ ـ عن يعلى بن المغيرة عن ابن ابي رواد قال : دخل رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خديجة في مرضها الّذي ماتت فيه ، فقال لها :

« يا خديجة أتكرهين ما أرى منك ، وقد يجعل اللّه في الكُره خيراً كثيراً ، أما علمت أن اللّه تعالى زوَّجني معك في الجنة مريم بنتَ عمران ، وكلثمَ اُخت موسى وآسية امرأة فرعون »(٢) .

٨ ـ عن عكرمة عن ابن عباس قال خطَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربع خطط في الأَرض وقال : أتدرون ما هذا؟ قلنا : اللّه ورسولُه أعلم ، فقال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل نساء الجنة أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمَّد ، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون »(٣) .

٩ ـ عن أنس جاء جبرئيل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده خديجة فقال : إن اللّه يقرئ خديجة السلام فقالت : إن اللّه هو السلام ، وعليك السلام ، ورحمة اللّه وبركاته(٤) .

١٠ ـ عن أبي الحسن الأول ( الكاظم )عليه‌السلام قال قال رسول اللّه صلّى

__________________

١ ـ اسد الغابة : ج ٥ ، ص ٤٣٨ ، ورواها مسلم أيضاً : ج ٧ ، ص ١٣٤ ، وكذا البخاري : ج ٥ ، ص ٣٩ وقد حذفا آخرها من : فغضب حتّى إلى آخر الرواية.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٧ ، وأُسد الغابة : ج ٥ ، ص ٤٣٩.

٣ ـ الخصال للصدوق : ج ١ ، ص ٩٦ ، كما في بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢.

٤ ـ المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٨١٦.

٢٦٢

الله عليه وآله : « إنّ اللّه اختار من النساء اربعاً : مريم واسية وخديجة وفاطمة »(١) .

١١ ـ عن ابي اليقظان عمران بن عبد اللّه عن ربيعة السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان وهو في مسجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعتُه يقول : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

« خديجةُ بنتُ خويلد سابقةُ نساء العالمين إلى الايمان باللّه وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

١٢ ـ عن عروة قال قالت عائشة لفاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا ابشرك أني سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

« سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخديجة بنت خويلد واسية »(٣) .

١٣ ـ عن أبي عبد اللّه ( الصادق )عليه‌السلام قال : دخل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله ، فاذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول : واللّه يا بنت خديجة ، ما ترين إلا أن لاُمِكِ علينا فضلا ، وأىُ فضل كانَ لها علينا؟!

ما هي إلاّ كبعضنا ، فسمعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقالتها لفاطمة ، فلما رأت فاطمة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكت ، فقال : ما يبكيك يا بنت محمَّد؟! قالت : ذكرتْ اُمّي فتنقّصتْها فبكيتُ ، فغضب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ثم قال :

« مَهْ يا حميراء ، فان اللّه تبارك وتعالى بارك في الوَدُود الولود ، وأَن خديجة رحمها اللّه ولدَتْ مِنّي طاهِراً ، وهو عَبْدُ الله وهو المطهّر وَوَلدَتْ منّي القاسم ، وفاطمة ، ورقية ، واُم كلثوم ، وزينب ، وأنت ممن أعقم اللّهُ رحمه فلم تلدي

__________________

١ ـ الخصال : ج ١ ، ص ٩٦ ، كما في البحار : ج ١٦ ، ص ٢.

٢ و ٣ ـ المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٨٤ ـ ١٨٦ ووردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٣٣.

٢٦٣

شيئاً »(١) .

أجل هذه هي « خديجة بنت خويلد » شرفٌ وعقلٌ ، وحبٌ عميق لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووفاء وإخلاص ، وتضحية بالغالي والرخيص في سبيل الإسلام الحنيف.

هذه هي « خديجة » أول من آمنت باللّه ورسوله ، وصدّقت محمَّداً فيما جاء به عن ربه ، من النساء ، وآزره ، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردّ عليه ، وتكذيب له الاّ فرّجَ اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفف عنه(٢) ، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه ، بما تمنحه من لطفها ، وعطفها ، وعنايتها بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في غاية الاخلاص والودّ والتفاني.

ولهذا كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبُّها حباً شديداً ويجلّها ويقدرها حق قدرها(٣) ، ولم يفتأ يذكرها ، ولم يتزوج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها ، واحتراماً لشخصها ومشاعرها ، وكان يغضب إذا ذكرها احدٌ بسوء ، كيف وهي الّتي آمنت به إذ كفر به الناسُ ، وصدّقته إذ كذّبه الناسُ ، وواسته في مالها إذ حرمهُ الناسُ.

ولهذا أيضاً كانت وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الّذي توفي فيه ناصراه وحامياه ، ورفيقا آلامه ( زوجته هذه : خديجة بنت خويلد ، وعمه المؤمن الصامد الصابر ابو طالبعليهما‌السلام ) بعام الحداد ، أوعام الحزن(٤) وان يلزم بيته ويقلّ الخروج(٥) ،

__________________

١ ـ الخصال : ج ٢ ، ص ٣٧ و ٣٨ ، كما في بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٣.

٢ ـ اعلام النساء لعمر رضا كحالة : ج ١ ، ص ٣٢٨.

٣ ـ اعلام النساء : ج ١ ، ص ٣٣٠.

٤ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٣٥ ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال بهذه المناسبة : « اجمتعت على هذه الاُمة مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشدّ جزعاً » المصدر نفسه ، وراجع تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٣٠١ نقلا عن سيرة مغلطاي.

٥ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٧ ، المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٣٠٢ وفيه إضافة : ونالت قريش منه ما لم تكن تنال.

٢٦٤

وأن ينزلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند دفنها في حفرتها ، ويدخلها القبر بيده ، في الحجون(١) .

عن ابن عباس في حديث طويل في زواج فاطمة الزهراءعليها‌السلام بعليعليه‌السلام اجتمعت نساء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يومئذ في بيت عائشة ليسألنّه أن يُدخلَ الزهراء على ( عليّ )عليه‌السلام فاحدقْن به وقلت : فَديناك بآبائنا وأُمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ « خديجة » في الأحياء لتقرّتْ بذلك عينُها.

قالت امُ سلمة : فلما ذكرنا « خديجة » بكى رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : « خديجة واين مثل خديجة ، صدَّقْتني حين كذَّبني الناس ووازرتني على دين اللّه وأعانتني عليه بمالها ، إنّ اللّه عزّ وجلّ أمرَني أنْ ابشر خديجة ببيت في الجنة من قصب ( الزمرّد ) لا صخَبَ فيهِ ولا نصَب »(٢) .

لقد كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفاً ، واكثرهنّ مالا ، واحسنهن جمالا وأقواهنُّ عقلا وفهماً وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدَة عفافها وصيانتها(٣) ويقال لها : سيدة قريش(٤) ، وكان لها من المكانة والمنزلة بحيث كان كل قومها وسراة أبناء جلدتها حريصين على الاقتران بها(٥) ، وقد خطبها ـ كما يحدثنا التاريخ ـ عظماء قريش وبذلوا لها الأموال ، وممن خطبها « عقبة بن ابي معيط » و « الصلت بن ابي يهاب » و « ابو جهل » و « ابوسفيان » فرفضتهم جميعاً ، وأختارت رسول اللّه ـ وهي في سن الأربعين وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخامسة والعشرين ـ وهي تمتلك تلكم الثروة الطائلة ، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمتلك من حطام الدنيا إلاّ الشيء اليسير اليسير ، رغبة في الاقتران به ولما عرفت فيه من كرم الاخلاق ، وشرف النفس ، والسجايا الكريمة والصفات العالية ، وهي ما كانت تبحث عنه في حياتها وتتعشقه وإذا بتلك المرأة الغنية الثرية العائشة في

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٤٣ ، ص ١٣١ نقلا عن كشف اليقين.

٣ و ٤ و ٥ ـ السيرة الحلبيّة : ج ١ ، ص ١٣٧.

٢٦٥

أفضل عيش تصبح في بيت زوجها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الزوجة المطيعة الخاضعة ، الوفية المخلصة ، وتسارع إلى قبول دعوته ، واعتناق دينه بوعي وبصيرة وارادة منها واختيار ، وهي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومتاعب ، وتجعل كل ثروتها في خدمة العقيدة والمبدأ ، وتشاطر زوجها آلامه ، ومتاعبه ، وترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وفي سنّ الرابعة أو الخامسة والستين. وهي مع ذلك تواجه كل ذلك بصبر وثبات(١) ، ودون أن يذكر عنها تبرُّم أو توجع.

هذا مضافاً إلى أنها كانت تعامل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة والنبوة ، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كنّ ربما يثرن سخطه وغضبه ، ويؤذينه في نفسه وأهله.

واليك فيما يأتي بعض ما قاله عنها كبار الشخصيات ، والمؤرخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين أيضاً ، قال اميرالمؤمنين علي بن ابي طالبعليه‌السلام :

« كنتُ أولَ من أسلَم ، فمكَثْنا بِذلِكَ ثلاث حجَج وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أتاهُ غيْري ، وغير ابنة خويلد رحمها اللّه وقد فعل »(٢) .

وقال محمَّد بن اسحاق : كانت خديجة أولَ من آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه ، ووازرته على أمره فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها إذا رجع إليها تثبِّتُه ، وتخفّف عنه ، وتهوّن

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٤ ، ص ٥٩ قال : خديجة بنت خويلد وهي عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محاصَرة في الشِعب.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢ ومثله في روايات متعددة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٤ ، ص ١١٩ و ١٢٠.

٢٦٦

عليه امر الناس حتّى ماتت رحمها اللّه(١) .

وعنه أيضاً : أن « خديجة بنت خويلد » و « ابا طالب » ماتا في عام واحد ، فتتابع على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هلاك خديجة وابي طالب وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، وكان رسول اللّه يسكن اليها(٢) .

وقال أبو امامة ابن النقاش : ان سبق خديجة وتأثيرها في اول الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها للّه بمالها ونفسها لم يشركها فيهُ احدٌ لا عائشة ولا غيرها من اُمهات المؤمنين(٣) .

وقد جاء في المنتقى : ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما اُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا ، وأخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه ، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتّى أتى الجبل ، فسمع عليّ وخديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جائع عطشان مرهق ، ومضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي وهي تناديه بحرقة وألم ، وتبكي وتنحب ، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال : يا رسول اللّه الا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ اُدعُها اليك فاقرأها مني السلام وقل لها : إن اللّه يقرئك السلامَ ، ويبشّرها أن لها في الجنةِ بيتاً من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب فدعاها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الارض وهو يمسحها ويردّها ، وبقي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي وخديجة هناك حتّى جَنَّ الليلُ فانْصرفوا جميعاً ودخلت به خديجةُ منزلها ، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة واظلّته بصخرة من فوق رأسه ، وقامت في وجهِه تستره ببُردها وأقبلَ المشركون يرمونه بالحجارة ، فاذا جاءتْ من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة ، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط ، وإذا رُميَ من بين يديه وقتْهُ خديجة رضي اللّه عنها بنفسها ، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش ترمى الحُرّةُ

__________________

١ ـ بحار الانوار : ج ١٦ ، ص ١٠ ـ ١٢.

٢ ـ نفس المصدر.

٣ ـ تاريخ الخمس في أحوال أنفس نفيس : ج ١ ، ص ٢٦٦.

٢٦٧

في منزلها؟ فلَمّا سمِعوا ذلك انصرفُوا عنه ، وأصبَحَ رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغدا إلى المسجد يُصلّي(١) .

ولقد بَلَغ من خضوعها لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّها له أنها بعد أن تمَ عقدُ زواجها برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إلى بيتك ، فبيتي بيتك ، وأنا جاريتك »(٢) .

وجاء في السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ولسبقها إلى الإسلام وحسن المعروف جزاها اللّه سبحانه فبعث جبرئيل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بغار حراء وقال له : اقرأعليها‌السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ؛ فقالت : هو السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام ، وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته ، وهذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردّ السلام على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره ، قال ابن هشام والقصب هنا الؤلؤ المجوف ، وابدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما دعاها إلى الايمان أجابت طوعاً ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب بل ازالت عنه كل تعب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوّنت عليه كل عسير فناسب ان تكون منزلتها الّتي بشرها بها ربُها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي اللّه عنها واقراء السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ، وتميزت أيضاً بأنها لم تسؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تغاضبه قط ، وقد جازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته(٣) .

افتخار اهل البيت بخديجة عليها‌السلام :

وما يدل على سمو مقامها وعلو منزلتها أن اهل البيتعليهم‌السلام طالما

__________________

١ ـ بحار الانوار : ج ١٨ ، ص ٢٤٣.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٤ نقلا عن الخرائج والجرايح : ص ١٨٦ و ١٨٧.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٦٩ الهامش.

٢٦٨

افتخروا بأن خديجة منهم ، وانهم من خديجة وقد كانوا يعتزون بها ، ويشيدون بمكانتها :

فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسينعليهما‌السلام جالسان تحت المنبر فذكر علياًعليه‌السلام فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسينعليه‌السلام ليردَّ عليه فأخذه الحسن بيده وأجلسه ثم قام فقال :

« أيُّها الذاكِرُ عَليّاً أنا الحَسن وأبي عليّ وأنت معاويةُ وأبوك صخرٌ واُمي فاطمة واُمُّك هند وجدي رسُول اللّه وجدُّك عُتبةُ بنْ رَبيعة وجدتي خديجة وجدتُك قتيلة فلعن اللّه أخْمَلَنا ذكراً والأَمُنا حَسَباً وشَرَّنا قديماً وحديثاً. فقال طوائفُ من أهل المسجد : آمين(١) .

وقيل : ان « الحسين »عليه‌السلام ساير « أنس بن مالك » فاتى قبرَ خديجة فبكى ثم قال : إذْهَبْ عَنّي قال « أنس » ؛ فاستخفيتُ عنه فلما طال وقوفُه في الصلاة سمعته يقول :

يا رَبِّ يَا رَبِّ أنْتَ مَولاهُ

فَاْرحَمْ عُبيْداً إلَيْكَ مَلْجاهُ

يا ذا المَعالِي عَلَيْكَ مُعْتَمدي

طُوبْى لِمَنْ كُنْت اَنتَ مَوْلاهُ

طُوْبى لِمَنْ كانَ خادِماً أرقاً

يَشْكُوْ إلى ذِيْ الجَلالِ بَلْواهُ

إلى آخر الابيات(٢) .

هكذا كان اهل البيت النبوي ـ اقتداءً برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحترمون خديجة ويكرمونها لما كان لها من شخصية عظيمة ولما اسدته إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام من خدمات لا تنسى على مرّ الدهور.

ان بيان ونقل الاحاديث والروايات ، وكذا الاقوال الّتي وردت في شأن خديجة والحديث عن شخصيتها ومكانتها ومدى إسهامها في انجاح ونصرة الدعوة المحمدية خارج عن امكانية هذه الدراسة ، ونطاقها ، لذلك نكتفي بهذه الالماعة

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : ج ١٦ ، ص ٤٦ و ٤٧.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ١٩٣ نقلا عن عيون المحاسن.

٢٦٩

العابرة تاركين الكلام باسهاب حولها إلى مجال آخر.

ولنَعُدْ إلى تبيّن الأسباب الظاهرية والباطنية لزواجها من رسول اللّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

العللُ الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إن الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى كل ما يحيط به من خلال المنظار المادي ، ويفسره تفسيراً مادياً قد يتصور ( وبالاحرى يظن ) أن « خديجة » كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها ، وتنمية ثروتها ، ولأنها كانت بحاجة ماسة إلى رجل أمين قبل اي شيء ، لذلك وجدت ضالتها في محمَّد الصادق الامينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتزوجت منه ، بعد أن عرضت نفسها عليه ومحمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الآخر حيث انه كان يعلم بغناها وثروتها ، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه وبينها من فارق في السن كبير.

ولكن التاريخ يثبت أن ثمة أساباباً وعللا معنويّة لا مادية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش وفتاها الصادق الطاهر.

واليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الامر :

١ ـ عند ما سالت « خديجة » ميسرة عما رآه في رحلته من فتى قريش « محمَّد » فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من « محمَّد » في تلك السفرة ، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت « خديجة » في نفسها بشوق عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من اعجابها بمعنوية محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكريم خصاله ، وعظيم أخلاقه ، فقالت من دون إرادتها : « حسبُك يا ميسرة ؛ لقد زدتني شوقا إلى محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذهبْ فانت حرٌ لوجه اللّه ، وزوجتك وأولادك ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان » ثم خلعَت عليه خلعة سنية(١) .

ثم إنها ذكرت ما سمعته من « ميسرة » لورقة بن نوفل وكان من حكماء

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٥٢.

٢٧٠

العرب : فقال ورقة : « لئنْ كانَ هذا حَقاً يا خديجة إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الامُّة »(١) .

٢ ـ مرَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً بمنزل « خديجة بنت خويلد » وهي جالسة في ملأمن نسائها وجواريها وخدمها وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود ، فلما مرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة مري مَنْ يأتي بهذا الشاب ، فارسلت إليه من أتى به ، ودخل منزلَ « خديجة » ، فقال له الحبر : إكشفْ عَنْ ظهرك فلما كشف له قال الحبر : هذا واللّه خاتم النبوة فقالت له خديجة : لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء وان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود.

فقال الحبر : ومن يقدر على « محمَّد » هذا بسوء ، هذا وحق الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر الزمان ، فطوبى لمن يكون له بعلا ، وتكون له زوجة وأهلا فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.

فتعجَّبت « خديجة » ، وانصرف « محمَّد » وقد اشتغل قلبُ « خديجة » بنت خويلد بحبه فقالت : أيها الحبر بمَ عرفت محمَّداً انه نبي؟

قال : وجدتُ صفاته في التوراة انه المبعوثُ آخر الزمان يموت أبوه وامُّه ، ويكفله جدّه وعمه ، وسوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة فلما سمعت « خديجة » ما نطق به الحبر تعلق قلبُها بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما خرج من عندها قال : إجتهدي ان لا يفوتك « محمَّدٌ » فهو الشرف في الدنيا والآخرة(٢) .

٣ ـ لقد كان ورقة بن نوفل ( وهو عم خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف « شيث »عليه‌السلام وصحف « إبراهيم »عليه‌السلام وقرأ التوراة والانجيل وزبور « داود »عليه‌السلام ) يقول دائماً : سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر

____________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٩١ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٠ و ٢١ نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.

٢٧١

الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها ( أو تكون سيدة قومها ، وأميرة عشيرتها ) ، ولهذا كان يقول لها : « يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء »(١) .

هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين ، وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية ، وهي بمجموعها تدل على العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب « خديجة » بأخلاق فتى قريش الأمين ، ونبله ، وطهارته ، وعظيم سجاياه وخصاله وحبها لهذه الاُمور ، وليس هناك أي اثر في علل هذا الزواج لامانة « محمَّد » وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة « خديجة ».

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟

من المسلّم به أن اقتراح الزواج جاء من جانب « خديجة » نفسها أولاً ، حتّى أن ابن هشام(٢) نقل في سيرته : ان « خديجة » لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت له : « يا ابْنَ عم إبي قد رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك [ اي شرفك ومكانتك ] في قومك ، وأمانتك وحُسن خلقك ، وصدق حديثك » ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوج به.

ويعتقدُ اكثرُ المؤرّخين أن « نفيسة بنت عليّة » بَلّغتْ رسالة « خديجة » إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النحو التالي :

قالت لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوج ولو دُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة الاّ تجيب؟

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن هي؟

فقالت : خديجة ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وكيف لي بذلك ، فقالت : عليَّ فذهبت إلى خديجة فأخبرتها ، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلّى

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢١.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٩ و ١٩٠.

٢٧٢

الله عليه وآله بوكيلها « عمرو بن اسد »(١) لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب(٢) .

فشاور النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعمامه وفي مقدمتهم « أبو طالب » ، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش ، ورؤساؤها فخطبَ « أبو طالب » ، وبعد انَ حَمداللّه واثنى عليه وصفَ إبن أخيه محمَّداً بقوله :

« ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبد اللّه لا يوزَنُ به رجلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونُبلا وفضلا وعقلا ، وإن كان في المال فإنَ المالَ ظِلُّ زائلٌ ، وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرجعَة ، وَلَهُ في خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي ، ومحمَّدٌ من قد عرَفتُمْ قرابتَه ».

وحيث أن « ابا طالب » تعرَّض في خطبته لذكر قريش ، وبني هاشم وفضيلتهم ، ومنزلتهم بين العرب ، لذلك تكلّم « ورقة بن نوفل بن اسد » الّذي كان من أقارب خديجة(٣) وقال في خطبة له : « لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكُمْ وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ »(٤) .

ثم اُجري عقد النكاح ومهرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة(٥) .

__________________

١ ـ المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار ولهذا قام بالايجاب من قبلها عمها عمرو بن اسد ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد ( والد خديجة ) امتنع من تزويجها لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بداية الأمر ، ثم رضي بذلك نزولا عند رغبة خديجة.

٢ ـ تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٣ ـ المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ « خديجة بنت خويلد بن اسد » وورقة بن نوفل بن اسد فيكونان اولاد عمومة أي أنّه ابن عم خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب‍ « ابن عمّها » ( تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٨٢ ) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ، ص ٢٠٣.

٤ ـ بحار الانوار : ج ١٦ ، ص ١٦ ، مناقب آل أبي طالب : ج ١ ، ص ٣٠ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٩ ، تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٥ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٩.

٢٧٣

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

المعروف المشهور أن خديجةعليها‌السلام تزوجت من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في سنّ الأربعين وأنها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً.

وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً.

وذكَرَ أنها تزوجت قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجلين أوّلهما « عتيقُ بن عائذ » ثمَ من بعده ابو هالة التميمي اللّذين توفي كلٌ منهما بُعيد زواجه بخديجة(١) .

__________________

١ ـ ربما يُشكَّك في أن تكون خديجةعليها‌السلام قد تزوجت قبل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحد وهي الّتي امتنعت عن كل من خطبها ورام تزويجها من سادات قريش واشرافها. راجع الاستغاثة : ج ١ ، ص ٧٠.

٢٧٤

١٠

من الزواج

إلى البعثة

تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها ، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل ، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير ، وتشتد حاكمية الغرائز المادية ، وتتضاءل شعلة العقل ، وتترائى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر ، وصباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.

ولو مَلك الإنسانُ ـ في مثل هذه الفترة ـ شيئاً من الثروة ، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية ، وصحة المزاج من جهة والامكانات المادية والمالية من جهة اُخرى تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات ، والنزوات ، وتهيِّئان له عالماً بعيداً عن التفكير في المستقبل.

ومن هنا يصف المربّون العلماء تلك الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة ، والفترة الّتي قلما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولا ، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على امل الحصول على الملكات الفاضلة ، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أي خطر متوقَع(١) . حقاً إن كبح جماح

__________________

١ ـ وإلى هذه الحقيقة اشار الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام بقوله :

إنّ الفراغ والشباب والجدة

مَفسدة للمرء اي مفسدة

٢٧٥

النفس ، وزمَّها وحفظها مِنَ الإنزلاق في مهاوي الشهوات ، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر جدّ عسير ، ولو أن الانسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيراً سيّئاً ، ومستقبلا في غاية البؤس والشقاء.

فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ليس من شك في ان فتى قريش « محمَّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة ، وقوة بدنية عالية ، وكان شجاعاً قوياً ، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء الحياة ، وفتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها واعضائها بالشجاعة والفروسية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة « خديجة » الطائلة فكانت ظروفُ الترف ، والعيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل ، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات المادية هل مدَّ موائد العيش واللذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب. واطلق العنان لشهوته ، وفكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر ، وتلك البيئة الفاسدة.

أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في حياته ، واستفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية ، الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه.

ان التاريخ ليشهد بأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعيش كما يعيش أي رجل ، رجل عاقل لبيب وفاضل رشيد ، وأنه طوى تلك السنوات الحساسة من حياته كأحسن ما يكون ، بعيداً عن العبث والترف والضياع والانزلاق إلى الشهوات والانسياق وراء التوافه.

بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما يكون نفوراً من اللهو ، والعبث ، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائماً آثار التفكّر والتأمل ، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أو الكهوف والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في مكة ، يلبث هناك أياماً يتأمل فيها في آثار القدرة الآلهية ،

٢٧٦

وفي عظمة الصنع الالهي ، الرائع البديع.

أحاسيسه ومشاعره الإنسانية في فترة الشَّباب :

ولقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحركت عواطفه واحاسيسه ، فقد رأى مقامراً قد خسر بعيره وبيته ، بل بلغ الأمر به أن استرقهُ منافسُه عشرة أعوام.

وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش « محمَّد » بشدة ، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في « مكة » ذلك اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.

لقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والاوضاع المأساوية ، وكان يتعجب من ضعف عقول قومه ، وانحطاط مداركهم.

ولقد كان بيت « خديجة » قبل زواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين ، وبعد أن تزوج النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُ تغيير من جهة الانفاق والبذل.

ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت تضرب مكة وضواحيها بين الحين والآخر ربما قدمت « حليمة السعدية » مكة لتزور ولدها الرضاعي « محمَّد » فكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرمها ويحترمها ، ويفرش رداءه تحت أقدامها ، ويصغي لكلامها بعناية ولطف ، وفاء لجميلها ، وعرفاناً لعواطفها واُمومتها.

فقد روي أن « حليمة » قدِمت على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة بعد تزوّجه خديجة ، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَم رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « خديجة » فأعطتها بعيراً واربعين شاة ، وانصرفت إلى أهلها موفورة ، مسرورة.

وروي أيضاً انه استأذنت « حليمة » عليه ذات مرة فلما دخلت عليه قال : « اُمّي اُمّي » وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه(١) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٠٣.

٢٧٧

أولادُ خديجة :

لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية ، ويعمّق جُذُورها ، ويمنح الجوَّ العائليّ بهاء ، ورَوْنقاً ، وجمالا خاصاً.

ولقد أنجبت « خديجةُ » لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستة من الأولاد اثنين من الذكور ، أكبرُهما « القاسم » ثم « عبدُ اللّه » اللَّذان كانا يُدعَيان ب‍ : « الطاهر » و « الطيّب » واربعة من الإناث.

كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد : اكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم اُمُّ كلثوم ، ثم فاطمة.

فأما الذكور من أولادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام(١) .

ورغم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربَما انعكست احزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده.

ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده « إبراهيم » من زوجته ماريّة القبطية حداً لم يحدثْ لغيره من أولاده ، إلاّ أنّه رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أن اعرابياً اعترض عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما وجده يبكي على ولده قائلا : أولم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله :

« انما هذا رحمة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم(٢) ».

حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!!

لقد كتبَ الدكتور هيكل في كتابه : « حياة محمَّد » يقول : « لا ريب أن

__________________

١ ـ مناقب ابن شهرآشوب : ج ١ ، ص ١٤٠ ، قرب الأسناد : ٦ و ٧ ، الخصال : ج ٢ ، ص ٣٧ ، بحار الأنوار : ج ٢٢ ، ص ١٥ ـ ١٥٢. وقد ذكر البعض للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من ولدين ، يراجع تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٣٥ ، بحار الأنوار : ج ٢٢ ، ص ١٦٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٢٢ ، ص ١٥١.

٢٧٨

خديجة عند موت كل واحد منهما ( اي ولدي النبي : القاسم وعبد اللّه ) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها »(١) .

إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي ، وليس هو بالتالي إلا حَدْسٌ باطل ، وإدعاء فارغ ليس له من منشأ إلاّ أن أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان ، فلابُدّ ان خديجة كانت على منوالهم!!

في حين ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية شبابه ، وقد اتضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللات والعزى : « اليك عني ، فما تكلَّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه ».

مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنَ امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدةُ حبها وشغفها بزوجها موضعَ شك ، أن تتوجَّه عند موت وَلديها إلى الاصنام التي كانت ابغض الأَشياء عند زوجها ، وخاصة أن حبها لزوجها « محمَّد » وبل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان ومعنوية ، وصفات فاضلة ، وملكات اخلاقية عالية ، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ ، وأنه خاتم المرسلين ، فكيف والحال هذه يمكن ان يحتمل احد انها ـ مع هذا الاعتقاد ـ بثت شكواها وحزنها إلى الاوثان والاصنام؟؟!

دَعِيُّ رسول اللّه : زيد بن حارثة :

عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبنيه له ذلك هو زيد بن حارثة.

وكان « زيدٌ » ممّن سباهُ العرب من حدود الشام ، وباعُوه في أسواق مكة رقيقاً لأحد أقرباء « خديجة » يُدعى « حكيم بن حزام » ، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى « خديجة » في ما بعد؟

__________________

١ ـ حياة محمَّد : ص ١٢٨.

٢٧٩

يقول هيكل في كتابه « حياة محمَّد » في هذا الصدد « لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفس النبي اثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى « خديجة » أن تبتاعه ففعلت ثم اعتقه وتبناه »(١) .

ولكن اكثر المؤرخين يقولون : ان « حكيم بن حزام » قد اشتراه لعمته « خديجة بنت خويلد » ، وقد أحبَّه رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذكائه وطهره ، فوهبته « خديجة » له عند زواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها.

ففتش عنه والدُه « حارثة » حتّى عرف بمكانه في مكة ، فقدمها ، ودخل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه ، فدعاه رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخيّره بين المقام معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرحيل إلى موطنه مع أبيه ، فاختار المقام مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما وجد من خلقه ، وحنانه ، ولطفه العظيم فلما رأى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اخرجه إلى الحجر واعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس ومسمع قائلا : « يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني »(٢) .

بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين :

لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم ، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت أسبابُه وعواملُه ، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة.

فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب وانكروا عقائدهم الباطلة ، وطالما كانوا يتحدثون عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد.

وكان اليهود يتوعدون أهل الاصنام بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون :

__________________

١ ـ حياة محمَّد : ص ١٢٨.

٢ ـ الاصابة : ج ١ ، ص ٥٤٥ و ٤٥٦ ، اُسد الغابة : ج ٢ ، ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694