سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358134 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أنحاء العالم الإسلامي بإحضار كبار العلماء من المتمرّسين في مختلف أنواع العلوم بالحضور إلى خراسان ليسألوا الإمام عن أعقد المسائل العلمية، ولمّا حضروا عنده عرض عليهم الأمر، ووعد بالثراء العريض كل مَن يسأل الإمامعليه‌السلام سؤالاً يعجز عن إجابته، والسبب في ذلك - فيما نحسب - يعود إلى ما يلي:

أوّلاً: إنّ المأمون أراد أن ينسف عقيدة الشيعة ويقضي على جميع معالمها فيما إذا عجز الإمام الرضاعليه‌السلام فإنّه يتخذ من ذلك وسيلة لنقض ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع أنواع العلوم، ومن الطبيعي أنّ ذلك يؤدّي إلى زعزعة كيان التشيّع، وبطلان عقيدتهم في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً: إنّ الإمام لو عجز عن أجوبة المسائل التي يقدمها العلماء له فإنّ المأمون يكون في سعة من عزله عن ولاية العهد بعد أن استنفذت أغراضه السياسية منها، فقد أظهر للناس في بداية الأمر أنّه إنّما رشّح الإمام لهذا المنصب الخطير لأنّه أعلم الأمّة، ولكن لما ظهر له خلاف ذلك قام بعزله، وفي نفس الوقت تقوم وسائل إعلامه بإذاعة ذلك، والحط من شأن الإمام، وفي ذلك استجابة لعواطف الأسرة العباسية التي غاظها ترشيح المأمون للإمام لولاية العهد.

فعمدت إلى عزله، ومبايعة المغني إبراهيم - كما سنتحدث عن ذلك - وعلى إي حال فقد قام العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقاً في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرّس فيها، ويقول الرواة: إنّه سُئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مفرقة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية، وهي مليئة بالإعجاب والإكبار بمواهب الإمام وعبقرياته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الإمام من طاقات هائلة من العلم والفضل كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته، ممّا اضطر المأمون إلى حجب الإمام عن العلماء خوفاً أن يفتتنوا له ولم يذكر الرواة إلا كوكبة يسيرة منها، نعرض لها ولبعض ما أثر عنه هذا الموضوع، وفيما يلي ذلك:

1 - أسئلة عمران الصابئ:

وكان عمران الصابئ من كبار فلاسفة عصر الإمامعليه‌السلام كما كان الزعيم الروحي لطائفة الصابئة، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام، فاختار له أعمق المسائل الفلسفية وأكثرها تعقيداً وغموضاً. وقد شرحها وعلّق عليها المحقّق الشيخ

١٠١

محمد تقي الجعفري، قال: وقد اشتمل هذا الاحتجاج على أهم المسائل الإلهية وأغمضها، وهي على إطلاقها عويصات في الحكمة المتعالية، قد أتعبت أفكار الباحثين الناظرين في ذلك الفن، ولم يأت هؤلاء الأساطين بأجوبة كافية لتلك المسائل بل تعقبها أسئلة أخرى ربّما تكون أغمض من نفس الأسئلة، وقد وقعت تلك الغوامض موارد لأسئلة عمران في هذه الرواية، وأجاب عنها الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ثامن حجج الله على عباده وأُمنائه في أرضه، وما بيّنه الإمام في هذا الاحتجاج مناهج واضحة لم يطمسها غبار الحجب المادية التي تثيرها العقول المحدودة في معقل المحسوسات المظلمة، هكذا ينكشف عند المتمسّكين بأذيال أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي حقائق ضل في سبيل الوصول إليها الأفكار الناقصة.

( ونعرض للنص الكامل من أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها حسبما ذكره الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) مع مقتطفات من تعليقات الشيخ الجعفري عليها... لقد قدم الوفد الذي كان مع عمران جملة من المسائل، وبعدما أجاب الإمامعليه‌السلام عن أسئلة الوفد الذي هو من كبار علماء النصارى، واليهود والصابئة، قال لهم: ( يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام، وأراد أن يسأل، فليسأل غير محتشم... )

فانبرى إليه عمران الصابئ، وكان متطلّعاً بصيراً في علم الكلام فخاطب الإمام بأدب وإكبار قائلا: ( يا عالم الناس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك، لم أقدم عليك بالمسائل، فلقد دخلت الكوفة والبصرة، والشام، والجزيرة ولقيت المتكلّمين، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً - يعني أنّ الله تعالى واحد لا ثاني له - ليس غيره قائماً بوحدانيته أفتأذن لي أن أسألك... )

عرض الصابئ إلى عمق مسألته، وأنّه لم يهتد لحلها علماء الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ويطلب من الإمامعليه‌السلام حلها، فقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: ( إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو... ).

( أنا هو )

١٠٢

سل يا عمران، وعليك بالنصفة، وإيّاك والخطل(1) والجور... ).

وأطرق الصابئ بوجهه إلى الأرض، وقال بنبرات تقطر أدباً وإجلالاً للإمام: ( والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلق به فلا أجوزه... )

لقد أعرب الصابئ عن نواياه الحسنة وأنّه يريد الحقيقة، والوصول إلى الواقع، ولا صلة له بغير ذلك، فقالعليه‌السلام : ( سل عمّا بدا لك... ).

وكان المجلس مكتظاً بالعلماء والقادة، وفي طليعتهم المأمون فانضم بعضهم إلى بعض، وانقطعوا عن الكلام ليسمعوا أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها، وتقدّم الصابئ بأسئلته.

س1: ( أخبرني عن الكائن الأوّل، وعمّا خلق... ) أمّا المسؤول عنه في هذه الكلمات فهو الشيء الأوّل والمادة الأُولى التي خلق الله تعالى الأشياء منها، وليس المسؤول عنه وجود الله المبدع العظيم فإنّه من الأمور الواضحة التي لا يشك فيها من يملك وعيه وإرادته، فإنّ جميع ما في الكون تدلّل على وجود خالقها فإنّه من المستحيل أن يوجد المعلول من دون علّته... ولنستمع إلى جواب الإمامعليه‌السلام عن هذه المسألة.

ج 1: ( أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائنا، بلا حدود، ولا أعراض، ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة، لا في شيء أقامه، ولا في شيء حده، ولا على شيء حذاه، ومثله له، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة، وغير صفوة، واختلافاً وائتلافاً، وألواناً وذوقاً وطعماً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به ولا رأي لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً... ).

وحكى هذا المقطع من جواب الإمامعليه‌السلام ما يلي:

أوّلاً: إنّ الله تعالى واحد لا شيء معه، وهو مجرّد من الحدود والأعراض التي هي من صفات الممكن، فهو كائن واحد، ما زال ولا يزال، وليست وحدته عددية أو نوعية أو جنسية، وإنّما بمعنى عدم ارتباطه بأي شيء مادي أو غير مادي، فهو بمرتبة من الكمال لا يشابهه أي شيء من الممكنات التي نسبتها إليه نسبة الصانع إلى المصنوع، فتبارك الله.

ثانياً: إنّ النظرة البدوية في الأشياء أنّ كل صورة لا بد لها من مادة تقوم وتحل

___________________________

(1) الخطل: المنطق الفاسد.

١٠٣

بها، ولكن هذا بالنسبة إلى غير الواجب تعالى أمّا هو فإنّه يخلق الأشياء لا من شيء كان، ولا من شيء خلق، وإنّما يقول للشيء كن فيكون، فقد ابتدع خلق الأشياء لا على شيء حذاه، ومثله له، فهو القوّة الكبرى المبدعة لخلق الأشياء لا لحاجة منه إليها، فهو المصدر الوحيد للفيض على جميع الكائنات.

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( تعقل هذا يا عمران...؟ ).

( نعم والله يا سيدي... ).

( اعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلاّ مَن يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى؛ ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة ولكن تقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض، وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل... ).

وهذا الكلام متمّم لما قبله من أنّ الله تعالى خلق الخلق في غنى عنهم فهم المحتاجون إلى فيضه ورحمته وعطائه، فهو الجواد المطلق الذي بسط الرحمة والإحسان على جميع الموجودات والكائنات، وكان من فضله أنّه فضّل بعض مخلوقاته على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل.

س 2: ( يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه..؟ ).

وهذا السؤال عميق للغاية، وتوضيحه - حسبما ذكره الشيخ الجعفري - أن تحصل شيء وتحققه في الانكشاف العلمي كواقع ذلك الشيء ينحل إلى هوية نفسه، وطارديته لغيره، وبذلك يكون محدوداً، فإنّ الحجر ما لم يضف إلى هويته عدم جميع أضداده لا يتحصّل تحصلاً علمياً... فإنّ النفس المعلومة ما لم يلاحظ طرد جميع ما سواها عنها لا تكون معلومة ومحصلة عند العالم وكأنّ هذا هو الموجب لسؤال عمران عن كونه تعالى معلوماً عند نفسه، فحينئذٍ لو أجاب الإمام بثبوته لاستشكل عمران هل كان تحصيل نفسه عند نفسه ملازماً لطرد غيره من المعقولات أم لا؟.

ج 2: قالعليه‌السلام : ( إنّما يكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه، وليكن الشيء نفسه، بما نفى عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه، فتدعوه الحاجة إلى

١٠٤

نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد ما علم منها... والتفت الإمام إلى عمران فقال له: ( أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم والله يا سيدي... ).

وحاصل ما أجاب به الإمامعليه‌السلام أنّ ما ذكره الصابئ إنّما يصح فيما لو كان المعلوم مقارناً بعدّة أشياء تخالفه فيلزم حينئذٍ نفي تلك الأشياء لتحصيل المعلوم إلاّ أنّ الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ما لم يكن هناك شيء يقارنه فلا حاجة إلى نفيه ليقرّر إرادته بذلك النفي.

س 3: أخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ضمير؟

أراد الصابئ بهذا السؤال إلزام الإمام بالقول بالتركيب في ذاته تعالى، من جهة أنّه ذو ضمير.

ج 3: أرأيت إذا علم بضمير هل يجد بداً من أن يجعل لذلك الضمير حداً تنتهي إليه المعرفة؟ أراد الإمام أنّ ذلك الضمير لا بد أن يعرف حقيقته وماهيته، وقد وجّه الإمام إليه السؤال التالي: ( فما ذلك الضمير؟... ).

فانقطع الصابئ عن الكلام ولم يستطع أن يقول شيئاً، فقد سد الإمام عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات ما يذهب إليه، والتفت الإمام إليه قائلاً: ( لا بأس إن سألتك عن الضمير نفسه فتعرفه بضمير آخر؟ فإن قلت: نعم، أفسدت عليك قولك... ).

وأقام الإمام الحجّة الكاملة والبرهان القاطع على بطلان ما التزم به الصابئ من أنّه تعالى يعلم بواسطة الضمير، وعلى هذا فلا بد من ضمير آخر يقع به الإدراك لذاته تعالى، وهذا الضمير الآخر يتوقّف على ضمير غيره، وهكذا فيلزم التسلسل، وهو ما لا نهاية له، وإن توقف الضمير الثاني على الضمير الأول فيلزم منه الدور والأمران ممّا أجمع على فسادهما، لترتب الأمور الفاسدة عليها حسبما ذكره الفلاسفة والمنطقيون وتمم الإمامعليه‌السلام حجته وبرهانه بقوله: ( يا عمران أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له: أكثر من فعل وعمل وصنع، وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزية كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم، فاعقل ذلك، وابن عليه ما علمت صواباً... ).

١٠٥

أراد لإمامعليه‌السلام أنّ صدور الأفعال والأعمال المختلفة من الله تعالى ليست على غرار غيره من الممكنات التي تحتاج إلى العلل والأسباب كالعقل، وغيره من سائر الجوارح الظاهرية، فإنّه تعالى يستحيل عليه ذلك.

س 4: ( يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟... ).

واستفسر عمران عن حدود المخلوقات التي تميز بعضها عن بعض فأجابه الإمام:

ج 4: ( قد سألت فاعلم أنّ حدود خلقه على ستة أنواع: ملموس، وموزون، ومنظور إليه، وما لا ذوق له، وهو الروح، ومنها منظور إليه، وليس له وزن، ولا لمس، ولا حس، ولا لون، ولا ذوق، والتقدير والأعراض، والصور، والطول، والعرض، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها، وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها، وتنقصها، فأمّا الأعمال والحركات فإنّها تنطلق؛ لأنّه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة، وبقي الأثر، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره... ).

وحفل جواب الإمامعليه‌السلام بذكر الخواص والصفات التي تتميّز بها الأشياء سواء أكانت من الكائنات الحيّة أم من غيرها.

س 5: يا سيدي: ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره، ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق... ).

ومعنى هذا السؤال أنّ الحقائق الطبيعية، التي أوجدها الله تعالى، أنّها توجب تغير الخالق العظيم بتغييرها، وهذا إنّما يلزم على القول باتحادها معه تعالى ذاتاً، وهذا مستحيل.

ج 5: ( قديم لم يتغيّر عزّ وجل بخلقه الخلق، ولكن الخلق يتغيّر، بتغييره... ).

وحاصل جواب الإمامعليه‌السلام أنّ الخالق العظيم لما كان هو الصانع والموجد للأشياء، وهو قديم فلا يلزم منه التغيير بتغيير الممكنات والكائنات.

س 6: ( يا سيدي فبأي شيء عرفناه؟... ).

ج 6: ( بغيره... إنّ جميع ما في الكون ممّا يرى، وممّا لا يرى يدلل على وجود الخالق العظيم،

١٠٦

لقد عرفناه بمخلوقاته، وآمنا به بما نشاهده من بدائع صنعته، وقد استبان بصورة واضحة لا غموض فيها في هذه العصور التي غزا الإنسان فيها الفضاء الخارجي، فقد ظهر للبشرية عظيم صنعته تعالى بما أودعه في هذا الفضاء من الكواكب التي لا تحصى ولا تعد، وكلّها تسير بانتظام، ودقّة، ولو اختلفت في مسيرها لحظة لتصادمت، وتلاشت، ولم يبق لها اثر، فسبحان الله المبدع الحكيم.

س 7: أي شيء غيره؟

ج 7: ( مشيئته، واسمه وصفته، وما أشبه ذلك، وكل ذلك محدث، مخلوق، مدبّر... ).

لقد عرفنا الله بمشيئته واسمه وصفاته التي دلّت عليه سبحانه، ففي دعاء الصباح: ( يا مَن دلّ على ذاته بذاته ).

وكل ما في الكون من موجودات تستند إليه استناد المصنوع إلى الصناع.

س 8: يا سيدي أي شيء هو؟

ج 8: ( هو نور، بمعنى أنّه هادٍ خلقه من أهل السماء، وأهل الأرض، وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إيّاه... ).

لقد أراد عمران بسؤاله معرفة حقيقة الله تعالى، متوهّماً أنّه تعالى كسائر الممكنات والموجودات، ولمّا كان ذلك مستحيلاً، إذ كيف يحيط الإنسان الذي لا يعرف ذاته وما فيها من الأجهزة الدقيقة، كيف يعرف حقيقة الخالق العظيم المصور والمبدع للأكوان، وقد أجاب الإمامعليه‌السلام أنّه يعرف بأوصافه الظاهرية من هدايته لخلقه وغير ذلك من الأدلة الصريحة الواضحة التي تنادي بوجود خالقها العظيم.

س 9: يا سيدي: أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق، ثم نطق...

ج 9: ( لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج: هو ساكت لا ينطق، ولا يقال: إنّ السراج ليضيء، فما يريد أن يفعل بنا لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه، ولا كون، وإنّما هو ليس شيء غيره، فلمّا استضاء لنا، قلنا: قد أضاء لنا، حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك... ).

ومعنى جواب الإمامعليه‌السلام أنّ السكوت والنطق إنّما يعرضان موضوع قابل لهما، توارد العدم والملكة وحيث إنّ نطق الله تعالى ليس على غرار ما يتصف به الناطقون من الممكنات، فيصح عليه النطق، كما يصح عليه السكوت وقد ذهبت

١٠٧

الشيعة إلى أنّ التكلّم من صفات الأفعال، لا يقوم بذاته تعالى قوام الأوصاف الذاتية، فإنّه تعالى هو الذي خلق النطق والكلام إذا أراده، وقد مثّل الإمامعليه‌السلام لذلك بالسراج فإنّه لا يقال له إنّه ساكت لا ينطق، كما أنّ إسناد الإضافة إلى السراج ليس اختياريا له، هذه بعض الاحتمالات في تفسير كلام الإمامعليه‌السلام .

س 10: ( يا سيدي: فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق... ).

ج 10: ( يا عمران في قولك إنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه، حتى يصيب الذات منه ما يغيره، هل تجد النار تغيرها تغير نفسها، وهل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره؟... ).

إنّ هذا السؤال من عمران قد تقدّم، وقد أجابه الإمامعليه‌السلام وقد زادهعليه‌السلام توضيحاً، فقال له إنّ الكائن لا يتغيّر بوجه من الوجوه، فأفعال النفس - مثلاً - التي تصدر منها لا توجب زيادة فيها ولا نقصاناً، وهناك مثال آخر وهو البصر، فإن صدر الرؤية منه لا توجب زيادة فيه ولا نقصانا.

س 11: ( ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق، أم الخلق فيه؟... )

ج 11: ( أجل هو يا عمران عن ذلك، ليس هو في الخلق، ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك، وسأعلمك ما تعرفه، ولا قوّة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها، أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران...؟ ).

لقد أحال الإمامعليه‌السلام حلول الله تعالى في خلقه، وحلولهم فيه، ومثّل لذلك بالصورة التي تنعكس في المرآة فإنّها لا تحل فيها، وكذلك المرآة لا تحل في الصورة، وإنّما النور هو الذي أوجب رؤية الصورة في المرآة، وهو غير حال في شيء منهما، يقول ابن الفارض:

بوحدته دامت لها كل كثرة

فصحت وقد آنت لها كل علة

فقد صار عين الكل فردا لذاته

وإن دخلت أفراده تحت عدة

نظرت فلم أبصر سوى محض وحدة

بغير شريك فد تغطّت بكثرة

وهنا بحوث فلسفية عميقة أعرضنا عن ذكرها إيثاراً للإيجاز.

س 12: ( بضوء بيني وبينها... ).

١٠٨

وهذا السؤال مرتبط بما قبله، وقد أوضحناه.

ج 12: هل ترى من ذلك الضوء أكثر ممّا تراه في عينك؟

عمران: نعم.

الإمام: فأرناه.

وسكت عمران، ولم يدر ما يقول، فقد سدّ الإمام عليه كل نافذة يسلك منها، وواصل الإمام حديثه قائلاً: ( فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك، ودلّ المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى ).

تأجيل المناظرة:

وحضر وقت الصلاة، ولم يجد الإمام بدّاً من تأجيل المناظرة فالتفت إلى المأمون، فقال له: الصلاة حضرت، وخاف عمران من عدم استئناف الحوار بينه وبين الإمام، فقال له: ( يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي، فقد رقّ قلبي... ).

فأوعده الإمامعليه‌السلام بالعودة إلى مناظرته، ونهض الإمام فأدّى فريضة الصلاة.

استئناف المناظرة:

وعادت الجلسة، وقد حضرها المأمون، وكبار العلماء والقادة، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( سل يا عمران... ).

س 13: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الله عزّ وجل، هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف؟... ).

ج 13: إنّ الله المبدأ، الواحد الكائن الأول، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه، لا معلوماً - يعني بحقيقته - ولا مجهولاً، ولا محكماً، ولا متشابهاً، ولا مذكوراً، ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون، ولا بشيء قام، ولا إلى شيء يقوم ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل لخلق(1) إذ لا شيء غيره، وما أوقعت عليه من الكل

____________________

(1) في نسخة قبل خلقه الخلق.

١٠٩

فهي صفات محدثة، وترجمة يفهم بها مَن فهم. واعلم أنّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه ومشيئته وإرادته التي جعلها أصلاً لكل شيء، ودليلاً على كل شيء مدرك، وفاصلاً لكل مشكل، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها، تتناهى ولا وجود لها؛ لأنّها مبدعة بالإبداع. والنور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض، والحروف هي المفعول التي عليها مدار الكلام، والعبادات كلّها من الله عزّ وجل علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا تدل على لغات السريانية والعبرانية، ومنها خمسة أحرف متحرفة في ساير اللغات من العجم والأقاليم، واللغات كلها، وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً، فأمّا الخمسة المختلفة ( فيتجنح ) لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثم جعل الحروف بعد إحصائها، وأحكام عدتها فعلامته كقوله عزّ وجل:( كن فيكون ) وكن منه صنع، وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عزّ وجلّ الإبداع لا بوزن له، ولا حركة، ولا سمع، ولا لون، ولا حس، والخلق الثاني الحروف، لا وزن لها، ولا لون، وهي مسموعة موصوفة، غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوساً، ملموساً، ذا ذوق منظور إليه والله تبارك وتعالى سابقاً للحروف، والحروف لا تدل على غير نفسها. وبهر المأمون، ولم يفهم أكثر محتويات هذه الكلمات العميقة التي تحتاج إلى وقت طويل لبيانها، وقال للإمام: ( كيف لا تدل - أي الحروف - على غير أنفسها؟... ). فأجابه الإمام موضحاً له الأمر قائلاً:

( إنّ الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألف منها أحرفاً أربعة أو خمسة، أو ستة، أو أكثر من ذلك، أو أقل لم يؤلّفها بغير معنى ولم يكن إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً... ).

س 14: كيف لنا بمعرفة ذلك؟...

ج 14: أمّا المعرفة فوجه ذلك وبيانه: إنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير

١١٠

نفسها ذكرتها فرداً، فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، وإذا ألفتها وجعلت منها أحرفاً، وجعلتها اسماً وصفة لمعنى، ما طلبت، ووجه ما عنيت، كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟

( نعم ).

وواصل الإمام حديثه في بيان معاني الحروف عند تركيبها قائلاً: ( واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف، ولا حد لغير محدود، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال، والوجود ولا مثال على الإحاطة، كما تدل الحدود التي هي التربيع والتثليث، والتسديس؛ لأنّ الله عزّ وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد، بالطول والعرض، والقلّة والكثرة، واللون والوزن، وما أشبه ذلك، وليس يحل بالله، وتقدس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا. ولكن يدل على الله عزّ وجل بصفاته، ويدرك بأسمائه، ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن، ولا لمس كف، ولا إحاطة بقلب، ولو كانت صفاته جلّ ثناؤه لا تدل عليه، وأسماؤه لا تدعو إليه، والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا أنّ ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله لأنّ صفاته وأسماءه غيره... أفهمت يا عمران؟ )

( نعم يا سيدي زدني... )

وواصل الإمام حديثه الممتع، وقد استولى على مَن حضر من العلماء والقادة، قائلاً: ( إيّاك وقول الجهّال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب في الثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عزّ وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكن القوم تاهوا وعموا، وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عزّ وجل:( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (1) .

يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 72.

١١١

يكون إلاّ بما ها هنا، ومَن أخذ علم ذلك برأيه، وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً؛ لأنّ الله عزّ وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون... ).

س 15: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الإبداع أخلق هو أم غير خلق؟... ).

علّق الشيخ الجعفري على هذه المسألة بقوله: إنّ هذه المسألة أيضاً ممّا أعيى الأذهان والعقول البشرية؛ لأنّها التي أوجبت افتراق المسالك والفرق المختلفة فمنهم مَن قال: باستحالة الإبداع مطلقاً أكان من الواجب، أم من الممكن، ومن قبيل المواد والصور أو العقول والنفوس وغيرها، ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم من حصر إمكان الإبداع على الله تعالى على نحو العموم أي إنّه تعالى قادر على أن يبدع أي موجود شاء دون مادة سابقة له، وقع التغير عليه، وقد قالوا: إنّه مقتضى قدرته المطلقة وقابلية الموضوع ومنهم من ذهب مذاهب أخرى(1) .

ج 15: بل خلق ساكن، لا يدرك بالسكون، وإنّما صار خلقاً لأنّه شيء محدث، والله تعالى الذي أحدثه فصار خلقاً له، وإنّما هو الله عزّ وجل خلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما، فيما خلق الله عزّ وجل لم يعد أن يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحركاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عزّ وجل، واعلم أنّ كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس، وكل حاسة تدل عل ما جعل الله عزّ وجل لها في إدراكها، والفهم من القلب بجميع ذلك كله، واعلم أنّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً مقدراً بتحديد وتقدير، وكان الذي خلق خلقين اثنين: التقدير والمقدر، وليس في كل واحد منهما لون ولا وزن، ولا ذوق، فجعل أحدهما يدرك بالآخر وجعلهما مدركين بنفسهما، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه واثبات وجوده فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه، ولا يعضده، ولا يكنه، والخلق ممّا يمسك بعضه بعضاً بإذن الله تعالى ومشيئته، وإنّما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم، فازدادوا من الحق بعداً، ولو وصفوا الله عزّ وجل بصفاته،

____________________

(1) تحف العقول (ص 527).

١١٢

ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين، ولما اختلفوا، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه، ارتبكوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم... )

س 16: ( أشهد أنّه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة... ).

( سل عمّا أردت... ).

( أسألك عن الحكيم في أي شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحوّل من شيء إلى شيء؟ أو به حاجة إلى شيء...؟ ).

ج 16: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فإنّه مَن أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم، وليس يفهم المتفاوت عقله، العازب حلمه، ولا معجز عن فهمه أولو العقل المنصفون، أمّا أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجة إلى ذلك، ولكنّه عزّ وجل لم يخلق شيئاً لحاجة ولم يزل ثابتا لا في شيء، ولا على شيء إلاّ أنّ الخلق يمسك بعضه بعضاً، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه،

والله جلّ وتقدّس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه، ولا يؤوده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك؟ إلاّ الله عزّ وجل، ومن أطلعه عليه من رسله، وأهل سره، والمستحفظين لأمره وخزانه، القائمين بشريعته، وإنّما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنّما يقول له( كن فيكون ) بمشيئته وإرادته وليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد منه من شيء... أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم يا سيدي... ).

إنّ الإنسان مهما أوتي من علم فهو عاجز عن معرفة نفسه وما فيها من الأجهزة الدقيقة المذهلة، فكيف ليعرف أو يحيط علماً بالخالق العظيم، مبدع الأكوان، وواهب الحياة، يقول ابن أبي الحديد:

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر عليلا

فكري كلّما دان شبراً منك راح ميلا

أنت حيّرت ذوي اللب، وبلبلت العقولا

إنّ فكر الإنسان محدود فكيف يعرف حقيقة الله تعالى، نعم عرفناه وآمنّا به بمخلوقاته، فكل ذرّة في هذا الوجود تنادي بوجود الخالق العظيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض.

١١٣

إسلام الصابئ:

ولمّا رأى عمران الصابئ الطاقات الهائلة من العلم التي يتمتع بها الإمامعليه‌السلام ، والتي منها أجوبته الحاسمة من أعمق المسائل الفلسفية التي لا يهتدي لحلّها إلاّ أوصياء الأنبياء الذين منحهم الله العلم وفصل الخطاب، أعلن عمران إسلامه وطفق يقول: ( أشهد أنّ الله تعالى على ما وصفت، ووحدت، وأشهد أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله عبده المبعوث بالهدى، ودين الحق... ). ثم خرّ ساجداً لله تعالى وأسلم، وبهر العلماء والمتكلمون من علوم الإمام، ومواهبه وعبقرياته، وراحوا يحدثون الناس عن فضل الإمام وسعة علومه، وانصرف المأمون وهو غارق بالألم، قد أترعت نفسه بالحقد والحسد للإمام:

خوف محمد على الإمام:

وخاف عمّ الإمام محمد بن جعفر عليه من المأمون، وكان حاضرا في المجلس، ورأى كيف تغلب على عمران الصابئ الذي هو في طليعة فلاسفة العصر، فاستدعى الحسن بن محمد النوفلي، وكان من أصحاب الإمام فقال له: ( يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك - يعني الإمام -؟

لا والله ما ظننت أنّ علي بن موسى الرضا خاض في شيءٍ قط، ولا عرفناه به، إنّه كان يتكلّم بالمدينة، أو يجتمع إليه أصحاب الكلام؟...

( وراح النوفلي يعرفه بعلم الإمام وفضله قائلاً: ( قد كان الحجاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، وربّما كلم مَن يأتيه يحاججه... ).

وراح محمد يبدي مخاوفه من المأمون على ابن أخيه قائلاً: ( إنّي أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّة، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء... ).

وكان النوفلي يظن خيراً بالمأمون، ولا يخاف منه على الامام، فقال لمحمد: ) ما أراد الرجل - يعني المأمون - إلاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه؟... ).

ولم يقنع محمد بكلام النوفلي، فقد كان يظن السوء بالمأمون وراح يقول له: ( قل له: إنّ عمّك قد كره هذا الباب، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء

١١٤

لخصال شتّى... ).

وكان عمّ الإمام مصيباً في حدسه، عالماً بما تكنّه الأسرة العباسية من العداء والحقد لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أثارت أسئلة الصابئ وإسلامه على يد الإمام أحقاد المأمون فقدم اغتيال الإمام كما سنوضّح ذلك في غضون هذا الكتاب.

ونقل النوفلي كلمات محمد إلى الإمامعليه‌السلام فشكره على ذلك، ودعا له بالخير.

تكريم الإمام لعمران:

وكسب الإمامعليه‌السلام في مناظرته إسلام عمران الذي هو في طليعة علماء عصره، فقد بعث خلفه، فلمّا مثل عنده رحّب به وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا له بكسوة فخلعها عليه وأعطاه عشرة آلاف درهم، ففرح عمران بذلك وأخذ يدعو للإمام ويشكره على ذلك قائلاً: ( جُعلت فداك حكيت فعل جدّك أمير المؤمنين عليه السلام ).

وجعل عمران يتردد على الإمام ويكتسب من فيض علومه وصار بعد ذلك فيما يقول المؤرّخون داعية من دعاة الإسلام، وجعل المتكلمون من أصحاب المقالات والبدع يفدون عليه، ويسألونه عن مهام المسائل وهو يجيبهم عنها، حتى اجتنبوه، وأوصله المأمون بعشرة آلاف درهم، كما أعطاه الفضل بن سهل مالاً، وولاه الإمام على صدقات بلخ فأصاب الرغائب(1) .

أسئلة سليمان المروزي:

أمّا سليمان المروزي فكان متضلّعاً بالفلسفة، ومتمرسا في البحوث الكلامية وكان يعد في طليعة علماء خراسان، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام الرضاعليه‌السلام وقد قابله بحفاوة وتكريم، وقال له: إنّ ابن عمي علي بن موسى الرضا، قدم علي من الحجاز، وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته... ).

وخاف سليمان من ذلك، فقد ظن أنّ الإمام سوف يعجز عن أجوبة مسائله فيحقد عليه العلويون، وراح يعتذر من المأمون قائلاً:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 168 - 178، وذكر الطبرسي ما يقرب من ذلك في الاحتجاج، والمجلسي في البحار، والحسن بن شعبة في تحف العقول.

١١٥

( إنّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلّمني، ولا يجوز الانتقاص عليه... ).

وتعهّد له المأمون، ووعده أن لا يصيبه أي أذى أو مكروه قائلاً: ( إنّما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلاّ تقطعه عن حجّة واحدة فقط... ).

وهذا الكلام يدلل على سوء ما يضمره المأمون للإمام، وما يكنّه له من الحقد والعداء، واطمأن سليمان، من أي اعتداء عليه، وراح يقول للمأمون: ( حسبك يا أمير المؤمنين، اجمع بيني وبينه، وخلّني والذم... ).

ووجّه المأمون في الوقت رسوله إلى الإمام يطلب منه الحضور لمناظرة سليمان فأجابه الإمام إلى ذلك، وحضر معه وفد من أعلام أصحابه ضم عمران الصابئ الذي أسلم على يده وجرى حديث بينه وبين سليمان حول البداء، فأنكره سليمان، وأثبته عمران، وطلب سليمان رأي الإمام فيه فأقره، واستدل عليه بآيات من الذكر الحكيم، والتفت المأمون إلى سليمان فقال له: سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف، ووجه سليمان الأسئلة التالية للإمامعليه‌السلام :

س 1: ( ما تقول فيمَن جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حي، وسميع، وبصير وقدير؟... ).

ج 1: إنّما تقول: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه سميع بصير، فهذا دليل على أنّهما - أي الإرادة والمشيئة - ليستا مثل سميع، ولا بصير، ولا قدير.

وانبرى سليمان قائلاً: ( فإنّه لم يزل مريداً... ).

ورد عليه الإمام: ( يا سليمان فإرادته غيره؟... ).

( نعم... ).

وذهب سليمان إلى التعدد مع أنّ الله تعالى متحد مع إرادته، وأبطل الإمام شبهته قائلاً: ( قد أثبت معه شيئاً غيره لم يزل؟... ).

( ما أثبت... ).

١١٦

( أهي - أي الإرادة - محدثة؟... ).

( لا ما هي محدثة... ).

وضيق الإمام على سليمان الخناق، وراحت أقواله تتناقض فتارة يقول بقدم الإرادة، وأخرى يقول بحدوثها، فصاح به المأمون، وطلب منه عدم المكابرة، والإنصاف في حديثه قائلاً: ( عليك بالإنصاف، أما ترى من حولك من أهل النظر؟. )

والتفت المأمون إلى الإمام قائلاً: ( كلّمه يا أبا الحسن، فإنّه متكلّم خراسان ).

وسأله الإمام قائلاً: ( أهي محدثة؟... ).

فأنكر سليمان حدوث الإرادة، فردّ عليه الإمام: ( يا سليمان هي محدثة، فإنّ الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً... ).

وانبرى سليمان قائلاً:

( إرادته - أي الله - منه؟ كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه ).

وأبطل الإمام عليه قوله، وقائلاً: ( فأراد نفسه؟... ).

( لا... ).

وأخذ الإمام يفند مقالته قائلاً له: ( فليس المريد مثل السميع والبصير ).

وراح سليمان يتخبّط خبط عشواء فقد ضيّق الإمام عليه، وسد كل نافذة يسلك منها، قائلاً: ( إنّما أراد نفسه، كما سمع نفسه، وأبصر نفسه، وعلم نفسه... ).

وانبرى الإمام فأبطل مقالته، قائلاً له: ( ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً، وأراد أن يكون حياً، أو سميعاً، أو بصيرا أو قديراً؟... ).

ولم يدر سليمان ماذا يقول، فأجاب: ( نعم... ).

١١٧

فقال له الإمام: ( أفبإرادته كان ذلك؟... ).

( نعم... )

وطفق الإمام يبطل مقالته، ويبدي ما فيها من التناقض قائلاً: ( فليس لقولك: أراد أن يكون حياً سميعاً، بصيراً معنى، إذا لم يكن ذلك بإرادته؟... ).

والتبس الأمر على سليمان، وراح يقول: ( بلى قد كان ذلك بإرادته... ). وعجّ المجلس بالضحك، وضحك المأمون والرضاعليه‌السلام من تناقض كلام سليمان، والتفت الإمام إلى الجماعة، وطلب منهم الرفق بسليمان، ثم قال له: ) يا سليمان، فقد حال - أي الله تعالى - عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف الله به... ).

وبان العجز على سليمان، وانقطع الكلام، والتفت الإمام إليه ليقيم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان أسألك عن مسألة...؟ ).

( سل جعلت فداك... ).

( اخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون؟ أو بما لا تفقهون، ولا تعرفون... ).

( بل بما نفقه ونعلم... ).

وأخذ الإمام يقيم الحجّة والبرهان على خطأ ما ذهب إليه سليمان قائلاً: ( فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيء واحد... ).

وطفق سليمان قائلاً: ( جعلت فداك، ليس ذلك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون؟ ).

واندفع الإمام يبطل ما ذهب إليه قائلاً: ( فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف، ولا يعقل... ).

وحار سليمان ولم يطق جواباً أمام هذه الطاقات الهائلة من العلم التي يملكها

١١٨

الإمامعليه‌السلام ، واستأنف الإمام حديثه ليتم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟... ).

وأسرع سليمان قائلاً: ( نعم ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك؟... ).

( نعم... ).

( فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء، إلاّ كان يزيدهم أو يطويه عنهم؟... )

فأجاب سليمان: ( بل يزيدهم... ).

وأبطل الإمام قوله: ( فأراه في قولك: قد زادهم ما لم يكن في علمه، أنّه يكون... ).

وطفق سليمان يقول: ( جعلت فداك فالمريد لا غاية له... ).

ومضى الإمام يفنّد شبه سليمان قائلاً:

( فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما، لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى الله عزّ وجل عن ذلك علواً كبيراً... ).

وراح سليمان يعتذر ويوجه ما قاله: ( إنّما قلت: لا يعلمه، لأنه لا غاية لهذا، لان الله عزّ وجل وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً... ).

وراح الإمامعليه‌السلام يفنّد شبهه وأوصافه قائلاً: ( ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم؛ لأنّه قد يعلم ذلك، ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال الله عزّ وجل في كتابه:( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (1) وقال لأهل الجنّة:( عَطَاءً غَيْرَ

____________________

(1) سورة النساء / آية 56.

١١٩

مجذوذ ) (1) وقال عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (2) فهو عزّ وجل يعلم ذلك لا يقطع عنهم الزيادة... أرأيت ما أكل أهل الجنة، وما شربوا يخلف مكانه؟... ).

( بلى... ).

( أفيكون يقطع ذلك عنهم، وقد أخلف مكانه؟... ).

( لا... ).

ومضى الإمامعليه‌السلام يقرّر ما ذهب إليه قائلاً: ( فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم... ).

وراح سليمان يتمسك بالشبه والأوهام ثم يزيله عنها هذه الحجج البالغة التي أقامها الإمام قائلاً: ( بلى يقطعه عنهم، ولا يزيدهم... ).

وانبرى الإمام فأبطل ذلك بقوله: ( إذا يبيد فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود، وخلاف الكتاب؛ لأنّ الله عزّ وجل يقول:( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (3) .

ويقول عزّ وجل: (عطاء غير مجذوذ) ويقول عزّ وجل:( وما هم عنها بمخرجين ) (4).

ويقول عزّ وجل:( خالدين فيها أبداً ) (5)

ويقول عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) .

ووجم سليمان، وحار في الجواب، وراح يسد عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات شبهة قائلاً له: ( يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة أفعل هي أم غير فعل...؟ ).

( بل هي فعل... ).

ورد الإمام عليه: ( فهي محدثة لأنّ الفعل كله محدث... ). إنّ كل ممكن معلول ومصنوع وحادث إمّا واجب الوجود تعالى فهو عارٍ عن

____________________

(1) سورة هود / آية 108

(2) سورة الواقعة / آية 33.

(3) سورة ق / آية 35.

(4) سورة الحجر / آية 48.

(5) سورة البينة / آية 8.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

والوثن في شخصية رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بتفسير الرجز بالصنم ، والوثن ، ويتضح بطلان هذا الادعاء والاستنباط إذا أمعنا في معاني واستعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز.

ان الرجز استعمل في القرآن الكريم في معان ثلاثة : العذاب ، القذارة ، الصنم.

وقد استعمل الرجز ( بكسر الراء ) في تسع موارد في القرآن الكريم ، وقد اُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد : وهي : البقرة ـ ٥٩ ، والاعراف ـ ١٣٤ ( وجاءت اللفظة فيها مرتين ) و ١٣٥ و ١٦٢ والانفال ـ ١١ وسبأ ـ ٥ والجاثية ـ ١١ والعنكبوت ـ ٣٤.

وجاء الرجز ـ بضمّ الراء ـ مرّة واحدة وهي الآية الّتي نحن بصددها هنا(١) .

وهذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه الذين يزعمون بان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على غير التوحيد قبل البعثة.

واليك بيان هذا الموضوع مفصلاً :

١ ـ ان الرُجز لو كان بمعنى « العذاب » دَلّت الآية على هجر ما يستلزم العذابَ ، فيكون الخطابُ حينئذ مسوقاً من باب التعليم ، ومن باب « اياك أعني واسمعي يا جاره » ، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهيه عما يستلزم العذاب ، وارادة تعليم الاُمة مثل قول اللّه تعالى في خطابه للنبي «فلا تكوننّ ظهيراً للكافرين »(٢) . وقوله تعالى : «لئن أشركْتَ ليَحْبَطنَّ عَملُك »(٣) فكما لا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لا تدل الآية على وجود أرضية التعرض للعذاب في شخصية رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ إن الرُجز لو كان بمعنى ( القذارة ) وهي تنقسم إلى مادية ومعنوية فيحتمل ان يكون المراد بناء على المعنى الأول اشارة إلى ما ورد في الروايات من

____________

١ ـ المدَّثر : ٥.

٢ ـ القصص : ٨٦.

٣ ـ الزمر : ٦٥.

٣٠١

أنّ اباجهل جاء بشيء قذر ، وأمر رجلا من قريش بالقائه على النبيّ ، ففعل ، فأمراللّه نبيه بتطهير ثوبه من الدنس.

ويحتمل ان تكون الآية دعوة إلى اجتناب الصفات الذميمة بناء على ارادة المعنى الثاني الفظة الرُجز فتكون الآية تعليماً للناس على النمط السابق ، فلا تدل على اتصاف النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها.

٣ ـ الرُجز بمعنى الصنم ، لنفترض أن المقصود منه في الآية هو الصنم ، لكن لا بمعنى أنه وضعَ لذاك المعنى ، وإنّما وضعَ اللفظُ لمعنى جامع يعمُّ الصنم والخمر والازلام لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصِف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال تعالى : «إنَّما الخمْرُ والمَيْسرُ وَالأنْصابُ وَالأَزْلامُ رجسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ »(١) .

ولكن يجاب عن هذا أيضاً بأن النبيّ يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن بل كان مشمّراً عن ساعد الجدّ لتحطيم الاصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصحّ أن يخاطَب من هذا شأنه بهجر الاصنام إلا على السبيل الّذي أشرنا إليه وهو توجيه الخطاب إلى النبيّ وإرادة الاُمة به لكون هذا النوع من الخطاب أبلغ في التأثير ، لأنه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به.

الآية الثالثة : عدم علمه بالكتاب والايمان

قوله سبحانه : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إليْكَ رُوْحاً مِنْ أَمْرنا ما كُنْتَ تَدريْ ما الْكِتابُ وَلاَ الإيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدي بِه مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وانَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراط مُستَقيم »(٢) .

زعم جماعة دلالة هذه الآية ـ والعياذ باللّه ـ على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للايمان قبل الايحاء إليه.

لكنَ حياته الشريفة المشرقة بالإيمان ، والتوحيد ، تفنّد تلك المقالة ، فالتاريخ

__________________

١ ـ المائدة : ٩٠.

٢ ـ الشورى : ٥٢.

٣٠٢

يشهد على انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ بداية عمره إلى أن لاقى ربه مؤمناً موحداً وذلك امرٌ لا شك فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد اجمع على ذلك أهلُ السير والتاريخ ، وحتّى أن الاحبار والرهبان كانوا معترفين بانه نبيُّ هذه الاُمة ، وخاتم النبيين ، وكان يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في « مكة » و « يثرب » و « بصرى » و « الشام »(١) وغيرها ، فكيف والحال هذه يمكن ان يكون غافلاً عن الكتاب الّذي ينزل إليه أو يكون مجانباً للإيمان بوجوده سبحانه ، وتوحيده ، والتاريخ المسلَّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار من الآية الحاضرة.

فلابدّ إذن من الإمعان في مفاد الآية كما لابدّ ـ في تفسيرها ـ من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق.

بعث النبيُ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية قومه أوّلا ، وهداية جميع الناس ثانياً ، بالآيات والبيّنات ، ونخصُّ بالذكر منها : القرآن الكريم ( معجزته الكبرى الخالدة ) الّذي بفصاحته أخرسَ فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر ارباب البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم ، وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلاّ اثارة الشكوك والتهم حوله ، وحول ما جاء به ، وعدم المعارضة بمثل القرآن قط.

فتارة قالوا : بانه يعلّمه بشر ، واُخرى بأنه إفكٌ افتراه ، واعانه عليه قوم آخرون وثالثة : بأنه أساطير الاولين ، قد اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة واصيلا ، قال سبحانه رداً على هذه التهم الّتي أشرنا إليها : «قُلْ نزّلَهُ رُوحُ القدُس مِنْ ربّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِميْنَ * وَلَقْدَ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعلِّمُهُ بَشَرٌ لسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إليه أعجَميّ وَهذا لسانٌ عَرَبيّ مُبِينٌ »(٢) .

وقال سبحانه «وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افتراهُ وَأعانَهُ عَلَيْهِ

__________________

١ ـ راجع السيرة النبوية والسيرة الحلبية وبحار الأنوار.

٢ ـ النحل : ١٠٢ و ١٠٣.

٣٠٣

قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤوا ظُلْماً وزُورا. وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّلينَ اكتَتبَهَا فَهِي تُملى عَليْهِ بُكرَةً وَأصيلا. قُلْ أنزَلَهُ الَّذي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّماواتِ وَالاَْرضِ إنه كانَ غَفُوراً رَحيماً »(١) .

والآية المبحوثة بصدد بيان هذا الأمر ، وانه وحي سماويٌ لا افكٌ إفتراه ، ولهذا بدأ كلامه بلفظة : « وَكَذلِكَ أوْحَينا إليكَ » أي كما أنه سبحانه أوحى إلى سائر الانبياء باحدى الطرق الثلاثة الّتي بينها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من امره ، وليس هذا كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية ولاجل رفع النقاب عن مرماها نقدّم اموراً تسلط الضوء على الآية :

الأول : ان المراد من الروح في الآية هو القرآن وسمّي روحاً لانه قوام الحياة الاُخروية ، كما ان الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك امورٌ :

أ ـ ان محور البحث الأصلي في سورة الشورى هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددُها(٥٣) آية تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب ـ الآية الّتي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق الّتي يكلم بها سبحانه انبياءه ويقول : «وَما كانَ لِبَشر أن يكلِّمَهُ اللّه إلاّ وَحْياً أو مِن وَرَاء حِجَاب أو يُرسِلَ رَسُولا فَيُوحيَ بإذْنه ما يَشاء إنَّه عليُّ حكيم »(٢) .

ج ـ انه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة : « وكذلك » أي كما أوحينا إلى من تقدم من الانبياء كذلك أوحينا اليك باحدى تلك الطرق « روحاً من أمرنا » ووجه الاشتراك بينه وبين النبيين هو الوحي المتجلي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر.

كل ذلك يؤيد ان المراد من الروح في الآية المبحوثة هو القرآن الملقى إليه.

نعم وردت في بعض الروايات ان المراد منه هو روح القدس ، ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية ، لان الروح بحكم كونه مفعولا ل‍ « أوحينا » يجب ان

__________________

١ ـ الفرقان : ٤ ـ ٦.

٢ ـ الشورى : ٥١.

٣٠٤

يكون شيئاً قابلا للوحي حتّى يكون موحى ، وروح القدس ليس موحى بل هو الموحي ( بالكسر ) فكيف يمكن أن يكون مفعولا ل‍ « أوحينا » ، ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّت اسنادها.

الثاني : إن هيئة « ما كنتَ » أو « ما كانَ » تُستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه : «وَما كانَ لنَفْس أنْ تَموتَ إلاّ بإذْنِ اللّه »(١) وقال عزَّ اسمه : «ما كانَ المؤمنُونَ لِيَنِفرُوا كافّةً »(٢) .

وعلى ضوء هذا الاصل يكون مفاد قوله « ما كُنتَ تدري ما الكتابُ ولا الايمانُ » أنه لولا الوحيُ ما كان من شأنك أن تدري الكتابُ ولا الإيمان ، فان وقفتَ عليهما فانّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : أن ظاهر الآية هو أن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للعلم بالكتاب ، والدراية بالكتاب ، وانما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله فيجب إمعان النظر في الدراية الّتي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالا والايمان بوجوده وتوحيده سبحانه ، أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب ، والاذعان بها كذلك؟

لا شك انه لا سبيل إلى الأول لأنّ علمه ـ اجمالا ـ بانه ينزل إليه الكتاب ، أو ايمانه بوجود اللّه سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقف على الوحي ، فان الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالا ، وقد سمع منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترات مختلفة : أنه النبيّ الموعود في الكتب السماوية ، وانه خاتم الرسالات والشرائع ، فهل يصحّ أن يقال أن علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول كتاب عليه إجمالا كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ، أو انه كان متقدماً عليه وعلى بعثته ، ومثلُهُ الإيمان باللّه سبحانه ، وتوحيده ، إذ لم يكن الإيمان باللّه امراً

__________________

١ ـ آل عمران : ١٤٥.

٢ ـ التوبة : ١٢٢.

٣٠٥

مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الاحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي اليهم.

فيتعين الاحتمال الثاني وهو أن العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الاصول والتعاليم ثم الايمان والاذعان بتلك التفاصيل كانا متوقفين على نزول الوحي ، ولولاه لما كان هناك علمٌ بها ، ولا ايمان.

وبعبارة اُخرى : إنّ العلم والإيمان بالامور السمعية الّتي لا سبيل للعقل إليها مثل المعارف والاحكام والقصص ومجادلات الانبياء مع المشركين والكفار ، وما نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير ، لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي حتّى قصص الامم السالفة وحكاياتهم لتطرق الوضع والدّس إلى كتب القصّاصين ، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

* * *

تفسير الآية بآية اُخرى :

إن الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلا ، والإيمان ثانياً.

أما الأول : فيقول سبحانه : «تِلْكَ مِنْ انباء الغَيب نُوحيها إليْكَ مَا كُنتَ تَعْلمُها أنْتَ وَلا قومُكَ مِنْ قَبلِ هذا فاصْبِرْ إنَّ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين »(١) فالآية صريحة في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله : « ما كُنتَ تَعْلُمها اَنتَ ولا قومُكَ » وفي تلك الآية بقوله : « ما كُنْتَ تدري مَا الْكِتاب » والفرق هو ان « الكتاب » أعم من « أنباء الغيب » والأول يشتمل على الانباء وغيرها ، وأما « الانباء » فانها مختصة بالقصص ، والكل مشتركان في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

__________________

١ ـ هود : ٤٩.

٣٠٦

واما الثاني فقوله سبحانه : «آمَنَ الرَّسُولُ بما اُنزل إلَيْهِ مِنْ رَبِّه وَالْمُؤمنُونَ كلٌ آمَنَ باللّه وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبه وَرُسُلِهِ لا نفرِّق بَينَ أحد مَن رسلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإليْكَ الْمصيرُ »(١) فقوله : «آمَنَ الرسولُ بِما اُنزِلَ إليهِ » صريحٌ في أنّ متعلّق الإيمانِ الحاصل بعد الوحي ، هو الايمان «بما اُنزل إليه » أعني تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة ، لا الإيمان باللّه وتوحيده وعندئذ يرتفع الابهام في الآية الّتي تمسكت بها المخطئة ومن ينسبون عدم الإيمان باللّه وتوحيده إلى النبي قبل البعثة ، ويتبيّن أن متعلق الإيمان المنفيّ في قوله : « ولا الإيمان » هو « ما اُنزل » لا الايمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل إن هُنا شيئاً واحداً هو : « الايمان بما اُنزل من المعارف والاحكام والانباء » فقد نفيَ عنَه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرةً إلى فترة ما قبل البعثة ، واثبت له في الآية الاُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

قال الطبرسي : « ما كُنتَ تدري ما الكتابُ » ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الايمان(٢) .

وقال الفخر الرازي : المراد من الايمان هو الاقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به ، وانه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى بل انه كان عارفاً باللّه ثم قال : صفات اللّه تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما لا تمكن معرفته الا بالدلائل السمعية ، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة(٣) .

وقال العلامة الطباطبائي في الميزان : ان الآية مسوقة لبيان ان ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي يدعو إليه انما هو من عند اللّه سبحانه لا من قِبَل نفسه ، وإنما اُوتي ما اُوتي من ذلك بالوحي بعد النبوة ، فالمراد بعدم درايته بالكتاب هو عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية ، فان ذلك هو الّذي اُوتي العلمُ به بعد النبوة والوحي ، والمراد من عدم درايته الإيمان عدم تلبسه

__________________

١ ـ البقرة : ٢٨٥.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٨٨ و ٨٩.

٣ ـ مفاتيح الغيب : ج ٧ ، ص ٤١٠.

٣٠٧

بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة ، وقد سمّي العمل ايماناً في قوله تعالى : «وَمَا كانَ اللّه لِيُضيعَ إيمانَكُمْ »(١) والمراد الصلوات الّتي اتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ وتحويل القبلة ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح علمُ الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبساً به ما انت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي وهذا لا ينافي كونه مؤمناً باللّه ، موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فان الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملا ، لا نفي العلم والالتزام الاجماليين بالايمان باللّه ، والخضوع للحق(٢) .

الآية الرابعة : عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه

قال تعالى : «وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أن يُلْقى إلَيْكَ الْكِتابُ إلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكافِرين »(٣) .

استدلّوا بأن ظاهر الآية نفيُ علمه بالقاء الكتاب إليه ، فلم يكن النبيُ راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : ان توضيح مفاد هذه الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية اعني قوله : « الاّ رحمة مِنْ ربّك » حتّى يتضح المقصود ، وقد ذكر المفسرون في توضيحها وجوها ثلاثة نأتي بها :

١ ـ إن « إلاّ » استدراكية ، وليست استثنائية فهي بمعنى « لكنَّ » لاستدراك مابقي من المقصود ، وحاصل معنى الآية : « ما كنت يا محمَّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلاّ أن ربّك رحمك ، وانعم به عليك واراد بك الخير » نظير قوله سبحانه : «وما كنْتَ بِجانِب الطُّور إذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمةً مِنْ رَبِّك »(٤) اي ولكن رحمة من ربك خصّصك به وهذا هو المنقول

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ الميزان : ج ١٨ ص ٨٠.

٣ ـ القصص : ٨٦.

٤ ـ القصص : ٤٦.

٣٠٨

عن الفراء(١) .

وعلى هذا لم يكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اي رجاء لالقاء الكتاب إليه ، وانما فاجأه الالقاء لأجل رحمة ربه.

ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلا لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

٢ ـ ان يكون « إلاّ » للاستثناء لا للاستدراك وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام ، وهو كما في الكشاف : « وما القى اليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك »(٢) اي لم يكن لالقائه عليك وجهٌ إلاّ رحمة ربك ، وعلى هذا الوجه ايضاً لا يُعلَم انه كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجاء لالقاء الكتاب عليه وان كان الاستثناء متصلا.

وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه ، محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر وانما يصار إليه إذا لم يصحّ ارجاعُه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيَّن في الوجه الثالث.

٣ ـ أن يكون « إلاّ » استثناء من الجملة السابقة عليه اعني قوله : « وما كنت ترجو » ويكون معناه : ما كنت ترجو القاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة : ما كنت ترجو إلاّ على هذا(٣) .

فيكون هنا رجاء منفياً ، ورجاء مثبتاً ، أما الأول فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية ، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً.

واما رجاؤه به عن طريق الرحمة الالهية فكان موجوداً فنفيُ أحد الرجائين لا يستلزم نفي الآخر ، بل المنفيّ هو الأول ، والثابت هو الثاني وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية.

وقد سبق منّا أن جملة « ما كنت » وما اشبهه تستَعمل في نفي الامكان ،

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ٤ ، ص ٢٩٦ ، مفاتيح الغيب : ج ٦ ، ص ٤٠٨.

٢ ـ الكشاف : ج ٢ ، ص ٤٨٧ و ٤٨٨.

٣ ـ مفاتيح الغيب : ج ٦ ، ص ٤٩٨.

٣٠٩

والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة : لم تكن راجياً لأن يلقى اليك الكتاب ، وتكون طرفاً للوحي ، والخطاب الاّ من جهة خاصة ، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته ، فيختارك طرفا لوحيه ، ومخاطباً لكلامه ، فالنبي بما هو انسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحيُ ، ويلقى إليه الكتاب ، وبما انه صار مشمولا لرحمته وعنايته ، وصار انساناً مثالياً ، قابلا لتحمل المسؤولية ، وتربية الاُمة ، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والاثبات غير واردين على موضع واحد.

وبهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماً بالفرائض العقلية والشرعية مجتنباً عن المحرمات عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالا وراجياً لنزوله إليه إلى أن بعث لانقاذ البشرية عن الجهل ، وسوقها إلى الكمال.

الآية الخامسة : لو لم يشأ ما تلوته

قال سبحانه : «قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلَوتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا ادْريكُمْ بِه فَقدْ لِبثتُ فيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبلِه أفلاَ تَعْقِلُون »(١) ، والآية تؤكد أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آية من آياته وليس هذا شيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على ما وقف عليه من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ، ولم يكن قبله عالماً به واين هذا من قول المخطئة من نفي الايمان منه قبلها.

وان اردت الاسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة ، فترى فيها اقتراحين للمشركين وقد اجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدمة وعن الآخر في نفس هذه الآية واليك نصّها : «قالَ الَّذينَ لا يَرجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرْآن غير هَذا أوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا يكُونُ لِي أنْ اُبَدلَهُ مِنْ تِلقاء نفسي إنْ أتَّبعُ إلا ما يُوحى اليَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصيْتُ ربِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ »(٢) .

__________________

١ ـ يونس : ١٦.

٢ ـ يونس : ١٥.

٣١٠

اقترح المشركون على النبي أحد الأمرين :

١ ـ الإتيان بقرآن غير هذا مع التحفظ على فصاحته وبلاغته.

٢ ـ تبديل بعض آياته مما فيه سبٌّ لآلهتهم وتنديدٌ بعبادتهم للاوثان والاصنام.

فأجابَ عن الثاني في نفس الآية بان التبديل عصيان للّه ، وانه يخافُ من مخالفة ربه ، ولا محيص له إلاّ إتباعُ الوحي من دون أنْ يزيدَ فيه أو ينقص عنه.

واجاب عن الأول في الآية المبحوث عنها بان ذلك أمر غير ممكن لأن القرآن ليس من صنعي وكلامي حتّى أذهب به وآتي بآخر ، بل هو كلام اللّه سبحانه وقد تعلقت مشيئته بتلاوتي ، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا ادراكُمْ به ، والدليل على ذلك أني كنت لابثاً فيكم عُمُراً من قبل فما تكلمت بسورة أو بآية من آياته ، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلم به ، ايام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة ، المديدة.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الآية : إن الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي ، فانما أنا رسول ولو شاء اللّه ان ينزل قرآناً غير هذا لأنزل ، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآنُ تلوتُه عليكم ، ولا أدراكم به فاني مكثت عُمُراً من قبل نزوله ، ولو كان ذلك اليّ وبيدي لبادرتُ إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه(١) .

فكيف يمكنُ والحال هذه أن يكون مجانبا للإيمان باللّه وتوحيده ، لاهياً عن عبادته وتقديسه.

هذا وفي هذا المجال حديث واسع اكتفَيْنا مِنه بهذا القدر ، ومن أراد التوسع أن يراجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن ص ١٣٥ ـ ١٩١.

وأما الكلام في الجهة الثانية وهي : أنه بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّدُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ، فقد وقع ذلك محطاً للبحث بين العلماء ، وحيث انه لا ينطوي على فائدة كبرى ، بعد أن تبين أنه كان قبل البعثة

__________________

١ ـ الميزان : ج ١٠ ، ص ٢٦ ، ولاحظ المنار : ج ١١ ، ص ٣٢٠.

٣١١

مؤمناً ، موحّداً ، يعبُد اللّه ، فإنّه يكفي أن نعرف أنه كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتزم بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم ، وأنه بالتالي كان مؤيداً مسدّداً ، وأنه كان أفضل الخلق واكمَلَهم خَلقاً ، وخلقاً ، وعقلا ، وانه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء اكان مطابقاً لشرع ما قبله أم مخالفاً وأن هاديه وقائده منذ صباه إلى ان بعث هو نفس هاديه بعد البعثة(١) .

__________________

١ ـ وللتوسّع والوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن : ص ١٣٥ ـ ١٩١.

٣١٢

١١

بدء الوَحْي

انَّ التاريخَ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، والّتي وقعت على أثره حوادث خاصة.

ويوم بُعثِ النبيُ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية الناس ، ودوّى في سمعه الشريف نداء « إنك لرسول اللّه » الصادر عن ملاك الوحي اُلقيَت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جداً ، على نمط الوظيفة الهامة الّتي اُلقيت على كاهل من سبقه من الانبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش ، أكثر فأكثر ، وتجلت خطته اكثر فأكثر.

ونحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الاُولى الواقعة عند البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين :

١ ـ وجوبُ بعث الانبياء.

٢ ـ دورُ الانبياء في اصلاح المجتمع.

لقد أودعَ اللّه تعالى في كيان كُلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله ، وجهّزه ـ لسلوك هذا الطريق ـ بالوسائل المتنوعة ، والأجهزة المختلفة اللازمة.

ولنأخذ مثلا : نبتة صغيرة ، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها وتعمل

٣١٣

لتحقيق التكامل فيها.

ان جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية ، وتلبية احتياجات النبتة ، وتوصل العروق والقنوات المختلفة ، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان والاوراق.

إننا لو درسنا جهاز ( وردة ) لرأيناه اكثر مدعاة للاعجاب وأشد اثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات.

فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم للاوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأجهزة في ( الوردة ) ممّا اُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ ، وضمان رشده ونموّه ، فإنها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل ، وأفضل صورة.

ولو أننا خطونا خطوات اكثر وتقدّمنا بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأَحياء ، لرأينا أنها جميعاً وبدون استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها.

وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول : انّ الهداية التكوينية ، الّتي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة ، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات ، وحيوان وانسان.

ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله : «رَبّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه ثُمَّ هَدى »(١) .

فانّه يصرّح بأن كل شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرَّة ينعم بهذا الفيض العامّ ، وانَّ اللّه تعالى بعد أن قَدَّر كلَ موجود وكائن ، بيّن له طريق تكامله ، ورُقيّه ، وهيأ لكل كائن مِن تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموه ، وهذه هي ( الهداية التكوينية العامة ) السائدة على كل ارجاء الخليقة دونما استثناء.

__________________

١ ـ طه : ٥٠.

٣١٤

ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية ، التكوينية لكائن مثل الإنسان ، اشرف الموجودات ، وافضل ما في هذه الخليقة؟!

بكل تأكيد : لا.

لأن للإنسان حياة اخرى غير الحياة المادية ، تشكل اساس حياته الواقعية ، ولو كان للإنسان حياة مادية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات ، والحيوانات ، لكفت العواملُ والعناصرُ المادية في تكامله ، والحال أن للإنسان نوعين من الحياة ، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان ورقيّه.

ان الإنسان الأول ، ونعني به انسان الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة الّتي لم يطرأ على جبلته اي إعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الإجتماعيّ من التربية والهداية.

ولكن عندما خطى الإنسانُ خطوات أبعد من ذلك ، وبدأ الحياة الاجتماعية ، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي ، وغيّرت الخصال القبيحة والافكار الخاطئة صفاتِه الفطرية ، وبالتالي اخرج المجتمع من حالة التوازن!

إن هذه الانحرافات حملت خالقَ الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالا أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر ، وليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع ، والتخفيف من المفاسد الناشئة ـ بصورة مباشرة ـ عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان ، وليضيئوا ـ بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة ـ طريق السعادة والخير للانسانية في جميع المجالات والابعاد.

إذ لا نقاش في أنَّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً ، ينطوي على مفاسد لا تُنكر ، ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.

ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالا مصلحين ، وهداة مرشدين يعملون ـ قدر الامكان ـ على الحدّ من الانحرافات والمفاسد ، ويضعون عجلة المجتمع ـ بتنظيم القوانين الواضحة والانظمة الحكيمة ـ على الطريق الصحيح ، ويضمنون دورانها

٣١٥

وحركتها في المسار المستقيم.

وقد يُستفاد هذا الامر ـ بوضوح ـ من قوله تعالى : «كانَ النّاس امَّة واحِدَةً فَبَعَث اللّه النَّبيِّين مُبشِّرينَ وَمُنذِرين وأنزلَ مَعهُمُ الْكِتابَ بِالحقِّ لِيَحكُم بَين النّاس في مَا اختَلَفُوا فيه »(١) .

دَور الانبياء في اصلاح المجتمع :

ان الّذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الانبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم البشرية.

فكما يتعلم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً معينة ومواضيع خاصة على ايدي الاساتذة والمعلمين ، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الانبياء اُموراً خاصة ، ويكتسبون معارف معينة ، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.

ولكننا نتصور ان مهمة الانبياء ووظيفتهم الاسياسية هي ( تربية ) المجتمعات البشرية لا تعليمها ، وان اساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد ، وانه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح ، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وادركت خلاصة الدين الالهي ، وعصارتها ، في غير ابهام ، ولا خفاء.

على أن هذه الحقيقة قد أشار اليها قادة الإسلام العظماء.

فقد قال اميرالمؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة عن هدف الانبياء :

« أخذَ عَلى الوَحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لِيَستأدُوهم ميثاق فِطرتِه ، وَيُذكرُوهم مَنْسيَّ نِعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتَبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العُقول »(٢) .

__________________

١ ـ البقرة : ٢١٣.

٢ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم ١.

٣١٦

مثالٌ واضح في المقام :

إذا قلنا : ان وظيفة الانبياء في تربية الناس واصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة من الشجرات ، أو قلنا : أن مَثَل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية وهدايتها ، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية والجبال ، لم نكن في هذا القول مبالغين.

وتوضيح ذلك ان النبتة ، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاُولى كل قابليات النمو ، والرشد ، فاذا توفَر لها الجوُ المناسب للنمو ، دبّت الحياة والحركة في كل أجزائها ، واستطاعت بفعل جذورها القوية واجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق ، والضوء اللازم ، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل ، والنمو.

فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في امرين :

١ ـ توفير الظروف اللازمة لتوقية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة ، وتخرج من حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية ، والتحقق.

٢ ـ الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات ، وذلك عندما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها ، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.

ومن هنا فان مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي ( الإنماء ) بل هي ( المراقبة ) وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني.

لقد خلق اللّه سبحانه البشرَ وأودع في كيانه طاقات متنوعة ، وغرائز كثيرة ، وعجن فطرته وجبلَّته بالتوحيد ، وحبّ معرفة اللّه ، وحبّ الحق والخير ، والعدل والانصاف ، كما وأودع فيه غريزة السعي والعمل.

وعندما تبدأ خمائر هذه الامور وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية ،

٣١٧

فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع ، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة الانانية ، وحب الجاه والمنصب ، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام.

في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى البشرية : ( الانبياء والرسل ) على توفير ظروف الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي ، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الالهي الهادي ، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز ، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

ولقد قال اميرالمؤمنين في ما مرّ من كلامه : إن اللّه أخذ ـ في مبدأ الخلق ـ ميثاقاً يدعى « ميثاق الفطرة ».

فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إن المقصود من هذا الميثاق هو : أن اللّه تعالى بخلقه وايداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني ، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير ، ويأخذ بالغرائز الطيبّة الصالحة.

فاذا كان منح جهاز البصر ( العين ) للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق ، ولا يقع في البئر ، فكذلك ايداع حسّ التدين ، وغريزة الانجذاب إلى اللّه ، وحبّ العدل ، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، عادلا ، منصفاً محباً للخير والحق.

وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة ، وبالتالي فانَّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هو تمزيق اغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة الّتي قدترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الايمان ، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان ، وتحرمُ الإنسان من هدايتها.

ومن هنا قالوا : إن اساس الشرائع الالهية يتالف من الامور الفطرية ، الّتي فطر الإنسان عليها.

٣١٨

وكأن صرح الكيان الإنساني ( جَبَلٌ ) اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه احجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة ، فالوجود الإنساني هو الآخر قد اُودعَت فيه فضائل وعلوم ، ومعارف وخصال ، واخلاق متنوعة.

فعندما يغورُ الانبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والاحاسيس الطيبة ، ويعملون على اعادة نفوسنا ـ بتعاليم الدين وبرامجه ـ إلى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا ، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا ، ويلفتونها إلى الصفات ، وإلى الشخصية المودوعة فيها.

تلك هي رسالة الانبياء ، وذلك هو عملهم الاساسي ، وهذا هو دورهم في اصلاح النوع الإنساني ، أفراداً وجماعات.

أمين قريش في غار حراء :

يقع جبل « حِراء » في شمال « مكة » ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان.

ويتالف ظاهر هذا الجبل. من قطع صخرية سوداء ، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً.

ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور ، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل ، وبيمنا تضيء الشمس قسماً منه ، تغرق نواح اُخرى منه في ظلمة دائمة.

ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه ، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه ذكريات يتشوق الناس ـ وحتّى هذه الساعة ـ إلى سماعها من ذلك الغار ، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار ، متحملين في هذا السبيل كل عناء ، للوصول إلى رحابه ، لكي يستفسرونه عما جرى فيه عند وقوع حادثة : « الوحي » العظيمة وليسألونه عن ما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الاكبر ممّا جرت

٣١٩

حوادثه في ذلك المكان التاريخي ، العجيب.

ويتحدث ذلك الغار هو الآخر اليهم بلسان الحال ويقول : هاهنا المكان الّذي كان يتعبد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق الامين.

وهاهنا قضى ليالي وأياماً عديدة وطويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة ، في عبادة اللّه ، والتأمل في الكون ، وفي آثار قدرة اللّه وعظمته.

أجل ، لقد اختار محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة ، للعبادة والتحنث ، فكان يمضي جميع الايام من شهر رمضان فيه ، وربما لجا إليه في غير هذا الشهر أحياناً اخرى ، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها ، تعرفُ أنه قد ذهب إلى « غار حراء » وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف ، وكانت كلّما أرسلَتْ إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير ، أو مشتغلا بالعبادة والتحنث.

لقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يبلغ مقام النبوة ، ويُبْعَث بالرسالة يفكر ـ اكثر شيء في أمرين :

١ ـ كان يفكر في ملكوت السماوات والارض ، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات الّتي يشاهدها نور الخالق العظيم ، وقدرته ، وعظمته وعلمه ، وقد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الالهيّ المقدس.

٢ ـ كان يفكر في المسؤولية الثقيلة الّتي ستوضع على كاهله.

إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض ، لم يكن في نظره وتقديره بالامر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل ، من هنا كان يفكر طويلا في الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش ، وكيفيّة رفع كل ذلك واصلاحه.

لقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة ، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة ، ولطالما

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694