سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358127 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

أكثر ، لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنه نبيُ مرسَلٌ.

ولكن موسى ـ كما يصرّح القرآن الكريم ، بهذه الحقيقة ـ حافظ على هدوئه ، وسكونه ، وعندما خاطبَهُ اللّه تعالى بقوله : « أن ألقِ عصاك » القاها من فوره ، وكان خوفه من ناحية العصى الّتي تبدّلت إلى ثعبان مخيف ، لا من جهة الايحاء إليه.

فهل يمكن ، أو يجوز لنا أن نقول : كان « موسى » لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً ، ولكن أفضل الانبياء والمرسلين اضطرب عند سماع كلام المَلك ، وفزع إلى درجة فكَّر في طرح نفسه من أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟!

لا ريب أن روح محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم تكن مهيَّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الالهيّ ( النبوة ) لا يمكن أن يمنَ عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة ، ويختاره لمقام الرسالة ، لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل ، وارسال الانبياء هو هداية الناس وارشادهم.

ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار خوفاً(١) وفزعاً كيف يمكن ان ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثر فيهم؟!

ثانياً : كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الالهيّ إلى أنه صادرٌ من جانب اللّه ، فطلبَ من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنه أفصحُ منه قولا(٢) بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم؟!

ثالثاً : لقد كان « ورقة » مسيحيّاً حتماً ، ولكنه عند ما أراد أن يزيل عن « محمَّد » الشك والإضطراب ذكر نبوَّة « موسى »عليه‌السلام وقال : قد جاءك الناموس الّذي جاء موسى(٣) .

__________________

١ ـ كما نقل هيكل في كتابه : « حياة محمَّد ».

٢ ـ طه : ٢٩.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٣٨ وقد نقل المرحوم المجلسي هذه العبارة عن المنتقى ولكنه بلفظة

٣٤١

ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمة يداً اسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي الّتي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلة عما كان يدين به « ورقة » بطلُ القصة؟!

كل هذا بغصّ النظر عن أن مثل هذه الاُمور تتنافى والعظمة الّتي نعهدها من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تنسجم معها أبداً ، ويبدو أن كاتب « حياة محمَّد » أدرك إلى درجة ما خرافية هذه القصة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة : « كما يقولون ».

وقد حارب ائمةُ الشيعة هذه الاساطير بكل قوة ، وأبطلوها برمتها.

فعندما يسأل زرارة الإمام الصادقعليه‌السلام مثلا : كيف لم يَخفْ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يأتيه من قِبَل اللّه ان يكون ممّا ينزغ به الشيطان :

قال الإمامعليه‌السلام : « إنّ اللّه إذا اتخذَ عبداً ورسولا ، أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّ وجلّ مثل الّذي يراه بعينه »(١) .

ويقول العلامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره ، في هذا الصدد :

« إن اللّه لا يوحي الى رسوله إلاّ بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه تعالى ، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ ، ولا يَفْرُق »(٢) .

__________________

« عيسى » أيضاً ولكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري وسيرة ابن هشام اللذين هما الأساس لهذه الامور.

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٢٦٢ وفي الكافي : ج ١ ، ص ٢٧١ نظيره.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٤.

٣٤٢

١٢

متى نزل الوحي أولا؟

لقد تَعرّضَ يوم مبعث رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مقطوع به ، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبويّة.

فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب ، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه.

بينما اشتهر عند علماء السُنّة أن رسول الإسلام قد اُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.

ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف « محمّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جانب اللّه تعالى بهداية الناس ، وبُعثَ بالرسالة.

ولما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الصادقين ، وتعتقد بصحة ما يرونه ويقولون به اتباعاً لقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، في حديث الثقلين : « إنهما لن يفترقا » فانهم اتبعوا ـ في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف ـ القول المأثور ـ بنقل صحيح ـ عن عترة النبي المطهرين في

٣٤٣

هذا المجال.

فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أن عظيمَ هذا البيت وسيّده ( أي النبيّ ) قد بُعِثَ في السابع والعشرين من شهر رجب ، وهم في ذلك حجة.

ولهذا لا يمكن الشك والتردد في صحة هذا القول وثبوته(١) .

نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان ، وحيث أن يومَ بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانَ هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي ، والقرآن عليه ، لهذا يجب القول بان يوم البعثة الشريفة انما كان في نفس الشهر الّذي نزل فيه القرآن الكريم : اي شهر رمضان المبارك.

واليك فيما يأتي الآيات الّتي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان :

١ ـ «شَهْرُ رَمضان الَّذي اُنْزِلَ فِيه الْقُرانُ »(٢) .

٢ ـ «حم. وَالكِتابِ الْمُبين. إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة »(٣) وتلك الليلة هي ليلة القَدْر الّتي قال عنها سبحانه : «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدر. لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْر »(٤) .

ما أجاب به علماء الشيعة :

ولقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا :

الجوابُ الأوَّل :

إنَ الآيات المذكورة إنّما تدل على أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي « ليلة القدر » ، ولكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه

__________________

١ ـ راجع بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ١٨٩.

٢ ـ البقرة : ١٨٥.

٣ ـ الدخان : ١ ـ ٣.

٤ ـ القدر : ١ و ٣.

٣٤٤

الآيات ، وأنها أين نزلت؟ وهي بالتالي لا تدل أبداً ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟

فيحتمل أن يكون القرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً.

والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور(١) .

وعلى هذا فما المانع من ان تكون بعض آيات القرآن ( من سورة العلق ) قد نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ ، إلى موضع آخر عُبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.

ويؤيّد هذا الرأي قولُ اللّه تعالى في سورة الدخان : « إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مباركةِ » فانَّ هذه الآية ـ بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب ـ تصرح بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلة مباركة ( في شهر رمضان ) ، ولابدَّ انَ يكون هذا النزول غير ذلك النزول الّذي تحقق في يوم المبعث الشريف ، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا اكثر.

وخلاصة الكلام هي ان الآيات الّتي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة ( ليلة القدر ) لا يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الّذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسِه ، لأنَّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر ، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.

وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من « اللوح المحفوظ » إلى « البيت المعمور ».

وقد روى علماء الشيعة والسنة روايات وأخباراً بهذا المضمون ، وبخاصة

__________________

١ ـ للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.

٣٤٥

الاستاذ الأزهري محمّد عبدالعظيم الزرقاني الّذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه(١) .

الجواب الثاني :

وهو أمتن الاجوبة والردود على هذا القول.

فقد بذل الاستاذُ الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم ؛ واليك خلاصته :

يقول العلامة الطباطبائي : إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان ، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي ، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك(٢) .

وحيث أنّ النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل بقرائته حتّى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى : «وَلا تعْجَل بِالْقُرانِ مِنْ قَبلُ أَن يُقْضى إلَيْكَ وَحْيُهُ »(٣) .

وخلاصة هذا الجواب هي : أنَّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الّذي نزل على الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة واحدة في شهر رمضان ، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم المبعث ، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

الجواب الثالث : التفكيك بين نزول القرآن والبعثة

إن للوحي ـ كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي اجمالا ـ مراتب

__________________

١ ـ مناهل العرفان في علوم القرآن : ج ١ ، ص ٣٧.

٢ ـ الميزان : ج ٢ ، ص ١٤ ـ ١٦.

٣ ـ طه : ١١٤.

٣٤٦

ومراحل ، يتمثل أولُ مراتبه في الرؤيا الصادقة الّتي رآها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والمرتبة الاُخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهي من دون وساطة ملك.

وآخر تلك المراتب هو أن يسمع النبيُ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه ، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الاُخرى.

وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الاولى تحمُّل مراتب ( الوحي ) جميعها دفعة واحدة بل لابدّ أن يتحملها تدريجاً ، لهذا يجب القول بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سمع يوم المبعث ( اليوم السابع والعشرون من شهر رجب ) النداء السماويّ الّذي يخبره بأنه رسول اللّه ، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم ايّة آية قط ، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.

وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً.

وعلى هذا الاساس ما المانع من ان يُبعَث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر رجب ، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟

ان هذه الاجابة وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية ( لأن كثيراً من المؤرخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه ) إلاّ أن هناك ـ مع ذلك ـ روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنداء الغيبيّ ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات ، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول :

في ذلك اليوم سمع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملكاً يقول له : يا محمَّد إنّك لرسول اللّه ، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء ، فقط ، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك.

وللمزيد من التوضيح ، والتوسع يُراجع « البحار » في هذا المجال(١) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ١٨٤ و ١٩٠ و ١٩٣ و ٢٥٣ ، الكافي : ج ٢ ، ص ٤٦٠ ، تفسير العيّاشي : ج ١ ،

٣٤٧

على أنَ هذه الاجابة تختلف عن الإجابة الرابعة الّتي تقول بأن مبعثَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في شهر رجب ، وكان نزولُ القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية الّتي استغرقت ثلاثة أعوام.

الانبياء والبشارة برسول اللّه :

وينبغي ـ استكمالا لهذا الفصل من التاريخ النبوي ـ ان نلفت نظر القارئ الكريم إلى ان الرسالة المحمَّدية المباركة ، ممّا بشر به جميع الانبياء المتقدمين زمنياً على خاتم الانبياء والمرسلين محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ قال اللّه تعالى : «وَإذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّينَ لمَا آتيتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكمَة ثُمَّ جاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرَنَّهُ قالَ ءأَقْرَرتُمْ وَأَخذتُم عَلى ذلِكُمْ إصريْ قالُوا أقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدينَ »(١) .

وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عام وكلّي وهو : وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق ، إلاّ أن المصداق الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم.

فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكد من جميع الانبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه واتباعه ونصرته.

روى الفخر الرازي عن اميرالمؤمنين عليعليه‌السلام :

« إن اللّه تعالى ما بَعث آدمعليه‌السلام وَمؤمن بعده من الانبياء عليهم الصلاة والسَّلام إلاّ أخذ عليهم العهد لئن بُعث محمَّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه »(٢) .

وممّا يؤيد هذا ان القرآن دعا اهل الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في

__________________

ص ٨٠ وهذا الجواب لا ينسجم مع ما رواه البخاري من أنّ بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه.

١ ـ آل عمران : ٨١.

٢ ـ مفاتيح الغيب : ج ٢ ، ص ٥٠٧.

٣٤٨

كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان ، واليك فيما ياتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر :

١ ـ قال اللّه تعالى : «وَإذْ أَخَذَ اللّه ميثاقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ لَتُبيَّنُنَّهُ للنّاس وَلا تَكتُمونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراء ظُهورهمْ وَاشْتَروا بِه ثَمناً قَلِيلا فَبِئسَ مَا يَشْتَرُونَ »(١) .

٢ ـ قال تعالى : «إنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِه ثَمناً قَليلا اُوْلئكَ مَا يَأكُلُونَ في بُطُونِهِم إلاّ النّار ، ولا يُكَلِّمهُمُ اللّه يَومَ الْقِيامَةِ ولا يُزكّيهمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أليمٌ »(٢) .

٣ ـ وقال تعالى : «الَّذينَ آتَيْناهمْ الْكِتابَ يَعرفُونَهُ كَما يَعرفُونَ أَبناءهُمْ وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ ليكتمون الحقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(٣) .

٤ ـ وقال سبحانه : «الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبيّ الاُمِيَّ الَّذي يَجدُونَه مكتُوباً عِندَهُمْ في التَوراةِ وَالإنجيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوف وَيَنْهاهُمْ عِنَ الْمُنكر وَيُحِلُّ لَهُمْ الطيِّباتِ وَيُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائثَ وَيضَعُ عَنْهُمْ إصْرهُمْ وَالأَغْلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِم فالَّذينَ آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي اُنزِلَ معهُ اُوْلئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(٤) .

ان القرآن الكريم يصرح بجلاء ان السيد المسيحعليه‌السلام اخبر عن رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى : «وَإذْ قالَ عيسَى بنْ مَريَمَ يَا بني إسرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليكُمْ مُصدِّقاً لِمَا بينَ يديَّ مِنْ التَوراة ومبشِّراً بِرَسُول يَأتي مِن بَعدي اْسمُه أَحمَدُ فلمّا جَاءهُمْ

__________________

١ ـ آل عمران : ١٨٧.

٢ ـ البقرة : ١٧٤.

٣ ـ البقرة : ١٤٦.

٤ ـ الاعراف : ١٥٧.

٣٤٩

بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سحرٌ مُبينٌ »(١) .

كما يتحدث القرآنُ الكريمُ عن أهل الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما بُعثَ وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على اعدائهم إذ قال سبحانه : «وَلمَّا جاءهُمْ كِتابٌ مِنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبلُ يَسْتفتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفَرُوا فَلمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِه فلعنَةُ اللّه عَلى الْكافِرينَ »(٢) .

بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأَنَّ إبراهيمعليه‌السلام يومَ أحلّ زوجتَه وولده اسماعيل بارض مكة دعا قائلا : «رَبَّنا وَابعَثْ فيهمْ رَسولا مِنْهُمْ يَتلو عَلَيْهمْ آياتِكَ وَيعلِّمُهُمْ الْكِتابَ وَالْحِكْمةَ وَيُزكّيهمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ »(٣) .

وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يصفه القرآن الكريم بقوله : «لَقَدْ مَنّ اللّه عَلى الْمُؤمنينَ إذْ بَعثَ فيهمْ رَسولا مِنْ أنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِه وَيُزكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة وَإنْ كانوا مِنْ قَبلُ لَفي ضَلال مُبيْن »(٤) .

محمَّد خاتم الانبياء :

واستكمالا لهذا البحث ينبغي أيضاً أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونبوته وهي مسألة الخاتمية.

فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيّين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا نبيّ بعده ، ولا رسالة بعد رسالته.

__________________

١ ـ الصف : ٦.

٢ ـ البقرة : ٨٩.

٣ ـ البقرة : ١٢٩.

٤ ـ آل عمران : ١٦٤.

٣٥٠

وها نحن ندرج ابرز الآيات الواردة في هذا المجال :

١ ـ قال تعالى : «مَا كانَ مُحمَّد اَبا أَحد مِنْ رجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّه وَخاتَمَ الْنَبيّين وَكانَ اللّه بِكُلِّ شَيء عَليماً »(١) .

٢ ـ قال سبحانه : «تَباركَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ عَلى عَبدِه ليكونَ للعالَمينَ نَذيراً »(٢) .

٣ ـ وقال سبحانه : «وَاُوحي إليّ هذا الْقُرآنُ لاُنذِركُمْ بِه وَمَنْ بَلغَ »(٣) .

٤ ـ وقال تعالى : «وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً لِلنّاسِ بَشيراً وَنَذيراً وَلكِنَّ أكثرَ النّاسِ لا يَعلَمُونَ »(٤) .

والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأن رسالة النبيّ محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامة وعالمية وأبدية لأَنه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً للناس كافة ، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه.

هذا وقد صرّح النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق.

فعن ابي هريرة قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« اُرسلتُ إلى الناس كافة وبي خُتِم النبيّون »(٥) .

__________________

١ ـ الأحزاب : ٤٠.

٢ ـ الفرقان : ١.

٣ ـ الانعام : ١٩.

٤ ـ سبأ : ٢٨.

٥ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٢٨.

٣٥١

٣٥٢

١٣

ما سَبَقني أحدٌ

أوَّلُ من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء :

لقد انتشرَ الإسلامُ في العالَم بصورة تدريجية ، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة على نشرها قبل غيرهم ب‍ « السابقين ».

وقد كان السبق إلى الإيمان برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة ، ونتعرف على من سَبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال ، ومن النساء.

مِنَ النساء : « خديجة »

إن من المسلَّم به تاريخياً أن « خديجة » كانت أول امرأة آمنت برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يخالف في هذا اُحدٌ ،(١) ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهماً واحداً ذكره المؤرخون نقلا عن إحدى زوجات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مكتفين به رعايةً للاختصار.

تقول عائشة : ما غرتُ على نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ على « خديجة » وإنّي لم اُدركها ، وقد كان رَسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكاد يخرج

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٤٠.

٣٥٣

من البيت حتّى يذكر « خديجة » فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الايام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلاّ عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ، فغضب حتّى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال :

« لا واللّه ما ابدَلني اللّه خيراً منها ، آمنَت بي إذ كَفَر الناسُ ، وَصَدَّقَتني إذ كَذَّبني النّاسُ ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها اولاداً إذ حرمني اولاد الناس »(١) .

وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كلَ نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي ، ونزول القرآن ، لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما انحدر من غار « حراء » واخبر زوجته « خديجة » بما جرى له واجه ـ رأساً ـ ايمان زوجته به وقبولها لكلامه ، وتصديقها برسالته ، تصريحاً وتلويحاً.

هذا مضافاً إلى أنها كانت قد سمعت من قبل أخباراً تتعلق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب ، وهذه الأخبار وامانة فتى قريش وصدقه الّذي اشتهر به هي الّتي دفعت بها إلى أن تتزوج بالفتى الهاشميّ ( محمَّد ).

أقدمُ الرجال اسلاماً : « عليّ »

إن المشهور المقارب للمتَفق عليه بين المؤرخين ، سنة وشيعة ، هو أن « عليا » كان اول من آمن برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرجال.

ونرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالا اخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً :

فمثلا يقال : إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه وابنه بالتبني ، أو أبو بكر كان أول من أسلم ، ولكن دلائلَ عديدة ( نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار ) تشهد على خلاف هذين القولين.

____________

١ ـ صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٣٤ ، صحيح البخاري : ج ٥ ، ص ٣٩ ، اسد الغابة لابن الأثير الجزري : ج ٥ ، ص ٤٢٨ ، بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٨.

٣٥٤

واليك بعض هذه الدلائل :

١ ـ عليّ تربّى في حجر النبيّ

لقد تلقى عليٌعليه‌السلام تربيته في حجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته ، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم.

قال عامّة المؤرخين وكُتّاب السيرة بالاتفاق : إنَّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدةٌ ( قبل بعثة النبي ) وكان أبو طالب ذاعيال كثير ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعباس عمّه ، وكان من أيسر بني هاشم : يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلْنخفّف من عياله ، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ انت رجلا فنكفهما عنه ، فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتّى اتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه ( إلى أن قال : ) فأخذ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً فضمّه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه فلم يزل عليٌ مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبياً فاتبعه علي رضي اللّه عنه وآمن به وصدقه(١) .

في هذا الصورة يجب أن نقول بأنّ علياًعليه‌السلام انتقل إلى بيت النبيّ وهو دون الثامنة ، لأَنَّ الغرض من أخذ النبي إيّاه من ابيه « أبي طالب » هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة ( أبي طالب ) ، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في مثل هذا السنّ ( دون الثامنة ) مضافاً إلى أنَّ فصله عن والدَيه أمرٌ في غاية الصعوبة ، لن يكونَ لأَخذهِ وتكفّلِهِ أيُ أثر هامّ في وضع أبيه ( أبي طالب ) المعيشىّ.

وعلى هذا يجب أن نفترض لهعليه‌السلام عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الإقتصادي والمعيشي.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٤٦ ، البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٢٥.

٣٥٥

فكيف يمكن القول ـ والحال هذه ـ أن اباعد عن البيت النبويّ مثل « زيد بن حارثة » وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي ، بينما جهل ابن عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقرب الناس إليه والّذي كان معه في اكثر الأوقات بما أتى بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نزل عليه.

إنّ غرضَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تربية الإمام عليّ وتكفّله إياه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو طالب من خدمات ، ولم يكن ثمة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أنْ يهديَ أحداً إلى الصراط المستقيم ، فكيف يمكن أن يقال ـ والحال هذه ـ أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرم ابن عمّه الّذي كان يتمتع بذكاء باهر وضمير يقظ ، من هذه النعمة الكبرى.

إنَ من الأفضل أن نسمَعَ هذا الأمر من لسان « علي » نفسه ، فقد بيّنعليه‌السلام في الخطبة القاصعة منزلَته من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقربه إليه هكذا :

« وَلَقدْ عَلِمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضَعني في حجره وأنا وليدٌ ، يضمُّني إلى صدره ، ويكنُفني في فراشه ، ويمسُّني جسده ، ويُشمُّني عرفَه ( عرقه ) ولقد كنتُ أتّبعه اتباعَ الفصيل إثر اُمِّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علَماً ويأمُرُني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فاراه ولا يراه غيري ، ولم يجمَعْ بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه ، وخديجة وأنا ثالثهما أرى نورَ الوحي والرِّسالة وأشمُّ ريحَ النبوة »(١) .

وجاء في تاريخ الطبري عن ابن اسحاق قال : كان اول ذكر آمن برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى معه وصدّق بما جاءه من عند اللّه « علي بن ابي طالب »عليه‌السلام وهو يومئذ ابن عشر سنين ، وكان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن ابي طالبعليه‌السلام انه كان في حجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ج ٢ ، ص ١٨٢ ، وفي هذه الخطبة نفسها يقول : اللّهمّ إني أوّل من أناب وَسَمِعَ وَاَجابَ لم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة.

٣٥٦

قبل الإسلام(١) .

٢ ـ عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ :

ينقل ابن الاثير في « اُسد الغابة » ، وابن حجر في « الإصابة » عند ترجمة « عفيف الكندي » وكثير من علماء التاريخ القصة التالية عنه ، بأنه قال :

كنت إمرء تاجراً فقدمتُ « منى » أيام الحج ، وكان العباس بن عبد المطلب امرء تاجراً فأتيته أبتاع منه وابيعه ، قال : فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلّي ، وخرج غلام يصلّي معه ، فقلت : يا عباس ما هذا الدين ، إنّ هذا الدين ما ندري به؟ فقال : هذا محمَّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستُفتَح عليه ، وهذه امرأته « خديجة بنت خويلد » آمنت به وهذا الغلام ابن عمه « علي بن ابي طالب » آمن به قال عفيف : فليتني كنت رابعهم(٢) .

وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتّى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها ، وفي امكان القارئ الكريم ان يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.

٣ ـ أنا الصِدّيق الأكبر :

تلاحَظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً ، في خطب الإمام عليّعليه‌السلام وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة :

« أنا عَبْدُ اللّه ، وأخو رسول اللّه ، وأنا الصِدّيقُ الأكبر ، لا يقولُها بعدي الا كاذب مفتر ، ولقدْ صَلّيتُ مَعَ رسُول اللّه قبل الناسِ بسَبْع سِنين ، وأنا أوّل مَن

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٥٧.

٢ ـ الاصابة : ج ٢ ، ص ٤٨٠ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٥٧. الكامل : ج ٢ ، ص ٣٧ و ٣٨. اعلام الورى : ص ٢٥ ، اسد الغابة : ج ٣ ، ص ٤١٤.

٣٥٧

صلّى معه »(١) .

٤ ـ أوَّلكم إسلاماً : عليٌ

ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبتعابير متنوعة قال فيها :

« أوَّلُكُمْ وارداً عَليَّ الحوضَ ، أوَّلُكُمْ إسْلاماً عليُّ بنُ أبي طالب »(٢) .

وعند ما يدرس المنصف المحايد هذه الاحاديث ، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام ، وتقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمَّدية ، ولا يختار القولين الآخرين اللَّذين لا يذهبُ إليهما إلاّ الأقليّة.

فإنَّ ما يناهز الستين شخصاً من الصحابة والتابعين يؤيدون القولَ الأَولَ ( أي أن عليّاً أولُ القوم إسلاماً وأقدمهم أيماناً ) وحتّى الطبريّ نفسه الّذي شكَّكَ في هذا القول ، واكتفى بنقله دون اختياره وتأكيده ، روى في ج ٢ ، ص ٦٠ بأن « ابن سعد » سال اباه قائلا : أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ، فقال : لا ولقد أسلم قبله اكثر من خمسين.

ومن غريب الأمر ان مؤرخاً كبيراً كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج ٧ ، ص ٣٣٤ من كتابه « البداية والنهاية » حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير المؤمنين وأنَّه أوَّل من اَسلم وصلّى ثمَّ أردفه بقوله : وهذا لا يصحّ من اي وجه كان روي عنه ، وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم من هذه الاُمَّة أحاديثٌ كثيرةٌ لا يصحّ منها شيء إلخ.

وقد تصدى العلامة المحقق الامينيرحمه‌الله للردّ على هذا المقال بالتفصيل ونظراً لأهميّة ما كتبه العلامة الاميني وما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما ذكرناه.

__________________

١ ـ خصائص النسائي : ص ٣ وسنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٥٧ ، مستدرك الحاكم : ج ١ ، ص ١١٢ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٥٦ وغيرها.

٢ ـ يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير : ج ٣ ، ص ٢٢٠.

٣٥٨

يقول العلامة الاميني :

نُسائل هذا الرَّجل لِمَ لا يصحّ شيء منها من أيّ وجه كان؟! والطرق صحيحةٌ ، والرِّجال نقاتٌ ، والحفّاظ حكموا بصحَّته ، وأرباب السير أطبقوا عليه ، وكان من المتسالم عليه بين الصَّحابة الأَوَّلين والتابعين لهم بإحسان.

ونحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير ( أعاذنا اللّه عن مثلها ) وتخفى عليه جليَّة الحال فيهمنا ذكرُ نزر ممّا يدلُّ على المدَّعى وإن لم يسعنا ايراد كثير منه روماً للاختصار.

النصوص النبوية :

١ ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوَّلكم وارداً ـ وروداً ـ على الحوض أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب.

أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ ص ١٣٦ وصحَّحه م ـ والخطيب البغدادي في تاريخه ج ٢ ص ٨١ ويوجد في الاستيعاب ٢ ص ٤٥٧. شرح ابن أبي الحديد ٣ ، ص ٢٥٨.

وفي لفظ : أوَّل هذه الاُمّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه. السيرة الحلبيَّة ١ ص ٢٨٥. سيرة زيني دحلان ١ ص ١٨٨ هامش الحلبيَّة.

وفي لفظ : أوَّل الناس وروداً على الحوض أوّلهم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب مناقب الفقيه إبن المغازلي. مناقب الخوارزمي.

٢ ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة : زوّجتك خير اُمَّتي أعلمهم علماً ، وأفضلهم حلماً وأوَّلهم سلماً. راجع ما مرَّ ص ٩٥.

٣ ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة : إنَّه لأوَّل أصحابي : إسلاماً. أو : أقدم اُمَّتي سلماً. حديث صحيحٌ راجع ص ٩٥.

٤ ـ أخذصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عليّ ، فقال : إنَّ هذا أوَّل من آمن بي ، وهذا أوَّل من يُصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدِّيق الأكبر. راجع الجزء الثاني

٣٥٩

ص ٣١٣ ، ٣١٤.

٥ ـ عن أبي ايوب قال قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى علي سبع سنين لأنا كنّا نصلّي وليس معنا أحدٌ يُصلّي غيرنا.

مناقب الفقيه ابن المغازلي باسنادين م ـ أسد الغابة ٤ : ١٨ ومناقب الخوارزمي وفيه : ولِمَ ذلك يا رسول اللّه؟ قال : لم يكن معي من الرجال غيره.

كتاب الفردوس للديلمي. شرح إبن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي ٣ ص ٢٥٨. فرائد السمطين الباب ٤٧.

٦ ـ إبن عبّاس قال قال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ اوَّل من صلّى معي عليُّ. فرائد السمطين الباب ٤٧ بأربع طرق.

٧ ـ معاذ بن جبل قال قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليُّ! اخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ولا يُجاحدك فيه أحدٌ من قريش ، أنت أوَّلهم ايماناً باللّه ، وأوفاهم بعهد اللّه ، وأقومهم بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء ١ ص ٦٦ ).

٨ ـ أبوسعيد الخدري قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلّي ـ وضرب بين كتفيه ـ : يا عليُّ لك سبع خصال لا يُحاحّك فيهنَّ أحدٌ يوم القيامة ؛ أنت أوَّل المؤمنين باللّه ايماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأقومهم بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء ١ ص ٦٦ ).

٩ ـ من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند الشعبي عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال لعليّعليه‌السلام : هذا أوّل من آمن بي وصدَّقني وصلّى معي. شرح إبن أبي الحديد ٣ ص ٢٥٦.

١٠ ـ إنَّ ابابكر وعمر خطبا فاطمة فردَّهما رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لم أُؤمر بذلك. فخطبها عليُّ فزوَّجه إيّاها وقال لها : زوَّجتكِ أقدم الاُمَّة إسلاماً. روى هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة منهم : أسماء بنت عميس واُمّ أيمن وإبن عبّاس وجابر بن عبد اللّه. شرح إبن ابي الحديد ٣ ص ٢٥٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694