سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358121 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ودخل عدي بن حاتم بعد مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام على معاوية ، فسأله معاوية عما أبقى الدهر من حب علي. قال عدي : كله. وإذا ذكر ازداد.

قال معاوية : ما أريد بذلك إلا إخلاق ذكره.

فقال عدي : « قلوبنا ليست بيدك يامعاوية »(1) .

واجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة ، والمغيرة ، وغيرهم ، فقالوا له : « إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدِّق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعه إلى ماهو أعظم ثم طلبوا منه إحضاره للحط منه الخ »(2) . والشواهد على ذلك كثيرة

وقد بدأت بوادر نجاح هذه السياسة تجاه أهل البيت تظهر في وقت مبكر ، ويكفي أن نشير إلى ما تقدم من أن عمر يسأل عمن يقول الناس : إنه يتولى الأمر بعده ، فلا يسمع ذكراً لعليعليه‌السلام .

هـ : عقائد جاهلية وغريبة :

ثم يأتي دور الاستفادة من بعض العقائد الجاهلية ، أو العقائد الموجودة لدى أهل الكتاب ، وذلك من أجل تكريس الحكم لصالح أولئك المستأثرين ، والقضاء على مختلف عوامل ومصادر المناوأة والمنازعة لهم. هذه العقائد التي قاومها الأئمة بكل ما لديهم من قوة وحول

__________________

1 ـ الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 134.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 285 والاحتجاج ج 1 ص 402 والبحار ج 44 ص 70 والغدير ج 2 ص 133 عن المعتزلي وعن المفاخرات للزبير بن بكار ، وعن جمهرة الخطب ج 2 ص 12. ونقل عن شرح النهج للآملي ج 18 ص 288 وعن أعيان الشيعة ج 4 ص 67.

٨١

ونذكر من هذه العقائد على سبيل المثال :

تركيز الاعتقاد بلزوم الخضوع للحاكم ، مهما كان ظالماً ومتجبراً وعاتباً ـ وهي عقيدة مأخوذة من النصارى ، حسب نص الإنجيل(1) ـ وقد وضعوا الأحاديث الكثيرة على لسان النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لتأييد ما يرمون إليه في هذا المجال(2) وقد أصبح ذلك من عقائدهم(3) .

ومن قبيل الإصرار على عقيدة الجبر ، التي هي من بقايا عقائد المشركين ، وأهل الكتاب(4) . الأمر الذي يعني : أن كل تحرك ضد حكام الجور لا يجدي

__________________

1 ـ راجع رسالة بولس إلى أهل رومية ، وراجع الهدى إلى دين المصطفى ج 2 ص 316.

2 ـ راجع : سنن البيهقي ج 8 ص 157 و 159 و 164 و ج 4 ص 115 و ج 6 ص 310. وصحيح مسلم ج 6 ص 17 و 20 ج 2 ص 119 و 122 وكنز العمال ج 5 ص 465 و ج 3 ص 168 و 167 و 170 والعقد الفريد ج 1 ص 8 و 9 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 329 ـ 335 و 339 ـ 344 ولباب الآداب ص 260 والدر المثور ج 2 ص 177 و178 و 176 ومقدمة ابن خلدون ص 194 والإسرائيليات في التفسير والحديث ، ونظرية الإمامة ص 417 وقبلها وبعدها ، وتاريخ بغداد ج 5 ص 274 وطبقات الحنابلة ج 3 ص 58 و ص 56 ، والإبانة للأشعري ص 9 ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 323 ومسند أحمد ج 2 ص 28 و ج 4 ص 382 / 383 البداية والنهاية ج 4 ص 249 و 226 ومجمع الزوائد ج 5 ص 229 و 224 وحياة الصحابة ج 2 ص 68 و 69 و 72 و ج 1 ص 12 والإصابة ج 2 ص 296 والكنى والألقاب ج 1 ص 167 والاذكياء ص 142 و الغدير ج 7 ص 136 حتى ص 146 و ج 6 ص 117 و 128 و ج 9 ص 393 و ج 10 ص 46 و 302 و ج 8 ص 256 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 513 و 290 والسنة قبل التدوين ص 467 ونهاية الإرب ج 6 ص 12 و 13 ولسان الميزان ج 3 ص 387 و ج 6 ص 226 عن أبي الدرداء رفعه : « صلوا خلف كل إمام ، وقاتلوا مع كل أمير » وراجع : المجروحون لابن حبان ج 2 ص 102.

3 ـ راجع كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا (ع) ص 312 متناً وهامشاً.

4 ـ راجع : الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 166 وجامع بيان العلم ج 2 ص 148 و 149 و 150 وضحى الإسلام ج 3 ص 81 زشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 340 و ج 12 ص 78 / 79 وقاموس الرجال ج 6 ص 36 ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 183 والغدير ج 9 ص 34 و 95 و 192 و ج 5 ص 365 و ج 10 ص 333 و 245 و 249 و ج 7 ص 147 و 154 و 158 و ج 8 ص132 والإخبار الدخيلة ( المستدرك )

=

٨٢

ولا ينفع ، ما دام الإنسان مجبراً على كل حركة ، ومسيراً في كل موقف

ثم هناك عقيدة : أنه لا تضر مع الإيمان معصية. وأن الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإن أعلن الكفر

قالوا : « الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية ، وعبد الأوثان ، أو لزم اليهودية ، أو النصرانية في دار الإسلام ، وعبد الصليب ، وأعلن

__________________

=

ج 1 ص 193 و 197 ومقارنة الإديان ( اليهودية ) ص 271 و 249 وأنيس الأعلام ج 1 ص 279 و 257 والتوحيد وإثبات صفات الرب ص 82 و 80 و 81 ومقدمة ابن خلدون ص 143 و 144 والإغاني ج 3 ص 76 ، وتأويل مختلف الحديث ص 35 والعقد الفريد ج 1 ص 206 و ج 2 ص 112 وتاريخ الطبري ط الاستقامة ج 2 ص 445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية من ص 43 حتى 49 عن العديد من المصادر ، والمغزي للواقدي ص 904 وربيع الأبرار ج 1 ص 821 والموطأ ج 3 ص 92 و 93 وطبقات ابن سعد ج 7 ص 417 و ج 5 ص 148 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 265 و 83 /84 ومصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 67 ومناقب الشافعي ج 1 ص 17 والبخاري ج 8 ص 208 وفي خطط المقريزي ج 3 ص 297 : إن جهماً انفرد بالقول بجواز الخروج عل السلطان الجائر وحياة الصحابة ج 2 ص 12 و 95 و 94 و 330 و ج 3 ص 229 و 487 و 492 و 501 و 529 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 3 ص 138 / 139 و ج 8 ص 208 و ج 1 ص 86. وصحيح مسلم ج 2 ص 86 وأبي داود ج 2 ص 16 والترمذي ج 1 ص 202 وابن ماجة ج 1 ص 209 وسنن البيهقي ج 9 ص 50 و ج 6 ص 349 ومسند أحمد ج 5 ص 245 ومجمع الزوائد ج 6 ص 3 و ج 1 ص 135 والطبري في تاريخه مقتل برير و ج 4 ص 124 و ج 3 ص 281 والبداية والنهاية ج 7 ص 79. انتهى.

والمعتزلة ص 7 و 87 و 39 / 40 و 91 و 201 و 265 عن المصادر التالية : المنية والأمل ص 12 وعن الخطط ج 4 ص 181 / 182 و 186 والملل والنحل ج 1 ص 97 / 98 والعقائد النسفية ص 85 ووفيات الأعيان ص 494 والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 3 ص 45 عن الطبري ج 6 ص 33 و ج 3 ص 207 وعن الترمذي ص 508 في رسالة عمر بن عبد العزيز

والتصريح بذلك في الكتب الكلامية ، وكتب فرق أهل السنة ، لا يكاد يحصى كثرة. وكنت قد جمعت فيما مضى قسماً كبيراً من كلمات التوراة وغيرها حول هذا الموضوع ، أسأل الله التوفيق لإتمامه.

٨٣

التثليث ، في دار الإسلام ، ومات على ذلك »(1) .

وهذه العقيدة ، وإن كانت هي عقيدة المرجئة ، إلا أنها كانت عامة في الناس آنئذٍ ، حيث لم يكن المذهب العقائدي لأهل السنة قد غلب وشاع بعد.

ومعنى هذا هو أن الحكام مؤمنون مهما ارتكبوا من جرائم وعظائم.

بل إنهم ليقولون : إن يزيد بن عبد الملك أراد أن بسيرة عمر عمر بن عبد العزيز ، فشهد له أربعون شيخاً : أن ليس على الخليفة حساب ولا عذاب(2) .

وحينما دعا الوليد الحجاج ليشرب النبيذ معه ، قال له : « يا أمير المؤمنين ، الحلال ما حللت »(3) .

بل إننا لنجد الحجاج نفسه يدَّعي نزول الوحي عليه ، وأنه لا يعمل إلا بوحي من الله تعالى(4) كما يدعي نزول الوحي على الخليفة أيضاً(5)

و : قدسية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هذا كله فضلاً عن سياستهم القاضية بتقليص نسبة الاحترام والتقديس للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفضيل الخليفة عليه بل وسلب معنى العصنة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى لقد قالت قريش ـ في حياة الرسول ـ في محاولة منها لمنع عبد الله بن عمرو بن العاص من كتابه أقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه بشر يرضى

__________________

1 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 204.

2 ـ البداية والنهاية ج 9 ص 232 وراجع : تاريخ الخلفاء ص 246 وراجع ص 223.

3 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 70.

4 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 73 وراجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 115.

5 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 72.

٨٤

ويغضب(1)

بل لقد حاولوا المنع من التسمية باسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نجحوا في ذلك بعض الشيء(2)

كما أن معاوية يتأسف ، لأنه يرى : أن اسم النبي المبارك يذكر في الاذان ويُقْسِم على دفن هذا الاسم(3)

إلى غير ذلك من الوقائع الكثير جداً وقد ذكرنا شطراً منها في تمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أراده فليراجعه.

ولعل ذلك قد كان يهدف إلى فسح المجال للمخالفات ، التي كان يمكن أن تصدر عن الحكام ، والتقليل من شأن وأثر وأهمية ما كان يصدر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أقوال ومواقف سلبية تجاه بعض أركان الهيئة الحاكمة ، أو من تؤهلهم لتولي الأمور الجليلة في المستقبل ، ثم التقليل من شأن مواقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإيجابية تجاه خصوم الهيئة الحاكمة ، أو من ترى فيهم منافسين لها.

ز : تولية المفضول :

ويدخل أيضاً في خيوط هذه السياسة : القول بجواز تولية المفضول مع

__________________

1 ـ راجع : سنن الدرامي ج 1 ص 125 وجامع بيان العلم ج 1 ص 85 وليراجع ج 2 ص 62 و 63 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 104 / 105 وتلخيصه للذهبي بهامشه وليراجع أيضاً سنن أبي داود ج 3 /318 والزهد والرقائق ص 315 والغدير ج 11 ص 91 و ج 6 ص 308 و 309 والمصنف لعبد الرزاق ج 7 ص 34 و 35 و ج 11 ص 237 وإحياء علوم الدين ج 3 ص 171 وتمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى عليه وآله وسلم وغير ذلك كثير.

2 ـ الغدير ج 6 ص 309 عن عمدة القاري ج 7 ص 143 والجزء الأول من كتابنا : الصحيح في سيرة النبي (ص).

3 ـ الموفقيات ص 577 ومروج الذهب ج 3 ص 454 وشرح النهج للمعتزلي ج 5 ص 129 و 130 وقاموس الرجال ج 9 ص 20.

٨٥

وجود الفضل ، كما هو رأي أبي بكر(1) الذي صار أيضاً رأي المعتزلة فيما بعد وذلك عندما فشلت محاولاتهم التي ترمي لرفع شأن الخلفاء ، الذين ابتزوا علياً حقه في أن فشلت محاولاتهم في الحط من عليّ(2) ، ووضع الأحاديث الباطلة في ذمه والعمل على جعل الناس ينسون فضائله وكراماته حيث لم يجدهم كل ما وضعوه واختلقوه في هذا السبيل شيئاً ولا أفاد قتيلاً

ح : سياسة التجهيل :

وهناك سياسة التجهيل التي كانت تتعرض لها الأمة من قبل الحكام ، ولا سيما أهل الشام ويكفي أن نذكر : أن البعض « قال لرجل من أهل الشام ـ من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم ـ : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الأمام على المنبر؟! فقال : أراه لصاً من لصوص الفتن »(3) !!

وفي صفين يسأل هاشم المرقال بعض مقاتلي أهل الشام : عن السبب الذي دعاه للمشاركة في تلك الحرب ، فيعلل ذلك بأنهم أخبروه : أن علياًعليه‌السلام لايصلي(4) .

__________________

1 ـ الغدير ج 7 ص 131 عن السيرة الحلبية ج 3 ص 386. ونقل أيضاً عن الباقلاني في التمهيد ص 195 إشارة إلى ذلك..

2 ـ راجع على سبيل المثال : الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59.

3 ـ مروج الذهب ج 3 ص 38.

4 ـ تاريخ الطبري ج 4 ص 30 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 313 والفتوح لابن اعثم ج 3 ص 196 وصفين ليصر بن مزاحم ص 354 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 36 والغدير ج 10 ص 122 و 290 عن أكثر من تقدم. وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 184 وترجمة الإمام عليعليه‌السلام لابن عساكر بتحقيق المحمودي ج 3 ص 99 ونقله المحمودي عن ابن عساكر ج 38 حديث رقم 1139. وراجع : المعيار والموازنة ص 160.

٨٦

وبلغ معاوية : أن قوماً من أهل الشام يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : « إنك بعثت إلي قوماً أفسدوا مصرهم وانغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قِبَلي ، ويعلموهم ما لا يحسنونه ، حتى تعود سلامتهم غائلة »(1) .

قال ابن الاسكافي : « فبلغ من عنايتهم في هذا الباب : أن أخذوا معلميهم بتعليم الصبيان في الكتاتيب، لينشئوا عليه صغيرهم ، ولا يخرج من قلب كبيرهم. وجعلوا لذلك رسالة يتدارسونها بينهم. ويكتب لهم مبتدأ الأئمة : أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، ومعاوية بن أبي سفيان. حتى ان أكثر العامة منهم ما يعرف علي بن أبي طالب ولا نسبه ، ولا يجري على لسان أحد منهم ذكره.

ومما يؤكد هذا ما يؤثر عن محمد بن الحنفية يوم الجمل ، قال : حملت على رجل فلما غشيته برمحي قال : أنا على دين عمر بن أبي طالب وقال : فعلمت أنه يريد علياً فأمسكت عنه(2) .

وجاء حمصي إلى عثمان بنصيحة ، وهي : « لا تكل المؤمن إلى إيمانه ، حتىتعطيه من المال ما يصلحه. أو قال : ما يعيشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك ، ولا ترسل السقيم إلى البرئ ليبرئه ، فإن الله يبرئ السقيم ، وقد يسقم البرئ. قال : ما أردت إلا الخير ـ قال : فردهم ، وهم زيد بن صوحان ، وأصحابه »(3) .

وقدمنا : أنه قد حلف للسفاح جماعة من قواد أهل الشام ، وأهل الرياسة والنعم فيها : أنهم ما كانوا يعرفون أهل البيت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرثونه غير بني أمية

__________________

1 ـ أنساب الأشراف ج 5 ص 43 ، والغدير ج 9 ص 32. وليراجع البداية والنهاية ج 7 ص 165.

2 ـ المعيار والموازنة ص 19.

3 ـ المصنف ج 11ص 334.

٨٧

بل إن أهل الشام يقبلون من معاوية أن يصلي بهم ـ حين مسيرهم إلى صفين ـ صلاة الجمعة في يوم الأربعاء ، كما قيل(1) .

وفي وصية معاوية ليزيد : « وانظر أهل الشام ، وليكونوا بطانتك ، فإن رابك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم : فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنهم إن أقاموا بها تغيرت أخلاقهم »(2) .

وحينما وقف أبو ذر في وجه طغيان معاوية ، وأثرته ، وانحرافاته ، في الشام ، قال حبيب بن مسلمة لمعاوية : « إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة(3) .

وحسب نص آخر : « إن أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله : كيت وكيت. فكتب معاوية إلى عثمان بذلك. فكتب عثمان : أخرجه إلي. فلما صار إلى المدينة ، نفاه إلى الربذة »(4) .

وحينما جاء المصريون إلى المدينة يسألون عمر عن سبب عدم العمل ببعض الأحكام القرآنية ، أجابهم بقوله : « ثكلت عمر أمُّه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ، وقد علم ربنا : أن سيكون لنا سيئات؟ ، وتلا :( إن تجتنبوا كبائِر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلاً كريماً ) هل علم أهل المدينة فيما قدمتم؟! قالوا : لا. قال لو علموا لوعظت بكم ».

قال لهم هذا بعد أن أخذ منهم اعترافاً بأنهم لم يحصوا القرآن لا بالبصر ، ولا في اللفظ ، ولا في الأثر(5) .

وبعد كلام جرى بين معاوية ، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة ، قال لها

__________________

1 ـ مروج الذهب ج 3 ص 32 والغدير ج 10 ص 196 عنه.

2 ـ الفخري في الآداب السلطانية ص 112 والعقد الفريد ج 3 ص 373 مع تفاوت يسير.

3 ـ الغدير ج 8 ص 304 عن ابن أبي الحديد.

4 ـ الأمالي للشيخ المفيد ص 122.

5 ـ حياة الصحابة ج 3 ص 260 عن كنز العمال ج 1 ص 228 عن ابن جرير.

٨٨

معاوية : « هيهات يا أهل العراق ، نبهكم علي بن أبي طالب ، فلن تطاقوا ، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم ، وإنصافها »(1) .

والعجيب في الأمر هنا : أننا نجد عمر بن الخطاب يصر على الهمدانيين ـ إصراراً عجيباً ـ أن لا يذهبوا إلى الشام ، وإنما إلى العراق(2) !!

ونظير ذلك أيضاً قد جرى لقبيلة بجيلة ، فراجع(3) .

وقال عبد الملك بن مروان لولده سليمان ، حينما أخبره : أنه أراد أن يكتب سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه ، ورأى ما للأنصارمن المقام المحمود في العقبتين ، قال له : « وما حاجتك أن تُقدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها؟! » ، فأخبره بتخريقه ما كان نسخه فصوب رأيه(4) .

وحينما طلب البعض من معاوية : أن يكف عن لعن عليعليه‌السلام ، قال : « لا والله ، حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر ذاكر له فضلاً »(5) .

وحينما أرسل عليعليه‌السلام إلى معاوية كتاباً فيه :

محمـد النبـي أخـي وصهـري

وحمـزة سيـد الشهـداء عمّـي

الأبيات

__________________

1 ـ العقد الفريد ج 2 ص 112 وبلاغات النساء ص 104 ط دار النهضة وليراجع صبح الأعشى أيضاً.

2 ـ المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 50.

3 ـ راجع : الكامل في التاريخ ج 2 ص 441.

4 ـ أخبار الموفقيات ص 332 ـ 334 وليراجع الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59 في قضية أخرى.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 4 ص 57 والإمام الحسن بن عليعليه‌السلام لآل يس ص125 ، والنصائح الكافية ص 72.

٨٩

« قال معاوية : أخفوا هذا الكتاب ، لا يقرأه أهل الشام : فيميلون إلى علي بن أبي طالب »(1) .

وليراجع كلام المدائني في هذا المجال ، فإنه مهم أيضاً(2) .

عليُّ عليه‌السلام يبثّ العلم والإيمان :

ولكن أمير المؤمنينعليه‌السلام قد حاول بكل ما أوتي من قوة وحول : أن يبث المعارف الإسلامية في الناس ، وينقذهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، حتى لقد قال ـ كما سيأتي ـ : « وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على معالم الحلال والحرام ». هذاً فضلاً عن التوعية السياسية ، التي كان هو ووُلْدُه الأماجد يتمون في بثها وتركيزها.

ط : موقفهم من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ثم هناك التدبير الذكي والدقيق ، الذي كان من شأنه أن يحرم الأمة من الإطلاع على كثير من توجيهات ، وأقوال ، وقرارات ، ومواقف الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المتمثلة في المنع عن رواية الحديث النبوي مطلقاً ، أو ببينة ، والضرب ، ثم الحبس ، بل والتهديد بالقتل على ذلك.

المنع عن كتابته والاحتفاظ به ،

ثم إحراق ما كتبه الصحابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

__________________

1 ـ البداية والنهاية ج 8 ص 8 و9.

2 ـ النصائح الكافية ص 72 / 73 /74.

3 ـ راجع في ذلك كله وحول كل ما يشير إلى التحديد والتقليل في رواية الحديث : المصادر التالية : جامع بيان العلم ج 1 ص 42 و 65 و 77 و ج 2 ص 173 و 174 و 135 و 203 و 147 و 159 و 141 و 148 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 258 و 262 و 325 و 377 و ج 10 ص 381 وهوامش الصفحات عن مصادر كثيرة ، والسنة

٩٠

..................................................................................

____________

=

قبل التدوين ص 97 / 98 و 91 و 103 و 113 و 92 و 104 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 5 و 7 و 6 و 8 و 3 / 4 وشرف أصحاب الحديث ص 88 و 89 و 91 و 92 و 87 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 273 وكنز العمال ج 5 ص 406 عن التيهقي و ج 10 ص 179 و 174 و 180 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وتأويل مختلف الحديث ص 48 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 248 و 427 حتى 432 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 2 و ج 4 قسم 1 ص 13 ـ 14 و ج 3 قسم 1 ص 306 و ج 5 ص 140 و 70 و 173 ، و ج 2 قسم 2 ص 274 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 61 وأضواء على السنة المحمدية ص 47 و54 و 55 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 64 و 61 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 2 ص 196 وحياة الصحابة ج 2 ص 82 و 569 و 570 و ج 3 ص 257 و 258 و 259 و 272 و 273 و 252 و 630 عن مصادر عديدة ، والبداية والنهاية ج 8 ص 106 و 107 وتقييد العلم ص 50 و 51 و 52 و 53 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 102 و 110 وتاريخ الخلفاء ص 138 عن السلفي في الطيورات بسند صحيح ، ومسكل الآثار ج 1 ص 499 حتى 501 ومسند أحمد ص 157 و ج 4 ص 370 و 99 و ج 3 ص 19 والدر المنثور ج 4 ص 159 ووفاء الوفاء ج 1 ص 488 و 483 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 6 ص 114 وحلية الأولياء ج 1 ص 160 ومآثر الإناقة. وراجع أيضاً : تاريخ الخلفاء ص 138 والمجروحون ج 1 ص 35 / 36.

ونقل أيضاً في الغدير ج 6 ص 294 حتى 302 و 265 و 263 و 158 و ج 10 ص 351 و 352 عن المصادر التالية : الكامل لابن الاثير ج 2 ص 227 وابن الشحنة بهامشه ج 7 ص 176 وفتوح البلدان ص 53 وصحيح البخاري ط الهند ج 3 ص 837 وسنن أبي داود ج 2 ص 340 وصحيح مسلم ج 2 ص 234 كتاب الأدب انتهى.

ونقله في النص والاجتهاد ص 151 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 5 ص 239 رقم 4845 و 4860 و 4865 و 4861 و 4862 والأم للشافعي ، وشرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 120 والمعتصر من المختصر ج 1 ص 459 وابن كثير في مسند الصديق وصفين ص 248 والتاج المكلل ص 265 وشرح صحيح مسلم للنووي ج 7 ص 127.

ونقل أيضاً عن المصادر التالية : قبول الأخبار للبلخي ص 29 ، والمحدث الفاصل ص 133 والبخاري بحاشية السندي ج 4 ص 88 وصحيح مسلم ج 3 ص 1311 و 1694 والموطأ ج 2 ص 964 ورسالة الشافعي ص 435 ومختصر جامع بيان العلم

٩١

ي ـ تشجيع القصاصين ورواية الإسرائيليات :

مع تشجيعهم للقصاصين ، ولرواية الإسرائيليات.

وقد وضعوا الأحاديث المؤيدة لذلك(1) .

ثم السماح بالرواية لأشخاص معينين ، دون من عداهم(2) حتى إن أبا

__________________

=

ص 32 و 33. وثمة مصادر أخرى لامجال لتتبعها..

1 ـ راجع فيما تقدم حول رواية الاسرائيليات وتشجيع القصاصين ، المصادر التالية : التراتيب الإدارية ج 2 ص 224 حتى 227 و 238 و 338 و 345 و 325 و 326 و 327 وأضواء على السنة المحمدية ص 124. حتى 126 و 145 حتى 192 وشرف أصحاب الحديث ص 14 و 15 و 16 و 17 وفجر الإسلام ص 158 حتى 162 وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 34 حتى 37 والزهد والرقائق ص 17 و 508 وتقييد العلم ص 34 وفي هامشه عن حسن التنبيه ص 192 وعن مسند أحمد ج 3 ص 12 و 13 و 56. وراجع أيضاً : جامع بيان العلم ج 2 ص 50 و 53 ، ومجمع الزوائد ج 1 ص 150 و151 و 191 و 192 و 189 والمصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 109 و 110 وهوامشه ومشكل الآثار ج 1 ص 40 و 41 والبداية والنهاية ج 1 ص 6 و ج 2 ص 132 و 134 وكشف الأستار ج 1 ص 120 و 122 و 108 و 109 وحياة الصحابة ج 3 ص 286.

2 ـ راجع : الصحيح من سيرة النبي ج 1 ص 26.

بل لم يسمحوا بالفتوى إلا للأمراء ، راجع : جامع بيان العلم ج 2 ص 175 203 وراجع ص 194 و 174 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 62 وسنن الدرامي ج 1 ص 61 والتراتيب اللإدارية ج 2 ص 367 و 368 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 179 ط ليدن و 258 ط صادر وكنز العمال ج 10 ص 185 عن غير واحد وعن الدينوري في المجالسة ، وعن ابن عساكر. والمصنف لعبد الرزاق ج 8 ص 301 وفي هامشه عن أخبار القضاة لوكيع ج 1 ص 83.

بل إن عثمان يتوعد رجلاً بالقتل ، إن كان قد استفتى أحداً غيره ، راجع تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 54 وحياة الصحابة ج 2 ص 390 / 391 عنه

٩٢

موسى ليمسك عن الحديث ، حتى يعلم ما أحدثه عمر(1) .

أضف إلى ذلك كله : حبسهم لكبار الصحابة بالمدينة ، وعدم توليتهم الأعمال الجليلة ، خوفاً من نشر الحديث ، ومن استقلالهم بالأمر(2) : وذلك بعد أن قرروا عدم السماح بالفتوى إلا للأمراء كما أوضحناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ك : لا خير في الإمارة لمؤمن :

وإذا كان الأمراء هم الذين ينفذون هذه السياسات ، وقد يتردد المؤمنون منهم في تنفيذها على النحو الأفضل والأكمل ، فقد اتجه العلم نحو الفجار ليكونوا هم أعوانه وأركانه.

وقد رووا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : لا خير في الإمارة لرجل مؤمن(3) .

__________________

1 ـ مسند أحمد ج 4 ص 393 وفي ص 372 يمتنع أنس عن الحديث.

2 ـ راجع : تاريخ الطبري حوادث سنة 35 ج 3 ص 426 ومروج الذهب ج 2 ص 321 و 322 وراجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 120 و ج 1 ص 110 وكنز العمال ج 10 ص 180 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 7 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 20 ص 20 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 317 و 334 و 365 وراجع : التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير ص 208 و 209 والفتنة الكبرى ص 17 و 46 و 77 وشرف أصحاب الحديث ص 87 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وطبقات ابن سعد ج 4 ص 135 و ج 2 قسم 2 ص 100 و 112 وحياة الصحابة ج 2 ص 40 و 41 و ج 3 ص 272 و 273 عن الطبري ج 5 ص 134 وعن كنز العمال ج 7 ص 139 و ج 5 ص 239.

وفي هذا الأخير عن ابن عساكر : أن عمر بن الخطاب جمع الصحابة من الآفاق ووبخهم على إفشائهم الحديث.

3 ـ البداية والنهاية ج 5 ص 83 ومجمع الزوائد ج 5 ص 204 عن الطبراني. وحياة الصحابة ج 1 ص 198 / 199 عنهما وعن كنز العمال ج 7 ص 38 وعن البغوي وابن

=

٩٣

وقد قال حذيفة لعمر : إنك تستعين بالرجل الفاجر. فقال : إني أستعمله لأستعين بقوته ، ثم أكون على قفائه.

وذكر أيضاً : أن عمر قال غلبني أهل الكوفة ، استعمل عليهم المؤمن فيضعف ، واستعمل الفاجر ، فيفجر(1) .

ل : أينعت الثمار واخضرّ الجناب :

وبعد ذلك كله فقد تهيأت الفرصة لمن سمح لهم بالرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن بني إسرائيل ، لأن يمدّوا الأمة بما يريدون ، ويتوافق مع أهدافهم ومراميهم ، من أفكار ومعارف ، وأقوال ومواقف ، حقيقية ، أو مزيفة

ثم تحريف ، بل وطمس الكثير من الحقائق التي رأوا أنها لا تتناسب مع أهدافهم ، ولا تخدم مصالحهم.

بل لقد طمست معظم معالم الدين ، ومحقت أحكام الشريعة ، كما أكدته نصوص كثيرة(2) .

بل يذكرون : أنه لم يصل إلى الأمة سوى خمس مئة حديث في أصول

__________________

= عساكر وغيرهما.

1 ـ الفائق للزمخشري ج 3 ص 215 و ج 2 ص 445 والنصائح الكافية ص 175 ولسان العرب ج 13 ص 346 و ج 11 ص 452. والاشتقاق ص 179.

2 ـ راجع الصحيح من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج 1 ص 27 ـ 30 بالإضافة إلى : المصنف ج 2 ص 63و مسند أبي عوانة ج 2 ص 105 والبحر الزخار ج 2 ص 254 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 1 ص 260 ومسند أحمد ج 4 ص 428 و 429 و 432 و 441 و 444 والغدير ج 8 ص 166 ، وراجع أيضاً مروج الذهب 3 ص 85 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 62.

٩٤

لأحكام ومثلها من أصول السنن(1) الأمر ، الذي يلقي ضلالاً ثقيلة من الشك والريب في عشرات بل مئات الألوف ، بل في الملايين(2) من الأحاديث ، التي يذكرون : أنها كانت عند الحفاظ ، أو لاتزال محفوظة في بطون الكتب إلى الأن. ولأجل ذلك ، فإننا نجدهم يحكمون بالكذب والوضع على عشرات بل مئات الألوف منها(3) .

وقد بلغ الجهل بالناس : أننا نجد جيشاً بكامله ، لايدري : أن من لم يُحْدِث ، فلا وضوء عليه ، « فأمر ( أبو موسى ) مناديه : ألا ، لا وضوء إلا على من أحدث. قال : أوشك العلم أن يذهب ويظهر الجهل ، حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل »(4) .

بل لقد رأينا : أنه : « قد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على ترك كثير من النصوص ، لما رأوا المصلحة في ذلك »(5) .

ويقول المعتزلي الشافعي عن عليعليه‌السلام : « وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ؛ لأنه كان متقيداً بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين

__________________

1 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 419 وعن الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 243.

2 ـ راجع على سبيل المثال : الكنى والألقاب ج 1 ص 414 ، ولسان الميزان ج 3 ص 405 وتذكرة الحفاظ ج 2 ص 641 و 430 و 434 و ج 1 ص 254 و 276.

وهذا الكتاب مملوء بهذه الأرقام العالية ، فمن أراد فليراجعه.

والتراتيب الإدارية ج 2 ص 202 حتى ص 208 و 407 و 408.

3 ـ راجع لسان الميزان ج 3 ص 405 و ج 5 ص 228 والفوائد المجموعة ص 246 و 427 وتاريخ الخلفاء ص 293 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 3 ص 96 وميزان الاعتدال ج 1 ص 572 و 406 و 509 و 316 و 321 و 12 و 17 و 108 و 148 والكفاية للخطيب ص 36 و سائر الكتب التي تتحدث عن الموضوعات في الأخبار. وراجع : المجرمون لابن حبان ج 1 ص 156 و 185 و 155 و 142 و 96 و 63 و 62 و ص 65 حول وضع الحديث للملوك وراجع أيضاً ج 2 ص 189 و 163 و 138 و ج 3 ص 39 و 63.

4 ـ حياة الصحابة ج 1 ص 505 عن كنز العمال ج 5 ص 114 وعن معاني الآثار للطحاوي ج 1 ص 27.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 83.

٩٥

تحريمه. وقد قالعليه‌السلام لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمنتع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب »(1) انتهى.

ولعل ما تقدم من موقف عمر من المصريين المعترضين يشير إلى ذلك أيضاً.

كما أن الفقهاء ، قد « رجح كثير منهم القياس على النص ، حتى استحالت الشريعة ، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة »(2) .

كما أن أبا أيوب الأنصاري لا يجرؤ على العمل بسنة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن عمر ، لأن عمر كان يضرب من عمل بها(3) .

ويصرح مالك بن أنس ، بالنسبة لغير أهل المدينة من المسلمين بـ : « أن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك »(4) .

وسيأتي المزيد مما يدل على إصرار الخلفاء ، وغير الخلفاء منهم ، على مخالفة أحكام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى من أمثال مروان بن الحكم ، والحجاج بن يوسف.

ماذا بعد أن تمهد السبيل :

وبعد هذا فإن الحكام والأمراء الذين مُنِحُوا ـ دون غيرهم ـ حق

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 28.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 84.

3 ـ المصنف ج 2 ص 433.

4 ـ جامع بيان العلم ج 2 ص 194.

٩٦

الفتوى! ، من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد أصبح بإمكانهم أن يفتوا بغير علم. بل أن يفتوا بما يعلمون مخالفته لما ورد عن سيد الخلق أجمعين ، محمد رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، ما داموا قد أمنوا غائلة اعتراض من يعلمون الحق ، ولم يعد يخشى من انكشاف ذلك للملأ من غيرهم الأمر الذي ربما يؤدي ـ لو انكشف ـ إلى التقليل من شأنهم ، وإضعاف مراكزهم ، ويقلل ويحد من فعالية القرارات والأحكام التي يصدرونها.

كما أن ذلك قد هيأ الفرصة لكل أحد : أن يدعي ما يريد ، وضع له الحديث الذي يناسبه ، بأييداً ، أو نفياً وتفنيداً.

كما أنهم قد أمنوا غائلة ظهور كثير من الأقوال ، والأفعال ، والمواقف النبوية ، والوقائع الثابتة ، التي تم مركز وشخصية من يهتمون بالتنويه باسمه ، وإعلاء قدره وشأنه ، أو ترفع من شأن ومكانة الفريق الآخر : أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا سيما سيدهم وعظيمهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، وكل من يمت إليه وإليهم بأية صلة أو رابطة ، أو له فيهم هوى ، أو نظرة إيجابية وواقعية ، انطلاقاً مما يملكه من فكر واع ، ووجدان حي.

أضف إلى ذلك كله : أن سياستهم هذه تجاه الحديث ، وسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنسجم مع رأي بعض الفرق اليهودية ، التي كان لأتباعها نفوذ كبير لدى الحكام آنئذ(1) .

ولسنا هنا في صدد شرح ذلك.

وعلي عليه‌السلام ماذا يقول :

هذا ولكننا نجد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشيعته ، والواعين من رجال هذه الأمة ، قد تصدوا لهذه الخطة بصلابة وحزم ، حتى لقد رفضعليه‌السلام في الشورى عرض الخلافة في مقابل اشتراط العمل بسنة الشيخين. وقد

__________________

1 ـ راجع كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ج 1 ص 26 / 27 متناً وهامشاً.

٩٧

طردعليه‌السلام القصاصين من المساجد ، ورفع الحظر المفروض على رواية الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

وقد رووا عنه : أنهعليه‌السلام قال : « قيدوا العلم ، قيدوا العلم » مرتين. ونحوه غيره(2) .

كما أنهعليه‌السلام يقول :

« من يشتري منا علماً بدرهم؟ قال الحارث الأعور : فذهبت فاشتريت صحفاً بدرهم ، ثم جئت بها ».

وفي بعض النصوص : « فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ، ثم جاء بها علياً ، فكتب له علماً كثيراً »(3) .

وعن عليعليه‌السلام قال تزاوروا ، وتذاكروا الحديث ، ولا تتركوه يدرس(4) .

وعنهعليه‌السلام : « إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده ، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر ، وإن يك باطلاً كان وزره عليه »(5) . ومثل ذلك كثير

__________________

1 ـ سرگذشت حديث ( فارسي ) هامش ص 28 وراجع كنز العمال ج 10 ص 171 و 172 و122.

2 ـ تقييد العلم ص 89 و 90 وبهامشه قال : « وفي حض عليّ على الكتابة انظر : معادن الجوهر للأمين العاملي 1 : 3 ».

3 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 259 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 116 ط ليدن و ص 68 ط صادر وتاريخ بغداد ج 8 ص 357 وكنز العمال ج 10 ص 156 وتقييد العلم ص 90 وفي هامشه عمن تقدم وعن كتاب العلم لابن أبي خيثمة 10 والمحدث الفاصل ج 4 ص 3.

4 ـ كنز العمال ج 10 ص 189.

5 ـ كنز العمال ج 10 ص 129 ورمز له بـ ( ك ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ).

٩٨

عنهعليه‌السلام (1) .

والإمام الحسن عليه‌السلام أيضاً :

وفي مجال العمل على إفشال هذه الخطة تجاه العلم والحديث ، وكتابته ، وكسر الطوق المفروض ، نجد النص التاريخي يقول : « دعا الحسن بن علي بنيه ، وبني أخيه ، فقال : « يا بني ، وبني أخي ، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ، فتعلموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه ، فليكتبه ، وليضعه في بيته »(2) .

ثم روى الخطيب ما يقرب من ذلك عن الحسين بن عليعليه‌السلام ، ثم قال : « كذا قال : جمع الحسين بن علي. والصواب : الحسن ، كما ذكرناه أولاً ، والله أعلم »(3) .

ولسنا هنا في صدد تفصيل ذلك ، ونسأل الله أن يوفقنا للتوفر على دراسة هذه الناحية في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

مشرعون جدد ، أو أنبياء صغار :

وطبيعي بعد ذلك كله وبعد أن كانت السياسة تقضي بتقليص نسبة

__________________

1 ـ راجع على سبيل المثال كنز العمال ج 10 كتاب العلم

2 ـ تقييد العلم ص 91 ونور الأبصار ص 122 وكنز العمال ج 10 ص 153 وسنن الدرامي ج 1 ص 130 وجامع بيان العلم ج1 ص 99 ، والعلل ومعرفة الرجال ج 1 ص 412 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 227 وفي هامش تقييد العلم عن بعض من تقدم ، وعن تاريخ بغداد ج 6 ص 399 ، ولم أجده ، وعن ربيع الأبرار 12 عن عليعليه‌السلام وراجع أيضاً التراتيب الإدارية ج 2 ص 246 / 247 عن ابن عساكر ، وعن البيهقي في المدخل.

3 ـ تقييد العلم ص 91.

٩٩

الاحترام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعمل على علو نجم قوم ، ورفعة شأنهم ، وأقول نجم آخرين ، والحط منهم وبعد أن مست الحاجة إلى المزيد من الأحكام الإسلامية ، والتعاليم الدينية ـ كان من الطبيعي ـ أن تعتبر أقوال الصحابة ، ولا سيما الخليفتين الأول ، والثاني ـ سنة كسنة النبي ، بل وفوق سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ساعد الحكام أنفسهم ـ لمقاصد مختلفة ـ على هذا الامر. وكنموذج مما يدل على ذلك ، وعلى خطط الحكام في هذا المجال ، نشير إلى قول البعض : « أنا زميل محمد » بالإضافة إلى ما يلي :

1 ـ « قال الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة : « كلهم في أحكامه ذو اجتهاد : أي صواب »(1) .

2 ـ وقال الشافعي : « لا يكون لك أن تقول إلا عن أصل ، أو قياس على أصل. والأصل كتاب ، أو سنة ، أو قول بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو إجماع الناس »(2) .

3 ـ وقال البعض عن الشافعية : « والعجب! منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه ، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(3) .

4 ـ ويقول أبو زهرة بالنسبة لفتاوى الصحابة : « وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنها من السنة ، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ، إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي. وهذا ينسحب على كل حديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى ولو كان صحيحاً »(4) .

ولا بأس بمراجعة كلمات الشوكاني في هذا المجال أيضاً(5) .

__________________

1 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 366.

2 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 367 ، وراجع ص 450.

3 ـ مجموعة المسائل المنيرية ص 32.

4 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 251 / 255 ومالك ، لأبي زهرة ص 290.

5 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 254 / 255 عن إرشاد الفحول للشوكاني ص 214.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

والمواصفات المعينة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية ، والاعتماد والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات ، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة.

ولقد قال العلماء : إنّ المسيرة التكاملية عند الانبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا ، فان الغشاوات والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الاُخرى منذ ذلك الوقت ، ويستمر ذلك حتّى تصل الاحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه أبداً ، ومن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك والحيرة والتردّد إلى قلبه وعقله مطلقاً.

إنَّ آيات سورة « الضحى » وخاصة عبارة « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه العبارة للنبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا مَن هو قائلها؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحيته فهي ساكتة عن كل ذلك؟

وذهب بعضُ المفسّرين إلى أن قائلها هم بعضُ المشركين ، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء الوحي ، لأنه لا أحد غير « علي » و « خديجة » كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي ، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه ، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك ، فإن أمر المبعث والرسالة ـ كما سنقول ذلك فيما بعد ـ بقي خافياً على أكثر المشركين لمدة ثلاثة اعوام تماماً ، فهو لم يكن مكلَّفاً بابلاغ رسالته إلى عامة الناس ، إلى أن نزَل قولُه تعالى : « فاصدَعْ بما تؤمر » الّذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء.

إختلافُ المؤرخين في مسألة « انقطاع الوحي » :

لم يرد في القرآن الكريم أيُ ذكر مطلقاً لمسألة ( انقطاع الوحي ) بل لم ترد به إشارة أيضاً ، إنما نلاحظها في كتب السيرة والتفسير فقط ، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علة ( انقطاع الوحي ) هذا ، ومدته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها ، وها نحن نشير اليها بشكل مّا :

٣٨١

١ ـ ان اليهود سألوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اصحاب الكهف ، وعن الروح ، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام : ساُخبركم غداً ، ولم يستثن ، فاحتبس عنه الوحي(١) .

بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود واحبارهم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق قريش وسؤالهم اياه حول هذه الاُمور الثلاثة ، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا النبي عن تلك الاُمور الثلاثة(٢) .

٢ ـ قالت خولة وهي امرأة كانت تخدم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ ، فلمّا خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جروٌ ميّت فأخذته والقته خلفَ الجدار فأنزلَ اللّهُ تعالى هذه السورة ولما نزل جبرئيل سأله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التأخر فقال : « أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ »(٣) .

٣ ـ إن المسلمين قالوا : يا رسول اللّه ، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ؟ فقال : « وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا تقصُّون أظفاركُمْ ولا تأخذونَ من شواربكم »؟(٤)

فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة.

٤ ـ اهدى عثمان إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنقود عنب وقيل عِذق تمر فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه وهكذا ثلاث مرات فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ملاطفاً لا غضبان : أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحيُ أياماً فاستوحش فنزلت

__________________

١ ـ روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ١٥٧ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣١٠ و ٣١١.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٠١.

٣ ـ تفسير القرطبي : ج ١٠ ، ص ٨٣ و ٧١ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٩.

٤ ـ نفس المصدر.

٣٨٢

السورةُ(١) .

٥ ـ إن جرواً لأحد نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه(٢) .

٦ ـ إنّ رسولَ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي قال جبرئيل ، لا املِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا عبدٌ مأمورٌ(٣) .

ثم ان هناك أقوالا اُخرى يمكنُ الحصول عليها من مراجعة التفاسير(٤) .

ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر تمسَكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حادثة ( حراء ) فقالت خديجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أرى ربَّك إلاّ قد قلاك!!

فنزلَ الوحيُ يقولُ : «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى »(٥) .

وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من الكُتّاب ، المريضة ، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم ، أنهم تمسكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال ، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي لم يَر في حياته أي أثر للشك والحيرة مطلقاً.

وإننا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته :

١ ـ لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حباً صادقاً وعميقاً ، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير ،

__________________

١ ـ تفسير روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ١٥٧.

٢ ـ غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري : ج ٣٠ ، ص ١٠٨.

٣ ـ تفسير ابو الفتوح الرازي : ج ١٢ ، ص ١٠٨.

٤ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، تفسير سورة الضحى.

٥ ـ تفسير الطبري : ج ٣٠ ، ص ١٤٨.

٣٨٣

ووقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه ، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها الزوجية ، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها الا التقوى والطهر ولم تلمس منه إلا كَرَم الصفات ونبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أول يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه وعشرتها اياهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية ، مع زوجها بغليظ القول ، وتوجه له مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة ، بل والجارحة؟؟!

٢ ـ إنّ آية : « ما وَدعَّكَ رَبُّك وَما قلى » لا تدل على أن « خديجة » قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا مَن هو القائل ، ولماذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوماً.

٣ ـ إن ناقل هذه الرواية يصف « خديجة » تارة بأنها طمأنت النبيّ ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن الإنتحار ، ولكنه يصفها تارة اُخرى بانها قالت له : بأن اللّه عاداه وقلاهُ ، ألا ينبغي هنا أن نقول : « كن ذكوراً ثم أكذب »؟!

٤ ـ إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد حادثة جبل ( حراء ) ونزول بضع آيات من سورة « العلق » إلى أن نزلت سورة « الضحى » ، يتوجب ـ في هذه الصورة ـ ان تكون سورة « الضحى » ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُور في حين أنَّ تاريخ نزول الآيات والسور القرآنية يفيد أنها السورةُ الحادية عشَرة من سُور القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي :

١ ـ العلق.

٢ ـ القلم.

٣ ـ المزمِّل.

٤ ـ المدّثر.

٥ ـ تبّت ( المَسَد ).

٣٨٤

٦ ـ التكوير.

٧ ـ الاعلى.

٨ ـ الانشراح.

٩ ـ والعصر.

١٠ ـ والفجر.

١١ ـ والضحى(١) .

نعم إنفرد اليعقوبي من بين المؤلفين باعتبار سورة الضحى ـ في تاريخه(٢) ـ السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول ، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة المذكورة ( انقطاع الوحي ).

الإختلاف في مدة انقطاع الوحي :

لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير ، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير والأقوال التالية هي :

٤ ـ أيّام.

١٢ ـ يوماً.

١٥ ـ يوماً.

١٩ ـ يوماً.

٢٥ ـ يوماً.

٤٠ ـ يوماً.

ولكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفه لم يكن حدثاً إستثنائياً ، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية ، منجّمة إذ يقول تعالى : «وَقُرآناً فرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ على مكْث »(٣) .

__________________

١ ـ تاريخ القرآن للزنجاني : ص ٥٨.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٣٣.

٣ ـ الاسراء : ١٠٦.

٣٨٥

ويكشفُ القرآن النقاب ـ في موضع آخر ـ عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال : «وَقال الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عليه الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة كَذلِكَ لِنُثبِّتَ بِهِ فَؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرْتيلا »(١) .

ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كل يوم وكلَّ ساعة ، وأن ينزل جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام ، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع ، بل إنّ الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات ، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبي ، ولأسرار اُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام(٢) .

وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمى بانقطاع الوحي ، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري ، والمتلاحق للوحي.

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٢ ـ راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية : ص ١٢٢ ـ ١٢٤.

٣٨٦

١٤

الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين

إستمرّ النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو إلى دينه سِرّاً مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عَمَد إلى بناء الكوادر واعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس ، فإنَّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته ، ويكتفي بالاتصالات الفردية السِّرية ويدعو اشخاصاً معينين إلى دينه.

وقد كانت هذه الدعوة السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس ، وتواجه دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم بالقبول ، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في هذه الفترة من عهد الرسالة ، وتاريخ الإسلام ، واليك بعضهم :

١ ـ السيدة خديجة بنت خويلد ( زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

٢ ـ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

٣ ـ زيد بن حارثة.

٤ ـ الزبير بن العوام.

٥ ـ عبد الرحمان بن عوف.

٦ ـ سعد بن أبي وقاص.

٣٨٧

٧ ـ طلحة بن عبيداللّه.

٨ ـ أبوعبيدة الجراح.

٩ ـ أبو سلمة.

١٠ ـ الأرقم بن أبي الارقم.

١١ ـ عثمان بن مظعون.

١٢ ـ قدامة بن مظعون.

١٣ ـ عبد اللّه بن مظعون.

١٤ ـ عبيدة بن الحارث.

١٥ ـ سعيد بن زيد.

١٦ ـ خباب بن الأرتّ.

١٧ ـ أبو بكر بن أبي قحافة.

١٨ ـ عثمان بن عفان.

وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي ، وآمنوا بنبوته في هذه الفترة(١) .

ولقد كان أقطاب قريش واسيادها منهمكين ـ طيلة هذه الاعوام الثلاثة ـ في لهوهم ومجونهم ، ومع أنهم كانوا قد عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلاّ أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فِعل تجاهها ، ولم يقوموا بشيء ضدّها.

ولقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش.

واتفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكة ، واستنكروا عملهم هذا ، وأدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي « سعد بن أبي وقاص » أحد المسلمين ، ومن هنا قرّر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتخاذ بَيْت « الأرقم بن أبي الأرقم » محلاً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٤٥ و ٢٦٢.

٣٨٨

للعبادة بدل شعاب مكّة ، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان ، بعيداً عن أعين المشركين(١) .

ولقد كان « عمّار بن ياسر » و « صهيب بن سنان » الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك البيت(٢) .

دَعْوةُ الأَقْرَبيْن :

يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج الواسعة والمشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى ـ عادة ـ من بدايات صغيرة ونقاط محددة ، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً ، وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة العمل ، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح ، والتكامل لما هم بصدده.

ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة : ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الإجتماعية وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟

فأجابه ذلك الزعيم قائلا : ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم انتم أهل الشرق ، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى ونبدأ من مكان صغير ، وبعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل ، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا اُسلوب عمَلنا ، وعَدلنا إلى طريقة اُخرى ، وبدأنا بعمل آخر.

أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير ، وتبدأون من نقطة واسعة ، وتحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة ، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في إمكانكم ان ترجعوا من

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦١.

٢ ـ هذا البيت كان عند جبل الصفا ، وكان معروفاً إلى مدة ب‍ « دار الخيزران » اُسد الغابة : ج ٤ ، ص ٤٤ ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٩٢ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٢٨٣.

٣٨٩

منتصف الطريق إلاّ بتحمل خسائر كبرى فادحة.

هذا مضافاً إلى ان أنفسكم كأنها قد عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر وترقّب وانتظار ، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة ، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة.

هذا ما قاله ذلك الغربيّ.

ولكن الّذي نتصوره ونعتقده نحن هو : أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب ، بل هي ميزة العقلاء الاذكياء من الناس ، فانهم يعتمدون هذا الاُسلوب لا نجاح مهامّهم ، وتحقيق مقاصدهم.

ولقد اتبع قائد الإسلام الاكبر الرسول الاعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدة ثلاثة أعوام من دون تعجُّل ، وكان يعرضُ دينه على كل من وجده أهلا للدعوة ، ومستعدّاً من الناحية الفكرية للتبليغ.

فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها ( لواء التوحيد ) جميع أفراد البشرية ، إلاّ أنه لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة ، بل لم يوجّه الدعوة الخاصة حتّى إلى أقاربه ، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا وصالحاً للدعوة ، ومستعدّاً لقبول الدِّين ، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته.

وقد كان زعماء قريش ـ كما اسلَفنا ـ منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون « مكة » وطاغيتها : « أبو سفيان » وجماعته كلما سَمِعوا بالدَّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا لانفسهم : إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً تماماً كما انطفأت من قبل دعوة « ورقة » و « اميّة » ( الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجه نحو المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل والتوراة ) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ حتّى يُنسى هذا الاُمر ، ويغدو خبراً بعد أثر ، بل

٣٩٠

لا شيء يُذكر.

بهذا التصوّر ، وبهذه العقليّة واجَهت زعامة « مكة » دعوة النبي في البداية ، ولهذا لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عَمل عدائيّ ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام ، ويُراعون معه قواعد الأدب والسلوك ، وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية ، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف.

ولكن منذ أنْ بدأ النبيُّ دعوة الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم ، ويذكر أوثانهم بسوء ويعترض على تصرفاتهم اللإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم ايضاً بدأت يقظة قريش ، وعرفوا أمر محمَّد يختلف عن أمر « ورقة » و « اُميّة » اختلافاً بيناً وانه لبين الدعوتين فرقا كبيراً ، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية ، لدعوة النبيّ.

وقد بدأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.

على أنه ما من شك في أنّ الاصلاحات العميقة الّتي يراد لها ان تترك أثراً في جميع شؤون الناس وكل مناحي حياتهم ، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوتين :

١ ـ قوةُ البيان ، بأن يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق الّتي جاء بها من أفكاره الخاصة ، أو ما تلقّاه عن طريق آخر إلى الناس باسلوب جذاب ، يأسر القلوب ، ويسحر العقول.

٢ ـ القوةُ الدفاعيةُ الّتي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم الأعداء والخصوم ، وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه الاُولى.

ولقد كان البيان لدى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعلى مرتبة من

٣٩١

الكمال فكان قادراً كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة والبلاغة. ولكنه كان يفتقر في الأيام الاُولى من دعوته إلى عنصر ( القوة الثانية ) ، أي ( القوة الدفاعية ) ، الرادعة الحامية ، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الاُولى من رسالته أن يضم إلى دعوته قرابة أربعين شخصاً ، وذلك في الظروف السرّية الشديدة ، ولا ريب ان تلك القلة القليلة من الاتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسؤولية الدفاع عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحماية رسالته.

من هنا عَمَد رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة إلى عامة الناس ، ليتمكَّن من هذا الطريق ، أن يزيل النقصَ من جهة عدم وجود القوة الثانية ، ويكوّن منهم سياجاً قوياً يحفظه ، ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.

على أن فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى والرحم على فرض انهم لم يؤمنوا برسالته ، ولم يقبلوا دعوته.

هذا مضافاً إلى انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد ان أي إصلاح وتغيير لابد أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره ، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه واقربائه وردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين ، لأنَّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة ، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته.

من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلا : «وَأَنْذِرْ عَشِيرتَكَ الأَقْرَبين »(١) .

كما أنه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله : «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمرُ وَأعْرضْ عَن المُشْركين. إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئينَ »(٢) .

__________________

١ ـ الشعراء : ٢١٤.

٢ ـ الحجر : ٩٤ و ٩٥.

٣٩٢

كيفيّة دَعوة الأقربيْن :

كانت طريقة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة وذكيّة جدّاً ، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر فأكثر.

فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى : « وانذر عشيرتك الاقربين » وكذا الأغلبية القريبة للاجماع مِنَ المؤرخين أن اللّه أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنْ ينذر عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه ورسالته فأمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب الّذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ طعاماً ولبناً ، ثم دعاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمساً وأربعين رجلا من سراة بني هاشم ووجوههم ، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم من امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلاّ أنه ـ وللأسف ـ ما أن أنتهوا من الطعام حتّى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأنْ يطرَح النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوع رسالته عليهم ، فانفض المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض.

ولما كان من غد أمر النبيُّ علياًعليه‌السلام باعداد الطّعام واللّبن ثانية ، وكرّر دعوة تلك الجماعة ، إلى ضيافة اُخرى ، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

« إنَّ الرائد لا يَكذبُ أهْلهُ وَاللّه الَّذي لا إله إلا هُو إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ خاصّة وإلى النّاس عامّة واللّه لَتمُوتُنَّ كما تَنامُونَ وَلَتُبْعَثُنَّ كَما تَسْتَيقظُون وَلَتُحاسبُنَّ بِما تَعْمَلُونَ وإنها الجَنَّة أبداً وَالنّارُ أبداً ».

ثم قال :

« يا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب انّي وَاللّه ما أعلَمُ شابّاً في العَربَ جاء قومَهُ بأَفضَل ممّا جِئتُكُمْ به ، انّي قَدْ جِئْتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة وَقَدْ أَمرَني اللّه عَزَّوجلَّ أن ادْعوكُمْ إليه فأيّكُمْ يُؤمن بي ويؤازرُني عَلى هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي وَ

٣٩٣

وَصِيّي وَخَليفَتي فِيكُم »؟

ولما بلغَ النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه النقطة ـ وبينما أمسك القومُ وسكتُوا عَن آخرهم إذ كان كلُ واحد منهم يفكِّرُ في ما يؤولُ إليهِ هذا الامرُ العظيمُ ، وما يكتنفهُ من أخطار ـ قام « عليّ »عليه‌السلام فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يكسر بكلماته الشجاعة ـ جدار الصمت والذهول ـ :

أنا يا رَسوُل اللّه أكونُ وَزيركَ عَلى ما بَعَثَكَ اللّه ».

فقال له رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إجلسْ ، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يحجم القومُ عن تلبية مطلبه ، ويقوم « عليّ » ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ ، ويأمره رسولُ اللّه بالجلوس حتّى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشريته الاقربين وقال :

« إنَّ هذا أخي وَوَصيّي وَخَليفَتي فيكُمْ ( أو عَليْكُمْ ) فاسْمَعُوا لهُ ، وَأطِيْعُوا ».

فقامَ القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب « قد أمرك أن تسمع لا بنكَ وتطيعَ وجعله عليك أميراً »(١) .

إنَ ما كتبناه هو ـ في الحقيقة ـ خلاصةٌ لحديث مفصَّل رواه اكثر المفسرين والمؤرخين بعبارات مختلفة ، ولم يشكّك في صحّته أحدٌ ، بل اعتبروه من مسلَّمات التاريخ ، الا « ابن تيمية » الّذي اتخذ موقفاً خاص من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين.

خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجنايَةٌ أدبيّة!!

إن تحريفَ الحقائق وقلبَها ، أو إخفاء الوقائع لهُو حقاً من أوضح مصاديق

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٢ و ٦٣ ، تاريخ الكامل : ج ٢ ص ٤٠ و ٤١ ، مسند أحمد : ج ١ ، ص ١١١ ، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٣ ص ٢١٠ و ٢١١.

٣٩٤

الخيانة والجناية.

ولقد سلَكَ فريقٌ من الكُتّاب المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح ، وأسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة والتاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق ، من الاعتبار ، وهم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض.

إلاّ أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انْقضاء الزّمن ، وتكامُل العِلْم ، ودَفع بفريق من أهل التحقيق والإنصاف إلى أن يمزقوا بأطراف اقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا الوقائع والحقائق على حقيقتها.

وإليك في ما يأتي بعض هذا الخيانات :

١ ـ لقد ذكر محمَّد بن جرير الطبري ( المتوفى عام ٣١٠ هـ ) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصَّل وعلى النحو الّذي مرّ على القارئ الكريم.

بيد أنه حرّف في تفسيره(١) وكَتمَ ، فهُو عند تفسير قوله تعالى : « وأنذِرْ عَشِيْرتَكَ الأَقرَبين » يذكرُ كلّ ما ذكره في تاريخه ، ولكنّه يغيّر ويبدّل في قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : « على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي » ، فهو يكتب في تفسيره هكذا : « على أنْ يكونَ كذا وكذا ».

ولا ريب انَّ في تغيير عبارة « أخي ووصيّي وخليفتي عَليكم ( أوفيكم ) إلى : « كذا وكذا » غرضَاً مريضاً ، وهو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.

على أن الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في الكلام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل غيّر حتّى في الجملة الّتي تعقبتها وهي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن قام عليُّعليه‌السلام للمرة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم وسكوتهم : « إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي » حيث أبدلها بعبارة : « إنَّ هذا أخي وكذا وكذا »!!!

إن على المؤرخ أن يكون حراً وشهماً في كتابة الحقائق وروايتها ، فيثبتها

____________

١ ـ تفسير الطبري : ج ١٩ ، ص ٧٤.

٣٩٥

ويرويها كما هي ، بكل شجاعة ، وصَلابَة.

ولا ريب ان الّذي دفع بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه المذهبي ، فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل ، وحيث أن تينك الكلمتين : « خَليفتي ووَصيّي » تصرّحان بخلافة « عليّ » للنبيّ ووصايته بلا فصل لذلك يغيّر ويبدّل حتّى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضاً.

٢ ـ ولقد فعل ابن كثير ( المتوفى عام ٧٣٢ هـ ) نظير هذا في تاريخه(١) وكذا في تفسيره ( ج ٣ ص ٣٥١ ) وسلك نفس الطريق الّذي سلكه ـ من قبل ـ سلفُه الطبري ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة النقل!!!

ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبداً ، لأنه قد اعتمد ـ في رواياته التاريخية ، في تاريخه وتفسيره معاً ـ تاريخ الطبري ، لا تفسيره ولا شك أنّه قد مرَّ على هذه القصة في تاريخ الطبريّ ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ ـ في هذه الحادثة ـ وعَمَد ـ بصورة غير متوقعة ـ إلى نقل رواية التفسير!!!

٣ ـ والأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه ـ في عصرنا الحاضر ـ وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور « هيكل » في كتابه « حياة محمَّد » ، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر.

والعجب ان « هيكل » هاجم ـ في مقدمته ـ جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية ، واختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو :

أولاً : نقل الواقعة المذكورة ( دعوة الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة ) في الطبعة الاُولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جداً واكتفى من الجملتين الحساستين بذكر واحدة منهما فقط وهي : قولُ النبي مخاطباً

__________________

١ ـ البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٤٠.

٣٩٦

الحضور في ذلك اليوم : « مَنْ يُؤازرني يكونُ أخِيْ وَوصيّي وخليِفَتِي » بينما حذف بالمرة الجملة الّتي قالها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لِعَلي بعد أن قام للمرة الثانية وأعلن موازرته للنبيّ وهي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّ هذا أخيْ وَوَصيّي وَخَلِيْفتي »!!!

ثانياً : انَّه خطى في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة ، خطوة أبعد حيث حذَف كلتا الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب. وقيمة كتابه ، كدراسة تاريخية!!

النبوة والإمامة توأمان :

إن الاعلان عن وصاية عليّعليه‌السلام وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوّة يفيد ـ بقوة ووضوح ـ انَّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصليْن ، ففي اليوم الَّذي يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن رسالته ونبوَّته ، يعيّن خليفته ووصيَّه من بعده ، وهذا يشهد ـ بجلاء ـ بأن النبوَّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة ، وأن هذين المنصبين إن هما الاّ كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شيء.

كما أن هذه الحادثة تكشف ـ من جانب آخر عن مدى الشجاعة الروحية الّتي كان يتحلّى بها الإمام اميرُ المؤمنين « عليُّ بن أبي طالب »عليه‌السلام ، حيث قام ـ في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدُهاة والسادة المجرِّبون عن قبول دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خوفاً وتهيّباً ـ وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ ، واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته وهو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر ، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!!!

صحيح ان « عليّاً »عليه‌السلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلاّ أن معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأتْ قلبهُ لتقبُّل الحقائق الّتي تردّد شيوخ القوم في قبولها ، بل عجزوا عن دركها وفهمها!!

ولقد اعطى ابو جعفر الإسكافي حق الكلام في هذا المجال إذ قال :

٣٩٧

فهل يُكلِّف عملُ الطعام ، ودعاء القوم صغيرٌ غير مميّز ، وغِر غير عاقل ، وهل يؤتمَن على سرّ النبوة طفلٌ وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقل لبيب ، وهل يضع رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده في يده ، ويعطيه صفقة يمينه بالاُخوة والوصيّة ، والخلافة ، الا وهو أهل لذلك ، بالغ حدّ التكليف ، محتمل لولاية اللّه ، وعداوة أعدائه ، وما بال هذا الطفل لم يأنس باقرانه ولم يلصق بأشكاله ، ولم يُرمع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه ، وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته ، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته بل ما رأيناه الا ماضياً على اسلامه ، مصمماً في أمره ، محققاً لقوله بفعله ، قد صدّق اسلامه بعفافه وزهده ، ولصق برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين جميع من حضرته فهو أمينه واليفه في دنياه واخرته(١) .

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢١٥ و ٢٩٥.

٣٩٨

١٥

الدعوة العامّة

كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرته الاقربين.

فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الاُولى من عمر الدعوة أن يهدي ـ من خلال الاتصالات السرية ـ مجموعة من الاشخاص إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عال عامة الناس إلى دين التوحيد.

فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا ونادى بصوت عال : يا صباحاه ( وهي كلمةٌ كانت العربُ تطلقها كلّما أحسَّت بخطر ، أو بلغها نبأ مُرعب فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الخطر )(١) فلفت نداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل المختلفة وقالوا : له ما لَكَ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرأيتكم إن أخبرتكم أنَّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟

__________________

١ ـ قال الجزري في النهاية : ج ٢ ، ص ٢٧١ : صعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصفا وقال : يا صباحاه ؛ هذه كلمة يقولها المستغيث ، وأصلها إذا صاحوا للغارة لانهم اكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمّون يوم الغارة يوم الصباح ، فكأن القائل : يا صباحاه يقول : قد غشينا العدو.

٣٩٩

قالوا : بلى.

قال : فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

ثم قال : إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى اهله فجعل يهتف : واصباحاه(١) .

ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشيء ، قبل هذا ولكنها تملَّكها الخوفُ هذه المرة ، وهي تسمعُ ذلك الانذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً إذ قال لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تبّاً لك ، ألهذا دعوتنا؟ ، وتفرّق على أثرها الناس.

الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف :

إن نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين :

الأول : الايمان بالهدف.

والثاني : الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك.

إنَّ الإيمان هو المحرِّك الباطني والقوة الخفية الّتي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو الغاية الّتي يتوخاها ، وتسهِّل عليه الصعاب ، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده ، لأن شخصاً كهذا يعتقد إعتقاداً قويّاً بأنَّ سعادته ، ومجده يتوقَّفان على ذلك.

وبعبارة اُخرى : إذا آمن انسان بأن سعادته ومجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه سيندفع بقوة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف ، متجاوزاً كل الصعاب ، ومتحدياً كل المشكلات في ذلك السبيل.

فالمريض الّذي يرى شفاءه في شرب دواء مرّ مثلا سيستسهل شُربه.

والغوّاص الّذي يعتقد إعتقاداً جازماً بأن ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دونما خوف أو وجل ، ليخرج منها بعد

__________________

١ ـ السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٩٤.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694