سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله11%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358133 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أنحاء العالم الإسلامي بإحضار كبار العلماء من المتمرّسين في مختلف أنواع العلوم بالحضور إلى خراسان ليسألوا الإمام عن أعقد المسائل العلمية، ولمّا حضروا عنده عرض عليهم الأمر، ووعد بالثراء العريض كل مَن يسأل الإمامعليه‌السلام سؤالاً يعجز عن إجابته، والسبب في ذلك - فيما نحسب - يعود إلى ما يلي:

أوّلاً: إنّ المأمون أراد أن ينسف عقيدة الشيعة ويقضي على جميع معالمها فيما إذا عجز الإمام الرضاعليه‌السلام فإنّه يتخذ من ذلك وسيلة لنقض ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع أنواع العلوم، ومن الطبيعي أنّ ذلك يؤدّي إلى زعزعة كيان التشيّع، وبطلان عقيدتهم في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً: إنّ الإمام لو عجز عن أجوبة المسائل التي يقدمها العلماء له فإنّ المأمون يكون في سعة من عزله عن ولاية العهد بعد أن استنفذت أغراضه السياسية منها، فقد أظهر للناس في بداية الأمر أنّه إنّما رشّح الإمام لهذا المنصب الخطير لأنّه أعلم الأمّة، ولكن لما ظهر له خلاف ذلك قام بعزله، وفي نفس الوقت تقوم وسائل إعلامه بإذاعة ذلك، والحط من شأن الإمام، وفي ذلك استجابة لعواطف الأسرة العباسية التي غاظها ترشيح المأمون للإمام لولاية العهد.

فعمدت إلى عزله، ومبايعة المغني إبراهيم - كما سنتحدث عن ذلك - وعلى إي حال فقد قام العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقاً في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرّس فيها، ويقول الرواة: إنّه سُئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مفرقة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية، وهي مليئة بالإعجاب والإكبار بمواهب الإمام وعبقرياته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الإمام من طاقات هائلة من العلم والفضل كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته، ممّا اضطر المأمون إلى حجب الإمام عن العلماء خوفاً أن يفتتنوا له ولم يذكر الرواة إلا كوكبة يسيرة منها، نعرض لها ولبعض ما أثر عنه هذا الموضوع، وفيما يلي ذلك:

1 - أسئلة عمران الصابئ:

وكان عمران الصابئ من كبار فلاسفة عصر الإمامعليه‌السلام كما كان الزعيم الروحي لطائفة الصابئة، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام، فاختار له أعمق المسائل الفلسفية وأكثرها تعقيداً وغموضاً. وقد شرحها وعلّق عليها المحقّق الشيخ

١٠١

محمد تقي الجعفري، قال: وقد اشتمل هذا الاحتجاج على أهم المسائل الإلهية وأغمضها، وهي على إطلاقها عويصات في الحكمة المتعالية، قد أتعبت أفكار الباحثين الناظرين في ذلك الفن، ولم يأت هؤلاء الأساطين بأجوبة كافية لتلك المسائل بل تعقبها أسئلة أخرى ربّما تكون أغمض من نفس الأسئلة، وقد وقعت تلك الغوامض موارد لأسئلة عمران في هذه الرواية، وأجاب عنها الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ثامن حجج الله على عباده وأُمنائه في أرضه، وما بيّنه الإمام في هذا الاحتجاج مناهج واضحة لم يطمسها غبار الحجب المادية التي تثيرها العقول المحدودة في معقل المحسوسات المظلمة، هكذا ينكشف عند المتمسّكين بأذيال أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي حقائق ضل في سبيل الوصول إليها الأفكار الناقصة.

( ونعرض للنص الكامل من أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها حسبما ذكره الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) مع مقتطفات من تعليقات الشيخ الجعفري عليها... لقد قدم الوفد الذي كان مع عمران جملة من المسائل، وبعدما أجاب الإمامعليه‌السلام عن أسئلة الوفد الذي هو من كبار علماء النصارى، واليهود والصابئة، قال لهم: ( يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام، وأراد أن يسأل، فليسأل غير محتشم... )

فانبرى إليه عمران الصابئ، وكان متطلّعاً بصيراً في علم الكلام فخاطب الإمام بأدب وإكبار قائلا: ( يا عالم الناس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك، لم أقدم عليك بالمسائل، فلقد دخلت الكوفة والبصرة، والشام، والجزيرة ولقيت المتكلّمين، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً - يعني أنّ الله تعالى واحد لا ثاني له - ليس غيره قائماً بوحدانيته أفتأذن لي أن أسألك... )

عرض الصابئ إلى عمق مسألته، وأنّه لم يهتد لحلها علماء الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ويطلب من الإمامعليه‌السلام حلها، فقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: ( إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو... ).

( أنا هو )

١٠٢

سل يا عمران، وعليك بالنصفة، وإيّاك والخطل(1) والجور... ).

وأطرق الصابئ بوجهه إلى الأرض، وقال بنبرات تقطر أدباً وإجلالاً للإمام: ( والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلق به فلا أجوزه... )

لقد أعرب الصابئ عن نواياه الحسنة وأنّه يريد الحقيقة، والوصول إلى الواقع، ولا صلة له بغير ذلك، فقالعليه‌السلام : ( سل عمّا بدا لك... ).

وكان المجلس مكتظاً بالعلماء والقادة، وفي طليعتهم المأمون فانضم بعضهم إلى بعض، وانقطعوا عن الكلام ليسمعوا أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها، وتقدّم الصابئ بأسئلته.

س1: ( أخبرني عن الكائن الأوّل، وعمّا خلق... ) أمّا المسؤول عنه في هذه الكلمات فهو الشيء الأوّل والمادة الأُولى التي خلق الله تعالى الأشياء منها، وليس المسؤول عنه وجود الله المبدع العظيم فإنّه من الأمور الواضحة التي لا يشك فيها من يملك وعيه وإرادته، فإنّ جميع ما في الكون تدلّل على وجود خالقها فإنّه من المستحيل أن يوجد المعلول من دون علّته... ولنستمع إلى جواب الإمامعليه‌السلام عن هذه المسألة.

ج 1: ( أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائنا، بلا حدود، ولا أعراض، ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة، لا في شيء أقامه، ولا في شيء حده، ولا على شيء حذاه، ومثله له، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة، وغير صفوة، واختلافاً وائتلافاً، وألواناً وذوقاً وطعماً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به ولا رأي لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً... ).

وحكى هذا المقطع من جواب الإمامعليه‌السلام ما يلي:

أوّلاً: إنّ الله تعالى واحد لا شيء معه، وهو مجرّد من الحدود والأعراض التي هي من صفات الممكن، فهو كائن واحد، ما زال ولا يزال، وليست وحدته عددية أو نوعية أو جنسية، وإنّما بمعنى عدم ارتباطه بأي شيء مادي أو غير مادي، فهو بمرتبة من الكمال لا يشابهه أي شيء من الممكنات التي نسبتها إليه نسبة الصانع إلى المصنوع، فتبارك الله.

ثانياً: إنّ النظرة البدوية في الأشياء أنّ كل صورة لا بد لها من مادة تقوم وتحل

___________________________

(1) الخطل: المنطق الفاسد.

١٠٣

بها، ولكن هذا بالنسبة إلى غير الواجب تعالى أمّا هو فإنّه يخلق الأشياء لا من شيء كان، ولا من شيء خلق، وإنّما يقول للشيء كن فيكون، فقد ابتدع خلق الأشياء لا على شيء حذاه، ومثله له، فهو القوّة الكبرى المبدعة لخلق الأشياء لا لحاجة منه إليها، فهو المصدر الوحيد للفيض على جميع الكائنات.

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( تعقل هذا يا عمران...؟ ).

( نعم والله يا سيدي... ).

( اعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلاّ مَن يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى؛ ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة ولكن تقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض، وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل... ).

وهذا الكلام متمّم لما قبله من أنّ الله تعالى خلق الخلق في غنى عنهم فهم المحتاجون إلى فيضه ورحمته وعطائه، فهو الجواد المطلق الذي بسط الرحمة والإحسان على جميع الموجودات والكائنات، وكان من فضله أنّه فضّل بعض مخلوقاته على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل.

س 2: ( يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه..؟ ).

وهذا السؤال عميق للغاية، وتوضيحه - حسبما ذكره الشيخ الجعفري - أن تحصل شيء وتحققه في الانكشاف العلمي كواقع ذلك الشيء ينحل إلى هوية نفسه، وطارديته لغيره، وبذلك يكون محدوداً، فإنّ الحجر ما لم يضف إلى هويته عدم جميع أضداده لا يتحصّل تحصلاً علمياً... فإنّ النفس المعلومة ما لم يلاحظ طرد جميع ما سواها عنها لا تكون معلومة ومحصلة عند العالم وكأنّ هذا هو الموجب لسؤال عمران عن كونه تعالى معلوماً عند نفسه، فحينئذٍ لو أجاب الإمام بثبوته لاستشكل عمران هل كان تحصيل نفسه عند نفسه ملازماً لطرد غيره من المعقولات أم لا؟.

ج 2: قالعليه‌السلام : ( إنّما يكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه، وليكن الشيء نفسه، بما نفى عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه، فتدعوه الحاجة إلى

١٠٤

نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد ما علم منها... والتفت الإمام إلى عمران فقال له: ( أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم والله يا سيدي... ).

وحاصل ما أجاب به الإمامعليه‌السلام أنّ ما ذكره الصابئ إنّما يصح فيما لو كان المعلوم مقارناً بعدّة أشياء تخالفه فيلزم حينئذٍ نفي تلك الأشياء لتحصيل المعلوم إلاّ أنّ الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ما لم يكن هناك شيء يقارنه فلا حاجة إلى نفيه ليقرّر إرادته بذلك النفي.

س 3: أخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ضمير؟

أراد الصابئ بهذا السؤال إلزام الإمام بالقول بالتركيب في ذاته تعالى، من جهة أنّه ذو ضمير.

ج 3: أرأيت إذا علم بضمير هل يجد بداً من أن يجعل لذلك الضمير حداً تنتهي إليه المعرفة؟ أراد الإمام أنّ ذلك الضمير لا بد أن يعرف حقيقته وماهيته، وقد وجّه الإمام إليه السؤال التالي: ( فما ذلك الضمير؟... ).

فانقطع الصابئ عن الكلام ولم يستطع أن يقول شيئاً، فقد سد الإمام عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات ما يذهب إليه، والتفت الإمام إليه قائلاً: ( لا بأس إن سألتك عن الضمير نفسه فتعرفه بضمير آخر؟ فإن قلت: نعم، أفسدت عليك قولك... ).

وأقام الإمام الحجّة الكاملة والبرهان القاطع على بطلان ما التزم به الصابئ من أنّه تعالى يعلم بواسطة الضمير، وعلى هذا فلا بد من ضمير آخر يقع به الإدراك لذاته تعالى، وهذا الضمير الآخر يتوقّف على ضمير غيره، وهكذا فيلزم التسلسل، وهو ما لا نهاية له، وإن توقف الضمير الثاني على الضمير الأول فيلزم منه الدور والأمران ممّا أجمع على فسادهما، لترتب الأمور الفاسدة عليها حسبما ذكره الفلاسفة والمنطقيون وتمم الإمامعليه‌السلام حجته وبرهانه بقوله: ( يا عمران أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له: أكثر من فعل وعمل وصنع، وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزية كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم، فاعقل ذلك، وابن عليه ما علمت صواباً... ).

١٠٥

أراد لإمامعليه‌السلام أنّ صدور الأفعال والأعمال المختلفة من الله تعالى ليست على غرار غيره من الممكنات التي تحتاج إلى العلل والأسباب كالعقل، وغيره من سائر الجوارح الظاهرية، فإنّه تعالى يستحيل عليه ذلك.

س 4: ( يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟... ).

واستفسر عمران عن حدود المخلوقات التي تميز بعضها عن بعض فأجابه الإمام:

ج 4: ( قد سألت فاعلم أنّ حدود خلقه على ستة أنواع: ملموس، وموزون، ومنظور إليه، وما لا ذوق له، وهو الروح، ومنها منظور إليه، وليس له وزن، ولا لمس، ولا حس، ولا لون، ولا ذوق، والتقدير والأعراض، والصور، والطول، والعرض، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها، وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها، وتنقصها، فأمّا الأعمال والحركات فإنّها تنطلق؛ لأنّه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة، وبقي الأثر، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره... ).

وحفل جواب الإمامعليه‌السلام بذكر الخواص والصفات التي تتميّز بها الأشياء سواء أكانت من الكائنات الحيّة أم من غيرها.

س 5: يا سيدي: ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره، ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق... ).

ومعنى هذا السؤال أنّ الحقائق الطبيعية، التي أوجدها الله تعالى، أنّها توجب تغير الخالق العظيم بتغييرها، وهذا إنّما يلزم على القول باتحادها معه تعالى ذاتاً، وهذا مستحيل.

ج 5: ( قديم لم يتغيّر عزّ وجل بخلقه الخلق، ولكن الخلق يتغيّر، بتغييره... ).

وحاصل جواب الإمامعليه‌السلام أنّ الخالق العظيم لما كان هو الصانع والموجد للأشياء، وهو قديم فلا يلزم منه التغيير بتغيير الممكنات والكائنات.

س 6: ( يا سيدي فبأي شيء عرفناه؟... ).

ج 6: ( بغيره... إنّ جميع ما في الكون ممّا يرى، وممّا لا يرى يدلل على وجود الخالق العظيم،

١٠٦

لقد عرفناه بمخلوقاته، وآمنا به بما نشاهده من بدائع صنعته، وقد استبان بصورة واضحة لا غموض فيها في هذه العصور التي غزا الإنسان فيها الفضاء الخارجي، فقد ظهر للبشرية عظيم صنعته تعالى بما أودعه في هذا الفضاء من الكواكب التي لا تحصى ولا تعد، وكلّها تسير بانتظام، ودقّة، ولو اختلفت في مسيرها لحظة لتصادمت، وتلاشت، ولم يبق لها اثر، فسبحان الله المبدع الحكيم.

س 7: أي شيء غيره؟

ج 7: ( مشيئته، واسمه وصفته، وما أشبه ذلك، وكل ذلك محدث، مخلوق، مدبّر... ).

لقد عرفنا الله بمشيئته واسمه وصفاته التي دلّت عليه سبحانه، ففي دعاء الصباح: ( يا مَن دلّ على ذاته بذاته ).

وكل ما في الكون من موجودات تستند إليه استناد المصنوع إلى الصناع.

س 8: يا سيدي أي شيء هو؟

ج 8: ( هو نور، بمعنى أنّه هادٍ خلقه من أهل السماء، وأهل الأرض، وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إيّاه... ).

لقد أراد عمران بسؤاله معرفة حقيقة الله تعالى، متوهّماً أنّه تعالى كسائر الممكنات والموجودات، ولمّا كان ذلك مستحيلاً، إذ كيف يحيط الإنسان الذي لا يعرف ذاته وما فيها من الأجهزة الدقيقة، كيف يعرف حقيقة الخالق العظيم المصور والمبدع للأكوان، وقد أجاب الإمامعليه‌السلام أنّه يعرف بأوصافه الظاهرية من هدايته لخلقه وغير ذلك من الأدلة الصريحة الواضحة التي تنادي بوجود خالقها العظيم.

س 9: يا سيدي: أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق، ثم نطق...

ج 9: ( لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج: هو ساكت لا ينطق، ولا يقال: إنّ السراج ليضيء، فما يريد أن يفعل بنا لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه، ولا كون، وإنّما هو ليس شيء غيره، فلمّا استضاء لنا، قلنا: قد أضاء لنا، حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك... ).

ومعنى جواب الإمامعليه‌السلام أنّ السكوت والنطق إنّما يعرضان موضوع قابل لهما، توارد العدم والملكة وحيث إنّ نطق الله تعالى ليس على غرار ما يتصف به الناطقون من الممكنات، فيصح عليه النطق، كما يصح عليه السكوت وقد ذهبت

١٠٧

الشيعة إلى أنّ التكلّم من صفات الأفعال، لا يقوم بذاته تعالى قوام الأوصاف الذاتية، فإنّه تعالى هو الذي خلق النطق والكلام إذا أراده، وقد مثّل الإمامعليه‌السلام لذلك بالسراج فإنّه لا يقال له إنّه ساكت لا ينطق، كما أنّ إسناد الإضافة إلى السراج ليس اختياريا له، هذه بعض الاحتمالات في تفسير كلام الإمامعليه‌السلام .

س 10: ( يا سيدي: فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق... ).

ج 10: ( يا عمران في قولك إنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه، حتى يصيب الذات منه ما يغيره، هل تجد النار تغيرها تغير نفسها، وهل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره؟... ).

إنّ هذا السؤال من عمران قد تقدّم، وقد أجابه الإمامعليه‌السلام وقد زادهعليه‌السلام توضيحاً، فقال له إنّ الكائن لا يتغيّر بوجه من الوجوه، فأفعال النفس - مثلاً - التي تصدر منها لا توجب زيادة فيها ولا نقصاناً، وهناك مثال آخر وهو البصر، فإن صدر الرؤية منه لا توجب زيادة فيه ولا نقصانا.

س 11: ( ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق، أم الخلق فيه؟... )

ج 11: ( أجل هو يا عمران عن ذلك، ليس هو في الخلق، ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك، وسأعلمك ما تعرفه، ولا قوّة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها، أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران...؟ ).

لقد أحال الإمامعليه‌السلام حلول الله تعالى في خلقه، وحلولهم فيه، ومثّل لذلك بالصورة التي تنعكس في المرآة فإنّها لا تحل فيها، وكذلك المرآة لا تحل في الصورة، وإنّما النور هو الذي أوجب رؤية الصورة في المرآة، وهو غير حال في شيء منهما، يقول ابن الفارض:

بوحدته دامت لها كل كثرة

فصحت وقد آنت لها كل علة

فقد صار عين الكل فردا لذاته

وإن دخلت أفراده تحت عدة

نظرت فلم أبصر سوى محض وحدة

بغير شريك فد تغطّت بكثرة

وهنا بحوث فلسفية عميقة أعرضنا عن ذكرها إيثاراً للإيجاز.

س 12: ( بضوء بيني وبينها... ).

١٠٨

وهذا السؤال مرتبط بما قبله، وقد أوضحناه.

ج 12: هل ترى من ذلك الضوء أكثر ممّا تراه في عينك؟

عمران: نعم.

الإمام: فأرناه.

وسكت عمران، ولم يدر ما يقول، فقد سدّ الإمام عليه كل نافذة يسلك منها، وواصل الإمام حديثه قائلاً: ( فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك، ودلّ المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى ).

تأجيل المناظرة:

وحضر وقت الصلاة، ولم يجد الإمام بدّاً من تأجيل المناظرة فالتفت إلى المأمون، فقال له: الصلاة حضرت، وخاف عمران من عدم استئناف الحوار بينه وبين الإمام، فقال له: ( يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي، فقد رقّ قلبي... ).

فأوعده الإمامعليه‌السلام بالعودة إلى مناظرته، ونهض الإمام فأدّى فريضة الصلاة.

استئناف المناظرة:

وعادت الجلسة، وقد حضرها المأمون، وكبار العلماء والقادة، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( سل يا عمران... ).

س 13: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الله عزّ وجل، هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف؟... ).

ج 13: إنّ الله المبدأ، الواحد الكائن الأول، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه، لا معلوماً - يعني بحقيقته - ولا مجهولاً، ولا محكماً، ولا متشابهاً، ولا مذكوراً، ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون، ولا بشيء قام، ولا إلى شيء يقوم ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل لخلق(1) إذ لا شيء غيره، وما أوقعت عليه من الكل

____________________

(1) في نسخة قبل خلقه الخلق.

١٠٩

فهي صفات محدثة، وترجمة يفهم بها مَن فهم. واعلم أنّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه ومشيئته وإرادته التي جعلها أصلاً لكل شيء، ودليلاً على كل شيء مدرك، وفاصلاً لكل مشكل، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها، تتناهى ولا وجود لها؛ لأنّها مبدعة بالإبداع. والنور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض، والحروف هي المفعول التي عليها مدار الكلام، والعبادات كلّها من الله عزّ وجل علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا تدل على لغات السريانية والعبرانية، ومنها خمسة أحرف متحرفة في ساير اللغات من العجم والأقاليم، واللغات كلها، وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً، فأمّا الخمسة المختلفة ( فيتجنح ) لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثم جعل الحروف بعد إحصائها، وأحكام عدتها فعلامته كقوله عزّ وجل:( كن فيكون ) وكن منه صنع، وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عزّ وجلّ الإبداع لا بوزن له، ولا حركة، ولا سمع، ولا لون، ولا حس، والخلق الثاني الحروف، لا وزن لها، ولا لون، وهي مسموعة موصوفة، غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوساً، ملموساً، ذا ذوق منظور إليه والله تبارك وتعالى سابقاً للحروف، والحروف لا تدل على غير نفسها. وبهر المأمون، ولم يفهم أكثر محتويات هذه الكلمات العميقة التي تحتاج إلى وقت طويل لبيانها، وقال للإمام: ( كيف لا تدل - أي الحروف - على غير أنفسها؟... ). فأجابه الإمام موضحاً له الأمر قائلاً:

( إنّ الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألف منها أحرفاً أربعة أو خمسة، أو ستة، أو أكثر من ذلك، أو أقل لم يؤلّفها بغير معنى ولم يكن إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً... ).

س 14: كيف لنا بمعرفة ذلك؟...

ج 14: أمّا المعرفة فوجه ذلك وبيانه: إنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير

١١٠

نفسها ذكرتها فرداً، فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، وإذا ألفتها وجعلت منها أحرفاً، وجعلتها اسماً وصفة لمعنى، ما طلبت، ووجه ما عنيت، كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟

( نعم ).

وواصل الإمام حديثه في بيان معاني الحروف عند تركيبها قائلاً: ( واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف، ولا حد لغير محدود، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال، والوجود ولا مثال على الإحاطة، كما تدل الحدود التي هي التربيع والتثليث، والتسديس؛ لأنّ الله عزّ وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد، بالطول والعرض، والقلّة والكثرة، واللون والوزن، وما أشبه ذلك، وليس يحل بالله، وتقدس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا. ولكن يدل على الله عزّ وجل بصفاته، ويدرك بأسمائه، ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن، ولا لمس كف، ولا إحاطة بقلب، ولو كانت صفاته جلّ ثناؤه لا تدل عليه، وأسماؤه لا تدعو إليه، والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا أنّ ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله لأنّ صفاته وأسماءه غيره... أفهمت يا عمران؟ )

( نعم يا سيدي زدني... )

وواصل الإمام حديثه الممتع، وقد استولى على مَن حضر من العلماء والقادة، قائلاً: ( إيّاك وقول الجهّال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب في الثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عزّ وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكن القوم تاهوا وعموا، وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عزّ وجل:( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (1) .

يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 72.

١١١

يكون إلاّ بما ها هنا، ومَن أخذ علم ذلك برأيه، وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً؛ لأنّ الله عزّ وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون... ).

س 15: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الإبداع أخلق هو أم غير خلق؟... ).

علّق الشيخ الجعفري على هذه المسألة بقوله: إنّ هذه المسألة أيضاً ممّا أعيى الأذهان والعقول البشرية؛ لأنّها التي أوجبت افتراق المسالك والفرق المختلفة فمنهم مَن قال: باستحالة الإبداع مطلقاً أكان من الواجب، أم من الممكن، ومن قبيل المواد والصور أو العقول والنفوس وغيرها، ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم من حصر إمكان الإبداع على الله تعالى على نحو العموم أي إنّه تعالى قادر على أن يبدع أي موجود شاء دون مادة سابقة له، وقع التغير عليه، وقد قالوا: إنّه مقتضى قدرته المطلقة وقابلية الموضوع ومنهم من ذهب مذاهب أخرى(1) .

ج 15: بل خلق ساكن، لا يدرك بالسكون، وإنّما صار خلقاً لأنّه شيء محدث، والله تعالى الذي أحدثه فصار خلقاً له، وإنّما هو الله عزّ وجل خلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما، فيما خلق الله عزّ وجل لم يعد أن يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحركاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عزّ وجل، واعلم أنّ كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس، وكل حاسة تدل عل ما جعل الله عزّ وجل لها في إدراكها، والفهم من القلب بجميع ذلك كله، واعلم أنّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً مقدراً بتحديد وتقدير، وكان الذي خلق خلقين اثنين: التقدير والمقدر، وليس في كل واحد منهما لون ولا وزن، ولا ذوق، فجعل أحدهما يدرك بالآخر وجعلهما مدركين بنفسهما، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه واثبات وجوده فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه، ولا يعضده، ولا يكنه، والخلق ممّا يمسك بعضه بعضاً بإذن الله تعالى ومشيئته، وإنّما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم، فازدادوا من الحق بعداً، ولو وصفوا الله عزّ وجل بصفاته،

____________________

(1) تحف العقول (ص 527).

١١٢

ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين، ولما اختلفوا، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه، ارتبكوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم... )

س 16: ( أشهد أنّه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة... ).

( سل عمّا أردت... ).

( أسألك عن الحكيم في أي شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحوّل من شيء إلى شيء؟ أو به حاجة إلى شيء...؟ ).

ج 16: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فإنّه مَن أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم، وليس يفهم المتفاوت عقله، العازب حلمه، ولا معجز عن فهمه أولو العقل المنصفون، أمّا أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجة إلى ذلك، ولكنّه عزّ وجل لم يخلق شيئاً لحاجة ولم يزل ثابتا لا في شيء، ولا على شيء إلاّ أنّ الخلق يمسك بعضه بعضاً، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه،

والله جلّ وتقدّس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه، ولا يؤوده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك؟ إلاّ الله عزّ وجل، ومن أطلعه عليه من رسله، وأهل سره، والمستحفظين لأمره وخزانه، القائمين بشريعته، وإنّما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنّما يقول له( كن فيكون ) بمشيئته وإرادته وليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد منه من شيء... أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم يا سيدي... ).

إنّ الإنسان مهما أوتي من علم فهو عاجز عن معرفة نفسه وما فيها من الأجهزة الدقيقة المذهلة، فكيف ليعرف أو يحيط علماً بالخالق العظيم، مبدع الأكوان، وواهب الحياة، يقول ابن أبي الحديد:

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر عليلا

فكري كلّما دان شبراً منك راح ميلا

أنت حيّرت ذوي اللب، وبلبلت العقولا

إنّ فكر الإنسان محدود فكيف يعرف حقيقة الله تعالى، نعم عرفناه وآمنّا به بمخلوقاته، فكل ذرّة في هذا الوجود تنادي بوجود الخالق العظيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض.

١١٣

إسلام الصابئ:

ولمّا رأى عمران الصابئ الطاقات الهائلة من العلم التي يتمتع بها الإمامعليه‌السلام ، والتي منها أجوبته الحاسمة من أعمق المسائل الفلسفية التي لا يهتدي لحلّها إلاّ أوصياء الأنبياء الذين منحهم الله العلم وفصل الخطاب، أعلن عمران إسلامه وطفق يقول: ( أشهد أنّ الله تعالى على ما وصفت، ووحدت، وأشهد أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله عبده المبعوث بالهدى، ودين الحق... ). ثم خرّ ساجداً لله تعالى وأسلم، وبهر العلماء والمتكلمون من علوم الإمام، ومواهبه وعبقرياته، وراحوا يحدثون الناس عن فضل الإمام وسعة علومه، وانصرف المأمون وهو غارق بالألم، قد أترعت نفسه بالحقد والحسد للإمام:

خوف محمد على الإمام:

وخاف عمّ الإمام محمد بن جعفر عليه من المأمون، وكان حاضرا في المجلس، ورأى كيف تغلب على عمران الصابئ الذي هو في طليعة فلاسفة العصر، فاستدعى الحسن بن محمد النوفلي، وكان من أصحاب الإمام فقال له: ( يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك - يعني الإمام -؟

لا والله ما ظننت أنّ علي بن موسى الرضا خاض في شيءٍ قط، ولا عرفناه به، إنّه كان يتكلّم بالمدينة، أو يجتمع إليه أصحاب الكلام؟...

( وراح النوفلي يعرفه بعلم الإمام وفضله قائلاً: ( قد كان الحجاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، وربّما كلم مَن يأتيه يحاججه... ).

وراح محمد يبدي مخاوفه من المأمون على ابن أخيه قائلاً: ( إنّي أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّة، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء... ).

وكان النوفلي يظن خيراً بالمأمون، ولا يخاف منه على الامام، فقال لمحمد: ) ما أراد الرجل - يعني المأمون - إلاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه؟... ).

ولم يقنع محمد بكلام النوفلي، فقد كان يظن السوء بالمأمون وراح يقول له: ( قل له: إنّ عمّك قد كره هذا الباب، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء

١١٤

لخصال شتّى... ).

وكان عمّ الإمام مصيباً في حدسه، عالماً بما تكنّه الأسرة العباسية من العداء والحقد لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أثارت أسئلة الصابئ وإسلامه على يد الإمام أحقاد المأمون فقدم اغتيال الإمام كما سنوضّح ذلك في غضون هذا الكتاب.

ونقل النوفلي كلمات محمد إلى الإمامعليه‌السلام فشكره على ذلك، ودعا له بالخير.

تكريم الإمام لعمران:

وكسب الإمامعليه‌السلام في مناظرته إسلام عمران الذي هو في طليعة علماء عصره، فقد بعث خلفه، فلمّا مثل عنده رحّب به وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا له بكسوة فخلعها عليه وأعطاه عشرة آلاف درهم، ففرح عمران بذلك وأخذ يدعو للإمام ويشكره على ذلك قائلاً: ( جُعلت فداك حكيت فعل جدّك أمير المؤمنين عليه السلام ).

وجعل عمران يتردد على الإمام ويكتسب من فيض علومه وصار بعد ذلك فيما يقول المؤرّخون داعية من دعاة الإسلام، وجعل المتكلمون من أصحاب المقالات والبدع يفدون عليه، ويسألونه عن مهام المسائل وهو يجيبهم عنها، حتى اجتنبوه، وأوصله المأمون بعشرة آلاف درهم، كما أعطاه الفضل بن سهل مالاً، وولاه الإمام على صدقات بلخ فأصاب الرغائب(1) .

أسئلة سليمان المروزي:

أمّا سليمان المروزي فكان متضلّعاً بالفلسفة، ومتمرسا في البحوث الكلامية وكان يعد في طليعة علماء خراسان، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام الرضاعليه‌السلام وقد قابله بحفاوة وتكريم، وقال له: إنّ ابن عمي علي بن موسى الرضا، قدم علي من الحجاز، وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته... ).

وخاف سليمان من ذلك، فقد ظن أنّ الإمام سوف يعجز عن أجوبة مسائله فيحقد عليه العلويون، وراح يعتذر من المأمون قائلاً:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 168 - 178، وذكر الطبرسي ما يقرب من ذلك في الاحتجاج، والمجلسي في البحار، والحسن بن شعبة في تحف العقول.

١١٥

( إنّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلّمني، ولا يجوز الانتقاص عليه... ).

وتعهّد له المأمون، ووعده أن لا يصيبه أي أذى أو مكروه قائلاً: ( إنّما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلاّ تقطعه عن حجّة واحدة فقط... ).

وهذا الكلام يدلل على سوء ما يضمره المأمون للإمام، وما يكنّه له من الحقد والعداء، واطمأن سليمان، من أي اعتداء عليه، وراح يقول للمأمون: ( حسبك يا أمير المؤمنين، اجمع بيني وبينه، وخلّني والذم... ).

ووجّه المأمون في الوقت رسوله إلى الإمام يطلب منه الحضور لمناظرة سليمان فأجابه الإمام إلى ذلك، وحضر معه وفد من أعلام أصحابه ضم عمران الصابئ الذي أسلم على يده وجرى حديث بينه وبين سليمان حول البداء، فأنكره سليمان، وأثبته عمران، وطلب سليمان رأي الإمام فيه فأقره، واستدل عليه بآيات من الذكر الحكيم، والتفت المأمون إلى سليمان فقال له: سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف، ووجه سليمان الأسئلة التالية للإمامعليه‌السلام :

س 1: ( ما تقول فيمَن جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حي، وسميع، وبصير وقدير؟... ).

ج 1: إنّما تقول: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه سميع بصير، فهذا دليل على أنّهما - أي الإرادة والمشيئة - ليستا مثل سميع، ولا بصير، ولا قدير.

وانبرى سليمان قائلاً: ( فإنّه لم يزل مريداً... ).

ورد عليه الإمام: ( يا سليمان فإرادته غيره؟... ).

( نعم... ).

وذهب سليمان إلى التعدد مع أنّ الله تعالى متحد مع إرادته، وأبطل الإمام شبهته قائلاً: ( قد أثبت معه شيئاً غيره لم يزل؟... ).

( ما أثبت... ).

١١٦

( أهي - أي الإرادة - محدثة؟... ).

( لا ما هي محدثة... ).

وضيق الإمام على سليمان الخناق، وراحت أقواله تتناقض فتارة يقول بقدم الإرادة، وأخرى يقول بحدوثها، فصاح به المأمون، وطلب منه عدم المكابرة، والإنصاف في حديثه قائلاً: ( عليك بالإنصاف، أما ترى من حولك من أهل النظر؟. )

والتفت المأمون إلى الإمام قائلاً: ( كلّمه يا أبا الحسن، فإنّه متكلّم خراسان ).

وسأله الإمام قائلاً: ( أهي محدثة؟... ).

فأنكر سليمان حدوث الإرادة، فردّ عليه الإمام: ( يا سليمان هي محدثة، فإنّ الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً... ).

وانبرى سليمان قائلاً:

( إرادته - أي الله - منه؟ كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه ).

وأبطل الإمام عليه قوله، وقائلاً: ( فأراد نفسه؟... ).

( لا... ).

وأخذ الإمام يفند مقالته قائلاً له: ( فليس المريد مثل السميع والبصير ).

وراح سليمان يتخبّط خبط عشواء فقد ضيّق الإمام عليه، وسد كل نافذة يسلك منها، قائلاً: ( إنّما أراد نفسه، كما سمع نفسه، وأبصر نفسه، وعلم نفسه... ).

وانبرى الإمام فأبطل مقالته، قائلاً له: ( ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً، وأراد أن يكون حياً، أو سميعاً، أو بصيرا أو قديراً؟... ).

ولم يدر سليمان ماذا يقول، فأجاب: ( نعم... ).

١١٧

فقال له الإمام: ( أفبإرادته كان ذلك؟... ).

( نعم... )

وطفق الإمام يبطل مقالته، ويبدي ما فيها من التناقض قائلاً: ( فليس لقولك: أراد أن يكون حياً سميعاً، بصيراً معنى، إذا لم يكن ذلك بإرادته؟... ).

والتبس الأمر على سليمان، وراح يقول: ( بلى قد كان ذلك بإرادته... ). وعجّ المجلس بالضحك، وضحك المأمون والرضاعليه‌السلام من تناقض كلام سليمان، والتفت الإمام إلى الجماعة، وطلب منهم الرفق بسليمان، ثم قال له: ) يا سليمان، فقد حال - أي الله تعالى - عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف الله به... ).

وبان العجز على سليمان، وانقطع الكلام، والتفت الإمام إليه ليقيم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان أسألك عن مسألة...؟ ).

( سل جعلت فداك... ).

( اخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون؟ أو بما لا تفقهون، ولا تعرفون... ).

( بل بما نفقه ونعلم... ).

وأخذ الإمام يقيم الحجّة والبرهان على خطأ ما ذهب إليه سليمان قائلاً: ( فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيء واحد... ).

وطفق سليمان قائلاً: ( جعلت فداك، ليس ذلك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون؟ ).

واندفع الإمام يبطل ما ذهب إليه قائلاً: ( فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف، ولا يعقل... ).

وحار سليمان ولم يطق جواباً أمام هذه الطاقات الهائلة من العلم التي يملكها

١١٨

الإمامعليه‌السلام ، واستأنف الإمام حديثه ليتم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟... ).

وأسرع سليمان قائلاً: ( نعم ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك؟... ).

( نعم... ).

( فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء، إلاّ كان يزيدهم أو يطويه عنهم؟... )

فأجاب سليمان: ( بل يزيدهم... ).

وأبطل الإمام قوله: ( فأراه في قولك: قد زادهم ما لم يكن في علمه، أنّه يكون... ).

وطفق سليمان يقول: ( جعلت فداك فالمريد لا غاية له... ).

ومضى الإمام يفنّد شبه سليمان قائلاً:

( فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما، لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى الله عزّ وجل عن ذلك علواً كبيراً... ).

وراح سليمان يعتذر ويوجه ما قاله: ( إنّما قلت: لا يعلمه، لأنه لا غاية لهذا، لان الله عزّ وجل وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً... ).

وراح الإمامعليه‌السلام يفنّد شبهه وأوصافه قائلاً: ( ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم؛ لأنّه قد يعلم ذلك، ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال الله عزّ وجل في كتابه:( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (1) وقال لأهل الجنّة:( عَطَاءً غَيْرَ

____________________

(1) سورة النساء / آية 56.

١١٩

مجذوذ ) (1) وقال عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (2) فهو عزّ وجل يعلم ذلك لا يقطع عنهم الزيادة... أرأيت ما أكل أهل الجنة، وما شربوا يخلف مكانه؟... ).

( بلى... ).

( أفيكون يقطع ذلك عنهم، وقد أخلف مكانه؟... ).

( لا... ).

ومضى الإمامعليه‌السلام يقرّر ما ذهب إليه قائلاً: ( فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم... ).

وراح سليمان يتمسك بالشبه والأوهام ثم يزيله عنها هذه الحجج البالغة التي أقامها الإمام قائلاً: ( بلى يقطعه عنهم، ولا يزيدهم... ).

وانبرى الإمام فأبطل ذلك بقوله: ( إذا يبيد فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود، وخلاف الكتاب؛ لأنّ الله عزّ وجل يقول:( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (3) .

ويقول عزّ وجل: (عطاء غير مجذوذ) ويقول عزّ وجل:( وما هم عنها بمخرجين ) (4).

ويقول عزّ وجل:( خالدين فيها أبداً ) (5)

ويقول عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) .

ووجم سليمان، وحار في الجواب، وراح يسد عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات شبهة قائلاً له: ( يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة أفعل هي أم غير فعل...؟ ).

( بل هي فعل... ).

ورد الإمام عليه: ( فهي محدثة لأنّ الفعل كله محدث... ). إنّ كل ممكن معلول ومصنوع وحادث إمّا واجب الوجود تعالى فهو عارٍ عن

____________________

(1) سورة هود / آية 108

(2) سورة الواقعة / آية 33.

(3) سورة ق / آية 35.

(4) سورة الحجر / آية 48.

(5) سورة البينة / آية 8.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

دقائق ظافراً بأغلى الجواهر.

بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكُّ في عمله ، أو يعتقد بعدم فائدته ، فانَّه لن يُقدمَ عليه قط واذاما أقدم فان عمله سيكون حينئذ مقروناً بالجهد والعناء.

فقوة الإيمان اذن هي الّتي تذلّل كل مُشكل ، وتسهِّل كلَّ صعب.

غير أنه لا ريب في أنَّ الوصولَ إلى الهَدف لا يخلو من مشكلات وموانع ، فلابدّ من السعي لرفع تلك الموانع ، وإزالة تلكم المشكلات.

وقد قيل قديماً : أنَّ مع كل وردة أشواك ، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟

هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه المسألة ( وهي ان رمز السعادة هو : الإيمان بالهدف والثبات في طريق تحقيقه ) في جملة قصيرة إذ قال : «إنَّ الَّذيْن قالُوا ربُّنا اللّه ثُمَّ استقامُوا تتَنَزَّلُ عَليْهِمْ الْمَلائكة أنْ لا تَخافُوا وَلا تَحزَنُوا وأبْشروا بِالجَنَّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ »(١) .

ثَباتُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وَصَبرُهُ :

لقد أدّت إتصالاتُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخاصّة. قَبل الدعوة العامة ، وجهودُه الكبرى بعد الجهر بالدعوة ، إلى ظهور وتكوين صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر ، والوثنية.

فالَّذين دخَلُوا سرّاً في حوزة الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة تعرَّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة ، وشكّل القدامى والجدد جماعة قوية متعاطفة متحاببة ، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية ، أربكها وجعلها تشعر بالخطر.

على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء عليها كان أمراً سهلا لقريش ، ولكنّ الّذي أرعب قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنَّ أفراد هذه

__________________

١ ـ فُصّلت : ٣٠.

٤٠١

الجماعة ، وعناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة ، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوة ، بل إنتمى من كل قبيلة إلى الإسلام ، عددٌ من الأفراد ، ومن هنا لم يكن إتخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمراً سهلا وبسيطاً.

من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها ـ بعد تداول الأمر في ما بينهم ـ أن يبدأوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة ، ومحرِّك هذا الحزب ، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالاغراء والتطميع تارة ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد والايذاء تارة اُخرى.

وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية ، إلى ان قررت بالتالي قتله ، ولكنه استطاع ان يبطل مُؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه.

ولقد كان « أبو طالب » آنذاك زعيم بني هاشم ورئيسها المطلق ، وكان رجلا طاهر القلب عالي الهمّة ، شجاعاً ، كريماً ، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين ، وملاذاً أميناً للفقراء والأيتام ، وكان يتمتع في المجتمع العربي ـ علاوة على رئاسة مكة وبعض مناصب الكعبة ـ بمكانة كبرى ومنزلة عظيمة ، وحيث أنّه كان كفيلا لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاة جدّه « عبد المطلب » ، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية(١) عنده وقالوا له :

« يا أبا طالب إن ابن أخيك قدسبّ آلهتنا ، وعابَ دينَنا ، وسفَّه أحلامنا وضلّل آباءنا ، فامّا أن تكفّه عنّا ، وإما أن تخلّي بيننا وبينه ».

ولكن « أبا طالب » قال لهم قولا رفيقاً وردَّهم ردّاً جميلا حكيماً ، فانصرفوا عنه.

بيد أنَّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان يتزايد باستمرار ، وكانت جاذبيّة الدّين المحمَّدي ، وبيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك ، فيترك اثره في الناس ،

__________________

١ ـ ادرج ابن هشام في سيرته : ج ١ ، ص ٢٦٤ و ٢٦٥ اسماءهم بالتفصيل.

٤٠٢

وخاصة في الأشهر الحرم حيث تفد الحجيجُ على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة ، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرض دينه عليهم ، فكانت أحاديثه الجذّابة ، وكلماتُه البليغة ، ودينُه المحبَّب تؤثر في قلوب كثير منهم ، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول.

وهنا أدرك طغاة مكة وفراعنتها أن « محمَّداً » قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل ، واصبح له انصارٌ واتباعٌ في كثير منها ، ممّا دفعهم مرّة اُخرى إلى الحضور عند « أبي طالب » حاميه الوحيد ، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالاخطار المحدقة باستقلال المكّيين وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع :

يا أبا طالب ، إن لك سنّاً ، وشَرفاً ، ومنزلة فينا ، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن اخيك فلم تنهَه عنّا ، وإنا واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا ، حتّى تكفه عنّا ، أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين.

فأدرك حامي الرَّسول الوحيد ـ بذكائه وفطنته ـ أنّ عليه أن يصبرَ أمام جماعة ترى وجودها ، ومصالحها في خطر ، من هنا عَمد إلى مسالمتهم وملاطفتهم ، ووعدَ بأن يبلغ ابن اخيه « محمَّد » كلامهم. وقد كان هذا محاولة من « أبي طالب » لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة وإطفاء نائرتهم ، وتهدئة خواطرهم ، ليتمَّ معالجة هذه المشكلة ـ بعد ذلك ـ بطريقة أصحّ وأفضل.

ولهذا أقبل ـ بعد خروج تلك الجماعة من عنده ـ على إبن اخيه ، وذكرَ له ما قال له القومُ ، وهو يريد ـ بذلك ضمناً ـ إختبار إيمان « محمَّد » بهدفه ، فكان الردُّ العظيمُ ، والجوابُ الخالد الّذي يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر « محمَّد » رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش :

« يا عَمّ ، واللّه لو وضعُوا الشَمْس في يميني ، والقمرَ في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه ، أو اهلكَ فيه ، ما تركُته ».

ثم اغرورَقتْ عيناه الشريفتان بدموع الشوق والحب للهدف ، وقام وذهب

٤٠٣

من عند عمه.

وكان لتلك الكلمات الصادقة النافذة أثرٌ عجيب في نفس زعيم مكة وسيدها الوقور بحيث نادى ابن اخيه ، وأظهر له استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه ، والحدب عليه رغم كل المخاطر ، والمتاعب الّتي كانت تكمن له إذ قال :

« إذهَبْ يا ابْن أَخي فَقُلْ ما أحبَبْتَ فَو اللّه لا اُسلمك لِشَيء أبداً ».

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة :

لقد أقلق انتشار الإسلام المتزايد قريشاً ، ودفعها إلى التفكير في حيلة ، فاجتمع أشرافها وسادتها للتشاور مرّة اُخرى وقالوا :

لعل كفالة أبي طالب لمحمَّد هي الّتي تدفعه إلى الدفاع عنه وحمايته والوقوف إلى جانبه في دعوته ، فكيف لو مشوا إليه بأجمل فتيان مكة ، وطلبوا منه أن يأخذه بدل « محمَّد » ويسلّمه اليهم ليروا فيه رأيهم ، ولهذا مشوا إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له :

يا أَبا طالب هذا عمارةُ بن الوليد أنهَدُ فتى في قريش وأجملُه ، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه ، واتخذه ولداً فهو لكَ ، وأسلِمْ إليْنا ابن أخيكَ هذا ، الّذي فرّق جماعة قومكَ ، وَسفَّه أحلامَهُمْ فنقتله ، فانما هو رجل برجل!!

فأجابهم أبو طالب وهو مستاء من هذه المساومة الظالمة :

« هذا واللّه لبئس ما تسومونني! أتعطوني إبنكم أغذُوهُ لكم ، واعطيكم ابني تقتلونه ، هذا واللّه ما لا يكون أبداً ».

فقال « المطعم بن عدي بن نوقل » : واللّه يا أبا طالب لقد أنصفَك قومُك ، فما أراك تريد أن تقبَل منهم شيئاً.

فأجابه أبو طالب قائلا : واللّه ما أنصفوني ولكنّك قد أجمَعتَ خُذْلاني ، ومظاهرة القوم عليّ فاصنَعْ ما بدا لك(١) .

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٧ و ٦٨ ، السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ، ص ٢٦٦ و ٢٦٧.

٤٠٤

قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!

ولما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء « أبي طالب » بخذلان ابن اخيه « محمَّد » ، فهو وإن كان لا يتظاهر بالإسلام ، إلاّ أنهم يكنُّ لابن أخيه ، وُدّاً عميقاً ، ومحبة كبرى من هنا قرّروا بأنْ يتركوا مفاضوة ، إلاّ أنهم فكّروا في خطة اخرى وهي أن يُحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب ، والهدايا ، والأموال والفتيات الجميلات ، ولهذا مشوا إلى بيت « أبي طالب » ودخلوا عليه ومحمَّد جالسٌ إلى جنبه فتكلّم متكلِّمهُمْ وقال : يا محمَّد انا بعثنا اليك لِنُكلَّمك ، فانا واللّه لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومك ما ادخلت على قومه لقد شتمت الآباء ، وعيبت الدين ، وسببت الآلهة ، وسفهت الاحلام ، وفرقت الجماعة ولم يبق امر قبيح الاّ أتيته فيما بيننا وبينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثر مالا ، وان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا ، وان كان هذا الّذي ياتيك تابعاً من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك.

فقال ابو طالب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ، يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟

فتكلم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا عم أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي اليهم بها العجم الجزية.

ففزعوا لكلمته ، ولقوله فقال القوم كلمة واحدة : نعم وأبيك عشراً.

قالوا : فما هي ، فقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي؟

قال : « لا اله الاّ اللّه ».

فكان هذا الرد مفاجئة قوية لذلك الفريق الّذي يأمل في صرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هدفه ، ولهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : « أجعَلَ الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب »(١) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٠٣ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٥ و ٦٦.

٤٠٥

نماذجٌ من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين :

يومَ صدَعَ رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اُمر ، وجَهر بدعوته للناس وأيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من إقتراحاتهم بعد ما سمعوه يقول : « واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه ما تركُته » بدأ في الحقيقة واحداً من أشدّ فصول حياته ، واكثرها متاعبَ ومصاعبَ ، لأن قريشاً كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه ، وتسيطر على أعصابها ، ولكنها عند ما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرَّت إلى تغيير نهجها واُسلوبها معه لتقفَ دون إنتشار دينه مهما كلَّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل الممكنة.

من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن يتوسَّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية ، والإيذاء والتهديد ، بهدف صرفه عن المضيّ في دعوته(١) .

ولا يخفى أن المصلح الّذي يفكر في هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير من الصبر والتحمل ، أمام جميع المشكلات والمتاعب ، والمكاره والشدائد ليتغلب عليها شيئاً فشيئاً ، كما كان دأب كل المصلحين الآخرين.

ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش لرسول اللّه وأتباعه ليتضح مدى صبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثباته ، واستقامته على طريق الدعوة.

ولقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتمتع ـ مضافاً إلى العامل الروحي والمعنويّ الباطني الّذي كان يساعده من الداخل أعني الإيمان والصبر والإستقامة والثبات ـ بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته وذلك حماية بني هاشم ، وعلى رأسهم أبو طالب لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه عند ما عرف « ابو طالب » بعزم قريش القاطع على إيذاء إبن أخيه ( محمَّد ) دعا بني هاشم عامة ، وطلب منهُم جميعاً حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام دونه ، فلبَّوا نداء سيّدهم ، وأجابوه

__________________

١ ـ راجع لمعرفة ابرز من كان يؤذي النبيّ والمسلمين المحبر : ص١٥٧ و ١٦١.

٤٠٦

إلى ما دعاهم من حماية رسول اللّه وحراسته بعضٌ بدافع الايمان وآخر بدافع الرَحم ، الاّ « أبو لهب » ورجلان آخران انضموا إلى اعداء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر ـ مع ذلك ـ على صيانتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض الحوادث المرّة ، لأنّ قريشاً ألحقت به الأذى ، وأنزلت به مكروهاً ، كلما وجدته وَحيداً بعيداً عن أعين حُماته.

وإليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى :

١ ـ مَرَّ « أبو جهل » برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ونال منه ببعض ما يُكره من العيب لدينه ، والتضعيف لأمره ، فلم يكلّمه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ، فلم يلبث « حمزة بن عبد المطلب » رضي اللّه عنه أن أقبلَ متوشحاً قوسَه راجعاً من قَنص له ، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلاّ وقف وسلَّم وتحدَّث معهم ، وكان أعز فتى في قريش ، وأشدّ شكيمة.

فلما مرّ بالمولاة ، وقد رجع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيته قالت له : يا أبا عمارة ( وتلك هي كنيته ) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمَّد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ( وتعنى أبا جهل ) : وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبَّه ، وبلَغَ منهُ ما يُكرَه ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فغضب « حمزة » لذلك ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.

فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم ، فاقبل نحوه ، حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّهُ شجة منكرة ، ثم قال : « أتشمته وأنا على دينه أقول ما يقول. فردَّ ذلك عليَّ أن استطعتَ ».

فقامت رجالٌ من بني مخزوم إلى « حمزة » لينصروا « أباجهل » فقال أبو جهل :

٤٠٧

دعوا أبا عمارة فاني قد سبَبْتُ ابن أخيه سبّاً قبيحاً(١) . وبهذا منع « أبو جهل » الّذي كان ممن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار وقتال.

إنَّ التاريخ الثابت والمسلَّم يشهد بأنّ وجودَ رجال ذوي بأس وقوة بين صفوف المسلمين مثل « حمزة » الّذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام ، قد كان له أثرٌ كبيرٌ في حفظ الإسلام ، والحفاظ على حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعم جماعة المسلمين ، وتقوية جناحهم ، فهذا ابن الاثير(٢) يقول عن حمزة : لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عزّ وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.

من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد خطط اُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين ، سنذكرها في المستقبل.

هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي(٣) على أن رُدود فعل إسلام « أبي بكر » و « عمر » واثرهما لم تكن بأقلّ من تاثير إسلام « حمزة » ، وانَّ الدين قويَ جانبه باسلام هذين الرجلين ، وكسَبَ المسلمون بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرك ، والحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد تأثيره في تقوية ودعم الإسلام ، إلاّ أنه لا يمكن ـ القولُ بحال بأن تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام « حمزة » ، فإن « حمزة » ما انْ سمع بأن قريشاً أساءت إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاّ وتوجه ، من دون أن يُعرّج على أحد ، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ انتقام ، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه ، ومن غضبه وانتقامه ، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن « أبي بكر » امراً يكشف عن أن « أبابكر » يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية نفسه ، ولا على الدفاع عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . واليك نصُّ الواقعة :

مرَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذاتَ يوم على جماعة من قريش وهم جلوسٌ عندَ الحجر ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به يقولون : أنتَ الّذي تقول :

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٩١ و ٢٩٢ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧٢.

٢ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٥٦.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٢٦ و ٣٢.

٤٠٨

كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم أنا الّذي اقولُ ذلك ، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه ( وهم يقصدون قتله ) فقام « أبو بكر » دونه وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا يقول رَبّي اللّه؟ فانصرفوا عنه ( ولم يقتلوه لأمر رأوه ) ، فرجع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منزله ، ورجع « أبو بكر » يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه(١) .

إن هذه الرواية التاريخية إذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنها تدل قبل أي شيء على عجزه وضعفه.

إنه يدلُّ على أنه لم يملك ذلك اليوم لا أية مقدرة بدَنية وروحية ، ولا أية مكانة اجتماعية تُرهَب ، وحيث أنَّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينطوي ـ في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد ـ لذلك تركوا رسولَ اللّه ، وَوَجَّهُوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه.

ولو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين وقايست بين موقف « حمزة » الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنَّ عزة الإسلام وقوة المسلمين ، وتعزيز موقفهم ، وخوف الكفار كان يعود إلى الإسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟

هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام « عمر ». وسترى بأنَّ إسلامه ـ كاسلام صديقه ـ لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية ، وأنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه.

فيوم أسلم « عمر » كادَ أن يُقتل لولا « العاص بن وائل السهمي » لأنه هو الّذي خاطب الذين قصدوا قتل « عمر » قائلا : رَجُلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون منه؟ أترونَ بني عَدِيّ بن كعب يسلمون لكم صاحبَهم هكذا ، خلوُّا عن الرجل »(٢) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٨٩ و ٢٩٠ ، وقد ذكر الطبري في تاريخه : ج ٢ ، ص ٧٢ قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٤٩.

٤٠٩

إن هذه العبارة الّتي قالها « العاص » لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد ـ بوضوح ـ أن الخوف من قبيلة « عمر » هو الّذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله ، وقد كان دفاعُ القبائل عن أبنائها سنة فطرية وعادة متعارفة يومذاك وكان يتساوى فيها الكبير والصغير ، والشريف والوضيع.

أجل إنّ بني هاشم هم كانوا ـ في الواقع ـ الحصن الحقيقي للمسلمين ، وقد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمله « أبو طالب » وذووه ، وإلاّ فانَّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم ، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين ليقال بأن المسلمين اعتزوا بهم؟

أبوجهل يكمُن لرسول اللّه :

لقد أغضب تقدمُ الإسلام المطرد قريشاً بشدة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش إلى صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغلي في نفوسهم ، فهذا فرعون مكة « أبو جهل لقريش في مجلس من مجالسهم : يا معشر قريش إن محمَّداً قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آهلتنا ، واني اُعاهِدُ اللّه لأَجلسنَّ له غداً بحجر ما اُطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه.

فلما كان من غد أخذ « أبو جهل » حجراً كما وصَف ثم جلس لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتظره ، وغدا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عادته ووقف للصلاة بين الركن اليمانيّ والحجر الأسود ، وغدت تلك الجماعة من قريش فجلست في انديتها تنتظر ما ابو جهل فاعلٌ ، فلما سجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحتمل « أبو جهل » الحجر ، ثم اقبل نحوه ، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه ، مَرعوباً وقذف الحجَر من يده ، فقامت إليه رجالٌ من قريش وقالوا له : مالك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف والرعب : قمت إليه

٤١٠

لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة فلما دنوتُ منه عرضَ لي دونهُ ما لا رأيتُ مثلَه حياتي ، فتركتُه!!(١) .

إنه ليس من شك في أنَّ قوة غيبيّة أدركتْ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة ، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب وحفظت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما وعده تعالى وعداً لا خلف فيه إذ قال : «إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئيْن »(٢) .

وهناك نماذج كثيرةٌ من أذى قريش لشخص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سجَّلها التاريخ في صفحاته ، وقد عقد « ابن الأثير »(٣) فصلا خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الألدّاء ، في مكّة ، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلاّ أمثلة على ذلك ، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه في كل يوم نوعاً خاصاً من الأذى ، والمضايقة.

فقد رُوي أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطوف ذات يوم فشتمه « عقبة بن أبي معيط » وألقى عمامَته في عنقه ، وجرّه من المسجد ، فأخذوه من يده ، خوفاً مِن بني هاشم(٤) .

أبو لهب يؤذي رسول اللّه :

ولقد تعرّض رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأذى لا مثيل له من جانب عمه « أبي لهب » وزوجته « اُم جميل » وقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاورهم ، فلم يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٩٨ و ٢٩٩.

٢ ـ الحجر : ٩٥.

٣ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤٧ كما وعقد المجلسيرحمه‌الله في البحار : ج ١٨ باباً خاصاً بعنوان : « باب المبعث واظهار الدعوة وما لقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القوم » راجع من صفحة ١٤٨ إلى صفحة ٢٤٣.

٤ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٢٩٣ نظيره.

٤١١

والتراب على رأسه الشريف وثيابه. وكم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريقه ، أو جمعته باب بيته لتؤذيه عند الخروج.

ولا شك ان معارضَة انسباء النبي واقربائه لدعوته المباركة ، وايذاؤهم اياه كان اكثر ايلاماً لنفسه الشريفة ، واشد وقعاً عليها ، حتّى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن ويسميه بصورة خاصة مما يكشف عن هذه الحقيقة إذ يقول : « تَبّتْ يَدا أبي لَهَب وَتَبَّ. مَا أغنى عَنهُ مَا لُهُ وَما كَسَبِ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبِ. وَامْرأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ. في جِيْدها حَبْلٌ مِنْ مَسَد »(١) .

صبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستقامته :

ولكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يواجه كل ذلك الأذى وماشابهه من التحججات الّتي سنشير اليها بصبر عظيم ، وثبات تتعجب منه الجبال الشماء ، وذلك اولا إيماناً منه برسالته.

إيذاء المسلمين وتعذيبُهم!

يرجع تقدمُ الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها : ثبات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وثباتُ اَتباعه وأنصاره.

ولقد تعرّفنا ـ في ما سبق ـ على أمثلة ونماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر وصبره ، واستقامته في ما لقي من أذىً ومضايقة.

على أن ثبات أنصاره واتباعه الذين آمنوا في مكّة ( مركز الحكومة الوثنية آنذاك ) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب ويستحق الاحترام. وسنذكر صمودَهم وثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محله.

وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط المكي

__________________

١ ـ المسد : ١ ـ ٥.

٤١٢

حيث لم يكن ملجأ لهم يلجؤن إليه وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن تحملوا شيئاً كثيراً من الإيذاء والتِعذيب على أيدي المشركين والوثنين القساة.

١ ـ بلال الحبشي :

كان أبواهُ ممّن اُسروا في الجاهلية وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم إلى مكة.

وأما بلال الّذي اصبح في ما بعد مؤذن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كان غلاماً ل‍ « اُميّة بن خلف » الّذي كان من أشدّ أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وحيث أنّ عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تولَّتِ الدِفاع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمايته ولم يمكن لاُميّة إلحاق الأذى برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد إلى تعذيب غلامه بلال الّذي أسلم ، أمام الناس ، بأشد أنواع الأذى والتعذيب إنتقاماً ، وتشفياً.

فقد كان يطرح بلالا عارياً على الأحجار والصخور الملتهبة في الهاجرة ، ويضع صخرة على صدره ثم يقول له : لا تزال هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمَّد ، وتعبد الّلات والعزّى ، فيقول وَهو في ذلك البلاء والمحنة الشديدة : أَحَدٌ أَحَدٌ(١) .

ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده ، إعجابَ الآخرين ، حتّى أن « ورقة بن نوفل » مرّ عليه وهو يعذّب بذلك وهو يقول : أحَدْ أَحَدْ ، اقبل على « اُميّة » ومن يصنع به ذلك من « بني جمح » فيقول : احلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً ( أي لأجعلنَّ قبره متبركاً ومزاراً )(٢) .

وربما زاد « اُميّة » من تعذيبه لبلال فربط حبلا بعنقه وترك الصبيان يديرون به في الازقة والسكك(٣) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٧ و ٣١٨.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٨.

٣ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٣ ، ص ٢٣٣.

٤١٣

وقد اُسِر « اُميّة » وابنه في معركة « بدر » وكانا أولَ من اُسِرا من المشركين ، ولم يوافق بعضُ المسلمين على قتلهما ولكن بلالا قال : « رأسُ الكفر اُميّة بن خلف لا نجوتُ إنْ نجا ». وأدّى اُصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل اُميّة وابنه جزاء أعمالهما الظالمة.

٢ ـ آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة!

كان « عَمار » ووالداه من السابقين إلى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتقي باصحابه ويدعو إلى الإسلام في بيت « الارقم بن أبي الارقم » ، وعند ما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم يألوا جهداً في ذلك أبداً.

فقد كان المشركون يخرجون « عماراً » واباه « ياسر » واُمَّه « سميّة » في وقت الظهيرة إلى رمضاء مكة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة ، وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنها الجمرات.

وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات عديدة حتّى أودى بحياة « ياسر » فقضى نحبَه على تلك الحال.

وقد خاشنت زوجتُه « سُميّة » أبا جَهل وكلمته في زوجها بغليظ القول ، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت ـ هي الاُخرى ـ نحبَها ، وكانا أولَ شهيدين في الإسلام(١) .

وقد آلم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد أنواع العذاب فقال لهُما ولولدهما « عمّار » وهو يصبّرهم ، والدموع تنحدر على خدّيه :

« صَبراً آلَ ياسِر فانّ موعدكم الجنة »(٢) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٢٤١ والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٢٣٨ و ٢٣٩.

٤١٤

وبعد أن قضى والدا « عمّار » نحبَهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب « عَمّار » وإيذائه والتنكيل به ، وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالا ، وهم يقصدون قتله ، وإلحاقه بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاضطر إلى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام ، إبقاء على نفسه ، وتقيّة منهم فتركوه ، وانصرفوا عن قتله ، ولكنه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك الإسلام وتألّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فقال له النبيّ : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالايمان قال : ان عادوا فعد ، فنزلت الآية التالية في ايمان عمّار : «إنّما يَفتَري الكَذِب الذينَ لا يُؤمنُونَ بِآياتِ اللّه وَاُوْلئكَ هُم الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللّه منْ بَعْدِ إيمانِه إلاّ مَنْ اُكرهَ وَقَلبهُ مُطْمئنٌ بِالإيمان »(١) (٢) .

هذا وروي أنّ أباجهل حينما قصد تعذيب « آل ياسر » وكانوا أضعف من بمكة أمر بسوط ونار ثم سحبوا عماراً وأبويه على الأرض ، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى بالنار المشتعلة ابدانهم ، ويضربهم بالسوط ضرباً شديداً.

وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً حتّى استشهد « ياسر » وزوجته « سُميّة » على أثر ذلك التعذيب المرير ، ولكن دون أن يفتئا حتّى النفس الأخير عن مدح رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاشادة بدينه.

ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا ـ رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول ـ على تخليص « عمار » الجريح المنهك عذاباً من براثن « أبي جهل » ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين.

٣ ـ عَبدُاللّه بن مسعود :

تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السرّي في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش ، في المسجد الحرام لأنها لم تسمع منه شيئاً إذ قالوا : واللّه ما سَمِعَتْ قريشٌ

__________________

١ ـ النحل : ١٠٥ و ١٠٦.

٢ ـ الدّر المنثور : ج ٤ ، ص ١٣٢ عند تفسير الآيتين المذكورتين.

٤١٥

هذا القرآن يجهر لها قط فمَنْ رَجُلٌ يُسمِعُهُموه؟

فأبدى « ابن مسعود » استعدادَه للقيام بهذه العملية الجريئة ، وتلاوة القرآن على مسامع قريش في المسجد الحرام بصوت عال.

فقالُوا : إنّا نخشاهم عليك ، إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال : دَعوني فانَ اللّه سيمنعني.

ثم غدا « ابن مسعود » حتّى أتى المقامَ في وقت الضحى وقريش في انديتها حتّى قام عند المقام ثم قرأ : « بِسم اللّه الرّحمن الرّحيم » رافعاً بها صوته ، « الرّحمان علّم القرآن » وهكذا استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة.

فارعبت عبارات القرآن الفصيحة القوية قلوب سراة قريش ، ولكي يمنعوا من تأثير هذا النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه جميعاً وجعَلوا يضربونه في وجهه ، وجعل هو يقرأ حتّى بلَغَ منها ماشاء اللّه أن يبلغ ثم عادَ إلى اصحابه وقد اُدْمِيَ وجهُه وجسمه ، وهو مسرورٌ لإسْماع قريش كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة(١) .

إنَّ الَّذين صَمَدوا في أشد الأيام وأصعبها في مطلع عهد البعثة منَ المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن ذكرنا اسماءهم إلاّ أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار.

٤ ـ أبوذر : أوّل المجاهرين بالإسلام

كان « أبوذر » رابع أو خامس من أسلم(٢) ، وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع فجره ، فإذَنْ هو من السابقين إلى الإسلام.

وقد صرح القرآنُ الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في بدء

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٤.

٢ ـ اُسد الغابة : ج ١ ، ص ٣٠١ ، الإصابة : ج ٤ ، ص ٦٤ ، الإستيعاب : ج ٤ ، ص ٦٢.

٤١٦

بعثته وبالتالي فإنَ للسابقين عند اللّه تعالى مكانة عظيمة ، ومقاماً لا يضاهى إذ قال تعالى : «السابِقُونَ السابِقُونَ. اُوْلئكَ الْمُقَرَّبُونَ »(١) .

وقال تعالى فيهم أيضاً.

«والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الُمهاجِريْنَ وَالأَنْصار وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ بإحْسان رَضيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّلَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتهَا الأَنْهار خالِديْنَ فِيْها أبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ »(٢) .

وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكة وفضلهِم ، ومكانتهم المعنوية المتفوقة على مَن أسلم بعدَ إعتزاز الإسلام ، واشتداد أمره ، وقيام دَوْلته يعني أنّهم ليسوا سواء.

«لا يَسْتوي مِنْكُمْ مِنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ اُوْلئكَ أَعْظمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذيْنَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتلُوا »(٣) .

أجل هذه هي مكانة السابقين في الاسلام وكان « ابوذر » منهم.

هذا مضافاً إلى أنَّه يُعَدُّ أول من نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش.

فيومَ اسلم « أبوذر » كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرّاً ، ولم تهيّأ بعدُ ظروفُ الجَهْر بالدعوة إلى هذا الدّين ، فانَّ أتباع الإسلام والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عددّ الأصابع هم : النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخمسة ممن آمنُوا به ، وقبلوا دعوته ، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف لم يكن بدّ حسب الظاهر ـ من أن يُخفي « أبوذر » إسلامَه ، ويعودَ إلى قبيلته من دون أن يعرف به أحدٌ في مكة.

ولكنَّ روحَ « أبي ذر » الطافحة بالإيمان والحماس أبت ذلك ، وكأنه قد خُلِقَ لينهض في كل زمان ومكان ضدّ الظلم والطغيان ، ويرفع عقيدته في وجه

__________________

١ ـ الواقعة : ١٠ ـ ١١.

٢ ـ التوبة : ١٠٠.

٣ ـ الحديد : ١٠.

٤١٧

الباطل وأهله ، ويكافح الانحراف والاعوجاج أيّاً كان مصدرُه ، وصاحبه. وأيُّ باطل اكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمامَ أصنام مصنوعة من الحجر ، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تعطي ولا تمنع ، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟

إنّه ليس في وسع « أبي ذر » أن يتحمَّل هذا المشهد البغيض المقرف!!

من هنا قال لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن مكث في مكة قليلا وقرأ شيئاً من القرآن : يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟

قال : ترجعُ إلى قومك حتّى يبلُغك أمري.

فقال له : والّذي نفسي بيده لا أرجع حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد.

قال : اني اخاف عليك أن تقتل.

قال : لابد منه وإن قُتِلتُ.

ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا اله إلاّ اللّه ، وأنَّ محمَّداً عبدهُ ورسوله(١) .

إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش وشركها ، وقد اطلقته حنجرة رجل غريب لا حامي له في مكة ولا نصير ، ولا قوم ولا قريب.

وقد وقع ما توقّعه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما أن دوى صوت ابي ذر في المسجد حتّى قام إليه رجال قريش ، وهجموا عليه من كل جانب وضربوه بشدة حتّى صرع فأتاه العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة لانقاذه من الموت ـ بطريقة لطيفة ـ وقال : قتلتم الرجل يا معشر قريش! انتم تجار وطريقكم على غفار ، فتريدون ان يقطع الطريق ، فامسكوا عنه.

ونجحت محاولة « العباس » الانقاذية ، وكفّت قريش عن ابي ذر.

__________________

١ ـ حلية الأولياء : ج ١ ، ص ١٥٨ و ١٥٩ ، الطبقات الكبرى : ج ٤ ، ص ٢٢٥ ، الاستيعاب : ج ٤ ، ص ٦٣ ، الاصابة : ج ٤ ، ص ٦٤ ، الدّرجات الرفيعة : ص ٢٢٨.

٤١٨

ولكن أباذر الشاب الشجاع ، والطافح بالحيوية والحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه حتّى صرع ، فأكب عليه العباس ، وقال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه.

ولا شك في انه لو لم يكن العباس لما نجى أبوذر من مخالف المشركين في اغلب الظن ، ولكن أباذر لم يكن بذلك الرجل الّذي يتراجع عن هدفه بسرعة ، ولهذا بدأ جهاده من جديد.

ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت ، وتدعو ساف ونائلة ( وهما صنمان لقريش ) وتسألهما ان يقضيا لها حاجاتها ، فانزعج أبوذر من جهل تلك المرأة ، ولكي يفهمها بانها تدعو صنمين لا يضران ولا ينفعان بل ولا يشعران قال : أنكحي أحدهما الاُخر. فغضبت المرأة لقول أبي ذر في الصنمين ، وتعلقت به وقالت : انت صابئ ، فجاء فتية من قريش فضربوه وجاء ناس من بني بكر فانقذوه منهم(١) .

قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام :

لقد أدرك رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قابليات تلميذه وناصره الجديد ، وصلابته الخارقة في مكافحة الباطل ، ولكن حيث ان الوقت لم يكن يحنْ بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان يلحق بقومه ، ويدعوهم إلى الإسلام ، قائلا له : « إلحق بقومك فاذا بلغك ظهوري فأتني ».

فعاد ابوذر إلى قومه ، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام ويكلمهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدعوهم إلى نبذ الاصنام وعبادة اللّه الواحد ، والتخلق بالاخلاق الرغيبة.

فاسلم أبواه ، أولا ، ثم اسلم نصف رجال قبيلته « غفار » ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبي إلى المدينة ، ثم تبعتها قبيلة « أسلم » حيث وفدوا على

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ٤ ، ص ٢٢٣.

٤١٩

رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتنقوا الإسلام.

ثم التحق ابوذر بعد معركة بدر واُحد برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأقام فيها(١) .

وربما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخذ طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي.

فقد كان ابو جهل إذا سمع بالرجل قد اسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه ، وقال له : تركتَ دين أبيك وهو خير منك ، لنُسَفِّهَنَّ حلمَك ، ولنفيلنَّ رأيك ، ولنضعنَّ شرفك.

وإن كان تاجراً قال له : لنكسدنّ تجارتك ، ولنهلكنّ مالك.

وإن كان ضعيفاً ضربَهُ ، وأغرى به(٢) .

وروي أيضاً أن « خبّاب بن الارت » صاحب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قيناً بمكة يعمل السيوف وكان قد باع من « العاص بن وائل » سيوفاً صنعها له حتّى كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه ، فقال يا خَبّاب : أليس يزعم « محمَّد » صاحبكم هذا الّذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب وفضة أوثياب أوخدم ، قال خبّاب : بلى ، قال : فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتّى أرجعَ إلى تلك الدار ، فأقضيك هنالك حقَك فواللّه لا تكونُ وصاحبك يا خبّاب اشرَّ عند اللّه مني!!(٣) .

أعداء النبي الألدّاء :

إن للتعرف على أعداء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصومه الالدّاء ، ومواقفهم دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي الّتي وقعت

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ٤ ، ص ٢٢١ و ٢٢٢ و ٢٢٦ ، الدرجات الرفيعة : ص ٢٢٥ و ٢٢٦ وص ٢٢٩ و ٢٣٠.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٢٠.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٧.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694