سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358073 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

دقائق ظافراً بأغلى الجواهر.

بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكُّ في عمله ، أو يعتقد بعدم فائدته ، فانَّه لن يُقدمَ عليه قط واذاما أقدم فان عمله سيكون حينئذ مقروناً بالجهد والعناء.

فقوة الإيمان اذن هي الّتي تذلّل كل مُشكل ، وتسهِّل كلَّ صعب.

غير أنه لا ريب في أنَّ الوصولَ إلى الهَدف لا يخلو من مشكلات وموانع ، فلابدّ من السعي لرفع تلك الموانع ، وإزالة تلكم المشكلات.

وقد قيل قديماً : أنَّ مع كل وردة أشواك ، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟

هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه المسألة ( وهي ان رمز السعادة هو : الإيمان بالهدف والثبات في طريق تحقيقه ) في جملة قصيرة إذ قال : «إنَّ الَّذيْن قالُوا ربُّنا اللّه ثُمَّ استقامُوا تتَنَزَّلُ عَليْهِمْ الْمَلائكة أنْ لا تَخافُوا وَلا تَحزَنُوا وأبْشروا بِالجَنَّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ »(١) .

ثَباتُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وَصَبرُهُ :

لقد أدّت إتصالاتُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخاصّة. قَبل الدعوة العامة ، وجهودُه الكبرى بعد الجهر بالدعوة ، إلى ظهور وتكوين صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر ، والوثنية.

فالَّذين دخَلُوا سرّاً في حوزة الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة تعرَّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة ، وشكّل القدامى والجدد جماعة قوية متعاطفة متحاببة ، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية ، أربكها وجعلها تشعر بالخطر.

على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء عليها كان أمراً سهلا لقريش ، ولكنّ الّذي أرعب قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنَّ أفراد هذه

__________________

١ ـ فُصّلت : ٣٠.

٤٠١

الجماعة ، وعناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة ، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوة ، بل إنتمى من كل قبيلة إلى الإسلام ، عددٌ من الأفراد ، ومن هنا لم يكن إتخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمراً سهلا وبسيطاً.

من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها ـ بعد تداول الأمر في ما بينهم ـ أن يبدأوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة ، ومحرِّك هذا الحزب ، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالاغراء والتطميع تارة ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد والايذاء تارة اُخرى.

وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية ، إلى ان قررت بالتالي قتله ، ولكنه استطاع ان يبطل مُؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه.

ولقد كان « أبو طالب » آنذاك زعيم بني هاشم ورئيسها المطلق ، وكان رجلا طاهر القلب عالي الهمّة ، شجاعاً ، كريماً ، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين ، وملاذاً أميناً للفقراء والأيتام ، وكان يتمتع في المجتمع العربي ـ علاوة على رئاسة مكة وبعض مناصب الكعبة ـ بمكانة كبرى ومنزلة عظيمة ، وحيث أنّه كان كفيلا لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاة جدّه « عبد المطلب » ، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية(١) عنده وقالوا له :

« يا أبا طالب إن ابن أخيك قدسبّ آلهتنا ، وعابَ دينَنا ، وسفَّه أحلامنا وضلّل آباءنا ، فامّا أن تكفّه عنّا ، وإما أن تخلّي بيننا وبينه ».

ولكن « أبا طالب » قال لهم قولا رفيقاً وردَّهم ردّاً جميلا حكيماً ، فانصرفوا عنه.

بيد أنَّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان يتزايد باستمرار ، وكانت جاذبيّة الدّين المحمَّدي ، وبيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك ، فيترك اثره في الناس ،

__________________

١ ـ ادرج ابن هشام في سيرته : ج ١ ، ص ٢٦٤ و ٢٦٥ اسماءهم بالتفصيل.

٤٠٢

وخاصة في الأشهر الحرم حيث تفد الحجيجُ على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة ، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرض دينه عليهم ، فكانت أحاديثه الجذّابة ، وكلماتُه البليغة ، ودينُه المحبَّب تؤثر في قلوب كثير منهم ، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول.

وهنا أدرك طغاة مكة وفراعنتها أن « محمَّداً » قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل ، واصبح له انصارٌ واتباعٌ في كثير منها ، ممّا دفعهم مرّة اُخرى إلى الحضور عند « أبي طالب » حاميه الوحيد ، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالاخطار المحدقة باستقلال المكّيين وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع :

يا أبا طالب ، إن لك سنّاً ، وشَرفاً ، ومنزلة فينا ، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن اخيك فلم تنهَه عنّا ، وإنا واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا ، حتّى تكفه عنّا ، أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين.

فأدرك حامي الرَّسول الوحيد ـ بذكائه وفطنته ـ أنّ عليه أن يصبرَ أمام جماعة ترى وجودها ، ومصالحها في خطر ، من هنا عَمد إلى مسالمتهم وملاطفتهم ، ووعدَ بأن يبلغ ابن اخيه « محمَّد » كلامهم. وقد كان هذا محاولة من « أبي طالب » لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة وإطفاء نائرتهم ، وتهدئة خواطرهم ، ليتمَّ معالجة هذه المشكلة ـ بعد ذلك ـ بطريقة أصحّ وأفضل.

ولهذا أقبل ـ بعد خروج تلك الجماعة من عنده ـ على إبن اخيه ، وذكرَ له ما قال له القومُ ، وهو يريد ـ بذلك ضمناً ـ إختبار إيمان « محمَّد » بهدفه ، فكان الردُّ العظيمُ ، والجوابُ الخالد الّذي يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر « محمَّد » رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش :

« يا عَمّ ، واللّه لو وضعُوا الشَمْس في يميني ، والقمرَ في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه ، أو اهلكَ فيه ، ما تركُته ».

ثم اغرورَقتْ عيناه الشريفتان بدموع الشوق والحب للهدف ، وقام وذهب

٤٠٣

من عند عمه.

وكان لتلك الكلمات الصادقة النافذة أثرٌ عجيب في نفس زعيم مكة وسيدها الوقور بحيث نادى ابن اخيه ، وأظهر له استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه ، والحدب عليه رغم كل المخاطر ، والمتاعب الّتي كانت تكمن له إذ قال :

« إذهَبْ يا ابْن أَخي فَقُلْ ما أحبَبْتَ فَو اللّه لا اُسلمك لِشَيء أبداً ».

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة :

لقد أقلق انتشار الإسلام المتزايد قريشاً ، ودفعها إلى التفكير في حيلة ، فاجتمع أشرافها وسادتها للتشاور مرّة اُخرى وقالوا :

لعل كفالة أبي طالب لمحمَّد هي الّتي تدفعه إلى الدفاع عنه وحمايته والوقوف إلى جانبه في دعوته ، فكيف لو مشوا إليه بأجمل فتيان مكة ، وطلبوا منه أن يأخذه بدل « محمَّد » ويسلّمه اليهم ليروا فيه رأيهم ، ولهذا مشوا إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له :

يا أَبا طالب هذا عمارةُ بن الوليد أنهَدُ فتى في قريش وأجملُه ، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه ، واتخذه ولداً فهو لكَ ، وأسلِمْ إليْنا ابن أخيكَ هذا ، الّذي فرّق جماعة قومكَ ، وَسفَّه أحلامَهُمْ فنقتله ، فانما هو رجل برجل!!

فأجابهم أبو طالب وهو مستاء من هذه المساومة الظالمة :

« هذا واللّه لبئس ما تسومونني! أتعطوني إبنكم أغذُوهُ لكم ، واعطيكم ابني تقتلونه ، هذا واللّه ما لا يكون أبداً ».

فقال « المطعم بن عدي بن نوقل » : واللّه يا أبا طالب لقد أنصفَك قومُك ، فما أراك تريد أن تقبَل منهم شيئاً.

فأجابه أبو طالب قائلا : واللّه ما أنصفوني ولكنّك قد أجمَعتَ خُذْلاني ، ومظاهرة القوم عليّ فاصنَعْ ما بدا لك(١) .

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٧ و ٦٨ ، السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ، ص ٢٦٦ و ٢٦٧.

٤٠٤

قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!

ولما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء « أبي طالب » بخذلان ابن اخيه « محمَّد » ، فهو وإن كان لا يتظاهر بالإسلام ، إلاّ أنهم يكنُّ لابن أخيه ، وُدّاً عميقاً ، ومحبة كبرى من هنا قرّروا بأنْ يتركوا مفاضوة ، إلاّ أنهم فكّروا في خطة اخرى وهي أن يُحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب ، والهدايا ، والأموال والفتيات الجميلات ، ولهذا مشوا إلى بيت « أبي طالب » ودخلوا عليه ومحمَّد جالسٌ إلى جنبه فتكلّم متكلِّمهُمْ وقال : يا محمَّد انا بعثنا اليك لِنُكلَّمك ، فانا واللّه لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومك ما ادخلت على قومه لقد شتمت الآباء ، وعيبت الدين ، وسببت الآلهة ، وسفهت الاحلام ، وفرقت الجماعة ولم يبق امر قبيح الاّ أتيته فيما بيننا وبينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثر مالا ، وان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا ، وان كان هذا الّذي ياتيك تابعاً من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك.

فقال ابو طالب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ، يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟

فتكلم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا عم أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي اليهم بها العجم الجزية.

ففزعوا لكلمته ، ولقوله فقال القوم كلمة واحدة : نعم وأبيك عشراً.

قالوا : فما هي ، فقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي؟

قال : « لا اله الاّ اللّه ».

فكان هذا الرد مفاجئة قوية لذلك الفريق الّذي يأمل في صرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هدفه ، ولهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : « أجعَلَ الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب »(١) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٠٣ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٥ و ٦٦.

٤٠٥

نماذجٌ من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين :

يومَ صدَعَ رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اُمر ، وجَهر بدعوته للناس وأيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من إقتراحاتهم بعد ما سمعوه يقول : « واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه ما تركُته » بدأ في الحقيقة واحداً من أشدّ فصول حياته ، واكثرها متاعبَ ومصاعبَ ، لأن قريشاً كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه ، وتسيطر على أعصابها ، ولكنها عند ما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرَّت إلى تغيير نهجها واُسلوبها معه لتقفَ دون إنتشار دينه مهما كلَّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل الممكنة.

من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن يتوسَّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية ، والإيذاء والتهديد ، بهدف صرفه عن المضيّ في دعوته(١) .

ولا يخفى أن المصلح الّذي يفكر في هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير من الصبر والتحمل ، أمام جميع المشكلات والمتاعب ، والمكاره والشدائد ليتغلب عليها شيئاً فشيئاً ، كما كان دأب كل المصلحين الآخرين.

ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش لرسول اللّه وأتباعه ليتضح مدى صبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثباته ، واستقامته على طريق الدعوة.

ولقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتمتع ـ مضافاً إلى العامل الروحي والمعنويّ الباطني الّذي كان يساعده من الداخل أعني الإيمان والصبر والإستقامة والثبات ـ بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته وذلك حماية بني هاشم ، وعلى رأسهم أبو طالب لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه عند ما عرف « ابو طالب » بعزم قريش القاطع على إيذاء إبن أخيه ( محمَّد ) دعا بني هاشم عامة ، وطلب منهُم جميعاً حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام دونه ، فلبَّوا نداء سيّدهم ، وأجابوه

__________________

١ ـ راجع لمعرفة ابرز من كان يؤذي النبيّ والمسلمين المحبر : ص١٥٧ و ١٦١.

٤٠٦

إلى ما دعاهم من حماية رسول اللّه وحراسته بعضٌ بدافع الايمان وآخر بدافع الرَحم ، الاّ « أبو لهب » ورجلان آخران انضموا إلى اعداء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر ـ مع ذلك ـ على صيانتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض الحوادث المرّة ، لأنّ قريشاً ألحقت به الأذى ، وأنزلت به مكروهاً ، كلما وجدته وَحيداً بعيداً عن أعين حُماته.

وإليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى :

١ ـ مَرَّ « أبو جهل » برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ونال منه ببعض ما يُكره من العيب لدينه ، والتضعيف لأمره ، فلم يكلّمه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ، فلم يلبث « حمزة بن عبد المطلب » رضي اللّه عنه أن أقبلَ متوشحاً قوسَه راجعاً من قَنص له ، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلاّ وقف وسلَّم وتحدَّث معهم ، وكان أعز فتى في قريش ، وأشدّ شكيمة.

فلما مرّ بالمولاة ، وقد رجع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيته قالت له : يا أبا عمارة ( وتلك هي كنيته ) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمَّد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ( وتعنى أبا جهل ) : وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبَّه ، وبلَغَ منهُ ما يُكرَه ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فغضب « حمزة » لذلك ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.

فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم ، فاقبل نحوه ، حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّهُ شجة منكرة ، ثم قال : « أتشمته وأنا على دينه أقول ما يقول. فردَّ ذلك عليَّ أن استطعتَ ».

فقامت رجالٌ من بني مخزوم إلى « حمزة » لينصروا « أباجهل » فقال أبو جهل :

٤٠٧

دعوا أبا عمارة فاني قد سبَبْتُ ابن أخيه سبّاً قبيحاً(١) . وبهذا منع « أبو جهل » الّذي كان ممن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار وقتال.

إنَّ التاريخ الثابت والمسلَّم يشهد بأنّ وجودَ رجال ذوي بأس وقوة بين صفوف المسلمين مثل « حمزة » الّذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام ، قد كان له أثرٌ كبيرٌ في حفظ الإسلام ، والحفاظ على حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعم جماعة المسلمين ، وتقوية جناحهم ، فهذا ابن الاثير(٢) يقول عن حمزة : لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عزّ وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.

من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد خطط اُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين ، سنذكرها في المستقبل.

هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي(٣) على أن رُدود فعل إسلام « أبي بكر » و « عمر » واثرهما لم تكن بأقلّ من تاثير إسلام « حمزة » ، وانَّ الدين قويَ جانبه باسلام هذين الرجلين ، وكسَبَ المسلمون بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرك ، والحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد تأثيره في تقوية ودعم الإسلام ، إلاّ أنه لا يمكن ـ القولُ بحال بأن تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام « حمزة » ، فإن « حمزة » ما انْ سمع بأن قريشاً أساءت إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاّ وتوجه ، من دون أن يُعرّج على أحد ، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ انتقام ، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه ، ومن غضبه وانتقامه ، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن « أبي بكر » امراً يكشف عن أن « أبابكر » يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية نفسه ، ولا على الدفاع عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . واليك نصُّ الواقعة :

مرَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذاتَ يوم على جماعة من قريش وهم جلوسٌ عندَ الحجر ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به يقولون : أنتَ الّذي تقول :

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٩١ و ٢٩٢ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧٢.

٢ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٥٦.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٢٦ و ٣٢.

٤٠٨

كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم أنا الّذي اقولُ ذلك ، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه ( وهم يقصدون قتله ) فقام « أبو بكر » دونه وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا يقول رَبّي اللّه؟ فانصرفوا عنه ( ولم يقتلوه لأمر رأوه ) ، فرجع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منزله ، ورجع « أبو بكر » يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه(١) .

إن هذه الرواية التاريخية إذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنها تدل قبل أي شيء على عجزه وضعفه.

إنه يدلُّ على أنه لم يملك ذلك اليوم لا أية مقدرة بدَنية وروحية ، ولا أية مكانة اجتماعية تُرهَب ، وحيث أنَّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينطوي ـ في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد ـ لذلك تركوا رسولَ اللّه ، وَوَجَّهُوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه.

ولو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين وقايست بين موقف « حمزة » الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنَّ عزة الإسلام وقوة المسلمين ، وتعزيز موقفهم ، وخوف الكفار كان يعود إلى الإسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟

هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام « عمر ». وسترى بأنَّ إسلامه ـ كاسلام صديقه ـ لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية ، وأنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه.

فيوم أسلم « عمر » كادَ أن يُقتل لولا « العاص بن وائل السهمي » لأنه هو الّذي خاطب الذين قصدوا قتل « عمر » قائلا : رَجُلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون منه؟ أترونَ بني عَدِيّ بن كعب يسلمون لكم صاحبَهم هكذا ، خلوُّا عن الرجل »(٢) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٨٩ و ٢٩٠ ، وقد ذكر الطبري في تاريخه : ج ٢ ، ص ٧٢ قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٤٩.

٤٠٩

إن هذه العبارة الّتي قالها « العاص » لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد ـ بوضوح ـ أن الخوف من قبيلة « عمر » هو الّذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله ، وقد كان دفاعُ القبائل عن أبنائها سنة فطرية وعادة متعارفة يومذاك وكان يتساوى فيها الكبير والصغير ، والشريف والوضيع.

أجل إنّ بني هاشم هم كانوا ـ في الواقع ـ الحصن الحقيقي للمسلمين ، وقد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمله « أبو طالب » وذووه ، وإلاّ فانَّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم ، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين ليقال بأن المسلمين اعتزوا بهم؟

أبوجهل يكمُن لرسول اللّه :

لقد أغضب تقدمُ الإسلام المطرد قريشاً بشدة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش إلى صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغلي في نفوسهم ، فهذا فرعون مكة « أبو جهل لقريش في مجلس من مجالسهم : يا معشر قريش إن محمَّداً قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آهلتنا ، واني اُعاهِدُ اللّه لأَجلسنَّ له غداً بحجر ما اُطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه.

فلما كان من غد أخذ « أبو جهل » حجراً كما وصَف ثم جلس لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتظره ، وغدا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عادته ووقف للصلاة بين الركن اليمانيّ والحجر الأسود ، وغدت تلك الجماعة من قريش فجلست في انديتها تنتظر ما ابو جهل فاعلٌ ، فلما سجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحتمل « أبو جهل » الحجر ، ثم اقبل نحوه ، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه ، مَرعوباً وقذف الحجَر من يده ، فقامت إليه رجالٌ من قريش وقالوا له : مالك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف والرعب : قمت إليه

٤١٠

لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة فلما دنوتُ منه عرضَ لي دونهُ ما لا رأيتُ مثلَه حياتي ، فتركتُه!!(١) .

إنه ليس من شك في أنَّ قوة غيبيّة أدركتْ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة ، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب وحفظت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما وعده تعالى وعداً لا خلف فيه إذ قال : «إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئيْن »(٢) .

وهناك نماذج كثيرةٌ من أذى قريش لشخص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سجَّلها التاريخ في صفحاته ، وقد عقد « ابن الأثير »(٣) فصلا خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الألدّاء ، في مكّة ، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلاّ أمثلة على ذلك ، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه في كل يوم نوعاً خاصاً من الأذى ، والمضايقة.

فقد رُوي أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطوف ذات يوم فشتمه « عقبة بن أبي معيط » وألقى عمامَته في عنقه ، وجرّه من المسجد ، فأخذوه من يده ، خوفاً مِن بني هاشم(٤) .

أبو لهب يؤذي رسول اللّه :

ولقد تعرّض رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأذى لا مثيل له من جانب عمه « أبي لهب » وزوجته « اُم جميل » وقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاورهم ، فلم يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٩٨ و ٢٩٩.

٢ ـ الحجر : ٩٥.

٣ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤٧ كما وعقد المجلسيرحمه‌الله في البحار : ج ١٨ باباً خاصاً بعنوان : « باب المبعث واظهار الدعوة وما لقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القوم » راجع من صفحة ١٤٨ إلى صفحة ٢٤٣.

٤ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٢٩٣ نظيره.

٤١١

والتراب على رأسه الشريف وثيابه. وكم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريقه ، أو جمعته باب بيته لتؤذيه عند الخروج.

ولا شك ان معارضَة انسباء النبي واقربائه لدعوته المباركة ، وايذاؤهم اياه كان اكثر ايلاماً لنفسه الشريفة ، واشد وقعاً عليها ، حتّى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن ويسميه بصورة خاصة مما يكشف عن هذه الحقيقة إذ يقول : « تَبّتْ يَدا أبي لَهَب وَتَبَّ. مَا أغنى عَنهُ مَا لُهُ وَما كَسَبِ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبِ. وَامْرأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ. في جِيْدها حَبْلٌ مِنْ مَسَد »(١) .

صبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستقامته :

ولكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يواجه كل ذلك الأذى وماشابهه من التحججات الّتي سنشير اليها بصبر عظيم ، وثبات تتعجب منه الجبال الشماء ، وذلك اولا إيماناً منه برسالته.

إيذاء المسلمين وتعذيبُهم!

يرجع تقدمُ الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها : ثبات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وثباتُ اَتباعه وأنصاره.

ولقد تعرّفنا ـ في ما سبق ـ على أمثلة ونماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر وصبره ، واستقامته في ما لقي من أذىً ومضايقة.

على أن ثبات أنصاره واتباعه الذين آمنوا في مكّة ( مركز الحكومة الوثنية آنذاك ) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب ويستحق الاحترام. وسنذكر صمودَهم وثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محله.

وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط المكي

__________________

١ ـ المسد : ١ ـ ٥.

٤١٢

حيث لم يكن ملجأ لهم يلجؤن إليه وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن تحملوا شيئاً كثيراً من الإيذاء والتِعذيب على أيدي المشركين والوثنين القساة.

١ ـ بلال الحبشي :

كان أبواهُ ممّن اُسروا في الجاهلية وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم إلى مكة.

وأما بلال الّذي اصبح في ما بعد مؤذن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كان غلاماً ل‍ « اُميّة بن خلف » الّذي كان من أشدّ أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وحيث أنّ عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تولَّتِ الدِفاع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمايته ولم يمكن لاُميّة إلحاق الأذى برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد إلى تعذيب غلامه بلال الّذي أسلم ، أمام الناس ، بأشد أنواع الأذى والتعذيب إنتقاماً ، وتشفياً.

فقد كان يطرح بلالا عارياً على الأحجار والصخور الملتهبة في الهاجرة ، ويضع صخرة على صدره ثم يقول له : لا تزال هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمَّد ، وتعبد الّلات والعزّى ، فيقول وَهو في ذلك البلاء والمحنة الشديدة : أَحَدٌ أَحَدٌ(١) .

ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده ، إعجابَ الآخرين ، حتّى أن « ورقة بن نوفل » مرّ عليه وهو يعذّب بذلك وهو يقول : أحَدْ أَحَدْ ، اقبل على « اُميّة » ومن يصنع به ذلك من « بني جمح » فيقول : احلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً ( أي لأجعلنَّ قبره متبركاً ومزاراً )(٢) .

وربما زاد « اُميّة » من تعذيبه لبلال فربط حبلا بعنقه وترك الصبيان يديرون به في الازقة والسكك(٣) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٧ و ٣١٨.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٨.

٣ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٣ ، ص ٢٣٣.

٤١٣

وقد اُسِر « اُميّة » وابنه في معركة « بدر » وكانا أولَ من اُسِرا من المشركين ، ولم يوافق بعضُ المسلمين على قتلهما ولكن بلالا قال : « رأسُ الكفر اُميّة بن خلف لا نجوتُ إنْ نجا ». وأدّى اُصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل اُميّة وابنه جزاء أعمالهما الظالمة.

٢ ـ آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة!

كان « عَمار » ووالداه من السابقين إلى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتقي باصحابه ويدعو إلى الإسلام في بيت « الارقم بن أبي الارقم » ، وعند ما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم يألوا جهداً في ذلك أبداً.

فقد كان المشركون يخرجون « عماراً » واباه « ياسر » واُمَّه « سميّة » في وقت الظهيرة إلى رمضاء مكة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة ، وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنها الجمرات.

وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات عديدة حتّى أودى بحياة « ياسر » فقضى نحبَه على تلك الحال.

وقد خاشنت زوجتُه « سُميّة » أبا جَهل وكلمته في زوجها بغليظ القول ، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت ـ هي الاُخرى ـ نحبَها ، وكانا أولَ شهيدين في الإسلام(١) .

وقد آلم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد أنواع العذاب فقال لهُما ولولدهما « عمّار » وهو يصبّرهم ، والدموع تنحدر على خدّيه :

« صَبراً آلَ ياسِر فانّ موعدكم الجنة »(٢) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٢٤١ والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٢٣٨ و ٢٣٩.

٤١٤

وبعد أن قضى والدا « عمّار » نحبَهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب « عَمّار » وإيذائه والتنكيل به ، وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالا ، وهم يقصدون قتله ، وإلحاقه بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاضطر إلى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام ، إبقاء على نفسه ، وتقيّة منهم فتركوه ، وانصرفوا عن قتله ، ولكنه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك الإسلام وتألّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فقال له النبيّ : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالايمان قال : ان عادوا فعد ، فنزلت الآية التالية في ايمان عمّار : «إنّما يَفتَري الكَذِب الذينَ لا يُؤمنُونَ بِآياتِ اللّه وَاُوْلئكَ هُم الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللّه منْ بَعْدِ إيمانِه إلاّ مَنْ اُكرهَ وَقَلبهُ مُطْمئنٌ بِالإيمان »(١) (٢) .

هذا وروي أنّ أباجهل حينما قصد تعذيب « آل ياسر » وكانوا أضعف من بمكة أمر بسوط ونار ثم سحبوا عماراً وأبويه على الأرض ، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى بالنار المشتعلة ابدانهم ، ويضربهم بالسوط ضرباً شديداً.

وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً حتّى استشهد « ياسر » وزوجته « سُميّة » على أثر ذلك التعذيب المرير ، ولكن دون أن يفتئا حتّى النفس الأخير عن مدح رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاشادة بدينه.

ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا ـ رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول ـ على تخليص « عمار » الجريح المنهك عذاباً من براثن « أبي جهل » ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين.

٣ ـ عَبدُاللّه بن مسعود :

تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السرّي في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش ، في المسجد الحرام لأنها لم تسمع منه شيئاً إذ قالوا : واللّه ما سَمِعَتْ قريشٌ

__________________

١ ـ النحل : ١٠٥ و ١٠٦.

٢ ـ الدّر المنثور : ج ٤ ، ص ١٣٢ عند تفسير الآيتين المذكورتين.

٤١٥

هذا القرآن يجهر لها قط فمَنْ رَجُلٌ يُسمِعُهُموه؟

فأبدى « ابن مسعود » استعدادَه للقيام بهذه العملية الجريئة ، وتلاوة القرآن على مسامع قريش في المسجد الحرام بصوت عال.

فقالُوا : إنّا نخشاهم عليك ، إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال : دَعوني فانَ اللّه سيمنعني.

ثم غدا « ابن مسعود » حتّى أتى المقامَ في وقت الضحى وقريش في انديتها حتّى قام عند المقام ثم قرأ : « بِسم اللّه الرّحمن الرّحيم » رافعاً بها صوته ، « الرّحمان علّم القرآن » وهكذا استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة.

فارعبت عبارات القرآن الفصيحة القوية قلوب سراة قريش ، ولكي يمنعوا من تأثير هذا النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه جميعاً وجعَلوا يضربونه في وجهه ، وجعل هو يقرأ حتّى بلَغَ منها ماشاء اللّه أن يبلغ ثم عادَ إلى اصحابه وقد اُدْمِيَ وجهُه وجسمه ، وهو مسرورٌ لإسْماع قريش كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة(١) .

إنَّ الَّذين صَمَدوا في أشد الأيام وأصعبها في مطلع عهد البعثة منَ المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن ذكرنا اسماءهم إلاّ أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار.

٤ ـ أبوذر : أوّل المجاهرين بالإسلام

كان « أبوذر » رابع أو خامس من أسلم(٢) ، وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع فجره ، فإذَنْ هو من السابقين إلى الإسلام.

وقد صرح القرآنُ الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في بدء

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٤.

٢ ـ اُسد الغابة : ج ١ ، ص ٣٠١ ، الإصابة : ج ٤ ، ص ٦٤ ، الإستيعاب : ج ٤ ، ص ٦٢.

٤١٦

بعثته وبالتالي فإنَ للسابقين عند اللّه تعالى مكانة عظيمة ، ومقاماً لا يضاهى إذ قال تعالى : «السابِقُونَ السابِقُونَ. اُوْلئكَ الْمُقَرَّبُونَ »(١) .

وقال تعالى فيهم أيضاً.

«والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الُمهاجِريْنَ وَالأَنْصار وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ بإحْسان رَضيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّلَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتهَا الأَنْهار خالِديْنَ فِيْها أبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ »(٢) .

وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكة وفضلهِم ، ومكانتهم المعنوية المتفوقة على مَن أسلم بعدَ إعتزاز الإسلام ، واشتداد أمره ، وقيام دَوْلته يعني أنّهم ليسوا سواء.

«لا يَسْتوي مِنْكُمْ مِنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ اُوْلئكَ أَعْظمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذيْنَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتلُوا »(٣) .

أجل هذه هي مكانة السابقين في الاسلام وكان « ابوذر » منهم.

هذا مضافاً إلى أنَّه يُعَدُّ أول من نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش.

فيومَ اسلم « أبوذر » كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرّاً ، ولم تهيّأ بعدُ ظروفُ الجَهْر بالدعوة إلى هذا الدّين ، فانَّ أتباع الإسلام والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عددّ الأصابع هم : النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخمسة ممن آمنُوا به ، وقبلوا دعوته ، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف لم يكن بدّ حسب الظاهر ـ من أن يُخفي « أبوذر » إسلامَه ، ويعودَ إلى قبيلته من دون أن يعرف به أحدٌ في مكة.

ولكنَّ روحَ « أبي ذر » الطافحة بالإيمان والحماس أبت ذلك ، وكأنه قد خُلِقَ لينهض في كل زمان ومكان ضدّ الظلم والطغيان ، ويرفع عقيدته في وجه

__________________

١ ـ الواقعة : ١٠ ـ ١١.

٢ ـ التوبة : ١٠٠.

٣ ـ الحديد : ١٠.

٤١٧

الباطل وأهله ، ويكافح الانحراف والاعوجاج أيّاً كان مصدرُه ، وصاحبه. وأيُّ باطل اكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمامَ أصنام مصنوعة من الحجر ، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تعطي ولا تمنع ، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟

إنّه ليس في وسع « أبي ذر » أن يتحمَّل هذا المشهد البغيض المقرف!!

من هنا قال لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن مكث في مكة قليلا وقرأ شيئاً من القرآن : يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟

قال : ترجعُ إلى قومك حتّى يبلُغك أمري.

فقال له : والّذي نفسي بيده لا أرجع حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد.

قال : اني اخاف عليك أن تقتل.

قال : لابد منه وإن قُتِلتُ.

ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا اله إلاّ اللّه ، وأنَّ محمَّداً عبدهُ ورسوله(١) .

إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش وشركها ، وقد اطلقته حنجرة رجل غريب لا حامي له في مكة ولا نصير ، ولا قوم ولا قريب.

وقد وقع ما توقّعه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما أن دوى صوت ابي ذر في المسجد حتّى قام إليه رجال قريش ، وهجموا عليه من كل جانب وضربوه بشدة حتّى صرع فأتاه العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة لانقاذه من الموت ـ بطريقة لطيفة ـ وقال : قتلتم الرجل يا معشر قريش! انتم تجار وطريقكم على غفار ، فتريدون ان يقطع الطريق ، فامسكوا عنه.

ونجحت محاولة « العباس » الانقاذية ، وكفّت قريش عن ابي ذر.

__________________

١ ـ حلية الأولياء : ج ١ ، ص ١٥٨ و ١٥٩ ، الطبقات الكبرى : ج ٤ ، ص ٢٢٥ ، الاستيعاب : ج ٤ ، ص ٦٣ ، الاصابة : ج ٤ ، ص ٦٤ ، الدّرجات الرفيعة : ص ٢٢٨.

٤١٨

ولكن أباذر الشاب الشجاع ، والطافح بالحيوية والحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه حتّى صرع ، فأكب عليه العباس ، وقال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه.

ولا شك في انه لو لم يكن العباس لما نجى أبوذر من مخالف المشركين في اغلب الظن ، ولكن أباذر لم يكن بذلك الرجل الّذي يتراجع عن هدفه بسرعة ، ولهذا بدأ جهاده من جديد.

ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت ، وتدعو ساف ونائلة ( وهما صنمان لقريش ) وتسألهما ان يقضيا لها حاجاتها ، فانزعج أبوذر من جهل تلك المرأة ، ولكي يفهمها بانها تدعو صنمين لا يضران ولا ينفعان بل ولا يشعران قال : أنكحي أحدهما الاُخر. فغضبت المرأة لقول أبي ذر في الصنمين ، وتعلقت به وقالت : انت صابئ ، فجاء فتية من قريش فضربوه وجاء ناس من بني بكر فانقذوه منهم(١) .

قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام :

لقد أدرك رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قابليات تلميذه وناصره الجديد ، وصلابته الخارقة في مكافحة الباطل ، ولكن حيث ان الوقت لم يكن يحنْ بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان يلحق بقومه ، ويدعوهم إلى الإسلام ، قائلا له : « إلحق بقومك فاذا بلغك ظهوري فأتني ».

فعاد ابوذر إلى قومه ، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام ويكلمهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدعوهم إلى نبذ الاصنام وعبادة اللّه الواحد ، والتخلق بالاخلاق الرغيبة.

فاسلم أبواه ، أولا ، ثم اسلم نصف رجال قبيلته « غفار » ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبي إلى المدينة ، ثم تبعتها قبيلة « أسلم » حيث وفدوا على

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ٤ ، ص ٢٢٣.

٤١٩

رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتنقوا الإسلام.

ثم التحق ابوذر بعد معركة بدر واُحد برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأقام فيها(١) .

وربما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخذ طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي.

فقد كان ابو جهل إذا سمع بالرجل قد اسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه ، وقال له : تركتَ دين أبيك وهو خير منك ، لنُسَفِّهَنَّ حلمَك ، ولنفيلنَّ رأيك ، ولنضعنَّ شرفك.

وإن كان تاجراً قال له : لنكسدنّ تجارتك ، ولنهلكنّ مالك.

وإن كان ضعيفاً ضربَهُ ، وأغرى به(٢) .

وروي أيضاً أن « خبّاب بن الارت » صاحب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قيناً بمكة يعمل السيوف وكان قد باع من « العاص بن وائل » سيوفاً صنعها له حتّى كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه ، فقال يا خَبّاب : أليس يزعم « محمَّد » صاحبكم هذا الّذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب وفضة أوثياب أوخدم ، قال خبّاب : بلى ، قال : فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتّى أرجعَ إلى تلك الدار ، فأقضيك هنالك حقَك فواللّه لا تكونُ وصاحبك يا خبّاب اشرَّ عند اللّه مني!!(٣) .

أعداء النبي الألدّاء :

إن للتعرف على أعداء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصومه الالدّاء ، ومواقفهم دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي الّتي وقعت

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ٤ ، ص ٢٢١ و ٢٢٢ و ٢٢٦ ، الدرجات الرفيعة : ص ٢٢٥ و ٢٢٦ وص ٢٢٩ و ٢٣٠.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٢٠.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٧.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694