سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358075 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

هذا بنصه إذ قال :

«وَقالَ الَّذيْنَ كَفرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلةً واحِدَةً ».

ثم قال تعالى ردّاً على إعتراضهم هذا : «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بهِ فُؤادَكَ »(١) .

إن القرآن يهتم بهذا الإعتراض ، ويوضح مسألة « النزول التدريجي » للقرآن الكريم ويقطع الطريق على المستشرقين المغرضين ومن حذى حذوهم ، بمنطقه المحكم ، وبيانه القويّ.

وها نحن نعمد هنا إلى إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة ايضاً :

القُران والنُزُولُ التدريجيّ :

إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً.

فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكة ، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات الّتي تتحدثُ عن مكافحة الشرك والوثنية ودعوة الناس إلى اللّه الواحد ، والإيمان باليوم الآخر مكيّة ، بينما تكون الآيات الّتي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة ، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجَّهاً إلى المشركين عَبدة الاوثان الذين كانوا ينكرون توحيدَ اللّه ، واليوم الآخر ، فهنا تكونُ الآيات الّتي تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّها إلى المؤمنين باللّه ، وإلى جماعة اليهود والنصارى ، وكان الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة الّتي بدأها رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواصلها في هذه البيئة ، من هنا تكون الآيات الّتي تتضمن الحديث حول الاحكام والفروع والقوانين ، ويدور

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤١

الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى ومواقفهم وتتضمن الحثَّ ـ كذلك ـ على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل اعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه ، آيات مدنيّة.

إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الحوادث هي الّتي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية ، وإيضاح مفادها ، فان وقوع هذه الحوادث كان سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أن بعض الآيات الاُخرى نزلت جواباً على أسئلة الناس ، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.

والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان المعارف والأحكام الالهية.

ولهذه الاسباب يمكن القولُ بان القرآن الكريم نزل على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدريجاً لتدرّج موجبات النزول.

وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا الامر أيضاً في بعض المواضع إذ قال : « وَقُرْاناً فَرَقْناهُ لِتَقْتَرأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْث »(١) .

وهنا يطرح هذا السؤال وهو : لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كُلها على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة ، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟!

إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل طرحه أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون : « لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة »(٢) .

ويمكن تقرير وشرح هذا الاعتراض على نحوين :

١ ـ إذا كان الإسلام ديناً إلهياً ، وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلا من جانب اللّه على رسوله ، فلابدّ أن يكون ديناً كاملا ، ومثل هذا الدين الكامل

__________________

١ ـ الاسراء : ١٠٦.

٢ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤٢

يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقف في نزول الآيات ، إذا لا مبرّر ولا داعيَ لأن ينزل دينٌ كاملٌ من جميع الجهات ، مكمّل من حيث الاُصول والفروع والتشريعات والواجبات والسنن ، على نحو التدريج في ٢٣ عاماً ، ولمناسبات مختلفة.

وحيث أن القرآن نزَلَ منجّماً ، وبصورة متفرقة متناثرة ، وعقيب طائفة من الأسئلة ، أو وقوع حوادث وطروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملا من حيث الاُصول والفروع ، وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الّذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج لا يصحّ أن يوصَف بالدين الالهيّ.

٢ ـ إن آيات القرآن والتاريخ القطعي والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية اُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتبوة مدوّنة ، فلما لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار ، كأن ينزل القرآن على « محمَّد » في لوح مكتوب كما نزل التوراة في الواح مكتوبة؟!

وحيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط ، ولم يكن لهم على علم مسبق بكيفية نزولها ، لذا يمكن القولُ بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح ، والّذي يتلخص في أنه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة ، بل نزلت هذه الآيات عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فواصل زمنية متفاوتة ، وبمناسبات وحسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

الأسرارُ المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن :

ولقد كشف القرآنُ القناعَ ـ في معرض الردّ على إعتراض المشركين هذا ـ عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

واليك توضيح هذا القسم الّذي اشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة :

٤٤٣

١ ـ إن الرسولَ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحمَّل مسؤوليات كبرى ، وان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكلَ ومتاعَب باهضة وصعبة ، ولا ريب أن تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل ، وانخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروحُ الّتي يتمتع بها الشخصُ عظيمة ، وقويّة ، في مثل هذه الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى ، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثاً على تجدّد النشاط ، وعاملا قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية الفاعلة في نفس النبيّ وروحه ، وبالتالي فان العناية والمحبّة الالهية الممتدّة لنبيّه ورسوله إنما تتجدد بتكرّر نزول الوحي عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جانبه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى إذ قال : «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِه فُؤادَكَ »(١) .

٢ ـ ويمكن ان تكون الجملةُ المذكورة ناظرة إلى جهة اُخرى وهي : انَ المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزلَ القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى إلى الناس على هذا الشكل ايضاً وذلك لان النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلّم الاُمة ، وطبيبُها الروحيُ الّذي بُعِث إلى الناس بالوصفات الالهية لتعليمهم ، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة ، والفكرية ، وكُلِّفَ بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية ، ومثل هذا يتطلب التدرّج لينفَع الدواء ـ حينئذ ـ وتنجعَ المعالجةُ.

إن أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية ، وأن يطبق كل ما يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية ، ويعطي لما يلقيه من معلومات ، صبغة تحقيقية ، ويتجنَبَ بشدة إتصافَ أفكاره وآراءه بالطابع النظريّ البحت.

فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة والاُسس العامة من الطبّ على طلابه في الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤٤

المطلوبة من تعليم الطبّ ، بشكل كامل.

أما إذا قَرنَ الاستاذ درسَه النظري بالإرشاد العمليّ وطبَّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن ، ويساعد الطلبة على فهم افضل للمواد الّتي درسوها في هذا المجال.

فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملةً واحدة ( والحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج إلى كثير منها ) كان القرآن ـ حينئذ ـ فاقداً لهذه المزية التربوية الهامة الّتي أشرنا إليها قريباً في مثال تدريس الطب.

ان بيان الآيات الّتي يشعر الناس في انفسهم بعدم الحاجة إلى اخذها وتعلّمها ، لا يترك التأثيرَ الباهرَ في القلوب ، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس الّتي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكامَ والاُصولَ والفروعَ الّتي يحتاجون إليها فانه لا شكَّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترسّخٌ اكبر في نفوسهم ، وسيظهرُ الناس من انفسهم إستعداداً اكبر لاخذ ألفاظها ومعانيها ، وفوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم ، وعندئذ تتحقق المقولة التربوية الّتي اشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات إتخذت طابعاً عملياً ، ولم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

ولكن يبقى هنا سؤالٌ آخر وهو : إذا كان نزولُ القرآن قد تحقَّق على نحو التدريج وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة ، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط بين الآيات والسور ، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها لتبعثرها ، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها ، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيَت الروابطُ والعلاقات بين قضايا الوحي ولتضاعَفَت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟

٤٤٥

ولقد أجاب القرآن الكريم ايضاً على هذا السؤال إذ قال : صحيح أن آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات إلاّ أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابداً من ترابط مطالبه ، وارتباط مواضيعه بعضها ببعض ، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات إِنسجاماً وترابطا خاصاً يمكن الإنسان من تعلمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوعَ قليلا من الإهتمام إذ قال تعالى : « وَرتّلناه تَرتيلا »(١) .

أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً.

أسرارٌ اُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً :

٣ ـ لقد واجَه رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس : كالوثنيين ، واليهود والمسيحيين الذين كان لكل فئة منهم ديناً خاصاً ، وعقائد وتصورات خاصة حول المبدأ والمعاد ، وغيرهما من المعارف العقلية.

وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات ( وإن لم يكن مطلوباً ومقترحاً من قبلهم ) ويقيم الأدلة والبراهين على بطلانها ، وزيفها ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة ، وأوقات مختلفة ، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحيُ الالهي تدريجاً ، وفي الأوقات المختلفة ، ويتصدى لبيان بطلان تلك العقائد والتصورات ويجيب على شبهات المخالفين ، اعتراضاتهم.

وربما كانت توجب هذه المواجهاتُ العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض الاسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤٦

يجيب عليها ، وحيث أن هذه الاسئلة كانت تطرَح في أوقات مختلفة ، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ الالهيُ في الأوقات والأزمنة المختلفة ، وعلى نحو التدريج.

هذا مضافاً إلى أن حياة النبي نفسَها كان حياة ثورة ، ووقائع ، وكان النبيُ يواجه باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح حكمها ، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي.

وربما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادثاً واُموراً يرجعون فيها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها ويسألونه عما يجب إتخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث وما يشابهها.

وحيث أن هذه الحوادث ، وما يترتب عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات متلفة ، وبمرور الزمن ، لذلك لم يكن بد ايضاً من ان ينزل الوحيُ الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلا بأوّل.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه النقاط ، وإلى نقاط اُخرى غيرها في قوله تعالى : «ولا يَأْتُونَكَ بمَثَل إلا جِئناكَ بِالحَقِّ وَأَحسَنَ تَفْسيراً »(١) .

٤ ـ إن للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم وراء كل ذلك سراً آخر ، وعلة اُخرى غفلوا عنها ، ألا وهي : هداية الناس وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب ، وأن القرآن ليس الاّ كتاباً سماوياً ، ووحياً الهياً لا غير ، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ ، لأن القرآن نزل خلال ( ٢٣ عاماً ) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرة والمحزنة ، المقرونة بالنصر والهزيمة ، والنجاح والإخفاق ، ولا شكَّ أن هذه الحالات المختلفة ، والاحاسيس والمشاعر المتنوعة المتباينة ، تترك أثراً عميقاً في نفس الإنسان ، وروحه وعقله ، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد ، وبنبرة واحدة ، في حالتين

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٣.

٤٤٧

نفسيّتين متضادتين ، فالكلام الصادر في حال الفرح والابتهاج والمسرة من اللسان أو القلم ، يختلف من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب ، والاخفاق ، والهزيمة.

بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يمر بحالات مختلفة من الحزن والسرور والاخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء ، والعسر والرخاء والجهد والنشاط ، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحد من القوة والفصاحة والبلاغة ، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلَغَ ما بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره ، وكأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الاُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أىُ شيء من التفاوت والاختلاف ، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها وآخرها كأولها.

ولعلّ الآية التالية الّتي تنفي أيّ نوع من أنواع الاختلاف في القرآن إذ تقول : «وَلَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْر الله لَوَجَدُوا فيه إخْتِلافاً كثيراً »(١) اشارة إلى هذا السرّ.

إنَّ المفسرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها ، ومقاصدها ، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد وتنزهه من جميع انواع الاختلاف والتناقض الّذي هو من لوازم العمل والانتاج البشري.

__________________

١ ـ النساء : ٨٢.

٤٤٨

١٧

إلى الحبشة

الهجرة الاولى

تُعتَبر هجرة فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة دليلا بارزاً على إيمانهم واخلاصهم العميق لدينهم ، ولربهم وذلك لأن فريقاً من الرجال والنساء يقررون ـ وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلص من أذى قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه الواحد ـ مغادرة ( مكة ) ، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية ، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أية نقطة من نقاطها ، ولا يمكنهم اقامة احكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل ، وبعيداً عن الارهاب ، ويفكرون ، ويفكرون ، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المسألة ، ويطلبوا في ذلك رأي النبي الّذي يقوم دينه على مبدأ : «إنَّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبُدُون »(١) .

لقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً ، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم ، وكان الفتيان الهاشميون يحمونه ويحفظونه

__________________

١ ـ العنكبوت : ٥٦.

٤٤٩

من كل اذى ، ولكن الذين آمنوا به من الإماء والعبيد ، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الّذين كانوا يشكلون عدداً كبيراً من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب والايذاء والمضايقة من قريش الّتي لم تأل جهداً ، ولم تدخر وسعاً ، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً لالحاق العنت والأذى بالمؤمنين برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يستطيعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منعهم من ذلك.

وقد كان زعماء كل قبيلة يعمدون ـ للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل ـ إلى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم ، وايذائه والتنكيل به ، وقد مرت عليك نماذج وامثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي للمسلمين.

لهذه الأسباب عند ما طلب أصحابُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم :

« لَوْ خَرجْتُمْ إلى أرض الحَبَشة فانَّ بِها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أحَدٌ وهي أرضُ صِدْق حَتى يَجعَلَ اللّهُ لكُم فَرَجاً ممّا أنتُم فيهِ »(١) .

أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلَّم زمامَ الأمر فيه رجلٌ صالحٌ عادلٌ نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة إلى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم ، وهو ما كان يريده ويتمناه أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والامن.

ولقد كان لكلام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثر قوىٌ في نفوسهم تلك الثلة المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد فيها اللّه في أمان ، بحيث لم يمض زمان إلاّ وقد شدّت رحالها وغادرت مكة ليلا في غفلة من الاجانب ( المشركين ) مشاة وركباناً ، متجهةً نحو جدّة ، للسفر عبر مينائها إلى ارض الحبشة.

وكان هذا الفريق يتألف من عشر أو خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٢١ ، تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٧٠ ، وبحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٤١٢ نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

٤٥٠

النسوة المسلمات(١) .

والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين مناطقَ اُخرى للهجرة اليها ، وانما ذكر الحبشة فقط.

ان سر هذا الاختيار هذا يتضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك.

ان الهجرة إلى المناطق العربية الّتي كان سكانها من المشركين والوثنيين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر ، فان المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً لدين الآباء ( الوثنيّة ).

وكذلك المناطق الّتي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود ، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الاُخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي ، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرفٌ ثالث في حلبة الصراع ، هذا مضافاً إلى أن ذينك الفريقين ( اليهود والنصارى ) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً ، فكيفَ يمكن الهجرة إلى مناطقهم والتعايش معهم؟!

أما « اليمن » فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة المسلمين في ربوع « اليمن » ، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الإسلامية إلى درجة انه لما وصلت رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى « خسرو برويز » كتب إلى عامله على اليمن فوراً « احمل إليّ هذا الّذي يذكر أنه نبيٌّ ، وبدأ اسمَه قبل اسمي ، ودعاني إلى غير ديني »(٢) !!.

وكذلك كانت « الحيرة » تحت الاستعمار والنفوذ الايرانيّ كاليمن.

وأمّا « الشام » فقد كانت بعيدة عن « مكة المكرمة » ، هذا مضافاً إلى ان « اليمن » و « الشام » كانتا سوقين لقريش ، وكانت تربُط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة ، فاذا كان المسلمون يلجأون إليها اُخرجوا منهما

____________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧٠.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٢٠ ، ص ٣٨٢.

٤٥١

بطلبٍ من قريش ، تماماً كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب ، ولكنه رفض طلبهم.

وقد كانت الرحلة البحرية ـ في تلك الآونة ـ وبخاصة برفقة النساء والاطفال رحلة شاقة جداً ، من هنا كانت هذه الهجرة ، وترك الحياة والمعيشة في الوطن دليلا قوياً على إخلاص اُولئك المهاجرين لدينهم وعمق ايمانهم به ، وصدقه.

ولقد كان ميناء « جدة » آنذاك ميناء تجارياً عامراً كما هو عليه الآن ، ومن حسن التوفيق أن هذه الثلة المهاجرة قد وصلت إلى هذا الميناء في الوقت الّذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اُهبة الاقلاع ، والتوجه نحو الحبشة ، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم ، لقاء نصف دينار عن كل راكب.

وكان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه(١) .

ولما عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين واعادتهم إلى مكة فوراً ، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ « جدة » قبل أن يدركهم الطلب(٢) .

ومن الواضح أن ملاحقة مثل هذه الثلة الّتي لم تلجأ إلى أرض الغير إلاّ لأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها.

فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل والوطن ، واغمضوا الطرف عن المال ، والتجارة ، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية ، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة وجبابرتها وطغاتها!!

اجل ان رؤساء « دارالندوة » بمكة واقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٤١٢ نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٤٥٢

الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن ، والمؤشرات ولذلك كانوا يرددون فيما بينهم اُموراً سنذكرها في ما بعد.

هذا والجدير بالذكر أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء العشرة ينتمي إلى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية إلى الحبشة :

ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة اُخرى ، وكان في مقدمة المهاجرين هذه المرة « جعفر بن أبي طالب ». ابن عم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولقد تمت الهجرة الثانية في منتهى الحريّة ، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم ، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة(٨٣) .

هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض الحبشة لهُم ، والاّ كان العددُ اكثر من هذا الرقم.

ولقد وَجَدَ المسلمون المهاجرون ارضَ الحبشة كما وصفها رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم : منطقة عامرة ، وبيئة آمنة حرّة ، تصلح لأَن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية وأمان.

تقول « اُم سلمة » الّتي تشرفت بالزواج من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما بعد ، عن تلك الارض : لما نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرنا بها خير جار النجاشي ، أمنّا على ديننا ، وعبدنا اللّه تعالى ، لا نؤذى ، ولا نسمع شيئاً نكرهه.

كما أنه يُستفاد ممّا قاله بعض اولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة ، انهم أمنوا بأرض الحبشة ، وحمدوا جوار النجاشي ، وعَبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً.

ونحن نكتفي هنا بادراج بعض الأبيات من قصيدة مطوَّلة أنشأها « عبد اللّه بن الحارث » في هذا الصدد :

٤٥٣

يا راكباً بَلِّغن عَنّي مُغلْغَلة(١)

مَن كانَ يرجُو بلاغَ اللّه والدّينِ

كلَّ امرئ مِن عِباد اللّه مضطَهدٍ

ببَطنِ مكّة مقهور ومفتونِ

أنّا وجَدنا بِلادَ اللّه واسعةً

تُنجِي مِنَ الذُلِّ والمخزاة والهون

فَلا تُقيموا عَلى ذُلِّ الحَياة وَخز

ي في المَماتِ وَعَيب غير مأمون(٢)

ويقول ابن الاثير : وكان مسيرهم ( إلى الحبشة ) في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان وشهر رمضان وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة ، وكان سبب قدومهم إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه بلغهم ان قريشاً اسلمت فعاد منهم قومٌ وتخلّف قومٌ(٣) .

هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام(٤) .

قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين :

عندما بلغ قريشاً وزعماء « مكة » ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية ، وما حصلوا عليه من حسن الجوار والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم ، وتوجسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين ، وكانت الزعامةُ المكيةُ تتخوفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام واتباعُه منفذاً إلى بلاط النجاشي زعيم الاحباش وملِكهم ، ويُميلّوا قلبَه نحو الإسلام ، ويكسبوا تاييده للمسلمين ، فيؤول الامر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية ، وعندها تكون الكارثة.

فاجتمع أقطابُ « دار الندوة » مرة اُخرى للتشاور في الأمر ، فأستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ ووزرائه وقواده هدايا

__________________

١ ـ المُغلغلَة : الرسالة ترسَل من بلد إلى بلد.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥١ ـ ٣٥٣.

٣ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٥٢ و ٥٣.

٤ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٤ ـ ٣٦٢.

٤٥٤

مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتهمونهم عنده بالسفاهة والجهل ، وابتداع دين جديد منكر ، والإرتداد عن دين الآباء والاجداد!!

ولكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه ويصلوا عن طريقها إلى افضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدُهما في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما : « عمروُ بن العاص » ، و « عبد اللّه بن ابي ربيعة » وقال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار : إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم ، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه ، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرج موفَدا قريش حتّى قدما على النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات.

وهناك في الحبشة دَفعا إلى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة جيشه ووزرائه هديته ، وقالا لكل بطريق منهم :

إنه قد ضوى(١) إلى بلد الملك منّا غُلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ، ولم يَدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا انتم ، وقد بعثنا إلى المِلِك لنكلّمه في أمرهم أشرافُ قومهم ليردَّهم اليهم فاذا كلَّمنا الملكُ فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا ، ولا يكلّمهم ، فان قومَهم أبصر بهم ، واعلم بما عابوا عليهم.

فابدى اُولئك البطارقة والقادة والوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم.

ولما كان من غد دخلا على النجاشي وقدما هداياهما إليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له :

أيها الملك إنه قد ضَوى إلى بلدك منا غِلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ولم

__________________

١ ـ ضوى أيّ لجأ وأتى ليلا.

٤٥٥

يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بَعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم اليهم ، فهم أبصر بهم واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

وما أن انتهى موفدا قريش من الكلام إلاّ وقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومُهم أبصرُ بهم ، وأعلمُ بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

فغضبَ النجاشيّ وكان رجلا حكيما عادلا وقال : لاها اللّه ، إذن لا اُسلمهم إليهما ، ولا يُكادُ قوم جاوَرُوني ، ونَزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتّى أدعوَهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتُهُم اليهما ، ورددتُهم إلى قومهم ، وان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما واحسنتُ جِوارَهم ما جاوروني.

ثم ارسل إلى أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المهاجرين إلى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم ، فحضروا عنده ، وكانوا قد قرّروا أن يكون متكلِّمُهم وخطيبهم : « جعفر بن أبي طالب » وقد قلِقَ بعضُ المسلمين لما قد سيقوله « جعفر » عند الملك ، وبماذا سيكلّمهُ ويجيبُه ، فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر : أقول واللّه ما علّمنا ، وما امرنا به نبيُناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.

فالتفت النجاشيُ إلى « جعفر » وسأله قائلا :

ما هذا الدين الّذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا ( به ) في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

فقال جعفر بن ابي طالب :

« أيُّها الملك ، كنّا قوماً أهلَ جاهلية نعبُدُ الأَصنامَ ، ونأكلُ الميتةَ ، ونأتي الفواحش ، ونقطعُ الارحام ، ونسيءُ الجوار ، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتّى بعث اللّه الينا رسولا منا ، نعرف نسبَه وصدقه ، وأمانته وعَفافه ، فدعانا إلى اللّه لنوحِّدَه ونعبُدَه ، ونخلَعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من

٤٥٦

الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الامانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبدَ اللّه وحدَه ، لا نشركُ به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدّقناه وآمنّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرَّمنا ما حرَّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا ، فعدا علينا قومُنا ، فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردُّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالى ، وان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث ، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلَم عندكَ ايها الملك ».

فأثّرت كلمات جعفر البليغة ، وحديثه العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدُموع ، وقال : لجعفر هل معَك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟

فقال جعفر : نعم فقال له النجاشيّ : فاقرأهُ عليَّ ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم ، واستمرَّ في قراءته ، وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى « مريم »عليها‌السلام وطهارة جيبها ، وإلى مكانة المسيحعليه‌السلام ، وعظمة شأنه ، وجليل مقامه ، فبكى النجاشيُ حتّى اخضلّت لحيتُه بالدموع وبكت اسقافتُه(١) حتّى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم والمسيحعليهما‌السلام .

وبعد صمت قصير ساد ذلك المجلس قال النجاشي :

« إن هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة » وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلامُ اللّه وأنهما شيء واحدٌ.

ثم التفت إلى موفَدي قريش وقال لهما بنبرة قوية : انطلقا فلا واللّه لا اُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون ، فخرجا من عنده.

__________________

١ ـ الاساقفة ؛ جمع اسقف : علماء النصارى.

٤٥٧

وعند المساء تكلَم « عمرو بن العاص » ـ وكان إمرء خدّاعاً ما كرا ـ مع رفيقه « عبد اللّه بن ربيعة » في الامر ، وقال له : واللّه لآتيَنّ غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم ( وهو يعني أنه سيأتي بحيلة تقضي على جذور المهاجرين بالمرة ) ولاُخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. ( أي على خلاف ما يعتقد النصارى في المسيح ).

فنهاه « عبد اللّه » عن ذلك وقال : لا تفعل ، فانّ لهم أرحاماً ، وان كانوا خالفونا ، ولم ينفع نهي عبد اللّه له.

ولمّا كان من الغد دخلا على النجاشي مرة اُخرى فقال له « عمرو » متظاهراً هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى وهي دين الملك واهله ، ومنتقداً رأي المسلمين.

أيها الملك ، إنهم يقولون في « عيسى بن مريم » قولا عظيماً. فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فارسل النجاشيُ اليهم ليسألهم عنه ، وهو الملك المحنَّك الّذي لا يأخذ الأمور على ظواهرها ، ومن غير تحقيق ودراسة ، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيحعليه‌السلام فاتفقوا أن يكون « جعفر » متكلمهم وخطيبهم وعندما سألوه عما سيجيب به الملك قال : أقول واللّه ما قال اللّه ، وماجاءنا به نبيُنا.

فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر بن ابي طالب : ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال جعفر : نقول فيه الّذي جاءنا به نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها إلى مريم العذراء البتول.

فسرّ النجاشي لكلام جعفر ورضي به وقال : هذا واللّه هو الحق ، واللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ.

ولكنَّ حاشيته لم تَرضَ بهذا الكلام ولم تقبل بما قاله الملكُ ، ولكنّه لم يعبأ بهم ، وأيّد مقالة المسلمين ، ومنحهم الحرية الكاملة ، والأمان الكامل قائلاً لهم :

٤٥٨

اذهبوا فانتم آمنون في أرضي من سبّكم غُرمَ ، من سبّكم غرمَ ، ما اُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلا منكم.

وردّ على موفَدي قريش هداياهما قائلا لهما : « ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها ، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فاُطيعهم فيه ».

فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردوداً عليهما ما جاء به يجرّان اذيال الخيبة(١) .

* * *

وينبغي ان نسجّل هنا موقفا آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين ، ونصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل « ابو طالب » أبياتاً للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الابيات هي :

ألا لَيتَ شِعري كيفَ في النأي جعفرٌ

وعمروٌ واعداء العدو : الأقاربُ؟

وهل نالتَ افعال(٢) النجاشيّ جعفراً

وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ؟

تَعلّم ، ابيتَ اللعنَ ، انك ماجِدٌ

كريمٌ فلا يشقى لَديك المجانبُ

تعلّم بانَ اللّه زادك بسطةً

وأسبابَ خير كلّها بك لازب

وأنك فَيضٌ ذو سجال غزيرة

يَنالُ الاُعادي نفعهُا والاقارب(٣)

العَودةُ من الحبشة :

قلنا في ما مضى أنَّ المجموعة الاُولى من المهاجرين رجَعت من الحبشة إلى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة وانضوائها تحت راية الإسلام. حتّى إذا دنوا من « مكة » بلغهم أنما كانوا تحدّثوا به من إسلام اهل مكة كان باطلاً ،

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٣٨ ، إمتاع الاسماع : ص ٢١ ، بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٤١٤ و ٤١٥.

٢ ـ إحسان.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٣٣ و ٣٣٤.

٤٥٩

فلم يدخل منهم إلى « مكة » إلاّ قليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاؤوا.

وكان ممن دخل « مكة » بجوار ، « عثمان بن مظعون » الّذي دخلها بجوار « الوليد بن المغيرة »(١) ولكنه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البلاء ، والعذاب وهو يغدو ويروح في امان فتألّم لذلك ولم تطِق نفسه تحمُّلَ هذا الفَرق وقال : واللّه إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي فمشى إلى « الوليد بن المغيرة » وردَّ عليه جواره ليواسي المسلمين ويشاركهم في آلامهم ومتاعبهم وقال : يا أبا عبد شمس وفَت ذِمّتُك ، قد رَددْتُ إليك جوارَك.

قال : لِمَ يابن أخي؟ لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي؟

قال : لا ولكني أرضى بجوار اللّه ولا اُريد أن أستجير بغيره.

فقال الوليد له : إذن فاردُد عليّ جوارى علانية كما أجرتُك علانيةً.

فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجدَ ، فقال « الوليدُ » مخاطباً من حضر مِن قريش : هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.

قال : صدق ، قد وجدتُه وفيّاً كريمَ الجوار ولكنّي قد احببتُ أن لا استجيرَ بغير اللّه ، فقد رردتُ عليه جواره(٢) .

ثم لم يمض شيء مِنَ الوقت حتّى دخَلَ المسجدَ « لبيد » وكان شاعراً متكلِّما بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف في مجلس من قريش ينشدهم و « عثمان بن مظعون » جالس معهم فقال مِن جملة ما قال شعراً :

ألا كلُ شيء ما خلا اللّه باطلُ

فقال عثمان بن مظعون : صدقتَ فقال : لبيد :

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٦٩.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694