سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله11%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358081 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

طبعاً لا يمكن إنكار حضارة « سبأ ومأرب اليمن » العجيبة لأنه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة ، وما نُقِلَ عن « هيردوتس » وغيره ، كتبَ المؤرخ المعروفُ « المسعودي » عن مأرب يقول : إن ارض سبأ كانت من أخصب أراضي اليمن وأَثراها وأغدقها ، واكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً ، بين بُنيان وجسد مقيم وشجر موصوف ومساكب للماء متكاثفة ، وأنهار متفرقة ، وكانت مسيرة اكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال ، وفي العرض مثل ذلك ، وانّ الراكب أو المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس ، ولا يفارقه الظِلُ لاستتار الارض بالعمارة والشجر واستيلائها عليها واحاطتها بها ، فكان أهلها في اطيب عيش وارفهه ، وأهنا حال وارغده ، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء ، وتدفُّق المياه وقوة الشوكة ، واجتماع الكلمة ، ونهاية المملكة فذلّت لهم البلاد ، واذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض(١) .

وخلاصة القول أن هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية وخاصة منطقة الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً ، حتّى أن « غوستاف لوبون » نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول : « ان جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية ، وإن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها »(٢) .

وعلى فرض صحة كل ما قيلَ عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلَّم في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز ، إبان طلوع الإسلام ، وبزوغ شمسه ، وهي حقيقة يصرح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى : « وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفرَة مِنَ النّار فأنقَذكُمْ مِنْها »(٣) .

__________________

١ ـ مروج الذهب : ج ٢ ، ص ١٦١ و ١٦٢.

٢ ـ حضارة العرب : ص ٩٣.

٣ ـ آل عمران : ١٠٣.

٤١

وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا ـ كما وعَدْنا بذلك ـ فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقة متناهية وبشمولية ماوراءها شمولية.

ملامح المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن :

إن القرآن يكشف إجمالا عن أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بُعِثَ إلى قوم لم يبعث اليها احد قبله إذ يقول : «وَلَكِنْ رَحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبْلكَ لَعلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ »(١) .

ويقول في آية اُخرى : «أمْ يَقُولونَ افتراه بَلْ هُوَ الحقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذرَ قوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدونَ »(٢) .

ومن المعلوم أن المقصود في هاتين الايتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة اليها.

على أن أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى : «وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »(٣) .

فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب تصويراً مرعباً ، إذ تُصوِّرُهُمْ اولا وكأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية ، والضلال والشقاء فلا ينقذهم شيء من قعر التردي والسقوط الاّ التمسُّك بحبل اللّه ، حبل الإيمان والقرآن.

وتصوِّرُهُمْ ثانياً وكأَنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه ، وليست تلك النار إلاّ نيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لاُحرقت حياة العرب جميعاً.

هذه هي صورةٌ سريعةٌ عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وسقوط.

وامّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاُخرى التي

__________________

١ ـ القصص : ٤٦.

٢ ـ السجده : ٣.

٣ ـ آل عمران : ١٠٣.

٤٢

تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم ، وأفعالهم وتقاليدهم ، بصورة مفصلة ، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والاخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال آخر.

لقد اتصف المجتمعُ العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها ما يلي :

١ ـ الشِرْكُ في العِبادة :

صحيح أن العرب في الجاهلية كانت ـ كما يكشف القرآن ذلك لنا ـ موحِّدة في جملة من الامور والمجالات كالخالقية والتدبير والذات(١) إلاّ أنهم كانوا ـ في الأكثر ـ مشركين في العبادة ، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطَّ المستويات في إتخاذ المعبودات والوثنية.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «وَجَعلُوا للّه شُركاء الجِنَّ وَخَلَقهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِيْنَ وَبَنات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحانَه وتعالى عَما يَصِفُونَ »(٢) .

وقوله تعالى : «أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعزّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الاُخْرى »(٣) .

وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط ، واسفاف وانحراف في هذا المجال.

٢ ـ إنكارُ المعاد :

كان المشركون والجاهليون يرفُضُون الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب والجزاء ، ويصفون من يخبر عن ذلك

__________________

١ ـ نعم يُستَفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى : «وَقالوا ما هي إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ وَنَحيا وَما يُهلِكُنا إلاّ الدَهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مَنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ » ( الجاثية : ٢٤ ).

٢ ـ الأنعام : ١٠٠.

٣ ـ النجم : ١٩ و ٢٠.

٤٣

اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!!

يقول تعالى : «وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلى رَجل يُنبِّئكُمْ إذا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إنَكُمْ لفي خَلق جَديد ، وأفْترى عَلى اللّه كَذِباً أمْ به جِنَّةٌ بَلِ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة في الْعذابِ وَالضَّلالِ البِعيْد »(١) .

٣ ـ هَيْمَنةُ الخرافات :

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام اربعة ذكرها القرآن مندداً بهذه البدعة إذ قال : «ما جَعَل اللّهُ مِنْ بَحيرة ولا سائبة وَلا وَصيْلَة وَلا حام ولكنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَفْترونَ عَلى اللّهِ الكِذبَ وأكثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ »(٢) .

أمّا ( البحيرة ) بوزن فعِلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق ، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها اُنثى ـ وقيل ذكر ـ بحروا اُذنها وشقوها ليكون ذلك علامة وتركوها ترعى ، ولا يستعملها أحد في شيء.

وأمّا ( السائبة ) على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطناً ـ وقيل عشرة ـ فهي تُهمَل ولا تُركب. ولا تمنع عن ماء ، ولا يشرب لبنها الاضيف.

وأمّا ( الوصيلة ) بوزن فعيلة بمعنى فاعلة أوبمعنى مفعولة فهي الشاة تنتج سبعة أبطن أو تنتج عناقين عناقين.

وأمّا ( الحامي ) بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفَحل من الإبل الّذي يستخدم للقاح الاُناث ، فاذا وُلدَ من ظهره عشرة ابطن قالوا : حُمِي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يُمنع من ماء ومرعى(٣) .

والظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام

__________________

١ ـ سبأ : ٧ و ٨.

٢ ـ المائدة : ١٠٣.

٣ ـ راجع مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٢٥٢ و ٢٥٣ في تفسير الآية.

٤٤

والشكر لما وهب أصحابها من النعم والبركات ، غير ان هذا العمل ـ كان في حقيقته ـ نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه الحيوانات ، لأنهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها ، وتقاسي من الحرمان ، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع ، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر والخسارة.

والأسوأ من كل ذلك أنهم ـ كما يُستفاد من ذيل الآية ـ كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر إلى اللّه سبحانه وتعالى ، إذ يقول سبحانه : « وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللّه الكذبَ » وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم مِن هذه الاشياء شيئاً ، وأنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.

وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول : «ويَضَعُ عَنْهُمْ إصرَهُم والأغلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ »(١) .

٤ ـ الفساد الاخلاقي :

كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز وسائل الفساد ومظاهره هما : القمار ( الّذي كانوا يسمّونه بالميسر وانما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ) والخمر.

وقد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن قبول الإسلام واعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر وشربه ، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب.

يقول القرآنُ في هذا الصعيد : «يَسأَلونَكَ عَن الخَمْر والمَيْسر قُلْ فيها إثمٌ كبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس وَإثمُهما اكبرُ مِنَ نفْعِهما »(٢) .

وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة

__________________

١ ـ الأعراف : ١٥٧ وراجع المحبر : ص ٣٣٠ ـ ٣٣٢.

٢ ـ البقرة : ٢١٩.

٤٥

التي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك القوم ، حتّى اصبحت السمة البارزة لحياتهم واصبح التغنّي بالخمرة ، ووصفها الطابع الغالب لآدابهم ، واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم واشعارهم.

على أن الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربّي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر ، ومزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً ، حيث عدّ منها الزنا ، واللوط ، والقذف ، وإكراه الفتيات على البغاء وماشا كل ذلك(١) .

٥ ـ وَأدُ البنات وإقبارُهن :

ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة جاهلية سيئة اُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت حيةً.

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة وهذا العمل اللانساني ونهى عنه بشدة في اربعة مواضع ، إذ قال تعالى : «وَإذا المَوؤدةُ سُئلتْ. بأيّ ذَنب قُتِلَتْ »(٢) . وقال تعالى : «وَلا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خَشيَةَ إمْلاق نَحْنُ نَرزقُهُمْ وَإياكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كبيراً »(٣) .

وقد اتى جدُ « الفرزدق » « صعصعة بن ناجية بن عقال » رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين وثمانين موؤدة في الجاهلية ، وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله.

وقد افتخر « الفرزدق » بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير من شعره إذ قال :

ومنّا الّذي منَع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يُوأد(٤)

____________

١ ـ راجع للوقوف على ذلك سورة النساء : ١٥ و ١٦. وسورة النور : ٢ و ٣ وغيرها. وراجع المحبر : ص ٣٤٠.

٢ ـ التكوير : ٨ و ٩.

٣ ـ الإسراء : ٣١.

٤ ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٤٥ و ٤٦.

٤٦

٦ ـ تصوراتهم الخرافية حول الملائكة :

وممّا اشار إليه القرآن الكريم تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة ، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث وأنهن بنات اللّه ، إذ يقول تعالى : «فَاستَفْتِهِمْ ألرَبِّكَ البَناتُ وَلَّهُمْ البَنُونُ. امْ خَلَقْنا الْمَلائكَةَ إناثاً وَهُمْ شاهِدونَ. ألا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللّهُ وَإنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أصطفى البَناتِ عَلى البَنينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ »(١) .

٧ ـ كيفية الانتفاع من الانعام :

إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها وأصوافها إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم ، والميتة والخنزير ، وتأكل من الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية ، وبالتعذيب والأذى ، وربما كانت تعتبر ذلك نوعاً من العبادة ، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم ، وتحرّم تناولها ، إذ يقول سبحانه : «حُرِّمتْ عَليْكُمُ الميْتَة والدَّمُ وَلَحمُ الْخِنْزيرِ وَما اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَالمُنخَنقةُ والموقوذةُ والمتردِّيةُ والنَطيحةُ وَما اكَلَ السَبُعُ إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ عَلى النُصُب وأن تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ »(٢) .

فقد حرم اللّه في هذه الآية اكل :

١ ـ الميتة.

٢ ـ الدم.

٣ ـ لحم الخنزير.

٤ ـ ما ذكر اسم غير اللّه عليه.

٥ ـ الّتي تموت خنقاً ، وهي المنخنقة.

__________________

١ ـ الصافّات : ١٤٩ ـ ١٥٤.

٢ ـ المائدة : ٣.

٤٧

٦ ـ الّتي تضرب حتّى تموت ، وهي الموقوذة.

٧ ـ الّتي تقع من مكان عال فتموت وهي المتردية.

٨ ـ الّتي تموت نطحاً من حيوان آخر وهي النطيحة.

٩ ـ ما افترسه سبع إلا إذا ذُكي قبل موته.

١٠ ـ وما ذُبِح أمام الاصنام.

٨ ـ الاستقسام بالازلام :

فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام ، والأزلام جمع ( زلم ) بوزن ( شَرَف ) وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة.

فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم يذبحونه ، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا يكتبون على ثلاثة منها شيئاً ، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد اُخرى ، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم ، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم(١) ، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله : «وأن تَستَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ » لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار.

٩ ـ النسيء :

كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الاشهر الحرم ( وهي اربعة المحرم ورجب وذوالقعدة وذوالحجة ) فكانوا يتحرجون فيها من القتال ، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم واسماعيلعليهما‌السلام .

الاّ أنَ سَدَنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمَدُون أحياناً ، ولقاء مبالغَ يأخذُونها ، أو جرياً مع أهوائهم ، إلى تأخير الاشهر الحُرمَ ، وهو الأمر الّذي عبّر

__________________

١ ـ راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب : ج ٣ ، ص ٦٢ و ٦٣ ، والمحبر : ص ٣٣٢ و ٣٣٥.

٤٨

عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال : «إنّما النّسيء زيادةٌ في الكُفْر يُضَلُّ به الَّذينَ كَفرُوا يُحِلونَهُ عامَاً وَيحرِّمُونهُ عاماً ليُواطئوا عدَّة ما حَرَّمَ اللّه فيحلّوا ما حَرَّمَ اللّه زيِّنَ لهُم سوء أعْمالِهمْ واللّه لا يهدي الْقومَ الْكافِرينَ »(١) .

وقد ذكرت كُتُب التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم ، الّذي كان يتم بصورة مختلفة منها : أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة والقتال ولم تطق تاخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة ، لقاء ما تقدمه لهم من هدايا واموال ، تجويز الغارة والقتال في شهر محرم ، وتحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم ( وهي اربعة ). وهذا هو معنى قوله تعالى : «ليُواطِئوا عدةَ ما حَرَّمَ اللّهُ » وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرم من سنة حَرَّمُوه في المحرم مِنَ السَنة التالية ، وهذا هو معنى قوله تعالى : «يُحلُّونَهُ عاماً ، ويُحرِّمُونِه عاماً ».

١٠ ـ الربا :

وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من المفاسد الشائعة ، والأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام : « الربا » الّذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع.

وقد حاربَ القرآنُ الكريمُ هذه العادة المقيتة ، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً شعواء ، إذ قال تعالى : «يا أيّها الَّذينَ آمَنُوا اتّقوا اللّهَ وَذَرُوا ما بقيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ. فَإنْ لَم تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرب مِنَ اللّهِ وَرَسُولِه وانْ تُبْتُمْ فَلكُمْ رُؤُوسُ اموالِكُمْ لا تَظْلِمونَ وَلا تظْلَمُونَ »(٢) .

والعجيب أنهم كانُوا يُبّررونَ هذا العمل اللإنساني بقولهم «إنّما البيعُ مِثلُ الرِّبا »(٣) فاذا كان البيعُ حلالا وهو اخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا ، فإنه أخذٌ وعطاء أيضاً ، مع أن « الرّبا » من ابشع صور الاستغلال ، وقد ردَّ

__________________

١ ـ التوبة : ٣٧.

٢ ـ البقرة : ٢٧٨ و ٢٧٩.

٣ ـ البقرة : ٢٧٥.

٤٩

سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى : «وأَحلَّ اللّه البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا »(١) ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل ، بينما لا يتضرر المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً ، ولهذا تنمو المؤسسات الربوية ، ويعظم رصيدُها ، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً ، ولا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدُّ جوعته ، ويقيم اوده ، لا اكثر ، كلُ ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل.

صورٌ من الوضع الجاهلي

ما قدمناه كان أبرز المفاسد الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي اشار اليها القرآن الكريمُ ، وأما التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردي حالة العرب الجاهلية وسقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات.

واليك في ما يلي نماذج وصور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر واوثقها :

وها نحن نقدم قصة « أسعد بن زرارة » الّتي تسلط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز ، فقد قدم « أسعد بن زرارة » و « ذكوان بن عبد قيس » ـ وهما من الأوس وكان بين الاوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم « يوم بُعاث » وقد انتصر فيها الأوسُ على الخزرج ـ مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس ، وكان اسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال : انه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال له عتبة : إن لَنا شغلا لا نتفرّغ لشيء. قال سعد : وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة : خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا وأفسدَ

__________________

١ ـ البقرة : ٢٧٥.

٥٠

شُبّاننا ، وفرّق جماعَتَنا ، فقال له أسعد : مَنّ هو منكم؟ قال : ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان ، وجميع الاوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم : النضير وقريظة وقينقاع ، أن هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب ، فلما سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من اليهود ، قال : فأينَ هو؟ قال : جالس في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصَرة بني هاشم في شعب أبي طالب ، فقال له « أسعد » : فكيف أصنعُ وأنا معتمر لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال : ضعْ في اُذنيكَ القطنَ ، فدخل « أسعدُ » المسجد وقد حشا اُذُنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهلَ مني؟ أيكونُ مثل هذا الحديث بمكة فلا اتعرّفه حتّى ارجع إلى قومي فاخبرهم ، ثم أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه : أنعَمْ صباحاً ، فرفع رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إليه وقال : قد أبدَلَنا اللّه به ما هو احسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم ، قال له أسعد : ( إنّ عهدَك بهذا لقريب ، إلى ما تدعُو يا محمَّد؟ قال : إلى شهادة ألاّ إله إلاّ اللّه ، واني رسولُ اللّه ، وأدْعُوكُمْ إلى : «ألاّ تشركوا بِه شَيئاً وَبِالوالِدَينِ إحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاق نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وإيّاهُمْ وَلا تَقْرَبوا الفواحِشَ ما ظَهرَ منها وما بطَنَ وَلا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالحَقِّ ذلِكمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعلكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَلا تَقرَبُوا مالَ اليتيم إلاّ بِالَّتي هي أَحسنُ حَتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وَأوْفُوا الكيلَ وَالْميزان بِالقِسْطِ لانُكَلِّفُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها وإذا قلتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذاقربى وَبِعَهْدِ اللّه أوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُونَ »(١) .

__________________

١ ـ الأنعام : ١٥١ و ١٥٢.

٥١

فلما سمع « أسعد » هذا قال له : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنك رسولُ اللّه ، يا رسول اللّه بأبي أنت واُمي(١) .

إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الاخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الادواء والامراض ليلفت نظر « أسعد » إلى أهداف رسالته الكبرى.

العقيدة والدين في الجزيرة العربية :

عند ما رفع « إبراهيم الخليل » لواء التوحيد في البيئة الحجازية ، واعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه « اسماعيل » ، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه به قلوبهم ، الاّ انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع ، ويؤلف صفوفاً متراصة ، وجبهة عريضة قوية من الموحدين ، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر ، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام ٢٠٦ هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان « بنومليح » من خزاعة يعبدون الجن وكانت « حمير » تعبد الشمس ، و « كنانة » تعبد القمر ، و « تميم » الدبران ، و « لخم » و « جذام » المشتري ، و « طي » سُهيلا ، و « قيس » الشِعرى ، و « أسد » عطارداً.

أما الدهماء والذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون ـ مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة ـ ثلاثمائة وستين صنماً ، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها.

وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكة بعد « إبراهيم الخليل »

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨ و ٩ ، اعلام الورى : ص ٣٥ ـ ٤٠.

٥٢

عليه‌السلام على يد « عمرو بن لحي » ، ولكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم ، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة ، وأنها بالتالي آلهة وأرباب.

وكانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية ، ولكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط ، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها أماكن وبيوت خاصة ، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.

أما الآصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة ، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً.

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها ، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره ، وإذا ارتحل تركه.

وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم ، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها ، ويمكن أن تكون هذه هي « الأنصاب » الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان ، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة ، وأما « الأصنام » فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان.

لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً ، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها ، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا ، وكانوا يستشيرونها في مهام امورهم ، وجلائل شؤونهم ، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي

٥٣

( الأمر والنهي ) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها ( إفْعَلْ ) وعلى بعضها الآخر ( لا تَفْعَلْ ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك.

وخلاصة القول ، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية ، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوعة ومتعددة ، وكانت الكعبة المعظمة ـ في الحقيقة ـ محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة ، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم ، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (٣٦٠) صنماً في مختلف الاشكال والهيئات والصور ، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة ، وقصّة ابراهيم.

وكان من جملة تلك الأصنام : « اللات » و « العُزّى » و « مناة » الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش.

وكانت « اللات » تعتبر اُمُّ الالهة ، وكان موضعها بالقرب من « الطائف » وكانت من الحجر الابيض ، واما « مناة » فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين « مكة » و « المدينة ».

ولقد اصطحب « ابوسفيان » معه يوم « اُحد » : « اللات » و « العزّى ».

ويروى انه مرض ذات يوم « أبو أُحيحة » وهو رجل من بني اُمية ، مرضه الّذي مات فيه ، فدخل عليه ابولهب يعوده ، فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك يا با احيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال : لا ولكني اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي! قال ابولهب : واللّه ما عُبدَت حياتك ( اي لا جلك ) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو اُحيحة : الآن علمتُ ان لي خليفة(١) .

ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان اعظمها « هُبَل » ، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنماً خاصاً بها

__________________

١ ـ الأصنام للكلبي : ص ٢٣.

٥٤

مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب ، والشمس ، والقمر ، والحجر ، والخشب ، والتراب ، والتمر ، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل ، والهيكل ، والاسم ، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد.

لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب ، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين ، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها ، وتقبر جسده على مقربة من المذبح.

هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أن ارض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت مسرحاً للاصنام ومستودعاً ضخماً للاوثان ، وكيف تحولت هذه البقعة من العالم ببيوتها وازقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن للنُصُب المؤلَّهة ، والتماثيل المعبودة ، ويتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي اسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء والعدّ ، إذ قال :

أَرَبّا واحِداً أمْ ألف رَب

أدينُ إذا تقسَّمَتِ الاُمورُ

عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً

كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها

ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ

ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً

لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ

ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي

لِيَغْفِرَ ذَنبِي الربُّ الغفُورُ(١)

وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة ، تناقضاتٌ ، وصراعاتٌ ، وحروب ومناحرات ، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة ، الضالة.

* * *

__________________

١ ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٢ ، ص ٢٤٩ وجاء البصير.

٥٥

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت :

وعن مصير الإنسان وحالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب ونظرتهم تتلخص في ما يلي :

عند ما يموت الإنسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب‍ « الهامّة والصدى » ثم يبقى هذا الطائر قريباً من جسد الميت ينوح نوحاً مقرحاً وموحشاً ، وعند ما يوارى الميت يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى الابد!

وربما وقفَ على جدار منزل الميت أحياناً لِتَسقُّطِ أخبار عائلته والاطلاع على أحوالهم!!

قال شاعرهم في ذلك :

سُلِّطَ المُوتُ والمنونُ عليهم

فَلَهم في صدى المقابر هامُ

 وإذا كان المرء قدمات بموتَة غير طبيعية كما لو قُتِلَ ـ مثلا ـ فإنَ ذلك الحيوان ينادي باستمرار : « اسقوني اسقوني » اي اسقوني بسفك دم القاتل واراقته ؛ ولا يسكن عن هذا النواح والنداء الخاص الابعد الانتقام والثأر من قاتله.

قال احدهم في ذلك :

فياربّ إنْ أهلَكْ ولم تُروَهامتي

بِلَيلي اَمُتْ لا قَبرَ أَعطَشَ مِن قَبري(١)

من هنا بالضبط تتجلى الحقيقة للقارئ ويعلم جيداً كيف أن تاريخ العرب ما قبل الإسلام وتاريخهم ما بعد الإسلام ما هو الاّ تاريخان على طرفي نقيض :

فذلك تاريخ جاهلية ، ووثنية وإجرام ، وهذا تاريخ علم ووَحدانية وانسانية وايمان ، وشتان ما بين وأد البنات ، وبين رعاية الايتام ، وبين السلب والنهب والاغارة وبين المواساة والايثار ، وبين عبادة الاوثان والاصنام الصماء العمياء

__________________

١ ـ بلوغ الارب : ج ٢ ، ص ٣١١ و ٣١٢.

٥٦

والتقرب إلى اللّه الواحد القادر.

الآداب مرآة آداب الشعوب ونفسياتها :

المخلَّفاتُ الفكرية والثقافية ، وما يتركه أيُ شعب من الشعوب من قصص وحكايات افضل وسيلة للتعرف على خلفياته النفسية والأخلاقية ، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعرُ والقصةُ ، والخطبةُ والحكايةُ ، والمثلُ والكنايةُ مرآة صادقةٌ تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة ، وتعتبرُ خير مقياس لتمدّنها ، وحضاراتها ، وأفكارها ونفسياتها ، تماماً كما تحكي اللوحاتُ الفنيةُ عن حياة عائلة ، أو منظر طبيعي جميل ، أو اجتماعات صاخبة ، أو مشاهدَ قتالية.

إنَ القصائد والأَمثال العَربية الّتي كانت رائجة آنذاك تستطيع ـ قبل كل شيء ـ أن تكشف عن الوجه الحقيقي لتاريخهم ونمط حياتهم وسلوكهم ، ولهذا السبب لا يجوز لأي مؤرخ واقعي يسعى إلى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية والأدبية والثقافية لذلك الشعب سواء أكان شعراً أم نثراً ، أمثالا أم حكماً ، قصصاً أم أساطير.

ومن حسن الحظ أنّ مؤرخي الإسلام اثبتوا وسجلوا باتقان ما اُثِرَ من العرب ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما اُتيحَ لهم ذلك.

وقد كان ابو تمام « حبيب بن اويس » ( المتوفى عام ٢٣١ هجرية ) والّذي يُعتبر من كبار أُدباء الشيعة ، وله قصائد رائعة في مدح آل الرسول ، ممن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية ، حيث جَمع في كتاب واحد طائفة كبيرة جداً من الشعر الجاهلي مفصلة في عشرة أبواب هي :

١ ـ الحماسة.

٢ ـ المراثي.

٣ ـ الادب.

٤ ـ النسيب.

٥ ـ الهجاء.

٥٧

٦ ـ الاضافات.

٧ ـ الصفات.

٨ ـ السير.

٩ ـ المُلَح.

١٠ ـ مذمة النساء.

وقد تناولَ هذا الديوان التاريخيُ القيم عددٌ كبيرٌ من أُدباء المسلمين وعلمائهم بشرح ابياته ، وتفسير غوامضها ، وبيان اغراضها ، ومقاصدها.

كما ترجم أصلُ الديوان إلى لغات اجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب « معجم المطبوعات »(١) .

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية :

إن الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان ، وأقوى دليل على أنها كانت تعيشُ ـ في ظل ذلك العهد ـ في أسوأ الحالات وأشد الظروف واتعسها.

هذا مضافاً إلى أن الآيات القرآنية الّتي تنزلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي ، وقسوتهم على الاُنثى ، هي الاُخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا إليه في هذا المجال.

إن القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله : «وإذا الموؤدة سُئلت »(٢) أي ليسئل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء.

إن القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدث ـ في الحقيقة ـ عن عادة وأدالبنات بمرارة ، ويشجبها بشدة حتّى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر ـ في الآخرة ـ بدون حساب شديد ، وسؤال خاص.

__________________

١ ـ معجم المطبوعات : ص ٢٩٧ ، وقد اشتهر هذا الديوان ببابه الأول : « الحماسة » فسمي ديوان الحماسة.

٢ ـ التكوير : ٨.

٥٨

حقا انه لأمرٌ يكشف عن مدى القسوة الّتي كان عليها قلوبُ الجماعة.

إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير ، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان ، انه لا يعود يسمع معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة ، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى باُم عينيها حفيرتها ، وتحس بيدي والدها القاسي ، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حية!

إنها قسوة تكشف عن أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي ، والتقهقر الإنساني.

وبنو تميم هي أول قبيلة اقدمت على هذه الجريمة النكراء ، وكان السبب أن « بني تميم » أمتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك ، فجرّد اليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً لضرب هذا التمرد ، وانتصر على « بني تميم » في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى منهم الفتيات والنساء ، فوفدت وفود « بني تميم » على النعمان بن المنذر وكلّموه في الذراري والنساء ، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في ذلك إلى النساء ، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه ، فاختلَفْنَ في الخيار ، فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الاهل والاباء ، واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ والدها العجوز « قيس بن عاصم » فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَ بنت تُولَد له. وهكذا سنّ لقومه الوأد ، واخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا يمارسونها اعواماً متمادية(١) .

واليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال :

قيل لماوفد « قيس بن عاصم » على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأله بعض الانصار عما يتحدث به في الموؤدات ، فاخبر انه ما ولدت له بنت إلاّ وأدها ، قال : كنتُ اخاف العار وما رحمتُ منهنَ إلاّ بُنيّة كانت ولدتها اُمها وأنا في سفر ، فدفعتها إلى أخواتها ، وقدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل ، فاُخبِرت أنها

__________________

١ ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٤٢ و ٤٣.

٥٩

ولَدت ولداً ميتاً ، وكتمتْ حالها ، حتّى مضت على ذلك سنونٌ ، وكبرت الصبية ، وينعت ، فزارت اُمها ذات يوم ، فدخلتُ فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً ، والبستها قلادة من جزع فقلت لها : من هذه الصبية؟ وقد اعجبني جمالها فبكت اُمها ، وقالت : هذه ابنتك ، فامسكتُ عنها حتّى غفلتْ اُمها ثم اخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها فيها وهي تقول : يا ابت ما تصنع؟ أخبرني بحقك!! وجعلتُ اُقلّب عليها التراب ، وهي تقول : أنت مغط عليَّ بهذا التراب ، أنت تاركي وحدي ، ومنصرفٌ عني ، وجعلتُ اقذفُ عليها حتّى واريتها ، وانقطع صوتُها ، فتلك حسرتها في قلبي ، فَدَمعتْ عينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : « إن هذه لقسوة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم »(١) .

وقد ذكر ابن الاثير في كتابه « اُسد الغابة » في مادة : قيس : ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية : فاجاب قيسٌ بانه وأد اثنتي عشرة بنتاً له(٢) .

ورُوي عن ابن عباس أنه قال : كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة ، فاذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته(٣) .

المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب :

كانت المرأة عندهم تباع وَتُشترى كالمتاع ، وكانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة والفردية ، حتّى حق الارث.

وقد كان المثقفون من العرب يعُدُّون النساء من الحَيوانات ، ولهذا كانوا يعتبرونهن جزءً من أثاث البيت ويعاملونهن معاملة الرياش والفراش حتى سار

__________________

١ ـ حياة محمَّد : تأليف محمَّد علي سالمين ، ص ٢٤ و ٢٥.

٢ ـ راجعُ اسد الغابة : ج ٤ ، ص ٢٢٠ ، وجاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٤٣ أنه وأد بضع عشرة بنتاً.

٣ ـ بلوغُ الارب : ج ٣ ، ص ٤٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

التقوى وخير الملل ملة إبراهيمعليه‌السلام وخير السنن سنن محمّد وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن وخير الامور عواقبها وشرّ الامور محدثاتها وأحسن الهدى هدي الأنبياء وأشرف القتل قتل الشهداء ».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية والتي ادرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ثم أصدر رسول الله أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قصة مالك بن قيس :

رجع مالك بن قيس « ابو خيثمة » بعد أن سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياما إلى أهله في يوم حار ، فوجد المدينة فارغة ، وعرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له ، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش ، وبردّتا له ماء ، وهيأتا له طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه ، وما صنعتا له ، وفكّر في ما فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه من الحال ، وقد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشمس والريح والحرّ ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيّأ ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟

ما هذا بالنصف.

ثم قال : لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا ، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك ، وقد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة « عمير بن وهيب الجمحى » وهو يطلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ١٠١٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢١٠ ـ ٢١٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٢٠ وقد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير ونسبها الى عبد الله بن خيثمة.

٥٦١

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق ـ في بداية الامر ـ لمرافقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنه التحق بركبه المقدس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار والتقدير ، ولم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنهم رفضوها ، وابتعدوا عنها ، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا « عبد الله بن ابي » رئيس المنافقين وكبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين ، ولكنه لخبث سريرته ، وعدائه الشديد للاسلام ونبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي ، وعاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب ، وحيث إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على علم بنفاقه ، وخبث سريرته وكان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة ، لذلك لم يهتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانفصاله عن الجيش الاسلامي ورجوعه الى المدينة.

مصاعب الطريق :

لقد واجه جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاق كثيرة ، ولهذا سمّي هذا الجيش بجيش « العسرة » ولكن ايمانهم العميق بالله ، وحبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب ، وهوّن عليهم تلك المشاق ، التي استقبلوها بصدور رحبة.

وعند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهه بثوبه ، واستحثّ راحلته ومرّ على بيوتهم ، وأطلالهم بسرعة وقال لأصحابه :

« لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ».

وهو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

٥٦٢

والشعوب ، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عتوّهم وعنادهم ، وتمرّدهم على الحق ، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع ، والأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال والاقوام الاخرى.

ثم نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا ، وأن لا يتوضئوا به للصلاة ، وأن لا يحاس به حيس ، ولا يطبخ به طعام ، وأن العجين الذي عجن به ، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل ، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ، ولا يأكلوا منه شيئا(١) .

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبيعليه‌السلام ، فنزلوا عليها بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

تعليمات احتياطيّة :

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين والآخر ، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه ، وتلقيه في واد آخر.

ولهذا أصدرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم ولا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده ، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد اثبتت التجارب والاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا ، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢١ و ٥٢٢ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ و ١٣٥.

٥٦٣

خبائهما ليلا ، فاختنق أحدهما لشدة الرياح ، بينما احتملت الريح الرجل الآخر ، وضربت به الجبل ، ولما علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك انزعج بشدّة وقال :

« ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلاّ ومعه صاحبه »(١) .

هذا وقد استعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حرس العسكر « عباد بن بشر » فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس ولا ماء معهم ، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم ، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها ، ويشربوا ماءها ، بينما صبر آخرون ، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد ، وقلوب ملتهبة عطشا.

ولقد أعان الله تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء ، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول الله بالمغيّبات :

لا شك في أن في مقدور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس ، ويخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك ، إلاّ أنّ هذا العلم لا ريب محدود ، ويحتاج إلى تعليم الله سبحانه. يقول تعالى :

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ »(٢) .

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الاحايين ، أبسط الامور ، كأن يفقد مفتاحا ، أو يضيّع مالا ولا يعرف بمكانه ومصيره ، بينما يقدرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضا فيثير حيرة

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٢.

(٢) الجن : ٢٦ و ٢٧.

٥٦٤

الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كل ذلك هو ما ذكرناه ، فان مشيئة الله سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علم وأخبر ، وإلاّ كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيره من أفراد البشر العاديين.

وفي ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية :

لما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها ، فقام أحد المنافقين ، وقال : أليس محمّد يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يكشف النقاب ببيانه الرائع :

« إن رجلا قال : هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلاّ ما علّمني الله ، وقد دلّني الله عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها ».

فذهب بعض الصحابة من فورهم ، وجاءوا بها(١) .

إخباره بمغيّب آخر :

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أبطأ به بعيره ، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره ، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير ، وأخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماشيا ، ونزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت ، وفجأة لاح من بعيد رجل ، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال : يا رسول الله هو والله أبو ذر ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٥٦.

٥٦٥

« رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده »(١) .

وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة ، فقد توفي أبو ذر في صحراء « الربذة » ، وعنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية(٢) .

لقد تحققت نبوءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاما ، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشيء إلاّ لأنّه جهر بالحق ، وطالب بالعدل ، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش ، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات ، وامرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه ، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها : ما يبكيك؟

فقالت : أبكي أنه لا يد لي بتغييبك ( أي ليس لي من يعيننى على دفنك ، أوليس عندي ثوب يسعك كفنا )!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة وقال : لا تبكي عليّ ، فاني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول : ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين ( ثم قال : ) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، فلم يبق منهم غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق ، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني والله ما كذبت ولا كذبت.

قال هذا وفاضت روحه المباركة(٣) .

ولقد صدق أبو ذر ، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٥.

(٢) المغازي : ج ٣ ص ١٠٠٠ و ١٠٠١.

(٣) اسد الغابة : ج ١ ص ٣٠٢ ، الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٢٢٣ ، حلية الاولياء : ج ١ ص ٣٠٢.

٥٦٦

كبرى مثل « عبد الله بن مسعود » و « حجر بن عدي » و « مالك الاشتر » تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى « عبد الله » من بعيد مشهدا عجيبا مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق ، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف « عبد الله » زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضا ، وما أن وقعت عينا عبد الله على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه ، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع ، ووقف عند جثمان أبي ذر ، وتذكّر نبوءة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك وقال : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ».

ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر ، ثم واراه الثرى ، وبعد أن فرغ من دفنه ، وقف مالك الاشتر عند قبره وقال :

اللهمّ إنّ هذا صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه وقلبه ، حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا(١) .

وقد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية :

وعاش أبو ذر كما قلت وحده

ومات وحيدا في بلاد بعيدة

__________________

(١) ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة ، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها ، ولكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر وابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلاّ القافلة على محل جثمانه الطاهر ، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٣٤ ـ ٢٣٢ ، والدرجات الرفيعة : ص ٥٣.

٥٦٧

جيش الإسلام في أرض تبوك :

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك ، ولكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم ، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام ، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة « مؤتة » رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين ، ويثبتوا بذلك عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين ، ويتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط ، وأن هذا النبأ لم يكن إلاّ شائعة لا أكثر ، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية(١) .

في هذه اللحظة جمع رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادة جيشه الكبار ، وتبعا للاصل الاسلامي « وشاورهم في الأمر » تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة ، أن يعود إلى المدينة ، ليستعيد نشاطه ، وقواه ، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم ، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين ، وهذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي الله ما يقضي في المستقبل.

__________________

(١) يكتب الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠١٤ و ١٠١٥ أقام رسول الله بتبوك عشرين ليلة وهكذا يقول : إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس ، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ وتعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

٥٦٨

ولقد اضاف كبار المشيرين ـ حفاظا على مكانة الرسول القائد ، وإشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ والرد ـ قائلين : إن كنت امرت بالسير فسر(١) .

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لو امرت به ما استشرتكم فيه ».

وهكذا احترم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة(٢) .

وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم ومناطقهم ، وكانوا جميعا نصارى ، ولهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام ، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاهدة عدم اعتداء ، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع ، فأجرىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيا بزعماء « أيلة » و « أذرح » و « الجرباء » ، وتمّ عقد معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و « أيلة » مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر ، ولا تبعد عن الشام كثيرا ، وكان زعيم تلك المنطقة هو « يوحنا بن رؤبة » ، فهو يوم اتي به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى ، قدّم لرسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠١٩.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤٢.

٥٦٩

وآله فرسا أبيضا ، وأعلن عن طاعته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاحترمه النبي واكرمه ، وصالحه ، وكساه بردا يمينا.

وقد قبل « يوحنا » هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنويا وعلى أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين وكتب له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاب أمان وقّعه الطرفان ، وإليك نص الكتاب المذكور :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من الله ومحمّد النبيّ رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسياراتهم في البرّ والبحر ، لهم ذمة الله وذمة محمّد رسول الله ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر ، ومن أحدث حدثا ، فانه لا يحول ماله دون نفسه ، وأنه طيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ وبحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين وفرّ الاسلام له كل أمن وسلام(١) .

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام « أذرح » و « جرباء » التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية ، وبذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دومة الجندل :

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضم حصنا منيعا ، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا ، تسمى « دومة الجندل »(٢) وكان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى « اكيدر بن

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٦ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤١ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٦٠.

(٢) يقول الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠٢٥ تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

٥٧٠

عبد الملك ».

وحيث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخشى هجوما آخر من الروم ، والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر ، لذلك رأىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها ، وكمنوا قريبا منه.

وفي تلك الليلة خرج « اكيدر » وأخوه « حسان » من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد وأسروا « اكيدرا » بعد قليل من القتال والمواجهة ، وقتل اخوه « حسان » ولجأ البقية إلى الحصن ، واعتصموا به ، فصالح خالد « اكيدرا » على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلها الاسلحة.

فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم ، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين ، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال ، وكانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع ، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يكثرث بتلك الثياب :

« فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا ».

لقد حضر « اكيدر » عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامتنع عن قبول الاسلام إلاّ أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين ، وصالحه النبي صلّى الله

٥٧١

عليه وآله على ذلك وكتب له كتابا ، ثم أهدى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدية واستعمل على حرسه « عباد بن بشر » ليوصله الى دومة الجندل سالما(١) .

تقييم إجمالي لغزوة تبوك :

إن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا ولم يواجه العدوّ ، ولم يقاتل إلاّ أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية والروحية هي :

أولا : صعود مكانة وسمعة الجيش الاسلاميّ ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز ، وحكّام المناطق الحدودية السورية ، وعرف الصديق والعدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية وتقارعها ، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد والطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان والمعارضة ، والتآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن ، وأن لا تفكّر في هذه الامور.

ولهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رجوعه من تبوك الى المدينة ، وتظهر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاعتها وخضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات التي قدمت المدينة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثانيا : ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة ، واطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم ، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٦٦ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٦.

٥٧٢

الاسلام والمسلمين.

ثالثا : مهّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام ، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها ، وعلمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر ، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

رابعا : تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي :

أقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدة بضع عشرة يوما في تبوك(١) وبعد أن بعث خالد إلى « دومة الجندل » توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (١٢) منافقا ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أثناء الطريق وقبل أن يصل إلى المدينة ، وذلك بتنفير ناقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة ( العقبة ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم ».

فأخذ الناس بطن الوادي ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ طريق العقبة فيما يسوق « حذيفة بن اليمان » ناقة النبي ، ويقودها « عمار بن ياسر » فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خلفه ، فرأى في ضوء

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٧ وذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما ( ج ٢ ص ١٦٨ ).

٥٧٣

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته ، وهم يتخافتون ، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا : اضرب وجوه رواحلهم.

فأرعبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصياحه بهم إرعابا شديدا ، وعرفوا بان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم بمكرهم ومؤامرتهم ، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة : فعرفتهم برواحلهم وذكرتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلت : يا رسول الله ألا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لحن ملؤه الحنان والعاطفة :

« إن الله أمرني أن اعرض عنهم ، واكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم ولكن دعهم يا حذيفة فانّ الله لهم بالمرصاد »(١) .

وقد أنزل الله سبحانه إثر هذه الحادثة الآية ٦٥ من سورة التوبة التي قال تعالى فيها : « ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب »(٢) .

النية تقوم مقام العمل :

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن ، كما ليس هناك أمر ألذّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ ، التي تحفظ أمجاده ، وتضمن بقاء كيانه ، وسلامته ، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥ ، مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٧ ، الدرجات الرفيعة : ص ٢٩٨ و ٢٩٩ وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٧٧.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦.

٥٧٤

بين « تبوك » و « المدينة » ، وكانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة ، وتظهر على كلماتهم وأعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ ، ومن أداء لحق الجندية ، وكان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية ، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها ، وهم طوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية ، وأخضعوهم للدولة الاسلامية.

لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش ، وكان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر ، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام ، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم ، وأتراحهم لهذا التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم على مشارف المدينة وقد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت :

« إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم ».

قالوا يا رسول الله : وهم بالمدينة؟

قال : « نعم ، حبسهم العذر »(١) .

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير ، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار ـ في الحقيقة ـ إلى واحد من البرامج الاسلامية التربوية ، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب ، وأن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢١٩.

٥٧٥

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك ، واشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر ، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب والفكر ، باصلاح الباطن والسريرة ، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات ، وأعمالنا كلها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين وغرورهم ، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلاّ أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقّنهم درسا لن ينسوه ، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ :

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم : « هلال بن أميّة » ، و « كعب بن مالك » و « مرارة بن الربيع » فقد حضر هؤلاء عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد ، فاعتذر أحدهم ، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر ، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار ، وتهمّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة ، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي ، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

ولهذا كان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد العودة ـ أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب ، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، فإنهم انشغلوا بالتجارة ، وجمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

٥٧٦

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلاّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم ، وعند ما تحدث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو :

« لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة ».

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا ، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين ، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل « مرارة » و « هلال » ، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا ، فقد تعطّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين ، وكسدت بضائعهم ، ولم يشترها أحد ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها ، وضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

«حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ » (١) .

ولكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين ، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة ، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

__________________

(١) التوبة : ١١٨ ، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وإنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

٥٧٧

جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب ، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي ، وأن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى الله ، والانابة إليه ، وقبل الله تعالى توبتهم ، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم(١) .

قصة مسجد الضّرار :

كانت « المدينة » و « نجران » تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية ، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر ، ولهذا اعتنق فريق من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أن « ابا عامر » والد « حنظله غسيل الملائكة » المستشهد في غزوة احد ، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي ، فانسلك في صفوف الرهبان ، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها ، واحتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج « أبو عامر » من هذه الظاهرة بشدة ، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخططهم التخريبية ، وأراد اعتقاله ، فخرج « أبو عامر » من المدينة الى مكة ، ومن مكّة الى الطائف ، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام ، واخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٥ ، بحار الأنوار : ج ١٠ ص ١١٩ وهذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا ومفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة ، وهو لا يحتاج إلاّ إلى الاخلاص والاتحاد والعزم هذا ويذكر الواقدي في المغازي : ( ج ٣ ص ١٠٤٩ ـ ١٠٥٦ ) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

٥٧٨

وقد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا وابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم ـ تحت غطاء أداء الفرائض ـ التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام والمسلمين ، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان « ابو عامر » على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين ، ومن المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان « ابو عامر » يعلم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلاّ إذا كان لذلك صبغة دينية ، وكان تحت عنوان مسجد.

عند ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتجهّز إلى « تبوك » أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، فأوكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك(١) .

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء ، واسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد ولما عاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم ، وفي هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بحقيقة هذا الأمر ، وسمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار ، ووصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين ، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى :

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٦.

٥٧٩

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ »(١) .

فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فورا بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأرض فحرّق وهدّم وسوّي بالأرض وتحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد(٢) .

إن تحريق وهدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث ، وهلك حاميهم الوحيد عبد الله بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يشاركصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدها في أي قتال.

__________________

(١) التوبة : ١٠٧ و ١٠٨.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٣٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٥٣.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694