سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358040 / تحميل: 8964
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

ونهض أبيّ الضيم ، وترك معاوية يتميّز مِن الغيظ ، وقد استبان له أنّه لا يتمكّن أنْ يخدع الإمام الحُسين (عليه السّلام) ويأخذ البيعة منه.

إرغامُ المعارضين :

وغادر معاوية يثرب متّجهاً إلى مكّة وهو يطيل التفكير في أمر المعارضين ، فرأى أنْ يعتمد على وسائل العنف والإرهاب ، وحينما وصل إلى مكّة أحضر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعرض عليهم مرّة أُخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم له ، فانبرى إليهم مغضباً ، وقال : إنّي أتقدّم إليكم أنّه قد أُعذِرَ مَنْ أنذر. كنتُ أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه ، فلا يسبقني رجل إلاّ على نفسه.

ودعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال له : أقم على رأس كلّ رجل مِن هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثمّ خرج وخرجوا معه ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتزّ أمرٌ دونهم ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٢٢١

ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.

فبايعه الناس ، ثمّ ركب رواحله وغادر مكّة(1) ، وقد حسب معاوية أنّ الأمر قد تمّ لولده ، واستقر المُلْكُ في بيته ، ولمْ يعلم أنّه قد جرّ الدمار على دولته ، وأعدّ المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقفُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

كان موقف الإمام الحُسين (عليه السّلام) مع معاوية يتّسم بالشدّة والصرامة ، فقد أخذ يدعو المسلمين بشكل سافر إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم مِنْ سياسته الهدّامة ، الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

وأخذت الوفود تترى على الإمام (عليه السّلام) مِنْ جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى إليه ، وتستغيث به ممّا ألمّ بها مِن الظلم والجور ، وتطلب منه القيام بإنقاذها مِن الاضطهاد.

ونقلت الاستخبارات في يثرب إلى السّلطة المحلية تجمّع الناس واختلافهم على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكان الوالي مروان ، ففزع مِنْ ذلك وخاف إلى حدٍّ بعيدٍ.

__________________

(1) الكامل 3 / 252 ، الأمالي 2 / 73 ، ذيل الأمالي / 177 ، عيون الأخبار 2 / 210 ، البيان والتبيين 1 / 300.

٢٢٢

مذكّرةُ مروان لمعاوية :

ورفع مروان مذكّرة لمعاوية سجّل فيها تخوّفه مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) ، واختلاف الناس عليه ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد كثُر اختلاف الناس إلى حُسين ، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

جوابُ معاوية :

وأمره معاوية بعدم القيام بأيّ حركة مضادّة للإمام (عليه السّلام) ، فقد كتب إليه : اترك حُسيناً ما تركك ولمْ يُظهر لك عداوته ويبد صفحته ، وأكمن عنه كمون الثرى إنْ شاء الله ، والسّلام(2) .

لقد خاف معاوية مِنْ تطور الأحداث ، فعهد إلى مروان بعدم التعرّض له بأيّ أذى أو مكروه.

رأيُ مروان في إبعاد الإمام (عليه السّلام) :

واقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام (عليه السّلام) عن يثرب ، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام ؛ ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق ، ولمْ يرتضِ معاوية ذلك ، فردّ عليه : أردت والله أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإنْ أسأت إليه قطعت رحمه(3) .

__________________

(1) و (2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) العقد الفريد 2 / 116.

٢٢٣

رسالةُ معاوية للحُسين (عليه السّلام) :

واضطرب معاوية مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) واختلاف الناس عليه ، فكتب إليه رسالة ، وقد رويت بصورتين :

1 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصّها : أمّا بعد ، فقد أُنهيت إليّ عنك اُمورٌ إنْ كانت حقّاً فإنّي لمْ أظنّها بك ؛ رغبة عنها ، وإنْ كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكِدْكَ ، فاتّقِ الله يا حُسين في شقّ عصا الأُمّة ، وأنْ ترِدهم في فتنة(1) .

2 ـ رواها ابن كثير ، وهذا نصّها : إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أُنبئتُ أنّ قوماً مِنْ أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق مَنْ قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله واذكر الميثاق ؛ فإنّك متى تكدْني أكِدْكَ(2) .

واحتوت هذه الرسالة حسب النّص الأخير على ما يلي :

1 ـ أنّ معاوية قد طالب الإمام (عليه السّلام) بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أنْ لا يخرج عليه ، وقد وفّى له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، إلاّ أنّ معاوية لمْ يفِ بشيء ممّا أبرمه على نفسه مِنْ شروط الصلح.

2 ـ أنّ معاوية كان على علمٍ بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام (عليه السّلام) للخروج عليه ، وقد وسمهم بأنّهم أهل الشقاق ، وأنّهم قد غدروا بعلي والحسن (عليهما السّلام) مِنْ قبل.

3 ـ التهديد السافر للإمام (عليه السّلام) بأنّه متى كاد معاوية فإنّه يكيده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 162.

٢٢٤

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ورفع الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته ، حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد مِن سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الأُمّة للأزمات ، وهي مِنْ أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت مِنْ معاوية ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. ما أردت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألست القاتل حِجْرَ بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظُلماً وعدواناً مِنْ بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت مِنْ رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَرَ

٢٢٥

فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً مِن الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة ، وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زيادٌ أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة مِنْ ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل مِنْ أنْ أجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت : إنّني إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدْك تكدني. فكِدْني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضر منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيتَ بشرطٍ ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النّفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم مِنْ غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقُتِلوا ، ولمْ تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لمْ تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا.

٢٢٦

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَه على التّهم ، ونفيك إيّاهم مِنْ دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبرتَ دينك(1) ، وغششت رعيتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام»(2) .

لا أكاد أعرف وثيقةً سياسةً في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية ، والدماء التي سفكها ، والنفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

واللهِ كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة «كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة وليسوا مِنك». هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف ، وقديماً قال الصابي : إنّ الرجل مِنْ قومٍ ليست له أعصاب تقسو عليهم. وهو اتّهام مِن الحُسين لمعاوية في وطنيته وقوميته ، واتّخذ مِن الدماء الغزيرة المسفوكة عنواناً على ذلك(3) .

لقد حفلت هذه المذكّرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية وعمّاله ، خصوصاً زياد بن سُميّة الذي نشر الإرهاب والظلم بين الناس ؛ فقتل على الظنّة والتّهمة ، وأعدم كلّ مَنْ كان على دين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو دين ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حقّ.

ومِن الطبيعي أنّه لمْ يقترف ذلك إلاّ بإيعاز مِنْ معاوية ، فهو الذي عهد إليه بذلك.

__________________

(1) تبرت : أهلكت دينك.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 284 ، رجال الكشّي / 32 ، الدرجات الرفيعة / 334.

(3) الإمام الحُسين (عليه السّلام) / 338.

٢٢٧

صدى الرسالة :

ولمّا انتهت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية ضاق بها ذرعاً ، وراح يراوغ على عادته ، ويقول : إنّ أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً(1) .

المؤتمرُ السياسي العام :

وعقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسياً عامّاً ، دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ ؛ مِن المهاجرين والأنصار ، والتابعين وغيرهم مِن سائر المسلمين ، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم مِن المحن والخطوب التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه مِن الإجراءات المشدّدة مِنْ إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثِرَ عن الرسول الأعظم في حقّهم ، وألزم حضّار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين ، وفيما يلي نصّ حديثه ، فيما رواه سليم بن قيس :

قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحُسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ مِن الأنصار ممّن يعرفهم الحُسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : «لا تدَعوا أحداً حجّ العام مِنْ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمِنى أكثر مِنْ سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم مِن التابعين ، ونحو مِنْ مئتي رجل مِنْ أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 198.

٢٢٨

ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء ؛ فإنْ صدقت فصدّقوني ، وإنْ كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمَنْ أمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِنْ حقّنا ؛ فإنّي أتخوف أنْ يُدرسَ هذا الأمر ويُغلب ، والله مُتِمّ نوره ولو كرِه الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم مِن القران إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته (عليهم السّلام) إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه مِن الصحابة. فقال (عليه السّلام) : «أنشدُكم اللهَ إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه»(1) .

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام (عليه السّلام) سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإذاعة مآثرهم التي حاولت السّلطة حجبها عن المسلمين.

رسالةُ جعدة للإمام (عليه السّلام) :

وكان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب مِنْ أخلص الناس للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية.

ورفع جعدة رسالةً للإمام (عليه السّلام) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ مِنْ قِبَلِنا مِنْ شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 216 ـ 217.

٢٢٩

لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإنْ كنت تحبّ أنْ تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ؛ فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ولم يكن مِنْ رأي الإمام الحُسين (عليه السّلام) الخروج على معاوية ؛ وذلك لعلمه بفشل الثورة وعدم نجاحها ؛ فإنّ معاوية بما يملك مِنْ وسائل دبلوماسية وعسكرية لا بدّ أنْ يقضي عليها ، ويخرجها مِنْ إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية ، ويوسم القائمين بها بالتمرّد والخروج على النظام ، وقد أجابهم (عليه السّلام) بعد البسملة والثناء على الله بما يلي :

«أمّا أخي فإنّي أرجو أنْ يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا مِن الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإنْ يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام»(1) .

لقد أمر (عليه السّلام) شيعته بالخلود إلى الصبر ، والإمساك عن المعارضة ، وأنْ يلزموا بيوتهم خوفاً عليهم مِن سلطان معاوية الذي كان يأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، ويقتل على الظنّة والتهمة. وأكبر الظنّ أنّ هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة ، وصلبهم على جذوع النخل ، ودمّرهم تدميراً ساحقاً.

__________________

(1) الأخبار الطوال / 203 ، أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٢٣٠

نصيحةُ الخدري للإمام (عليه السّلام) :

وشاعت في الأوساط الاجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) واستنجادهم به لإنقاذهم مِن ظلم معاوية وجوره ، ولمّا علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعاً للإمام (عليه السّلام) ينصحه ويحذّره ، وهذا نص حديثه : يا أبا عبد الله ، إنّي أنا ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم مِنْ شيعتكم بالكوفة يدعونكم إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج إليهم ؛ فإنّي سمعت أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مللتهم وأبغضتهم ، وملّوني وأبغضوني ، وما يكون منهم وفاء قط ، ومَنْ فاز به فاز بالسّهم الأخيب. والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ، ولا صبر على السّيف»(1) .

وليس مِنْ شك في أنّ أبا سعيد الخدري كان مِنْ ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأكثرهم إخلاصاً وولاءً لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد دفعه حرصه على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وخوفه عليه مِنْ معاوية أنْ يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية. ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحُسين (عليه السّلام) له.

استيلاءُ الحُسين (عليه السّلام) على أموال للدولة :

وكان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم مُلْكه ، كما كان يهبُ الأموالَ الطائلة لبني أُميّة لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) يشجب هذه السياسة ، ويرى ضرورة إنفاذ الأموال مِنْ معاوية وإنفاقها على المحتاجين. وقد اجتازت على يثرب أموال مِن اليمن إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ، ووزّعها على

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 161 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 67.

٢٣١

المحتاجين مِنْ بني هاشم وغيرهم ، وكتب إلى معاوية :

«مِن الحُسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ، لتودعها خزائن دمشق ، وتعل بها بعد النهل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها ، والسّلام».

وأجابه معاوية : مِنْ عبد الله معاوية إلى الحُسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منها. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتى صار إليّ لمْ أبخسك حظّلك منها ، ولكنّني قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوة ، وبودّي أنْ يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّني والله ، أتخوّف أنْ تُبلى بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة.

وكتب في أسفل كتابه هذه الأبيات :

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ليس ما

جئتَ بالسائغِ يوماً والعلل

أخذكَ المالَ ولمْ تُؤمر بهِ

إنّ هذا مِنْ حُسينٍ لَعجلْ

قد أجزناها ولمْ نغضبْ لها

واحتملنا مِنْ حُسينٍ ما فعلْ

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ذا الأملْ

لك بعدي وثبةٌ لا تُحتملْ

وبودّي أنّني شاهدُها

فإليها مِنك بالخلقِ الأجلْ

إنّني أرهبُ أنْ تصلَ بمَنْ

عنده قد سبق السيفُ العذلْ(1)

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 4 / 327 الطبعة الأولى.

٢٣٢

وفي هذا الكتاب تهديد للإمام بمَنْ يخلف معاوية ، وهو ابنه يزيد ، الذي لا يؤمن بمقام الحُسين ومكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حالٍ ، فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال مِنْ معاوية وأنفقها على الفقراء ، في حين أنّه لمْ يكن يأخذ لنفسه أيّ صلة مِنْ معاوية ، وقد قدّم له مالاً كثيراً وثياباً وافرة وكسوة فاخرة ، فردّ الجميع عليه(1) .

وقد روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) أنّ الحسن والحُسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية(2) .

حديثٌ موضوع :

مِن الأخبار الموضوعة ما روي أنّ الإمام الحُسين وفد مع أخيه الحسن على معاوية فأمر لهما بمئة ألف درهم ، وقال لهم : خُذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحد بعدي.

فانبرى إليه الإمام الحُسين قائلاً : «والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ولا بعدك لرجلين أشرف منّا».

ولا مجال للقول بصحة هذه الرواية ، فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفد على معاوية بالشام ، وإنّما وفد عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) لا لأجل الصلة والعطاء ، كما يذهب لذلك بعض السذّج مِن المؤرّخين ، وإنّما كان الغرض إبراز الواقع الاُموي والتدليل على مساوئ معاوية ، كما أثبتت ذلك

__________________

(1) الحُسين ـ لعلي جلال 1 / 117.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) 2 / 332.

٢٣٣

مناظراته مع معاوية وبطانته ، والتي لمْ يقصد فيها إلاّ تلك الغاية ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلّة في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الحُسين مع بني أُميّة :

كانت العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم»(1) .

أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين (عليه السّلام) كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».

لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم.

وانبرى عبد الله بن الزّبير فانضمّ للحُسين وانتصر له ، وقال :

__________________

(1) الكنى والأسماء ـ لأبي بشر الدولابي 1 / 77.

٢٣٤

وأنا أحلف بالله ، لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينتصف مِنْ حقّه أو نموت جميعاً.

وبلغ المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضمّ للحُسين وقال بمثل مقالته ، وشعر الوليد بالوهن والضعف فتراجع عن غيّه ، وأنصف الحُسين (عليه السّلام) مِنْ حقّه(1) .

ومِنْ ألوان الحقد الاُموي على الحُسين أنّه كان جالساً في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فسمع رجلاً يُحدّث أصحابه ، ويرفع صوته ليُسمع الحُسين ، وهو يقول : إنّا شاركنا آل أبي طالب في النّبوة حتّى نلنا مِنها مثلَ ما نالوا مِنها مِن السّبب والنّسب ، ونلنا مِن الخلافة ما لمْ ينالوا فبِمَ يفخرون علينا؟

وكرّر هذا القول ثلاثاً ، فأقبل عليه الحُسين ، فقال له : «إنّي كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً ، وفي الثاني عفواً ، وأمّا في الثالث فإنّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول : إنّ في الوحي الذي أنزله الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أُميّة في صوَرِ الذر يطؤهم الناس حتى يفرغ مِن الحساب ، ثمّ يُؤتى بهم فيحاسبوا ويُصار بهم إلى النار»(2) . ولمْ يطق الاُموي جواباً وانصرف وهو يتميّز مِن الغيظ.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية وبني أُميّة ، ونعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية وما رافقها مِن الأحداث.

__________________

(1) سيرة ابن هشام 1 / 142.

(2) المناقب والمثالب للقاضي نعمان المصري / 61.

٢٣٥

مرضُ معاوية :

ومرض معاوية وتدهورت صحته ، ولمْ تُجْدِ معه الوصفات الطيبة ، فقد تناهبت جسمه الأمراض ، وقد شعر بدنوّ أجله ، وكان في حزن على ما اقترفه في قتله لحِجْرِ بن عَدِي ، فكان ينظر إليه شبحاً مخيفاً ، وكان يقول :

ويلي مِنكَ يا حِجْر! إنّ لي مع ابن عَدِي ليوماً طويلاً(1) ، وتحدّث الناس عن مرضه ، فقالوا : إنّه الموت ، فأمر أهله أنْ يحشوا عينيه أثمداً ، ويسبغوا على رأسه الطيب ويجلسوه ، ثمّ أذن للناس فدخلوا وسلّموا عليه قياماً ، فلمّا خرجوا مِنْ عنده أنشد قائلاً :

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا اتضعضعُ

فسمعه رجل مِن العلويِّين فأجابه :

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ(2)

وصاياه :

ولمّا ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد ، وقد جاء فيها : يا بُني ، إنّي قد كفيتك الشرّ والترحال ، ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لمْ يجمعه أحدٌ ، فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك وأكرم مَنْ قدم عليك منهم وتعاهد مَنْ غاب ، وانظر أهل العراق فإنْ سألوك أنْ تعزل كلّ يوم عاملاً فافعل ؛ فإنّ عزل عامل

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 245.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 59.

٢٣٦

أيسر مِنْ أنْ يُشهر عليك مئة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإنْ رابك مِنْ عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فارددْ أهل الشام إلى بلادهم ؛ فإنْ أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف عليك أنْ ينازعك في هذا الأمر إلاّ أربعة نفر مِنْ قريش : الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ فأمّا ابن عمر فإنّه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لمْ يبقَ أحدٌ غيره بايعك ، وأمّا الحُسين بن علي فهو رجل خفيف ، ولنْ يترك أهل العراق حتّى يخرجوه ، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً وقرابة مِنْ محمّد ، وأمّا ابن أبي بكر فإنْ رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همّة إلاّ في النساء واللّهو ، وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك مراوغة الثعلب فإنْ أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير ، فإنْ هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً ، واحقنْ دماء قومك ما استطعت(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الوصية مِن الموضوعات ؛ فقد افتُعلتْ لإثبات حلم معاوية ، وإنّه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين وهو غير مسؤول عن تصرفاته.

وممّا يؤيد وضعها ما يلي :

1 ـ إنّ المؤرّخين رووا أنّ معاوية أوصى يزيد بغير ذلك ، فقال له : إنّ لك مِنْ أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة ، فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته(2) ، وكان مسلم بن عقبة جزّاراً جلاداً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وقد استعمله يزيد بعهد مِنْ أبيه في واقعة الحرّة فاقترف كلّ موبقة

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 259.

(2) تاريخ خليفة خياط 1 / 229.

٢٣٧

وإثم ، فكيف تلتقي هذه الوصيّة بتلك الوصيّة التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز؟!

2 ـ إنّه أوصاه برعاية عواطف العراقيين والاستجابة لهم إذا سألوه في كلّ يوم عزل مَنْ ولاّه عليهم ، وهذا يتنافى مع ما ذكره المؤرّخون أنّه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد وهو يعلم شدّته وصرامته وغدره ؛ فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء ، فهل العهد إليه بولايته العراق من الإحسان إلى العراقيين والبرّ بهم؟!

3 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الله بن عمر وقد وصفه بأنّه قد وقذته العبادة ، وإذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السّلطة والمنازعات السّياسية فما معنى التخوّف منه؟!

4 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقد نصّ المؤرّخون أنّه توفي في حياة معاوية ، فما معنى التخوّف عليه مِنْ إنسان ميّت؟

5 ـ إنّه أوصاه برعاية الحُسين (عليه السّلام) وإنّ له رحماً ماسّة ، وحقًّا عظيماً وقرابةً مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن المؤكد أنّ معاوية بالذّات لمْ يرعَ أيّ جانب مِنْ جوانب القرابة مِنْ رسول الله فقد قطع جميع أواصرها ، فقد فرض سبّها على رؤوس الأشهاد ، وعهد إلى لجان التربية والتعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت ، ولمْ يتردّد في ارتكاب أيّ وسيلة للحطّ مِنْ شأنهم.

وقد علّق الاُستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات مِنْ الوصيّة بقوله : وتقول بعض المصادر إنّ معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحُسين ، والذي نعتقده أنّه لا أثر لها من الصحة ؛ فإنّ معاوية لمْ يتردّد في اغتيال

٢٣٨

الإمام الحسن حتّى بعد ما بايعه ، فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحُسين إنْ ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمةً أو قرابةً حتّى يوصي ابنه برعاية آل محمّد ، كلاّ أبداً ، فقد حارب الرسول في الجاهلية حتّى أسلم كُرها يوم فتح مكّة ، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه علي ، ونزا على خلافة المسلمين وانتزعها قهراً ، وسمّ ابن بنت الرسول الحسن ، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أنْ يوصي بمثل ما أوصى به؟!

قد يكون أوصاه أنْ يغتاله سرّاً ويدسّ له السمّ ، أو يبعث له مَنْ يطعنه بليل ، ربّما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة مِنْ تلك الوصية ، ولكنّ المؤرّخين ـ سامحهم الله ـ أرادوا أنْ يُبرِّئوا ساحة الأب ويلقوا جميع التبعات على الابن ، وهما في الحقيقة غرسُ إثمٍ واحدٌ وثمرةُ جريمةٍ واحدة.

وأضاف يقول : ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحةً لما كان يزيد لاهمَّ له بعد موت أبيه إلاّ تحصيل البيعة مِن الحُسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحُسين على البيعة(1) .

موتُ معاوية :

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه مِن الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة ، وحمله

__________________

(1) مجلة الغري السنة الثامنة العدد 9 و 10.

٢٣٩

على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه في أثناء وفاته برحلات الصيد ، وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

وقد كلّمه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم في ذلك وقد طمع في اسلامه ، فَبينا هو في ذلك إذ مرَّ به « ابن اُم مكتوم » ، فكلم رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل يستقرئه القرآن فشقَّ ذلك منه على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أضجره ، وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر « الوليد ». وما طمع فيه من اسلامه ، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه ، فنزل قوله تعالى : «عَبس وَتَولّى. أنْ جَاءهُ الأَعْمى. وَما يدريْكَ لَعلَّهُ يَزَّكى. أوْ يَذَّكرُ فَتنْفَعُهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ اسْتَغنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزكّى. وَأَمَّا مَنْ جاءكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّى. كَلا إنّها تَذْكِرَةٌ »(١) (٢) .

وقد فنّد علماء الشيعة ومحقّقوهم هذه الرواية التاريخية ، واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي امتَدحَهُ ربُّ العالمين بالخلق العظيم ، ووصفه بالرأفة بالمؤمنين ، وقالوا : ليس في الآيات ما يدل على أن الّذي عبَس وتولّى هو رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد روي عن الامام الصادقعليه‌السلام أنَ المراد رجلٌ من بني اُميَة ، فإنّه عبس وتولّى عند ما حضر « ابنُ ام مكتوم » الأعمى عند رسول اللّه فنزلت هذه الآيات توبيخاً له(٣) .

* * *

٣ ـ تحريم استماع القرآن

كانت البرامجُ الواسعة الّتي دبرها الوثنيّون في « مكة » لمكافحة الإسلام والحيلولة دون انتشاره بين القبائل والجماعات ، تُنفَّذ الواحدة تلو الآخرى ، ولكن دون جدوى ، ودون ان يكسب اصحابُها من ورائها أي نجاح ، واية نتائج على

____________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

٢ ـ عبس : ١ ـ ١١.

٣ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٤٣٧ ، وقد شرح العلامة الطباطبائي في المجلد ٢٠ من تفسير الميزان عند تفسير سورة عبس شأن نزول هذه الآيات بصورة رائعة ، وشكل بديع ، واثبت بان فاعل عبس ليس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ينافي ذلك توجّه الخطاب في « وما يدريك » إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٨١

المستوى المطلوب ، فقد كانت تلك المؤامرات تفشل في كل مرة ، ولا يجني المشركون منها سوى الخيبة والفشل ، وسوى النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين.

فقد مارسوا الدعاية ضد رسول اللّه فترة من الزمن ولكن لم يحالفهم التوفيقُ الكاملُ في ذلك ، فقد وجدوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر ثباتاً واستقامة في طريقه وأشدّ إصراراً على هدفه ، وكانوا يرون باُم أعينهم بأن عقيدة التوحيد في انتشار مستمر ومتزايد ، يوماً بعد يوم.

ولهذا قرَّر سادة قريش وزعماء « مكة » المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن. ولكي تتحقق خطتهم هذه وتلبس ثوب الوجود بَثّوا جواسيسهم في كل انحاء مكة ومداخلها ليمنعوا من يفدُ اليها للحج أوالتجارة من الاتصال بمحمَّد ، ومنعه بكل صورة ممكنة ، عن الاستماع إلى القرآن ، وأعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى : «وَقالَ الَّذينَ كَفرُوا لا تَسْمعُوا لِهذا الْقُرآن والْغوا فِيْه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ »(١) .

لقد كان القرآن اقوى أسلحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد القى رعباً عجيباً في نفوس الاعداء واقضّ مضاجعهم.

وكان اشراف قريش وأسيادها يرون باُم أعينهم كيف أنَّ اعدى أعداء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وهو أبو جهل ) عندما مشى إليه ليستهزئ به ، ويسخر منه ، ما ان سمع آيات من القرآن ، إلاّ وفقد السيطرة على نفسه ، ولان قلبه ، وأصبح من أصحابه ومؤيديه الأقوياء ، ولهذا لم يكن أمام اُولئك الاسياد إلا أن يمنعوا من سماع القرآن منعاً باتا ، ويحرموا التحدث إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحريماً قاطعاً(٢) .

ولهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن يسمع من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض ما يتلوه من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم ، فان رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهبَ خشيةَ أذاهُم فلم يستمع(٣) .

__________________

١ ـ فصّلت : ٢٦.

٢ و ٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٣ و ٣١٤.

٤٨٢

واضعوا القرار ينقضون قرارهم!!

ولكن من الطريف العجيب أن نفس الذين كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن ، وكانوا يعدون كل من يتجاهل قرار ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) مخالفاً يتعرض للملاحقة والعقاب ، نقضوا بعد أيام من إصدار هذا القرار قرارهم وانضمُّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء.

فاذا بالذين يمنعون من سماع القرآن في العلن ، يستمعون إليه في الخفاء!

واليك بعض ما جرى في هذا الصعيد :

خرج « أبو سفيان » و « أبو جهل » و « الاخنس » ليلة ليستمعوا من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصلي من الليل في بيته ، فاخذ كلُ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلَعَ الفجرَ تفرَّقوا فجمعهم الطريقُ فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثانيةُ عاد كلُ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثالثة اخذ كلُ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتّى نتعاهد ألاّ نعود ، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرّقوا(١) .

* * *

٤ ـ منع الاشخاص من الايمان برسول اللّه

بعد خطة ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) بدأوا بتنفيذ خطة اُخرى وهي منع كل قريب وبعيد ممّن رغبوا في الإسلام وقدموا إلى مكة ليتعرفوا على النبيّ ، وعلى ما اتى به من كتاب ودين ، من الاتصال بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣١٥.

٤٨٣

فبثت قريش جواسيسها في الطرق المؤدية إلى مكة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء ويبادروا إلى منعه من الاتصال برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والايمان برسالته ، بشتى الحيل والاساليب.

واليك نموذجين حيّين من هذا الامر.

١ ـ « الاعشى » :

وكان من شعراء العهد الجاهلي البارزين ، وكانت قصائده تتناقلها مجالس السَمر القرشية ، وتتغنى بها محافل انسهم.

وقد بلغ « الاعشى » في كبره نبأ ما جاء به رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوحيد ومن تعاليم الإسلام العظيمة ، وكان يعيش في منطقة نائية عن مكة ، حيث لم تصل اليها أشعة الرسالة الإسلامية على وجه التفصيل بعد ، ولكن ما قد سمع به من تعاليم الإسلام على نحو الاجمال قد اوجد في نفسه هياجاً خاصاً وحرّك مشاعره فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم خرج إلى مكة ليهديها إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في نفس الوقت يريد الإسلام.

ورغم ان تلكم القصيدة لا تتجاوز أبياتُها ٢٤ بيتاً ، ولكنها تُعدّ من أفضل وافصح ما قيل من الشعر في الإسلام ، وفي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العهد النبوي ويوجد نصّها الكامل في ديوان « الأعشى » وقد قال فيها وهو يذكر بعض تعاليم الإسلام :

نَبيّاً يرى ما لا يَرون وذكرُه

أغار لعَمري في البلاد وأنجدا

فاياك والميتات لا تقربنّها

ولا تاخذن سَهماً حديداً لتفصدا

وذا النُصب المنصوب لا تُنسكُنَّه

ولا تعبد الأوثان واللّه فاعبُدا

ولا تقربنَّ حُرَّة كان سرُّها

عليك حراماً فانكحن اوتأبّداً

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه

لعاقبة ، ولا الاسير المقيِّدا

وسبِّح على حين العشيات والضحى

ولا تحمَد الشيطان واللّه فاحمدا

              

٤٨٤

فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه جواسيس قريش ورجالها فسألوه عن أمره وقصده فاخبرهم بانه جاء يريد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسلم ، وحيث أنهم كانوا يعرفون بأن « الاعشى » رجل يحب النساء والخمر حبّاً كبيراً لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الإسلام فقالوا له : يا أبا بصير ( وهي كنية الاعشى ) إنه يحرم الزنا.

فقال الاعشى : واللّه ذلك لأمرٌ ما لي فيه من ارب.

فقالوا له : يا أبا بصير فانَّه يحرِّم الخمرَ.

فقال الأعشى ـ وقد صُدِمَ بهذا الخبر ـ أمّا هذه فواللّه في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرفٌ فاتروّى منها عامي هذا ، ثم آتيه فاُسلم!! فانصرفَ فمات في عامه ذلك ، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

٢ ـ الطُفيل بُن عَمرو الدوسيّ :

وهو الشاعر العربي الحكيم العذب اللسان ، صاحب النفوذ والكلمة المسموعة في قبيلته.

يروى انه قدم « مكة » ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ، وكانت قريش تخشى ان يتصل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسلم.

ومن البديهي أن اسلام رجل مثله كان ممّا يشق على قريش جدّاً ولهذا مشى إليه رجالٌ منهم وقالوا له ـ محذرين ايّاه من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا طُفيل ، إنك قدمت بلادَنا ، وهذا الرجلُ الّذي بين أظهرنا قد اعضلَ بنا ، وقد فرّق جماعتنا ، وشتَّت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وبين ابيه ، وبين الرجل وبين اخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنَّه ، ولا تسمعنَّ منه شيئاً.

ففعلت تحذيراتُ قريش فعلتَها في نفس الطفيل وهم يكرّرونها عليه بقوة

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٨٦ ـ ٣٨٨.

٤٨٥

وإصرار ، حتّى انه قرر ان لا يسمع من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً ، ولا يكلّمه ، وحشّى اُذنه ـ حين غدى إلى المسجد للطواف ـ قطناً ، خوفاً من أن يبلغه شيء من قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يريد ان يسمعه!!!

يقول الطفيل : فغدوت إلى المسجد فاذا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة ، فقمتُ منه قريباً فسمعتُ كلاماً حسناً من غير اختيار مني فقلت في نفسي : واثكلَ اُمي ، واللّه اني لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى عليّ الحسَنُ من القبيح ، فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل ما يقول ، فان كان الّذي يأتي به حسناً قبلتُه ، وان كان قبيحاً تركتُه؟

فمكثتُ حتّى انصرف رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيته فاتّبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمَّد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا ، فواللّه ما برحوا يخوّفونني أمرُك حتّى سردت اُذني بكسرف لئلا اسمع قولك ثم اَبى اللّه إلاّ أن يُسمعني قولك فسمعتهُ قولا حسناً ، فاعرض عليّ أمرك ، فعرض عليَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام وتلا عليّ القرآن ، فلا واللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه ، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق. ثم قلت : يا الله نبيّ إني امرؤ مطاعٌ في قومي وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام.

ثم يكتب ابن هشام قائلا : إن الطفيل لم يزل بارض « دوس » يدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ومضى « بدر » و « اُحد » و « الخندق » فقدم على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن أسلم معه من قومه وهم سبعون أوثمانون بيتاً ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر فلحقوا جميعاً برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر ، وبقي مع النبيّ حتّى قُبِضَصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم سار مع المسلمين ـ في زمن الخلفاء إلى « اليمامة » وشارك في معركتها وقُتِلَ فيها(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٨٢ ـ ٣٨٥.

٤٨٦

١٩

اسطورة الغرانيق

قد يكون بين القرّاء من يودُّ التعرف على اسطورة « الغرانيق » الّتي رواها بعض مؤرّخي السنّة ومعرفة جذورها كما يودّ التعرف على الأيادي الخفية الّتي كانت وراء اختلاق هذه الاسطورة ، وأمثالها من الأكاذيب ، والمفتريات.

كان اليهودُ وبخاصّة أحبارهم ولا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام.

وقد عَمَد فريقٌ منهم ـ مثل « كعب الاحبار » وغيره ـ ممّن تظاهروا باعتناق الإسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق الأكاذيب وجعل الأخبار المفتراة على لسان الانبياء(١) .

ولقد أدرج بعضُ المؤلفين المسلمين بعض هذه المفتريات في مؤلفاتهم وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون تمحيصها والتحقيق فيها ، ثقة بكل من أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان ، وانضم إلى صفوف المسلمين!!

ولكنَّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة اكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث والاخبار ، والمنقولات والنصوص وبخاصة بعد أن توفّرت لديهم ، بفضل جهود طائفة من المحققين المسلمين القواعد والضوابط الكفيلة بتمييز

__________________

١ ـ وهي الّتي يُطلَق عليها الاسرائيليات وقد اُلّفَت في هذا المجال بعض الكتب.

٤٨٧

الحسن عن القبيح ، والصحيح عن السقيم ، وفرز الحقائق التاريخية عن القصص الخياليّة ، والروايات الاسطورية.

من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن يعتبر كل ما يراه في مصنّف تاريخيّ أو غير تاريخيّ متقدِّم أمراً صحيحاً مقطوعاً بسلامته ، ويرويه في كتابه من دون دراسة وتحقيق ، وتمحيص وتقييم.

ما هي اُسطورة الغرانيق؟!

يقولون : إن « الأسود بن المطلب » و « الوليد بن المغيرة » و « اُمية بن خلف » و « العاص بن وائل » وهم من زعماء قريش واسيادها قالو لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا محمَّد هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبدُ فنشترك نحن وانت في الأمر!!

وقالوا ذلك رفعاً للاختلاف ، وتضييقاً لشقّة الخلاف فأنزلَ اللّه سبحانه سورة الكافرين الّتي امر فيها نبيّه أن يقول في جوابهم : «لا أعْبدُ ما تَعْبدُونَ. وَلا أنتُم عابِدُونَ ما أعْبُد ».

ومع ذلك كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرغب في أن يساوم قريشاً ويجاربهم وكان يقول في نفسه : ليت نزل في ذلك أمر يقرّبنا من قريش.

وذات يوم وبينما كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة « النجم » فلما بلغ قوله تعالى : «أَفرَأَيْتُمْ الّلات وَالعُزّى. وَمَناةَ الثّالِثَةَ الاُخْرى »(١) .

أجرى الشيطان على لسانِه الجُمْلتين التاليتين :

« تِلْكَ الْغَرانِيقُ الْعُلى مِنْها الشفاعَةُ تُرْتَجى ».

فقرأهما من دون إختيار ، وقرأ ما بعدها من الآيات ، ولمّا بلغ آية السجدة سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين والمشركين أمام الاصنام ، إلاّ

__________________

١ ـ النجم : ١٩ و ٢٠.

٤٨٨

« الوليد » الّذي عاقه كبر سنه عن السجود!!

وفرح المشركون ، وارتفعت نداءاتهم يقولون : لقد ذكر « محمَّد » آلهتنا بخير.

وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب بين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين ، المهاجرين إلى الحبشة ، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة ، ولكنّهم ما أن كانوا على مشارف « مكة » إلاّ وعرفوا بأن الأمر تغير ثانية ، وأن ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة اُخرى بمخالفة الاصنام ومجاهدة الكفار والمشركين ، وأخبره بأن الشيطان هو الَّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه ، وانه لم يقله وأنه ليس من « الوحي » في شيء أبداً.

وعندئذ نزلت الآيات ( ٥٢ ـ ٥٤ ) من سورة « الحج » الّتي يقول اللّه تعالى فيها : «وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِيٍّ إلاّ إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما يُلْقي الشيْطانَ ثم يُحكِمُ اللّه آياتِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكيْمٌ ».

«لِيَجْعَلَ ما يُلْقي الشَيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسيَةِ قُلُوبِهم ، وإن الظّالِمينَ لَفِيْ شِقاق بَعِيْد وَلِيَعْلَمَ الَّذينَ اُوتُوا العلْم أَنَّه الحقّ مِنْ رَبّك فيُؤمنُوا به فتُخبتُ لَهُ قُلُوبُهم وإنّ اللّه لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إلى صِراط مُسْتقيمْ ».

هذه هي خلاصة اُسطورة « الغرانيق » الّتي أوردها « الطبري » في تاريخه(١) ويذكرها ويردّدها المستشرقون المغرضون بشيء كبير من التطويل والتفصيل!!

محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة

لنفترض أن « محمّداً » لم يكن نبياً مرسلا ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته ، وفطنته وعقله.

فهل لعاقل فَطِن ، محنَّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟

ان الذكيّ اللبيب الّذي يجد انصاره يتكاثرون ويتزايدون يوماً بعد يوم

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٨٥ و ٧٦.

٤٨٩

وتقوى صفوفهم اكثر فاكثر بينما تتفرقُ صفوفُ أعدائه ومناوئيه ويتناقص معارضوه وخصومُه ، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب ان يسيء الجميعُ ظنَهم به ، ويشك الصديق والعدوُ في أمره؟!

هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أن رجلا ترك جميع الأموال والمناصب الّتي عرضتها قريش عليه ، في سبيل دينه الحنيف ، وعقيدة التوحيد أن يصبح مرة اُخرى من دعاة الشرك ، ومروّجي الوثنية؟؟!

إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حق مصلح أو سياسي عادي من الساسة والمصلحين فكيف برسول الله ونبيّه العظيم.

رأي العقل في هذه القصة :

١ ـ إن العقل يحكم بان المرشدين الذين يبعثهم اللّه تعالى إلى البشرية لهدايتها وارشادها ، وتزكيتها وتعليمها مصونون عن أي خطأ وزلل بقوة ( العصمة ) الّتي اُوتوها ، إذ لو تعرض مثل هؤلاء إلى الخطأ والزلل في اُمور الدين لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم.

يجب علينا ان نقارن بين أمثال هذه القصص ، وبين هذا الأصل العقائديّ المنطقي ونعالج بواسطة معتقداتنا القوية المبرهَنة متشابهات التاريخ ومعضلاته.

إنّ من المسلَّم أن عصمة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

٢ ـ ان هذه الاسطورة تقوم أساساً على أن النبيّ قد تعب من أداء مهمَّته الّتي ألقاها اللّه سبحانه عليه ، وقد شقَّ عليه ابتعاد الوثنيّين عنه ، فكان يبحث عن مخلَص من هذا الوضع المتعِب ، يكون طريقاً ـ حسب تصوره ـ إلى إصلاح وضعهم!!

ولكن العقل يقضي بأن على الانبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصور ، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك ، فلا يُحدّثوا أنفسَهم بالتهرّب من المسؤولية وترك الساحة مطلقاً ، مهما اشتدّت الظروف ، وتأزّمت

٤٩٠

الأحوال.

بينما لو صحّت هذه الرواية ـ الاسطورة ـ لكانت دليلا على أنَّ بَطلَ حديثنا قد فَقَد عنان الصبر وأفلت منه زمام الثبات والاستقامة وانه بالتالي تعب وملّ ، وضني وكلّ ، وهو أمرٌ لا ينسجم مع ما يحكم به العقل السليمُ في حق الأنبياء ، كما لا يتفق كذلك مع ما عهدناه من سوابق رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن مستقبله أبداً.

إن مختلق هذه الاسطورة لم يمرّ بخاطره وباله أنَّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة ، إذ يعد اللّه تعالى نبيه الكريم ، بأن لا يتسرّب إلى القرآن أي شيء من الباطل إذ قال : «لا يَاتِيه الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَديْه ولا مِنْ خَلفِه »(١) .

كما وعده أيضاً بأن يَصونه عبَر جميع أدوار البشرية من أي حادث سيّء إذ قال سبحانه : «إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِكْرَ وَاِنّا لَهُ لَحافِظُونَ »(٢) .

ومع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسرّب إلى القرآن شيئاً باطلا ، ويصبح القرآنُ الّذي تقوم معارفه وتعاليمه على أساس معاداة الوثنية ومحاربتها داعياً إلى الوثنية؟؟!!

إنه لأمر عجيبٌ جداً أن يفتري مختلِقُ هذه الاسطورة أمراً ضدَّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآنُ قبل هذا المكان بقليل إذ قال اللّه تعالى : «وَما يَنْطِقُ عَنْ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوْحى »(٣) .

فكيف يترك اللّه نبيّه ـ وقد وعده بهذا الوعد ـ من دون حفيظ ، ويسمح للشيطان بأن يتصرف في قلبه وعقله ولسانه؟؟

إن هذه الأدلة العقلية إنما تفيد من يكون مؤمناً بنبوة محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته.

__________________

١ ـ فصّلت : ٤٢.

٢ ـ الحجر : ٩.

٣ ـ النجم : ٣ و ٤.

٤٩١

واما المستشرقون الذين لا يعتقدون بنبوته ، ويعمدون إلى شرح ونقل وترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه ورسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل ، فلابدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر.

تكذيب القِصَّة من طريق آخر

إنّ النصّ التاريخيّ يقول : إن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه السورة ، وكبار قريش واكثرهم من عمالقة الكلام ، وأبطال الفصاحة والبلاغة العربية حضور في المسجد ومنهم « الوليد بن المغيرة » ، متكلم العرب ومنطيقها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء وحصافة العقل والنباهة ، وقد سمعوا جميعاً هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها.

فكيف اكتفى هذا الجمعُ المؤسسُ للفصاحة والبلاغة الذين كانوا ينقدون كل ما يعرض عليهم نقداً دقيقاً؟

كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين امتدحتا آلهتهم ، وقد تضمنت الآيات السابقة عليهما ، واللاحقة لهما على شتم آلهتم وتفنيدها ، والازدراء بها بصورة صارخة وصريحة؟!

كيف تصور مختلق هذه الاكذوبة الفاضحة ، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية وآباءها ونقّاد الكلام المعدودين عند العرب كلّها من عمالقة الفصاحة والبلاغة بلا منازع ، والذين كانوا أعرف من غيرهم باشارات تلك اللغة ، وكناياتها ( فضلا عن تصريحاتها ).

كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في امتداح آلهتهم ، وغفلوا عما سبقها ولحقها من الذمّ لها والطعن الصارخ فيها؟

إنه لا يمكن قط أن نخدع العادّيين من الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوَّل يذم عقائدهم وسلوكهم فكيف بمن عُرف باللب ، والحصافة ، والحكمة والذكاء؟

وها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة بالمقام ونترك أصفاراً ( وفراغاً ) في مكان

٤٩٢

الجملتين اللتين اُدّعي اضافتهما ، ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينَك الجملتين مكانٌ بين هذه الآيات ( الّتي وردت في ذمّ الاصنام والقدح فيها ) : وإليك هذه الآيات : «أفَرَأَيْتُمُ الّلاتَ والعُزّى وَمَناةَ الثالِثةَ الاُخرى (١) أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُنْثى تِلْكَ إذاً قِسْمَةً ضِيْزى .إنْ هِيَ إلاّ أسماء سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وَآباؤُكم ما أنْزَلَ الله بِها مِنْ سُلْطان »(٢) .

ثم هل يسمحُ إنسانٌ عاديّ لنفسه أن يكفَّ عن معاداة نبيٍّ هاجَمَ عقائدهُ طيلة عَشرة اعوام ، وهدر إستقلاله وكيانه ، وجرَّ عليه الشقاء بتسفيه أحلامه ، وشتم آلهته ، لعبارات متناقضة وكلام خليط من الذّم الكبير والمدح العابر.

دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه الاسطورة

يقول العلامةُ الجليلُ الشيخ محمَّد عبده : لم يُستعمَل لفظ الغرانيق في الآلهة أبداً لا في اللغة ولا في الشعر العربي(٣) .

و « غرنوق » و « غَرنيق » اللذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور الماء أو الشابّ الجميل ، ولا يَنطبق أىُ واحد من هذه المعاني على الآلهة.

وقد اعتبر احدُ المستشرقين يدعى « السيروليم مويير » قصة « الغرانيق » هذه من مسلَّمات التاريخ واستدل لها بقوله : لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الاول إلى الحبشة اكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمَّدٌ قريشاً فعادوا إلى مكة.

إن المسلمين الذين هاجَروا إلى تلك الأَرض وكانوا يعيشون في أمن وطمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم يكونوا يبلغهم نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكة للقاء بذويهم.

فاذن لابدَّ أَنَّ « محمَّداً » قد تذرَّع بشيء لمصالحة قريش ، والتقرّب اليها ،

__________________

١ ـ مكان الجملتين المزعومتين : تلك الغرانيق إلى آخرها.

٢ ـ النجم : ١٩ ـ ٢٣.

٣ ـ نقله عنه القاسمي في تفسيره : ج ١٢ ، ص ٥٥ ـ ٥٦.

٤٩٣

وهذا الشيء هو قصة الغرانيق »!!(١) .

ولكن يجب أن نسأل هذا المستشرق المحترم :

أولاً : لماذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتماً.

إن النفعيين وذوي الأهواء والأغراض يسعون دائماً إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق مارب خاصّة لهم ، فما الّذي يمنع من أن نحتمل أن هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة إلى « مكة ». وقد صدق بعض اُولئك المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن ، بينما لم ينخدع الآخرون بها وبقوا في الحبشة ولم يعودوا إلى مكة؟؟

ثانياً : لنفترض أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد أن يصالح قريشاً ، فهل يكونُ الطريق إلى السلام والمصالحة منحصراً في افتعال هاتين الجملتين.

ألم يكن إعطاء مجرَّد وَعد مناسب أو مجرّد السكوت عن عقائدهم كافياً لتهدئة خواطرهم ، واجتذاب قلوبهم نحوه؟

وعلى كلّ حال فان عودة المهاجرين لا يكونُ دليلا على صحّة هذه الاُسطورة كما أن المصالحة ، والتقارب غير متوقفين على النُطق بهاتين الجملتين.

والأعجب من هذا أن البعضَ تصوَّر الآيات ( ٥٢ ـ ٥٤ من سورة الحج ) قد نزلت في قصة الغرانيق.

وحيث أن هذه الآيات قد وقعت ذريعة بأيدي المستشرقين ومرتكبي جريمة التحريف في التاريخ ، فاننا نعمدُهنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات ، ونبين للقارئ بأنها تنظر إلى امر آخر ، ولا ترتبط بهذه القصة بتاتاً.

وها هو نصُّ الآيات المشار إليها : «وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِيٍّ * إلا إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيَّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما يُلقي الشَيطانُ ثمَ يُحْكِمُ اللّه آياتِه ، واللّه عَليمٌ حَكيمٌ

____________

١ ـ راجع حياة محمَّد : ص ١٦٥ و ١٦٦.

٤٩٤

ليَجْعَلَ ما يُلْقي الشَّيطانُ فِتْنَةً لِلَّذيْن فِي قُلُوبِهمْ مَرَضُ وَالْقاسِيَة قُلُوبُهُمْ وَإن الْظالِميْنَ لَفِي شِقاق بَعيْد وَلِيَعْلَمَ الَّذينَ اُوْتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمنُوا بهِ فَتخبتَّ لَه قُلوبُهُم وَأَنَّ اللّه لَهاد الَّذين آمنوا إلى صِراط مُسْتَقِيم ».

والآن يجب أن نبين مفاد الآيات ولنبدأ بالآية الاُولى :

انّ الآية الاُولى تذكِّرُ بثلاثة اُمور هي :

١ ـ انَّ الأنبياء والرسل يتمنون.

٢ ـ انَّ الشيطانَ يتدخّل في تمنياتهم.

٣ ـ انّ اللّه يمحي آثار ذلك التدخّل.

وبتوضيح هذه النقاط الثلاث يتضح مفاد الآية والمراد منها.

واليك توضيح تلكم النقاط الثلاث :

١ ـ ما هو المقصود من تمني الانبياء والرُسل

لقد كان الأنبياء والرسل يحبّون هداية اُممهم ، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها ، وكانوا يدبّرون اُموراً ويخطّطون خططاً لتحقيق أهدافهم هذه ، كما كانوا يتحملون في هذا السبيل كل المتاعب والمصاعب ، ويثبتون في جميع المشكلات والمحن.

ولم يكن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستثنى عن هذه القاعدة ، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطط لتحقيق أهدافه كثيراً ، ويهيّئ مقدمات ويبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله : «وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُول وَلا نبيّ إلاّ إذا تَمَنّى ».

فاتّضح إلى هنا المراد من لفظ تمنّى ولنشرح الآن النقطة الثانية.

٢ ـ ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟

إن تدخُّل الشيطان يمكن أن يتم على نحوين :

١ ـ أن يوجد الشك والترديد في عزم الانبياء ، ويوحي إليهم بأنَّ هناك

٤٩٥

عوائق كثيرة تحول بينهم وبين أهدافهم ، ولذلك لن يحرزوا نجاحاً في تحقيق تلك الأهداف.

٢ ـ بأن الأنبياء كلما مهّدوا لأمر وهيَّاوا له مقدّماته ، وَظهرت منهم أمارات تدلُ على أنهم مقدِمون على تنفيذه فعلا أقام الشيطان ومن تبعه من شياطين الانس العراقيل والموانع في طريقهم ، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم.

أما الاحتمالُ الأول فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الاُخرى ولا مع الآية اللاحقة.

أمّا مِن جهة الآيات الاُخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنه لا سلطان للشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ( ولو بأن يصوّروا لهم بأنهم لن يقدروا على تحقيق آمالهم ، وأهدافهم ) إذ يقول : «إن عِبادي لَيْسَ لك عَلَيْهِمْ سُلطانٌ »(١) . ويقول أيضاً : «إنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذيْنَ امَنُوا وَعَلى رَبّهم يَتَوكَّلُونَ »(٢) .

إن هذه الآيات ، والآيات الاُخرى الّتي تنفي سلطان الشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ، وتأثيره في قلوبهم ونفوسهم لخيرُ شاهد وأفضل دليل على أنَّ المقصودَ من تدخّل الشيطان في تمنيات الأنبياء لَيس بمعنى إضعاف عزيمتهم ، وإرادتهم وتكبير الموانع والعراقيل في نظرهم.

أمّا من جِهَة الآيات المبحوثة فانَ الآية الثانية والثالثة تفسِّر وتشرح علّة التدخّل على النحو الآتي :

إننا نختبر بهذا العمل فريقين من الناس : الفريق الأول : الَّذين في قلوبهم مرض ، والفريق الثاني : الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر.

يعني أنَّ تدخُّل الشيطان في أعمال الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضِدَّهم وضدَّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل ومعارضتهم للانبياء في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فانه يزيد من ثباتهم وصمودهم.

__________________

١ ـ الحجر : ٤٢ ، الاسراء : ٦٥.

٢ ـ النحل : ٩٩.

٤٩٦

وان بيان أن لتدخل الشيطان في تمنيات الانبياء ، مثل هذين الاثرين المختلفين ( أي يحمل فريقا على المخالفة وفريقا آخر على الثبات والصمود ) يفيد أن المراد بالتدخل هنا هو المعنى الثاني ، يعني ان التدخل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم ، وإلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم ، وخلق الموانع والعراقيل في طريقهم لا أنهم يتصرفون في نفوس الأنبياء وقلوبهم ويضعفون ارادتهم وعزمهم.

إلى هنا اتضح معنى تدخّل الشيطان في تمنيات الانبياء والرسل.

والآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر يعني محو آثار هذا التدخل.

٣ ـ ما هو المقصود من محو آثار التدخل؟

إذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك الناس وتأليبهم ضد الانبياء ليمنعوا الأنبياء والرسل من التقدم في أهدافهم ، فان محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه ـ حينئذ ـ يكون بمعنى ان اللّه يدفع عن أنبيائه ورسله كيد الشيطان ليتضح الحقُ للمؤمنين ، ويكون إختباراً لمرضى القلوب كما يقول تعالى في آية اُخرى.

«إنّا لَنَنْصُر رُسُلَنا وَالَّذيْنَ آمَنُوا فِي الحَياة الدّنْيا »(١) .

وخلاصة القول : أن القرآن يخبر ـ في هذه الآيات ـ عن سنة للّه قديمة في مجال الأنبياء وهي :

إن تَمنّي التقدم في الأهداف وتمنّي التوفيق في هداية الناس هو فعل الانبياء دائماً.

ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان وأتباعه من شياطين الإنس والجنّ ، وذلك بايجاد الموانع والعقبات في طريق الأنبياء والرسل.

ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد الالهي الغيبيّ بمحو وفسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الانبياء المعرقِلة لتحقيق أمانيّهم.

وهذه هي إحدى السنن الالهية الثابتة الّتي جرت في جميع الاُمم السالفة.

__________________

١ ـ غافر : ٥١.

٤٩٧

إن تاريخ الأنبياء والرسل وقصصهم من نوح وإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل وبخاصّة موسى وعيسىعليهما‌السلام ، وتاريخ حياة الرّسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير شاهد على هذا المطلب.

وينبغي إستكمالا لهذا البحث أن نقول : ولأجل ما ورد على هذه القصة الاُسطوية من مؤاخذات رفضها وفنّدها بعض المحققين من أهل السنة إذ قال بعد ذكرها على النحو الّذي ادرجها الطبري في تاريخه وأرسله ارسال المسلّمات :

وأهل الاُصول يدفعون هذا الحديث بالحجة.

ومن صحَّحهُ قال فيه أقوالا :

منها : ان الشيطان قال ذلك وأذاعه والرسول عليه الصلاة والسَّلام لم ينطق به.

( وذكر وجوهاً اُخرى ثم قال : ) والحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحته(١) .

__________________

١ ـ راجع هوامش السيرة النبويَّة : ج ١ ، ص ٣٦٤.

٤٩٨

٢٠

الحصار الاقتصادي والاجتماعي

إن أبسط وسيلة وأسهلها لضرب الأقليات في أي مجتمع ، والقضاء عليها هو ما يسمى بالمكافحة السلبية الّتي تقوم أساساً على اتحاد الأكثرية واتفاقها على مقاطعة الأقليّة المتمرّدة.

إن عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعددة مختلفة ، لأنه يتطلب مثلا ان يحمل جماعة من المقاتلين السلاح ، وتتوجه نحو الاهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس والأموال ، وازالة العشرات من الموانع والسواتر ، وهو أمر لا يُقدم عليه القادة المحنّكون إلاّ بعد توفّر كل مستلزمات المواجهة واتخاذ جميع التدابير اللازمة ، والاستعداد الكامل ، وبالتالي لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة اليها ، وتنحصرُ الحيلة في القتال.

ولكنّ المكافحة السلبية لا تتوقف على مثل هذه الاُمور ، بل تحتاج إلى أمر واحد وهو اتفاق الاكثرية.

يعني أن يتفق من يعنيهم الأمرُ ولهم عقيدة واحدة ويتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كلَ صلاتهم وعلاقاتهم بالأقليّة المعارضة ، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم ويوقفوا الاتصال العائليّ بهم ، ولا يشركونهم في اعمالهم الاجتماعية ولا يتعاونوا معهم في اُمورهم الشخصيّة أيضاً.

٤٩٩

في مثل هذه الحالة تضيق الأَرض على الأقلية بما رحبت وتغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق وصغير ، ويصيرون عُرضة للانهيار والسقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها.

إن الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربما تستسلم ـ في هذه الحالة ـ وتؤوب من منتصف الطريق ، وتطيع إرادة الأكثرية.

ولكن أقلية كهذه لابد أن تكون ممَّن لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ ولا يكون لانفصالها عن الاكثرية طابعٌ اُصوليٌ مبدأيّ ، كما لو كان خلافها مع الاكثرية مثلا على تحصيل ثروة أو منصب مهمّ أو ما شاكل ذلك.

فان مثل هذه الاقلية إذا أحسّت بخطر جدّي ، أو واجهت العذاب والسجن والحصار ستتراجع عن مخالفتها وتعود إلى طاعة الاكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقَّتة على اللذة الإحتمالية ، لأنها لم تنطلق من دوافع ايمانية اصيلة ، ولم يكن المحرك لها محركاً روحياً معنوياً.

ولكن الجماعة الّتي يقوم خلافُها للاكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدس ، لن تنصاع أبداً لمثل هذه الضغوط ، ولن تنثني أمام هذه الرياح والعواصف ، ولا يزيدها ضغطُ الحصار الاّ صلابة وقوة ، وإصراراً وعناداً ، وتردُّ جميع ضربات العدوّ بالصبر والإستقامة.

إن صفحات التاريخ البشريِّ تشهد بأن أقوى العوامل لثبات كل أقليّة وصمودها في وجه الأكثرية هو : قوةُ الايمان ، وعاملُ الإعتقاد ، الّذي ربما يؤدّي رسالة الثبات والمقاومة ببذل آخر قطرة دم في ساحة المواجهة.

ولنا على هذا عشرات بل ومئات الأمثلة من التاريخ الغابر والحاضر.

قريشٌ تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً

لقد شقَّ على قريش انتشار الإسلام المتزايد وأزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة ولهذا كانت تفكر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694