سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358042 / تحميل: 8964
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

ونهض أبيّ الضيم ، وترك معاوية يتميّز مِن الغيظ ، وقد استبان له أنّه لا يتمكّن أنْ يخدع الإمام الحُسين (عليه السّلام) ويأخذ البيعة منه.

إرغامُ المعارضين :

وغادر معاوية يثرب متّجهاً إلى مكّة وهو يطيل التفكير في أمر المعارضين ، فرأى أنْ يعتمد على وسائل العنف والإرهاب ، وحينما وصل إلى مكّة أحضر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعرض عليهم مرّة أُخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم له ، فانبرى إليهم مغضباً ، وقال : إنّي أتقدّم إليكم أنّه قد أُعذِرَ مَنْ أنذر. كنتُ أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه ، فلا يسبقني رجل إلاّ على نفسه.

ودعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال له : أقم على رأس كلّ رجل مِن هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثمّ خرج وخرجوا معه ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتزّ أمرٌ دونهم ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٢٢١

ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.

فبايعه الناس ، ثمّ ركب رواحله وغادر مكّة(1) ، وقد حسب معاوية أنّ الأمر قد تمّ لولده ، واستقر المُلْكُ في بيته ، ولمْ يعلم أنّه قد جرّ الدمار على دولته ، وأعدّ المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقفُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

كان موقف الإمام الحُسين (عليه السّلام) مع معاوية يتّسم بالشدّة والصرامة ، فقد أخذ يدعو المسلمين بشكل سافر إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم مِنْ سياسته الهدّامة ، الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

وأخذت الوفود تترى على الإمام (عليه السّلام) مِنْ جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى إليه ، وتستغيث به ممّا ألمّ بها مِن الظلم والجور ، وتطلب منه القيام بإنقاذها مِن الاضطهاد.

ونقلت الاستخبارات في يثرب إلى السّلطة المحلية تجمّع الناس واختلافهم على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكان الوالي مروان ، ففزع مِنْ ذلك وخاف إلى حدٍّ بعيدٍ.

__________________

(1) الكامل 3 / 252 ، الأمالي 2 / 73 ، ذيل الأمالي / 177 ، عيون الأخبار 2 / 210 ، البيان والتبيين 1 / 300.

٢٢٢

مذكّرةُ مروان لمعاوية :

ورفع مروان مذكّرة لمعاوية سجّل فيها تخوّفه مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) ، واختلاف الناس عليه ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد كثُر اختلاف الناس إلى حُسين ، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

جوابُ معاوية :

وأمره معاوية بعدم القيام بأيّ حركة مضادّة للإمام (عليه السّلام) ، فقد كتب إليه : اترك حُسيناً ما تركك ولمْ يُظهر لك عداوته ويبد صفحته ، وأكمن عنه كمون الثرى إنْ شاء الله ، والسّلام(2) .

لقد خاف معاوية مِنْ تطور الأحداث ، فعهد إلى مروان بعدم التعرّض له بأيّ أذى أو مكروه.

رأيُ مروان في إبعاد الإمام (عليه السّلام) :

واقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام (عليه السّلام) عن يثرب ، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام ؛ ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق ، ولمْ يرتضِ معاوية ذلك ، فردّ عليه : أردت والله أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإنْ أسأت إليه قطعت رحمه(3) .

__________________

(1) و (2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) العقد الفريد 2 / 116.

٢٢٣

رسالةُ معاوية للحُسين (عليه السّلام) :

واضطرب معاوية مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) واختلاف الناس عليه ، فكتب إليه رسالة ، وقد رويت بصورتين :

1 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصّها : أمّا بعد ، فقد أُنهيت إليّ عنك اُمورٌ إنْ كانت حقّاً فإنّي لمْ أظنّها بك ؛ رغبة عنها ، وإنْ كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكِدْكَ ، فاتّقِ الله يا حُسين في شقّ عصا الأُمّة ، وأنْ ترِدهم في فتنة(1) .

2 ـ رواها ابن كثير ، وهذا نصّها : إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أُنبئتُ أنّ قوماً مِنْ أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق مَنْ قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله واذكر الميثاق ؛ فإنّك متى تكدْني أكِدْكَ(2) .

واحتوت هذه الرسالة حسب النّص الأخير على ما يلي :

1 ـ أنّ معاوية قد طالب الإمام (عليه السّلام) بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أنْ لا يخرج عليه ، وقد وفّى له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، إلاّ أنّ معاوية لمْ يفِ بشيء ممّا أبرمه على نفسه مِنْ شروط الصلح.

2 ـ أنّ معاوية كان على علمٍ بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام (عليه السّلام) للخروج عليه ، وقد وسمهم بأنّهم أهل الشقاق ، وأنّهم قد غدروا بعلي والحسن (عليهما السّلام) مِنْ قبل.

3 ـ التهديد السافر للإمام (عليه السّلام) بأنّه متى كاد معاوية فإنّه يكيده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 162.

٢٢٤

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ورفع الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته ، حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد مِن سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الأُمّة للأزمات ، وهي مِنْ أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت مِنْ معاوية ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. ما أردت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألست القاتل حِجْرَ بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظُلماً وعدواناً مِنْ بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت مِنْ رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَرَ

٢٢٥

فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً مِن الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة ، وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زيادٌ أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة مِنْ ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل مِنْ أنْ أجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت : إنّني إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدْك تكدني. فكِدْني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضر منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيتَ بشرطٍ ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النّفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم مِنْ غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقُتِلوا ، ولمْ تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لمْ تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا.

٢٢٦

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَه على التّهم ، ونفيك إيّاهم مِنْ دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبرتَ دينك(1) ، وغششت رعيتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام»(2) .

لا أكاد أعرف وثيقةً سياسةً في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية ، والدماء التي سفكها ، والنفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

واللهِ كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة «كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة وليسوا مِنك». هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف ، وقديماً قال الصابي : إنّ الرجل مِنْ قومٍ ليست له أعصاب تقسو عليهم. وهو اتّهام مِن الحُسين لمعاوية في وطنيته وقوميته ، واتّخذ مِن الدماء الغزيرة المسفوكة عنواناً على ذلك(3) .

لقد حفلت هذه المذكّرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية وعمّاله ، خصوصاً زياد بن سُميّة الذي نشر الإرهاب والظلم بين الناس ؛ فقتل على الظنّة والتّهمة ، وأعدم كلّ مَنْ كان على دين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو دين ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حقّ.

ومِن الطبيعي أنّه لمْ يقترف ذلك إلاّ بإيعاز مِنْ معاوية ، فهو الذي عهد إليه بذلك.

__________________

(1) تبرت : أهلكت دينك.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 284 ، رجال الكشّي / 32 ، الدرجات الرفيعة / 334.

(3) الإمام الحُسين (عليه السّلام) / 338.

٢٢٧

صدى الرسالة :

ولمّا انتهت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية ضاق بها ذرعاً ، وراح يراوغ على عادته ، ويقول : إنّ أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً(1) .

المؤتمرُ السياسي العام :

وعقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسياً عامّاً ، دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ ؛ مِن المهاجرين والأنصار ، والتابعين وغيرهم مِن سائر المسلمين ، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم مِن المحن والخطوب التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه مِن الإجراءات المشدّدة مِنْ إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثِرَ عن الرسول الأعظم في حقّهم ، وألزم حضّار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين ، وفيما يلي نصّ حديثه ، فيما رواه سليم بن قيس :

قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحُسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ مِن الأنصار ممّن يعرفهم الحُسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : «لا تدَعوا أحداً حجّ العام مِنْ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمِنى أكثر مِنْ سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم مِن التابعين ، ونحو مِنْ مئتي رجل مِنْ أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 198.

٢٢٨

ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء ؛ فإنْ صدقت فصدّقوني ، وإنْ كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمَنْ أمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِنْ حقّنا ؛ فإنّي أتخوف أنْ يُدرسَ هذا الأمر ويُغلب ، والله مُتِمّ نوره ولو كرِه الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم مِن القران إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته (عليهم السّلام) إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه مِن الصحابة. فقال (عليه السّلام) : «أنشدُكم اللهَ إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه»(1) .

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام (عليه السّلام) سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإذاعة مآثرهم التي حاولت السّلطة حجبها عن المسلمين.

رسالةُ جعدة للإمام (عليه السّلام) :

وكان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب مِنْ أخلص الناس للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية.

ورفع جعدة رسالةً للإمام (عليه السّلام) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ مِنْ قِبَلِنا مِنْ شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 216 ـ 217.

٢٢٩

لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإنْ كنت تحبّ أنْ تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ؛ فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ولم يكن مِنْ رأي الإمام الحُسين (عليه السّلام) الخروج على معاوية ؛ وذلك لعلمه بفشل الثورة وعدم نجاحها ؛ فإنّ معاوية بما يملك مِنْ وسائل دبلوماسية وعسكرية لا بدّ أنْ يقضي عليها ، ويخرجها مِنْ إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية ، ويوسم القائمين بها بالتمرّد والخروج على النظام ، وقد أجابهم (عليه السّلام) بعد البسملة والثناء على الله بما يلي :

«أمّا أخي فإنّي أرجو أنْ يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا مِن الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإنْ يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام»(1) .

لقد أمر (عليه السّلام) شيعته بالخلود إلى الصبر ، والإمساك عن المعارضة ، وأنْ يلزموا بيوتهم خوفاً عليهم مِن سلطان معاوية الذي كان يأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، ويقتل على الظنّة والتهمة. وأكبر الظنّ أنّ هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة ، وصلبهم على جذوع النخل ، ودمّرهم تدميراً ساحقاً.

__________________

(1) الأخبار الطوال / 203 ، أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٢٣٠

نصيحةُ الخدري للإمام (عليه السّلام) :

وشاعت في الأوساط الاجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) واستنجادهم به لإنقاذهم مِن ظلم معاوية وجوره ، ولمّا علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعاً للإمام (عليه السّلام) ينصحه ويحذّره ، وهذا نص حديثه : يا أبا عبد الله ، إنّي أنا ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم مِنْ شيعتكم بالكوفة يدعونكم إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج إليهم ؛ فإنّي سمعت أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مللتهم وأبغضتهم ، وملّوني وأبغضوني ، وما يكون منهم وفاء قط ، ومَنْ فاز به فاز بالسّهم الأخيب. والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ، ولا صبر على السّيف»(1) .

وليس مِنْ شك في أنّ أبا سعيد الخدري كان مِنْ ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأكثرهم إخلاصاً وولاءً لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد دفعه حرصه على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وخوفه عليه مِنْ معاوية أنْ يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية. ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحُسين (عليه السّلام) له.

استيلاءُ الحُسين (عليه السّلام) على أموال للدولة :

وكان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم مُلْكه ، كما كان يهبُ الأموالَ الطائلة لبني أُميّة لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) يشجب هذه السياسة ، ويرى ضرورة إنفاذ الأموال مِنْ معاوية وإنفاقها على المحتاجين. وقد اجتازت على يثرب أموال مِن اليمن إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ، ووزّعها على

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 161 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 67.

٢٣١

المحتاجين مِنْ بني هاشم وغيرهم ، وكتب إلى معاوية :

«مِن الحُسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ، لتودعها خزائن دمشق ، وتعل بها بعد النهل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها ، والسّلام».

وأجابه معاوية : مِنْ عبد الله معاوية إلى الحُسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منها. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتى صار إليّ لمْ أبخسك حظّلك منها ، ولكنّني قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوة ، وبودّي أنْ يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّني والله ، أتخوّف أنْ تُبلى بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة.

وكتب في أسفل كتابه هذه الأبيات :

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ليس ما

جئتَ بالسائغِ يوماً والعلل

أخذكَ المالَ ولمْ تُؤمر بهِ

إنّ هذا مِنْ حُسينٍ لَعجلْ

قد أجزناها ولمْ نغضبْ لها

واحتملنا مِنْ حُسينٍ ما فعلْ

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ذا الأملْ

لك بعدي وثبةٌ لا تُحتملْ

وبودّي أنّني شاهدُها

فإليها مِنك بالخلقِ الأجلْ

إنّني أرهبُ أنْ تصلَ بمَنْ

عنده قد سبق السيفُ العذلْ(1)

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 4 / 327 الطبعة الأولى.

٢٣٢

وفي هذا الكتاب تهديد للإمام بمَنْ يخلف معاوية ، وهو ابنه يزيد ، الذي لا يؤمن بمقام الحُسين ومكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حالٍ ، فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال مِنْ معاوية وأنفقها على الفقراء ، في حين أنّه لمْ يكن يأخذ لنفسه أيّ صلة مِنْ معاوية ، وقد قدّم له مالاً كثيراً وثياباً وافرة وكسوة فاخرة ، فردّ الجميع عليه(1) .

وقد روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) أنّ الحسن والحُسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية(2) .

حديثٌ موضوع :

مِن الأخبار الموضوعة ما روي أنّ الإمام الحُسين وفد مع أخيه الحسن على معاوية فأمر لهما بمئة ألف درهم ، وقال لهم : خُذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحد بعدي.

فانبرى إليه الإمام الحُسين قائلاً : «والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ولا بعدك لرجلين أشرف منّا».

ولا مجال للقول بصحة هذه الرواية ، فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفد على معاوية بالشام ، وإنّما وفد عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) لا لأجل الصلة والعطاء ، كما يذهب لذلك بعض السذّج مِن المؤرّخين ، وإنّما كان الغرض إبراز الواقع الاُموي والتدليل على مساوئ معاوية ، كما أثبتت ذلك

__________________

(1) الحُسين ـ لعلي جلال 1 / 117.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) 2 / 332.

٢٣٣

مناظراته مع معاوية وبطانته ، والتي لمْ يقصد فيها إلاّ تلك الغاية ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلّة في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الحُسين مع بني أُميّة :

كانت العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم»(1) .

أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين (عليه السّلام) كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».

لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم.

وانبرى عبد الله بن الزّبير فانضمّ للحُسين وانتصر له ، وقال :

__________________

(1) الكنى والأسماء ـ لأبي بشر الدولابي 1 / 77.

٢٣٤

وأنا أحلف بالله ، لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينتصف مِنْ حقّه أو نموت جميعاً.

وبلغ المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضمّ للحُسين وقال بمثل مقالته ، وشعر الوليد بالوهن والضعف فتراجع عن غيّه ، وأنصف الحُسين (عليه السّلام) مِنْ حقّه(1) .

ومِنْ ألوان الحقد الاُموي على الحُسين أنّه كان جالساً في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فسمع رجلاً يُحدّث أصحابه ، ويرفع صوته ليُسمع الحُسين ، وهو يقول : إنّا شاركنا آل أبي طالب في النّبوة حتّى نلنا مِنها مثلَ ما نالوا مِنها مِن السّبب والنّسب ، ونلنا مِن الخلافة ما لمْ ينالوا فبِمَ يفخرون علينا؟

وكرّر هذا القول ثلاثاً ، فأقبل عليه الحُسين ، فقال له : «إنّي كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً ، وفي الثاني عفواً ، وأمّا في الثالث فإنّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول : إنّ في الوحي الذي أنزله الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أُميّة في صوَرِ الذر يطؤهم الناس حتى يفرغ مِن الحساب ، ثمّ يُؤتى بهم فيحاسبوا ويُصار بهم إلى النار»(2) . ولمْ يطق الاُموي جواباً وانصرف وهو يتميّز مِن الغيظ.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية وبني أُميّة ، ونعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية وما رافقها مِن الأحداث.

__________________

(1) سيرة ابن هشام 1 / 142.

(2) المناقب والمثالب للقاضي نعمان المصري / 61.

٢٣٥

مرضُ معاوية :

ومرض معاوية وتدهورت صحته ، ولمْ تُجْدِ معه الوصفات الطيبة ، فقد تناهبت جسمه الأمراض ، وقد شعر بدنوّ أجله ، وكان في حزن على ما اقترفه في قتله لحِجْرِ بن عَدِي ، فكان ينظر إليه شبحاً مخيفاً ، وكان يقول :

ويلي مِنكَ يا حِجْر! إنّ لي مع ابن عَدِي ليوماً طويلاً(1) ، وتحدّث الناس عن مرضه ، فقالوا : إنّه الموت ، فأمر أهله أنْ يحشوا عينيه أثمداً ، ويسبغوا على رأسه الطيب ويجلسوه ، ثمّ أذن للناس فدخلوا وسلّموا عليه قياماً ، فلمّا خرجوا مِنْ عنده أنشد قائلاً :

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا اتضعضعُ

فسمعه رجل مِن العلويِّين فأجابه :

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ(2)

وصاياه :

ولمّا ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد ، وقد جاء فيها : يا بُني ، إنّي قد كفيتك الشرّ والترحال ، ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لمْ يجمعه أحدٌ ، فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك وأكرم مَنْ قدم عليك منهم وتعاهد مَنْ غاب ، وانظر أهل العراق فإنْ سألوك أنْ تعزل كلّ يوم عاملاً فافعل ؛ فإنّ عزل عامل

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 245.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 59.

٢٣٦

أيسر مِنْ أنْ يُشهر عليك مئة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإنْ رابك مِنْ عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فارددْ أهل الشام إلى بلادهم ؛ فإنْ أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف عليك أنْ ينازعك في هذا الأمر إلاّ أربعة نفر مِنْ قريش : الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ فأمّا ابن عمر فإنّه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لمْ يبقَ أحدٌ غيره بايعك ، وأمّا الحُسين بن علي فهو رجل خفيف ، ولنْ يترك أهل العراق حتّى يخرجوه ، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً وقرابة مِنْ محمّد ، وأمّا ابن أبي بكر فإنْ رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همّة إلاّ في النساء واللّهو ، وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك مراوغة الثعلب فإنْ أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير ، فإنْ هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً ، واحقنْ دماء قومك ما استطعت(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الوصية مِن الموضوعات ؛ فقد افتُعلتْ لإثبات حلم معاوية ، وإنّه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين وهو غير مسؤول عن تصرفاته.

وممّا يؤيد وضعها ما يلي :

1 ـ إنّ المؤرّخين رووا أنّ معاوية أوصى يزيد بغير ذلك ، فقال له : إنّ لك مِنْ أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة ، فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته(2) ، وكان مسلم بن عقبة جزّاراً جلاداً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وقد استعمله يزيد بعهد مِنْ أبيه في واقعة الحرّة فاقترف كلّ موبقة

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 259.

(2) تاريخ خليفة خياط 1 / 229.

٢٣٧

وإثم ، فكيف تلتقي هذه الوصيّة بتلك الوصيّة التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز؟!

2 ـ إنّه أوصاه برعاية عواطف العراقيين والاستجابة لهم إذا سألوه في كلّ يوم عزل مَنْ ولاّه عليهم ، وهذا يتنافى مع ما ذكره المؤرّخون أنّه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد وهو يعلم شدّته وصرامته وغدره ؛ فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء ، فهل العهد إليه بولايته العراق من الإحسان إلى العراقيين والبرّ بهم؟!

3 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الله بن عمر وقد وصفه بأنّه قد وقذته العبادة ، وإذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السّلطة والمنازعات السّياسية فما معنى التخوّف منه؟!

4 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقد نصّ المؤرّخون أنّه توفي في حياة معاوية ، فما معنى التخوّف عليه مِنْ إنسان ميّت؟

5 ـ إنّه أوصاه برعاية الحُسين (عليه السّلام) وإنّ له رحماً ماسّة ، وحقًّا عظيماً وقرابةً مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن المؤكد أنّ معاوية بالذّات لمْ يرعَ أيّ جانب مِنْ جوانب القرابة مِنْ رسول الله فقد قطع جميع أواصرها ، فقد فرض سبّها على رؤوس الأشهاد ، وعهد إلى لجان التربية والتعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت ، ولمْ يتردّد في ارتكاب أيّ وسيلة للحطّ مِنْ شأنهم.

وقد علّق الاُستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات مِنْ الوصيّة بقوله : وتقول بعض المصادر إنّ معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحُسين ، والذي نعتقده أنّه لا أثر لها من الصحة ؛ فإنّ معاوية لمْ يتردّد في اغتيال

٢٣٨

الإمام الحسن حتّى بعد ما بايعه ، فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحُسين إنْ ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمةً أو قرابةً حتّى يوصي ابنه برعاية آل محمّد ، كلاّ أبداً ، فقد حارب الرسول في الجاهلية حتّى أسلم كُرها يوم فتح مكّة ، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه علي ، ونزا على خلافة المسلمين وانتزعها قهراً ، وسمّ ابن بنت الرسول الحسن ، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أنْ يوصي بمثل ما أوصى به؟!

قد يكون أوصاه أنْ يغتاله سرّاً ويدسّ له السمّ ، أو يبعث له مَنْ يطعنه بليل ، ربّما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة مِنْ تلك الوصية ، ولكنّ المؤرّخين ـ سامحهم الله ـ أرادوا أنْ يُبرِّئوا ساحة الأب ويلقوا جميع التبعات على الابن ، وهما في الحقيقة غرسُ إثمٍ واحدٌ وثمرةُ جريمةٍ واحدة.

وأضاف يقول : ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحةً لما كان يزيد لاهمَّ له بعد موت أبيه إلاّ تحصيل البيعة مِن الحُسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحُسين على البيعة(1) .

موتُ معاوية :

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه مِن الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة ، وحمله

__________________

(1) مجلة الغري السنة الثامنة العدد 9 و 10.

٢٣٩

على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه في أثناء وفاته برحلات الصيد ، وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

متى وَقَعت هذه الحادثة؟

مع ان أهميّة هذه الحادثة العجيبة كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات ، إلاّ أنها تعرضت للاختلاف ـ مع ذلك ـ من بعض الجهات ومنها تحديد تاريخ وقوعها.

فقد ادّعى كاتبا السيرة المعروفان : « إبن اسحاق » و « ابن هشام » أنها وقعت في السنة العاشرة من البعثة الشريفة.

وذهب المؤرخ الكبير « البيهقي » إلى أنها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة.

وذهب آخرُون إلى أنها وقعت في أوائل البعثة ، بينما قال فريق رابع : أنها وقعت في أواسطها.

وربما يقال في الجمع بين هذه الأقوال : أنه كان لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معارج متعددة.

ولكنّنا نعتقد أنّ المعراج الّذي فُرِضَت فيه الصلاة وَقع بعد وفاة أبي طالبعليه‌السلام في السنة العاشرة قطعاً.

لأنّ من مسلَّمات الحديث والتاريخ أن اللّه تعالى أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة المعراج أن تصلّي اُمّة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلَّ يوم وليلة خمس صلوات.

كما أنه يُستفاد من ثنايا التاريخ أيضاً أن الصلاة لم تُفرَض مادام أبو طالبعليه‌السلام على قيد الحياة بل فُرِضت بعد وفاته ، لأنّه حضر عنده ـ ساعة وفاته ـ سراة قُريش وأسيادها ، وطلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه « محمّد » ويمنعه من فعله ، فيعطونه ـ في قبال ذلك ـ ما يريد فقال لهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المجلس : نعم كلمة واحدة تعطونيها : « تقولون لا إله إلاّ اللّه وتخلعون ما تعبدون من دونه »(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤١٧.

٥٤١

لقد طلب منهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الأمر ولم يطلب منهم شيئاً آخر كالصلاة وغيرها من الفُروع أبداً ، وهذا هو بنفسه يدلّ على أنه لم تجب الصلاة حتّى ذلك اليوم ، وإلاّ كان الإيمان المجرّد عن العمل ، والصلاة مفروضة ، لا فائدة فيه.

وأما أنه لم يذكر شيئاً عن نبُوّته ورسالته فلأنّ الإعتراف بوحدانية اللّه بأمره وطلبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعتراف ضِمنيّ برسالته ونبوّته ، وفي الحقيقة انَّ التلفُّظ بهذه العبارات بأمره يتضمّن شهادتين واقرارين : الإقرار باللّهِ الواحد ، والإقرار بنبوّة رسول الإسلام.

هذا مضافاً إلى أن كُتّاب السيرة ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل « الطفيل بن عمرو الدوسي » الّذي أسلم قبل الهجرة(١) بأعوام اكتفى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشهادتين ، ولم يجر اي حديث عن الصلاة ابداً.

ان هذه الامثلة تكشف عن أن هذه الحادثة ( المعراج ) الّتي فُرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات.

والذين تصوّروا أن المعراج وقع قبل السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيراً لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة وحتّى السنة العاشرة ، ولم يكن وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد ( مثل الصلاة ).

وأما سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين والّتي كانت هي بنفسها مانعاً من فرض الصلاة على المسلمين ، كان المسلمون قلةً معدودين ، ولم يكن نورُ الايمان ، واُصول الإسلام قد ترسخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد ، ولذلك يكون من المستبعد أن يكلفوا بأمر زائد مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف.

وأمّا ما ورد في بعض الأخبار والروايات من ان الامام علياًعليه‌السلام

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٨٣.

٥٤٢

صلى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات ، واستمر على ذلك بعدها أيضاً فليس المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت ، المشروطة بشروط خاصة ، بل كانت تلك الصلوات عبارة من عبادة خاصة غير محدودة(١) ، أو كان المراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة.

هل كان المعراج جسمانياً؟

لقد وقع النقاش والكلام في كيفية معراج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه كان روحانياً أو جسمانياً وروحانياً معاً ، وقيل في ذلك كلام كثير.

ومع أن القرآن الكريم والأحاديث تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جسمانياً(٢) ، فقد اُوردت في المقام بعض الإشكالات والاعتراضات الّتي منعت البعض عن قبول هذه الحقيقة ، وبالتالي دفعتهم إلى ارتكاب التأويل ، والزعم بأن معراج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان روحانياً ، أي بالروح لا بالجسم.

لقد قال هؤلاء : ان روح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الّتي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة اُخرى!!

وذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ ادّعوا بان جميع هذه المشاهدات والقضايا تمّت لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عالم الرؤيا ، فكل ما رآه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كانت رؤيا ورؤيا الأنبياء صادقة!!

على أن أقوال الفريق الأخير من البعد عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال والنظريات أبداً ، لأنَّ قريش بعد أن سمعت من رسول اللّه صلّى

__________________

١ ـ للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء والصلاة والاذان يراجع الكافي : ج ٣ ، ص ٤٨٢ ـ ٤٨٩.

٢ ـ لقد نقل الفقيه الجليل العلامة الشيعيّ المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع : ج ٦ ، ص ٣٩٥.

٥٤٣

الله عليه وآله ادعاءه بانه سار كل تلك المسافة الطويلة البعيدة ، وطاف على كل تلك الاماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة انزعجت بشدة وهبّت لتكذيبه حقيقة ، إلى درجة أن خبر المعراج أصبح حديث الساعة في نوادي قريش واوساطها آنذاك.

ولو كان كل ذلك تحقق للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام والرؤيا لما كان لتكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها معنى ، إذ لا موجب للنزاع لو كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّي فعلت تلك الامور ، ورأيت تلك المشاهد في الرؤيا والمنام ، إذ هو على كل حال رؤيا ، وكل شيء ـ حتّى الاُمور المحالة أو المستبعدة جداً ـ ممكن في عالم الرؤيا.

ومن هنا لا قيمة للقول الأخير أصلا فلا تستحق المتابعة أصلا.

ولكن مع الأسف استحسن بعض العلماء المصريين ( مثل فريد وجدي ) هذا الرأي وسعى في تقويته وتبريره ، ونحن نحبذ ان نتركه ، وان لا نناقش فيه(١) .

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟

لقد عمد فريق ممن عجز عن دفع وحلّ بعض الاعتراضات والاشكالات الواردة على المعراج الجسماني ، إلى تأويل الآيات والأحاديث ، واعتبر المعراج النبوي معراجاً روحانياً ، لا غير.

والمقصود من المعراج الروحانيّ هو التدبّر في مخلوقات اللّه ومصنوعاته ، ومشاهدة جلاله وجماله والاستغراق في ذكر الحق ، والتفكر فيه ، وبالتالي التخلص من القيود والاغلال المادية ، والعلائق الدنيوية ، والعبور من المراتب الامكانية في المراحل الباطنية والقلبية الّتي يحصل بعد طيّها نوعٌ من القرب الخاص الّذي لا يمكن وصفه.

فاذا كان المراد من ( المعراج الروحانيّ ) هو التفكر في عظمة الحق وسعة

__________________

١ ـ دائرة معارف القرن العشرين : ج ٦ ، ص ٣٢٩ مادة عرج.

٥٤٤

الخلق و و فلا شك أن هذا ليس من مختصات رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل كان أكثر الأنبياء ، وكثير من الاولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة يمتلكون هذه المرتبة ، على حين أن القرآن الكريم يعتبر ( المعراج ) من خصائص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويذكره على انه نوع من الامتياز الخاص بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هذا مضافا إلى ان مثل هذه الحالة ( اعني التفكر في عظمة الخالق والاستغراق في التوجه إلى الحق ) كانت تتكرر لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل ليلة(١) ، والحال ان ( المعراج ) الّذي هو محط الكلام قد وقع في ليلة معيَّنة.

إن ما دفع بهذا الفريق إلى اتخاذ مثل هذا الموقف من ( المعراج ) ، وآل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني المعروف « بطلميوس » الّتي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق والغرب طيلة ألفي سنة بالكامل ، والّتي اُلّف حولها مئآت الكتب ، وكانت تعدُّ حتّى حين من المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية وهي على نحو الاجمال كالتالي:

إن الاجسام في هذا العالم على نوعين : أجسام عنصرية ، واجسام فلكية.

والجسم العنصري هي العناصر الأربعة المعروفة : « الماء ، والتراب ، والهواء ، والنار ».

وأوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب وهي مركزُ العالم ، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء ، وتأتي بعد كل هذه الثلاثة كرة النار ، وكلٌ من هذه الكرات محيطة بالاُخرى ، وهنا ( اي وعند كرة النار ) تنتهي الكرات ، وتبدأ الاجسام الفلكية.

والمقصود من الأجسام الفلكيّة هيَ الافلاكُ التسعة الّتي تقع الواحدة فوق الاخرى وتحيط الواحدة بالاُخرى على هيئة قشور البصل ، وهي متصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها وهي غير قابلة للاختراق والالتئام ( اي الشق

__________________

١ ـ راجع وسائل الشيعة : ج ٧ ، كتاب صوم الوصال ، ص ٣٨٨ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إني لست كأحدكم ، أني اظل عند ربّي فيطعمني ويسقيني ».

٥٤٥

والالتحام ) والفصل والوصل ولا يستطيع أيّ شيء من اختراقها والتحرك فيها بصورة مستقيمة لأن ذلك يستلزم انفصام اجزاء الفلك.

من هنا يكون المعراج الجسماني مستلزماً لأن ينطلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مركز العالم ويصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابراً الكرات العنصرية الأربع ، ومخترقا الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر ، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم التحامها حسب نظرية بطلميوس وفرضيّته الفلكية.

وعلى هذا لا مناص من أن نعتقد بأن المعراج النبويّ كان معراجاً روحانياً ، اي ان روحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الّتي عرجت حتّى لا يمنع أيُّ جسم من عبورها وسيرها وصعودها إلى النقطة المطلوبة والغاية المرسومة.

الجواب :

ان هذا الكلام كان مقبولا وذا قيمة عند ما كانت هيئة بطلميوس وفرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الاوساط العلمية وكان هناك من يعتقد بها من صميم فؤاده.

ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن التلاعب بالحقائق القرآنية ، وتأويل صريح القرآن ونصوص الروايات.

أما الآن فقد فقدت أمثال هذه الفرضيات قيمتها ، وظهر للجميع بطلانها ، ولم يعد أحد يتحدث عنها ، إلاّ من باب ما يسمى بتاريخ العلوم.

فاليوم وبالنظر إلى كل هذه الأجهزة الفلكية والآلات الفضائية الدقيقة ، والتلسكوبات العملاقة ، وهبوط المركبات الفضائية المتعددة على سطح القمر والمريخ ، وعملية القيادة الفضائية على سطح القمر لم يعد مجال لهذه الفرضيات الخيالية.

فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون فكرة العناصر الأربعة والفلك المتّصل كقشرة البصل إلاّ جزءً من الاساطير.

فان العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية وأجهزة الرصد الدقيقة والعيون

٥٤٦

المسلحة من رؤية ، تلك العوالم الّتي حاكها وصنعها بطلميوس بقوة خياله ، من هنا فان أية نظرية تقوم على هذا الاساس غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة ، واعتبار.

نَغمةٌ شاذةٌ :

ولقد طلع مؤسس الفرقة الشيخية(١) « الشيخ احمد الاحسائي » في « الرسالة القطيفية » بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث أراد بابداء طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين ( القائلين بروحانية المعراج النبوي والقائلين بجسمانيته ) حيث قال : ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرج ببدنه البرزخي ( الهور قليائي )(٢) ثم استدل لذلك بقوله :

ان الصاعد كلّما صعد ألقى في كل رتبة من المراتب المذكورة ما فيها ، فمثلا إذا تجاوز كرة الهواء القى ما فيه من الهواء ، وإذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها وإذا رجع أخذ ما له من كرة النار ، وإذا وصل إلى كرة الهواء أخذ ما له من الهواء.

ومن هنا فانَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما عرج إلى السماء القى في كل كرة واحداً من تلك العناصر الأربعة في كرته ، وعرج ببدن فاقد لهذه العناصر.

ومثل هذا البدن لا يمكن ان يكون بدناً عنصرياً ، فليس هو الا البدن البرزخي ( الّذي أسماه الهور قليائي ) لا غير(٣) .

__________________

١ ـ لا شك أن هذه الفرقة وامثالها من الفرقة المبتدعة هي من صنائع الاستعمار أو هي مما يؤيده لتنفيذ أغراضه ، ومن حسن الحظ أن انتشار الوعي بين أبناء الامة الإسلامة حدَّ من نشاط هذه الفرق حتى انها أصحبت على أبواب الاندثار والانقراض نهائياً.

٢ ـ وهو البدن البرزخي الّذي يشبه البدن الّذي يفعل به الإنسان الافعال المختلفة في عالم النوم والرؤيا ويقوم بكل نوع من انواع النشاط.

٣ ـ تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على ٩٢ رسالة باسم جوامع الكلم الّتي طبعت عام ١٢٧٣.

ومع هذا التصريح يدّعي البعض ـ للتسترّ على خطأ الشيخ وزلته هذه ـ بأن الشيخ يعتقد بأن المعراج كان جسمانياً عنصرياً ، وأنه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.

٥٤٧

وبهذا ـ حسب تصوّره ـ أرضى من نفسه كلا الطرفين المذكورين ، لأنه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني ، وفي نفس الوقت تخلّص من اشكال « خرق الافلاك والتحامها » لأن نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي خَرق وانفصال في جدار الفلك.

ولكن هذه النظرية ـ كما هو واضح لكلّ عالِم متحرٍّ للحقيقة ، بعيد عن العصبية ـ واضحة البطلان كسابقتها ( نظرية المعراج الروحاني ) ، فمضافاً إلى انها مخالفة للقرآن وظاهر الاحاديث ، لأنّه ـ كما أسلفنا ـ لو عرضنا آية المعراج ( من سورة الاسراء ) على أيّ عارف باللغة ، مهما كانت وطلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال : ان مراد القائل هو البدن الدنيوي العنصري الّذي عَبّر عنه القرآن بلفظ العبد ، في قوله تعالى : « سبحان الّذي أسرى بعبده » ، وليس الهور قليائي الّذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ ، ولا يعرف أمثاله في ذلك اليوم أساساً ، في حين أنهم كانوا هم المخاطَبون في آية المعراج في سورة الاسراء لا غيرهم.

هذا مضافاً إلى أنَّ ما دفع بالشَيخ إلى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الاسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك ، حيث تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ ، وقد كذبها وفندها كلُ فلكييّ العالم اليَومَ ، وأعلنوا عن سخافتها.

فلا يجوز لنا أن نقلِّد تلك الفرضية تقليداً أعمى.

وإذا ما رأينا بعضَ القدماء من المشايخ قال بمثل هذا محسناً الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة وأمثالها امكن إعذارهم ، لعدم قيام ادلة علمية قوية على خلافها آنذاك.

اما اليوم فلا ينبغي لنا ان نتجاهل الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العلمية.

المعراج وقوانين العلم الحديث :

قد يتصور فريقٌ من الناس أن القوانين الطبيعية والعلمية الحاضرة لا تتلاءم

٥٤٨

مع معراج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لأنه :

١ ـ يقول العلم الحديث : إِنَّ الابتعاد عن الأرض يتطلب التخلّص من جاذبية الأرض ، وبعبارة اُخرى ابطال مفعولها.

فان ( الكرة ) الّتي نقذفها إلى الأعلى تعود مرة ثانية إلى الأرض بفعل الجاذبية ومهما كرّرنا قذف الكرة إلى الأعلى فانها تعود وترجع إلى الأرض أيضاً.

فاذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية الأرض ابطالا كاملا بحيث لا تعود الكرة المقذوفة إلى الأعلى إلى الأرض ثانيةً بل تواصل مسيرها إلى الأعلى فإننا نحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى جعل سرعة الكرة باتجاه معاكس للأرض تعادل ٠٠٠ / ٢٥ ميلا في الساعة.

وعلى هذا فان معنى المعراج هو ان يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج من محيط جاذبية الأرض ، واصبح في حالة انعدام الوزن.

ولكن ينطرح هنا سؤال وهو : كيف استطاع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يطوي بدون وسائل هذه المسافة بمثل هذه السرعة ، وهل البدن الطبيعي يتحمل مثل هذه السرعة مع عدم توفر الغطاء الواقي والوسائل اللازمة ، الّتي تصون الجسم من التبعثر والذوبان بفعل السرعة الفائقة.

٢ ـ إنّ الهواء القابل للاستنشاق غير موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيداً عن سطح الأرض ، بمعنى اننا كلما ذهبنا صعداً إلى الطبقات العليا وابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ ، حتّى يغدو غير قابل للاستنشاق ، وربما نصل إذا واصلنا الصعود إلى الأعلى إلى منطقة ينعدم فيها الهواء اللازم للتنفس بالمرة ، فكيف استطاع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد طي تلك المسافة الطويلة والبعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود الاوكسيجين؟!

٣ ـ إِنَّ الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية والشهب الكثيرة المتطايرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادَتهُ ، وأفنته ، ولكنها عندما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى وتصبح كالبودر ولا تصل إلى الأرض ، فيكون

٥٤٩

الغلاف الغازي في الحقيقة بمثابة درع يقي سُكّان الأرض من خطر تلك القذائف المهلكة.

ومع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصون نفسَه من تلك الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية؟!

٤ ـ إذا قلَّ ضغطُ الهواء على جسم الإنسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية ، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من الهواء ، لا يوجَد في الطبقات العُليا من الجوّ ، فكيف استطاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟!

٥ ـ إنَّ سرعة الحركة الّتي ساربها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة الّتي يسير بها النور ومع العلم بأنّ سرعة النور هي ٠٠٠ / ٣٠٠ كيلومتراً في الثانية ، مع العلم أيضاً أنه ثبت في العلم الحديث أنه لا يستطيع أيُّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور ، فكيف استطاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يسير بسرعة تفوق سرعة النور ، ومع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟!

جوابنا :

وجوابنا هو : أننا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز عدد الاعتراضات والاشكالات ما ذكرناه آنفاً.

ولكننا نقول في جواب هذا الفريق متساءلين : ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية.

هل تريدون القول بأن السير في العوالم العليا أمرٌ غير ممكن ، وممتنع ذاتاً وبالتالي أنه أمر محال.

فاننا نقول ـ حينئذ ـ في الجواب على ذلك بان الجهود والتحقيقات العلمية الّتي بذلها علماء الفضاء في الشرق والغرب قد جعلت هذا الأمر ـ ولحسن الحظ ـ أمراً ممكناً ، وعادياً ، لأن مع اطلاق أوّل قمر اصطناعي عام ( ١٩٥٧ م ) إلى السماء

٥٥٠

والّذي اسماه علماء الفضاء ب‍ « اسپوتنيك » اتضح أنه يمكن إبطال مفعول جاذبية الأرض بواسطة الصاروخ ، كما أن إرسال السفن الفضائيّة الحاملة لروّاد الفضاء من البشر بواسطة الصاروخ أوضح أنَّ ما كان يَعِدّه البشر مانعاً من الصعود إلى الأعلى في الفضاء قد أصبح قابلا لرفعه وإزالته ، والتخلّص منه بيد العلم والتكنولوجيا.

إن البشر استطاع بأدواته وآلاته العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة الشهب والنيازك المتطايرة في الجوّ ومشكلة الاشعة الفضائية ، ومشكلة إنعدام الغاز اللازم للتنفس و و وهاهو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ وان العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنهم سرعان ما يتمكنون من مدّ بساط الحياة والعيش في إحدى الكرات السماوية والسفر إلى إحدى الكواكب كالقمر والمريخ بِسهولة كبرى!(١)

إنَّ هذه الأحداث العلمية وهذا التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء شاهدٌ قويٌّ على أنّ هذا العمل أمر ممكن مائة بالمائة ، وليس من الاُمور المستحيلة.

وإذا كان مقصود المعترضين على المعراج هو انه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة وتكنولوجية ، ولم يكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة فكيف طوى تلك المسافات وطاف

__________________

١ ـ بعد اطلاق الاقمار والسفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء ابريل عام ١٩٦١ بدأ الضابط الروسي جاجارين ( ٢٧ سنة ) رحلته الفضائية في سفينة فضائية ، وكان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية ، وابتعدت سفينته ٣٠٢ كيلومتراً عن سطح الأرض ، ودارت دورة واحدة حول الكرة الارضية في ساعة ونصف.

وبعد ذلك أقدمت أمريكا والاتحاد السوفيتي على ارسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزوالقمر حتّى حطّت « أپولو » الحاملة ل‍ ١١ رائداً فضائياً على سطح القمر لأوّل مرّة ، وكان هذا أوّل مرة يحط فيها انسان قدمه على ارض القمر.

وقدتكررت تجربة هذا البرنامج الفضائي فيما بعد مرات ومرات وكانت ناجحة على الاغلب. وكل هذه الجهود والنتائج تكشف عن أن هبوط الإنسان على سطح الكرات والكواكب أمرٌ ممكن ، وما يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بارادته النافذة.

٥٥١

على جميع تلك العوالم من دون أدنى وسيلةِ نقل من هذا القبيل؟!

فاننا نقول في معرض الاجابة على اعتراضهم هذا بأن جواب هذا الاعتراض يتضح من الابحاث الّتي سبقت منا حول معاجز الأنبياء وخصوصاً بحثنا المفصَّل حول حادثة عام الفيل وهلاك جيش أبرهة العظيم بالأحجار الصغيرة ، لأنه من المسلَّم أنَّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات والآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعلَه بعناية اللّه تعالى ، وإقداره وبدون الأسباب الظاهرية والخارجية.

لقد عرج رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء بعناية وباقدار اللّه الّذي خلق الوجود كله ، واقام هذا النظام البديع برمته ، فهو الّذي أعطى للأرض جاذبيتها ، وأعطى للشمس أشعتها وأوجد مختلف طبقات الهواء ، وأنواع الغازات في الجوّ ، ومتى أراد أخذَها وانتزاعها منها ، أو كبح جماحها ، وردّ عاديتها.

فاذا تحقق معراج النبيّ الاكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظلّ العناية الآلهيّة فانّ من المسلَّم ان جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة ، وارادته الغالِبة ، وهي طوع إرادته ، والسماوات والأرض مطويّات بيمينه والجميع في قبضته ورهن اشارته دائماً وأبداً ، وفي كل حين وأوان.

وعلى هذا فماذا يمنع من أن يعمل اللّه الّذي منح للأرض جاذبيتها ، وللأجرام السماوية أشعتها ، على إخراج عبده المصطفى بقدرته المطلقة ومن دون الاسباب الظاهرية ، من مركز الجاذبية الأرضيّة ، ويصونه من أخطار الاشعة الكونية ، وأن يعمد خالق كل هذا القدر الهائل من الاوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات الّتي ينعدم فيها الهواء ، وهذا هو معنى قولهم : « إنَّ اللّه مسبِّبُ الأسباب ومعطِّلُ الأسباب ».

ان أمر المعجزة يختلف ويفترق أساساً عن أمر العلل الطبيعية والقدرة البشرية.

ونحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه المطلقة بقدرتنا المحدودة ، فاذا كنّا لا نقدر

٥٥٢

على شيء من دون الأسباب لم يصحَ أن نقول : ان القادر المطلق لا يقدر على مثله من دون الاسباب الطبيعية أيضاً.

إنَّ إحياء الموتى ، وقلب العصا إلى ثعبان ، وإبقاء يونس حيّاً في بطن الحوت ، في قعر البحار ، مما صدّقته جميع الكتب السماوية ونقلته إلينا لا تقلّ إشكالا ولا تختلف جواباً عن قصة المعراج النبوي

وخلاصة القول : ان جميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرةٌ لِلّه تعالى خاضعة لارادته ، مطيعةٌ لأمره وارادته يمكن تعلّقُها بكلّ شيء إلاّ بالأمر المحال ، وأما غيرذلك أي ما يكون ممكناً بالذات مهما كان ، فانّهُ قابلٌ لأن يتحقق في ظل ارادة اللّه ومشيئته سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر.

على أن حديثنا هذا موجَّهٌ إلى مَن آمن باللّه ، وعرف ربّه بصفاته الخاصة به تعالى ، وبالتالي آمن باللّه الأزليّ على أنّه القادر على كلّ شيء.

الهدفُ من المعراج :

لقد بيّنت الاحاديث ـ بعد الآيات ـ الغرض من المعراج واليك طائفة من هذه الاحاديث.

١ ـ يقول ثابت بن دينار سألت الامامَ زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام عن اللّه جلّ جلاله هل يوصَف بمكان فقال : « تعالى اللّهُ عَن ذلِكَ ».

قلت : فلم اسرى بنبيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء؟

قال : « لِيُريَهُ مَلكوتَ السماوات وما فيها من عجائب صنعِهِ وبدائع خلقه ».

٢ ـ وقال يونس بن عبد الرحمان قلت لأبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام لأيّ عِلة عرج اللّهُ بنبيّه إلى السماء ومنها إلى « سدرة المنتهى » ، ومنها إلى « حجب النور » وخاطبه وناجاهُ هناك واللّه لا يوصف بمكان؟(١) .

فقالعليه‌السلام : « إنَّ اللّه لا يُوصَفُ بمكان ولا يَجري عليهِ زمانٌ ، وَلكنَّهُ

__________________

١ ـ علل الشرائع : ص ٥٥ ، البحار : ج ١٨ ص ٣٤٧ و ٣٤٨. تفسير البرهان : ج ٢ ، ص ٤٠٠.

٥٥٣

عزوجل أرادَ ان يُشَرِّف به مَلائِكته ، وسكانَ سَماواتِه ، ويكرِّمَهُم بمشاهدته ، وَيُريَه من عجائب عظمته ما يخبر بهِ بَعدَ هُبُوطِه ، وليسَ ذلِكَ على ما يَقُولُه المشبّهون سبحانَ اللّهِ تعالى عَمّا يَصِفُون »(١) .

أجل يجب أن يكون لرسول الإسلام وخاتم الأنبياء مثل هذا المقام العظيم ومثل هذه المنزلة السامقة ، ليقول للبشرية العائشة في القرن العشرين ، والّتي أصبحت تفكر في الهُبوط على « المريخ » و « الزهرة » وغيرها من الانجم البعيدة :

بانني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة ، وانَّ ربّي قد مَنَّ عليّ وعرّفني على نظام السماوات والأرض ، وأطلَعَني بقدرته وبعنايته على أسرار الوجود ، ورموز الكون.

__________________

١ ـ علل الشرائع : ص ٥٥. البحار : ج ١٨ ، ص ٣٤٧ و ٣٤٨. تفسير البرهان : ج ٢ ، ص ٤٠٠.

٥٥٤

٢٣

سفرة إلى الطائف

انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، فان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله ، ففي البداية فقد كبير بني عبد المطلب وسيدهم ، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الإسلامية والذابّ بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية ، والشخصية الاولى في قريش اعني « أبا طالب »عليه‌السلام .

ولم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إلاّ وفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة ، السيدة خديجة الكبرى الّتي جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية(١) .

لقد حامى أبو طالب ودافع عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحافظ على حياته وسلامته ومكانته ، وبينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الإسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.

من هنا سمى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك السنة بعام الحداد ، أو

__________________

١ ـ جاء في تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٣٠١ انه قيل بأن « خديجة » توفيت بعد « أبي طالب » بشهر وخمسة أيام ، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل ج ٢ ، ص ٦٣ إلى أن السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب ، لا بعده.

٥٥٥

الحزن(١) .

ومنذ أن توفّى اللّه الحاميين العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظروفاً صعبة جداً قلما واجهها من قبل.

فقد واجه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ حلول السنة الحادية عشر جوّاً مفعماً بالعداء له ، والحقد عليه ، وصارت الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة ، وقد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة وكل امكانات الدعوة إلى دينه.

يقول ابن هشام في هذا الصدد : ان « خديجة بنت خويلد » و « أبا طالب » هلكا ( اي توفيا ) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام وبهُلك عمّه أبي طالب وكان له عضداً ، وحرزاً في أمره ، ومنعةً وناصراً على قومه وذلك قبل هجرته الى المدينة بثلاث سنين ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً.

ولما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك التراب دخل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لها :

« لا تبكي يا بُنيَّة فإنَّ اللّهَ مانع أباك ».

ويقول بين ذلك :

« ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ حتّى مات أبو طالب »(٢) .

ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينتقل

__________________

١ ـ تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٣٠١ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٧.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤١٥ و ٤١٦ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٥ عن إعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.

٥٥٦

من المحيط المكي إلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته.

وحيث انَّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزاً هامّاً ، لذلك رأى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يسافر لوحده إلى الطائف ، ويجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب انصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق.

ولما انتهىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف عمد إلى نَفَر من قبيلة « ثقيف » هم يومئذ سادة ثقيف واشرافهم ، وجلسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، ودعاهم إلى اللّه ، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : لئن كنتَ رسولا من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أردَّ عليك الكلام ، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي ان اكلمك!!

فعرف رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رَدّهم الصبياني أنهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناقِ الإسلام ، فقامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عندِهِم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ ثقيف فيتجرأوا عليه ويتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته ، ومن ثم إيذائه ، فوعدوه بالكتمان ، ولكنهم ـ وللاسف ـ لم يحترموا وعدهم هذا الّذي أعطوه لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وفجأة وجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه محاطاً بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتّى اجتمع الناس ، وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة إبني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل فجلس فيه وهو يتصبب عرقاً ، وقد الحقوا الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان مالقي من سفهاء أهل الطائف ، وقد كانا من اثرياء قريش ، يومئذ.

فلما اطمأن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجه إلى ربه وناجاه قائلا :

« أللّهُمَّ إلَيكَ أشكُو ضَعفَ قُوَّتي ، وَقِلَّةَ حِيلَتي ، وَهَواني عَلى النّاسِ ، يا أرحَمَ الرّاحِمين ، أنتَ رَبُّ المُستَضعَفِين ، وَأنتَ رَبّي ، إلى مَن تكِلُني ، إلى

٥٥٧

بعيِد يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عَدُوّ ملكتَهُ اَمري؟

إن لَم يَكُن بِكَ عَليَّ غَضَبُ فَلا اُبالِي ، وَلكِ ، عافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي.

أعُوذُ بِنُورِ وَجهك الّذي اشرقت لَهُ الظُّلماتُ ، وَصَلُحَ عَليهِ أمرُ الدُّنيا وَالآخِرَة مِن أن يَنزِلَ بِي غَضَبُكَ ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك.

لَكَ العُتبى حتّى تَرضى ، وَلا حولَ وَلا قُوّةَ إلاّ بِكَ »(١) .

هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرماً في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق واخلاص ودفعوا عنه كل اذى ولكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتّى يلجأ إلى حائط عدوٍّ من اعدائه ، ويجلس في ظل شجرة ، مكروباً موجَعاً ينتظر مصيره.

فلما رآه إبنا ربيعة « عتبة وشيبة » وكانا من الوثنيين ومن أعداء الإسلام وشاهدوا مالقي من الأذى والعذاب ، رَقّا لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى يقال له « عداس » فقالا له : خذ قطفاً من العنب فضَعهُ في هذا الطبق ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ، ثم أقبل بالعنب حتّى وضعه بين يدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال له : كل ، فلما وضع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه يده قال : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ».

فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال : واللّه إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومِن أهل أي البلاد أنتَ وما دينك؟

قال : أنا نصراني ، من أهل نينوى.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.

فقال له عداس : وما يدريك ما ( من ) يونس بن متى؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ ، أنا رسول اللّه ،

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٠.

٢ ـ وفي رواية البحار : ج ١٩ ، ص ٦ جملة اعتراضية هنا : ـ وكان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه ـ.

٥٥٨

واللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.

فأكبَّ عداس على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق ، وجعل يقبّل رأسَه ويديه ، وقدميه ، وهما تسيلان من الدماء وآمن به ، ثم عاد بعد الاستئذان منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صاحبيه في البستان.

فتعجب ابنا ربيعة لِما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب ، وسألاه قائلين : ويلك يا عداس ما لك قبَّلت رأس هذا الرجل ، ويديه وقديمه وماذا قال لك؟!

فاجابهما الغلام قائلا : يا سيدَيَّ ما في الارض شيء خيرٌ من هذا ، هذا رجلٌ صالح لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبيُّ.

فشقَّ كلامُ عداس على إبني ربيعة ، وقالا له بنبرة الناصحّ له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك فان دينَك خير من دينه!!(١)

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود إلى مكة :

انتهت ملاحقةُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلجوئه إلى حائط ابني ربيعة ، وكان عليه الآن ، وبعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود إلى مكة ، ولكنَّ عودته إلى مكة لم تكن لتخلو عن مشاكل ، لأنه قد فقد نصيره وحاميه ومدافعه الاكبر والا وحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون ويسفكوا دمه.

فقررصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يبقى في منطقة « نخلة » ( وهي واد بين الطائف ومكة ) بعض الوقت.

لقد كان يريد أن يرسل أحداً إلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتّى يدخل مكة بجوار ، ولكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك « نخلة » إلى حراء ، وهناك التقى رجلا خزاعياً وطلب منه أن

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤١٩ ـ ٤٢١ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦ و ٧ و ٢٢ مع اختلاف يسير.

٥٥٩

يأتي « المطعم بن عدي » بمكة ، وكان من الشخصيات المكية البارزة ويسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش وكيدها.

فدخل الخزاعيّ مكة ، وأبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبل المطعم ـ رغم كونه وثنياً مشركاً ـ ان يجير رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال للخزاعي : ائته فقل له : إني قد أجرتك فتعال.

فدخل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة ليلا ونزل في بيت مطعم مباشرة ، وبات ليلته هناك ، ولما طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا ، فاصحبنا إلى البيت ، ليروا جوارنا.

فاستحسن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيه فاخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد الحرام ، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.

وكان أبو سفيان قد كمن للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكيد به ، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً ، وانصرف عن ايذاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجلس المطعم وولده واختانه واخوه ، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله.(١) .

ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتّى هاجر رسول اللّه صلى الله عليه

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٨١. بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٧ و ٨. ويستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك ، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك وذكر لذلك ادلة ووجوها.

ولكن يمكن الاجابة على هذا بأن الاجارة كانت امراً عادياً في ذلك العصر ، ولم يكن فيها ما يوجب شيناً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تستلزم منة عليه.

ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا ، كتمكين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدخول بسلام إلى مكة ، وتمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية ، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إلاّ يوماً أو بعض يوم وتسنّى بعده لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترتيب اوضاعة في مواجهة الاخطار الّتي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694