سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله11%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358106 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

طبعاً لا يمكن إنكار حضارة « سبأ ومأرب اليمن » العجيبة لأنه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة ، وما نُقِلَ عن « هيردوتس » وغيره ، كتبَ المؤرخ المعروفُ « المسعودي » عن مأرب يقول : إن ارض سبأ كانت من أخصب أراضي اليمن وأَثراها وأغدقها ، واكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً ، بين بُنيان وجسد مقيم وشجر موصوف ومساكب للماء متكاثفة ، وأنهار متفرقة ، وكانت مسيرة اكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال ، وفي العرض مثل ذلك ، وانّ الراكب أو المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس ، ولا يفارقه الظِلُ لاستتار الارض بالعمارة والشجر واستيلائها عليها واحاطتها بها ، فكان أهلها في اطيب عيش وارفهه ، وأهنا حال وارغده ، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء ، وتدفُّق المياه وقوة الشوكة ، واجتماع الكلمة ، ونهاية المملكة فذلّت لهم البلاد ، واذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض(١) .

وخلاصة القول أن هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية وخاصة منطقة الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً ، حتّى أن « غوستاف لوبون » نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول : « ان جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية ، وإن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها »(٢) .

وعلى فرض صحة كل ما قيلَ عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلَّم في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز ، إبان طلوع الإسلام ، وبزوغ شمسه ، وهي حقيقة يصرح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى : « وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفرَة مِنَ النّار فأنقَذكُمْ مِنْها »(٣) .

__________________

١ ـ مروج الذهب : ج ٢ ، ص ١٦١ و ١٦٢.

٢ ـ حضارة العرب : ص ٩٣.

٣ ـ آل عمران : ١٠٣.

٤١

وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا ـ كما وعَدْنا بذلك ـ فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقة متناهية وبشمولية ماوراءها شمولية.

ملامح المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن :

إن القرآن يكشف إجمالا عن أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بُعِثَ إلى قوم لم يبعث اليها احد قبله إذ يقول : «وَلَكِنْ رَحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبْلكَ لَعلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ »(١) .

ويقول في آية اُخرى : «أمْ يَقُولونَ افتراه بَلْ هُوَ الحقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذرَ قوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدونَ »(٢) .

ومن المعلوم أن المقصود في هاتين الايتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة اليها.

على أن أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى : «وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »(٣) .

فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب تصويراً مرعباً ، إذ تُصوِّرُهُمْ اولا وكأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية ، والضلال والشقاء فلا ينقذهم شيء من قعر التردي والسقوط الاّ التمسُّك بحبل اللّه ، حبل الإيمان والقرآن.

وتصوِّرُهُمْ ثانياً وكأَنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه ، وليست تلك النار إلاّ نيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لاُحرقت حياة العرب جميعاً.

هذه هي صورةٌ سريعةٌ عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وسقوط.

وامّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاُخرى التي

__________________

١ ـ القصص : ٤٦.

٢ ـ السجده : ٣.

٣ ـ آل عمران : ١٠٣.

٤٢

تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم ، وأفعالهم وتقاليدهم ، بصورة مفصلة ، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والاخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال آخر.

لقد اتصف المجتمعُ العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها ما يلي :

١ ـ الشِرْكُ في العِبادة :

صحيح أن العرب في الجاهلية كانت ـ كما يكشف القرآن ذلك لنا ـ موحِّدة في جملة من الامور والمجالات كالخالقية والتدبير والذات(١) إلاّ أنهم كانوا ـ في الأكثر ـ مشركين في العبادة ، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطَّ المستويات في إتخاذ المعبودات والوثنية.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «وَجَعلُوا للّه شُركاء الجِنَّ وَخَلَقهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِيْنَ وَبَنات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحانَه وتعالى عَما يَصِفُونَ »(٢) .

وقوله تعالى : «أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعزّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الاُخْرى »(٣) .

وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط ، واسفاف وانحراف في هذا المجال.

٢ ـ إنكارُ المعاد :

كان المشركون والجاهليون يرفُضُون الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب والجزاء ، ويصفون من يخبر عن ذلك

__________________

١ ـ نعم يُستَفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى : «وَقالوا ما هي إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ وَنَحيا وَما يُهلِكُنا إلاّ الدَهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مَنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ » ( الجاثية : ٢٤ ).

٢ ـ الأنعام : ١٠٠.

٣ ـ النجم : ١٩ و ٢٠.

٤٣

اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!!

يقول تعالى : «وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلى رَجل يُنبِّئكُمْ إذا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إنَكُمْ لفي خَلق جَديد ، وأفْترى عَلى اللّه كَذِباً أمْ به جِنَّةٌ بَلِ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة في الْعذابِ وَالضَّلالِ البِعيْد »(١) .

٣ ـ هَيْمَنةُ الخرافات :

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام اربعة ذكرها القرآن مندداً بهذه البدعة إذ قال : «ما جَعَل اللّهُ مِنْ بَحيرة ولا سائبة وَلا وَصيْلَة وَلا حام ولكنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَفْترونَ عَلى اللّهِ الكِذبَ وأكثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ »(٢) .

أمّا ( البحيرة ) بوزن فعِلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق ، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها اُنثى ـ وقيل ذكر ـ بحروا اُذنها وشقوها ليكون ذلك علامة وتركوها ترعى ، ولا يستعملها أحد في شيء.

وأمّا ( السائبة ) على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطناً ـ وقيل عشرة ـ فهي تُهمَل ولا تُركب. ولا تمنع عن ماء ، ولا يشرب لبنها الاضيف.

وأمّا ( الوصيلة ) بوزن فعيلة بمعنى فاعلة أوبمعنى مفعولة فهي الشاة تنتج سبعة أبطن أو تنتج عناقين عناقين.

وأمّا ( الحامي ) بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفَحل من الإبل الّذي يستخدم للقاح الاُناث ، فاذا وُلدَ من ظهره عشرة ابطن قالوا : حُمِي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يُمنع من ماء ومرعى(٣) .

والظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام

__________________

١ ـ سبأ : ٧ و ٨.

٢ ـ المائدة : ١٠٣.

٣ ـ راجع مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٢٥٢ و ٢٥٣ في تفسير الآية.

٤٤

والشكر لما وهب أصحابها من النعم والبركات ، غير ان هذا العمل ـ كان في حقيقته ـ نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه الحيوانات ، لأنهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها ، وتقاسي من الحرمان ، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع ، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر والخسارة.

والأسوأ من كل ذلك أنهم ـ كما يُستفاد من ذيل الآية ـ كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر إلى اللّه سبحانه وتعالى ، إذ يقول سبحانه : « وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللّه الكذبَ » وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم مِن هذه الاشياء شيئاً ، وأنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.

وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول : «ويَضَعُ عَنْهُمْ إصرَهُم والأغلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ »(١) .

٤ ـ الفساد الاخلاقي :

كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز وسائل الفساد ومظاهره هما : القمار ( الّذي كانوا يسمّونه بالميسر وانما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ) والخمر.

وقد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن قبول الإسلام واعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر وشربه ، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب.

يقول القرآنُ في هذا الصعيد : «يَسأَلونَكَ عَن الخَمْر والمَيْسر قُلْ فيها إثمٌ كبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس وَإثمُهما اكبرُ مِنَ نفْعِهما »(٢) .

وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة

__________________

١ ـ الأعراف : ١٥٧ وراجع المحبر : ص ٣٣٠ ـ ٣٣٢.

٢ ـ البقرة : ٢١٩.

٤٥

التي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك القوم ، حتّى اصبحت السمة البارزة لحياتهم واصبح التغنّي بالخمرة ، ووصفها الطابع الغالب لآدابهم ، واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم واشعارهم.

على أن الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربّي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر ، ومزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً ، حيث عدّ منها الزنا ، واللوط ، والقذف ، وإكراه الفتيات على البغاء وماشا كل ذلك(١) .

٥ ـ وَأدُ البنات وإقبارُهن :

ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة جاهلية سيئة اُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت حيةً.

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة وهذا العمل اللانساني ونهى عنه بشدة في اربعة مواضع ، إذ قال تعالى : «وَإذا المَوؤدةُ سُئلتْ. بأيّ ذَنب قُتِلَتْ »(٢) . وقال تعالى : «وَلا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خَشيَةَ إمْلاق نَحْنُ نَرزقُهُمْ وَإياكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كبيراً »(٣) .

وقد اتى جدُ « الفرزدق » « صعصعة بن ناجية بن عقال » رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين وثمانين موؤدة في الجاهلية ، وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله.

وقد افتخر « الفرزدق » بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير من شعره إذ قال :

ومنّا الّذي منَع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يُوأد(٤)

____________

١ ـ راجع للوقوف على ذلك سورة النساء : ١٥ و ١٦. وسورة النور : ٢ و ٣ وغيرها. وراجع المحبر : ص ٣٤٠.

٢ ـ التكوير : ٨ و ٩.

٣ ـ الإسراء : ٣١.

٤ ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٤٥ و ٤٦.

٤٦

٦ ـ تصوراتهم الخرافية حول الملائكة :

وممّا اشار إليه القرآن الكريم تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة ، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث وأنهن بنات اللّه ، إذ يقول تعالى : «فَاستَفْتِهِمْ ألرَبِّكَ البَناتُ وَلَّهُمْ البَنُونُ. امْ خَلَقْنا الْمَلائكَةَ إناثاً وَهُمْ شاهِدونَ. ألا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللّهُ وَإنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أصطفى البَناتِ عَلى البَنينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ »(١) .

٧ ـ كيفية الانتفاع من الانعام :

إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها وأصوافها إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم ، والميتة والخنزير ، وتأكل من الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية ، وبالتعذيب والأذى ، وربما كانت تعتبر ذلك نوعاً من العبادة ، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم ، وتحرّم تناولها ، إذ يقول سبحانه : «حُرِّمتْ عَليْكُمُ الميْتَة والدَّمُ وَلَحمُ الْخِنْزيرِ وَما اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَالمُنخَنقةُ والموقوذةُ والمتردِّيةُ والنَطيحةُ وَما اكَلَ السَبُعُ إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ عَلى النُصُب وأن تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ »(٢) .

فقد حرم اللّه في هذه الآية اكل :

١ ـ الميتة.

٢ ـ الدم.

٣ ـ لحم الخنزير.

٤ ـ ما ذكر اسم غير اللّه عليه.

٥ ـ الّتي تموت خنقاً ، وهي المنخنقة.

__________________

١ ـ الصافّات : ١٤٩ ـ ١٥٤.

٢ ـ المائدة : ٣.

٤٧

٦ ـ الّتي تضرب حتّى تموت ، وهي الموقوذة.

٧ ـ الّتي تقع من مكان عال فتموت وهي المتردية.

٨ ـ الّتي تموت نطحاً من حيوان آخر وهي النطيحة.

٩ ـ ما افترسه سبع إلا إذا ذُكي قبل موته.

١٠ ـ وما ذُبِح أمام الاصنام.

٨ ـ الاستقسام بالازلام :

فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام ، والأزلام جمع ( زلم ) بوزن ( شَرَف ) وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة.

فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم يذبحونه ، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا يكتبون على ثلاثة منها شيئاً ، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد اُخرى ، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم ، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم(١) ، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله : «وأن تَستَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ » لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار.

٩ ـ النسيء :

كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الاشهر الحرم ( وهي اربعة المحرم ورجب وذوالقعدة وذوالحجة ) فكانوا يتحرجون فيها من القتال ، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم واسماعيلعليهما‌السلام .

الاّ أنَ سَدَنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمَدُون أحياناً ، ولقاء مبالغَ يأخذُونها ، أو جرياً مع أهوائهم ، إلى تأخير الاشهر الحُرمَ ، وهو الأمر الّذي عبّر

__________________

١ ـ راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب : ج ٣ ، ص ٦٢ و ٦٣ ، والمحبر : ص ٣٣٢ و ٣٣٥.

٤٨

عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال : «إنّما النّسيء زيادةٌ في الكُفْر يُضَلُّ به الَّذينَ كَفرُوا يُحِلونَهُ عامَاً وَيحرِّمُونهُ عاماً ليُواطئوا عدَّة ما حَرَّمَ اللّه فيحلّوا ما حَرَّمَ اللّه زيِّنَ لهُم سوء أعْمالِهمْ واللّه لا يهدي الْقومَ الْكافِرينَ »(١) .

وقد ذكرت كُتُب التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم ، الّذي كان يتم بصورة مختلفة منها : أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة والقتال ولم تطق تاخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة ، لقاء ما تقدمه لهم من هدايا واموال ، تجويز الغارة والقتال في شهر محرم ، وتحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم ( وهي اربعة ). وهذا هو معنى قوله تعالى : «ليُواطِئوا عدةَ ما حَرَّمَ اللّهُ » وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرم من سنة حَرَّمُوه في المحرم مِنَ السَنة التالية ، وهذا هو معنى قوله تعالى : «يُحلُّونَهُ عاماً ، ويُحرِّمُونِه عاماً ».

١٠ ـ الربا :

وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من المفاسد الشائعة ، والأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام : « الربا » الّذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع.

وقد حاربَ القرآنُ الكريمُ هذه العادة المقيتة ، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً شعواء ، إذ قال تعالى : «يا أيّها الَّذينَ آمَنُوا اتّقوا اللّهَ وَذَرُوا ما بقيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ. فَإنْ لَم تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرب مِنَ اللّهِ وَرَسُولِه وانْ تُبْتُمْ فَلكُمْ رُؤُوسُ اموالِكُمْ لا تَظْلِمونَ وَلا تظْلَمُونَ »(٢) .

والعجيب أنهم كانُوا يُبّررونَ هذا العمل اللإنساني بقولهم «إنّما البيعُ مِثلُ الرِّبا »(٣) فاذا كان البيعُ حلالا وهو اخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا ، فإنه أخذٌ وعطاء أيضاً ، مع أن « الرّبا » من ابشع صور الاستغلال ، وقد ردَّ

__________________

١ ـ التوبة : ٣٧.

٢ ـ البقرة : ٢٧٨ و ٢٧٩.

٣ ـ البقرة : ٢٧٥.

٤٩

سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى : «وأَحلَّ اللّه البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا »(١) ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل ، بينما لا يتضرر المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً ، ولهذا تنمو المؤسسات الربوية ، ويعظم رصيدُها ، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً ، ولا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدُّ جوعته ، ويقيم اوده ، لا اكثر ، كلُ ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل.

صورٌ من الوضع الجاهلي

ما قدمناه كان أبرز المفاسد الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي اشار اليها القرآن الكريمُ ، وأما التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردي حالة العرب الجاهلية وسقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات.

واليك في ما يلي نماذج وصور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر واوثقها :

وها نحن نقدم قصة « أسعد بن زرارة » الّتي تسلط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز ، فقد قدم « أسعد بن زرارة » و « ذكوان بن عبد قيس » ـ وهما من الأوس وكان بين الاوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم « يوم بُعاث » وقد انتصر فيها الأوسُ على الخزرج ـ مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس ، وكان اسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال : انه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال له عتبة : إن لَنا شغلا لا نتفرّغ لشيء. قال سعد : وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة : خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا وأفسدَ

__________________

١ ـ البقرة : ٢٧٥.

٥٠

شُبّاننا ، وفرّق جماعَتَنا ، فقال له أسعد : مَنّ هو منكم؟ قال : ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان ، وجميع الاوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم : النضير وقريظة وقينقاع ، أن هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب ، فلما سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من اليهود ، قال : فأينَ هو؟ قال : جالس في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصَرة بني هاشم في شعب أبي طالب ، فقال له « أسعد » : فكيف أصنعُ وأنا معتمر لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال : ضعْ في اُذنيكَ القطنَ ، فدخل « أسعدُ » المسجد وقد حشا اُذُنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهلَ مني؟ أيكونُ مثل هذا الحديث بمكة فلا اتعرّفه حتّى ارجع إلى قومي فاخبرهم ، ثم أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه : أنعَمْ صباحاً ، فرفع رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إليه وقال : قد أبدَلَنا اللّه به ما هو احسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم ، قال له أسعد : ( إنّ عهدَك بهذا لقريب ، إلى ما تدعُو يا محمَّد؟ قال : إلى شهادة ألاّ إله إلاّ اللّه ، واني رسولُ اللّه ، وأدْعُوكُمْ إلى : «ألاّ تشركوا بِه شَيئاً وَبِالوالِدَينِ إحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاق نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وإيّاهُمْ وَلا تَقْرَبوا الفواحِشَ ما ظَهرَ منها وما بطَنَ وَلا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالحَقِّ ذلِكمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعلكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَلا تَقرَبُوا مالَ اليتيم إلاّ بِالَّتي هي أَحسنُ حَتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وَأوْفُوا الكيلَ وَالْميزان بِالقِسْطِ لانُكَلِّفُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها وإذا قلتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذاقربى وَبِعَهْدِ اللّه أوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُونَ »(١) .

__________________

١ ـ الأنعام : ١٥١ و ١٥٢.

٥١

فلما سمع « أسعد » هذا قال له : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنك رسولُ اللّه ، يا رسول اللّه بأبي أنت واُمي(١) .

إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الاخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الادواء والامراض ليلفت نظر « أسعد » إلى أهداف رسالته الكبرى.

العقيدة والدين في الجزيرة العربية :

عند ما رفع « إبراهيم الخليل » لواء التوحيد في البيئة الحجازية ، واعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه « اسماعيل » ، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه به قلوبهم ، الاّ انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع ، ويؤلف صفوفاً متراصة ، وجبهة عريضة قوية من الموحدين ، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر ، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام ٢٠٦ هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان « بنومليح » من خزاعة يعبدون الجن وكانت « حمير » تعبد الشمس ، و « كنانة » تعبد القمر ، و « تميم » الدبران ، و « لخم » و « جذام » المشتري ، و « طي » سُهيلا ، و « قيس » الشِعرى ، و « أسد » عطارداً.

أما الدهماء والذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون ـ مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة ـ ثلاثمائة وستين صنماً ، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها.

وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكة بعد « إبراهيم الخليل »

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨ و ٩ ، اعلام الورى : ص ٣٥ ـ ٤٠.

٥٢

عليه‌السلام على يد « عمرو بن لحي » ، ولكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم ، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة ، وأنها بالتالي آلهة وأرباب.

وكانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية ، ولكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط ، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها أماكن وبيوت خاصة ، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.

أما الآصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة ، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً.

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها ، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره ، وإذا ارتحل تركه.

وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم ، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها ، ويمكن أن تكون هذه هي « الأنصاب » الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان ، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة ، وأما « الأصنام » فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان.

لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً ، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها ، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا ، وكانوا يستشيرونها في مهام امورهم ، وجلائل شؤونهم ، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي

٥٣

( الأمر والنهي ) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها ( إفْعَلْ ) وعلى بعضها الآخر ( لا تَفْعَلْ ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك.

وخلاصة القول ، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية ، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوعة ومتعددة ، وكانت الكعبة المعظمة ـ في الحقيقة ـ محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة ، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم ، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (٣٦٠) صنماً في مختلف الاشكال والهيئات والصور ، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة ، وقصّة ابراهيم.

وكان من جملة تلك الأصنام : « اللات » و « العُزّى » و « مناة » الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش.

وكانت « اللات » تعتبر اُمُّ الالهة ، وكان موضعها بالقرب من « الطائف » وكانت من الحجر الابيض ، واما « مناة » فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين « مكة » و « المدينة ».

ولقد اصطحب « ابوسفيان » معه يوم « اُحد » : « اللات » و « العزّى ».

ويروى انه مرض ذات يوم « أبو أُحيحة » وهو رجل من بني اُمية ، مرضه الّذي مات فيه ، فدخل عليه ابولهب يعوده ، فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك يا با احيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال : لا ولكني اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي! قال ابولهب : واللّه ما عُبدَت حياتك ( اي لا جلك ) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو اُحيحة : الآن علمتُ ان لي خليفة(١) .

ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان اعظمها « هُبَل » ، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنماً خاصاً بها

__________________

١ ـ الأصنام للكلبي : ص ٢٣.

٥٤

مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب ، والشمس ، والقمر ، والحجر ، والخشب ، والتراب ، والتمر ، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل ، والهيكل ، والاسم ، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد.

لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب ، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين ، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها ، وتقبر جسده على مقربة من المذبح.

هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أن ارض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت مسرحاً للاصنام ومستودعاً ضخماً للاوثان ، وكيف تحولت هذه البقعة من العالم ببيوتها وازقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن للنُصُب المؤلَّهة ، والتماثيل المعبودة ، ويتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي اسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء والعدّ ، إذ قال :

أَرَبّا واحِداً أمْ ألف رَب

أدينُ إذا تقسَّمَتِ الاُمورُ

عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً

كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها

ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ

ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً

لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ

ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي

لِيَغْفِرَ ذَنبِي الربُّ الغفُورُ(١)

وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة ، تناقضاتٌ ، وصراعاتٌ ، وحروب ومناحرات ، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة ، الضالة.

* * *

__________________

١ ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٢ ، ص ٢٤٩ وجاء البصير.

٥٥

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت :

وعن مصير الإنسان وحالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب ونظرتهم تتلخص في ما يلي :

عند ما يموت الإنسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب‍ « الهامّة والصدى » ثم يبقى هذا الطائر قريباً من جسد الميت ينوح نوحاً مقرحاً وموحشاً ، وعند ما يوارى الميت يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى الابد!

وربما وقفَ على جدار منزل الميت أحياناً لِتَسقُّطِ أخبار عائلته والاطلاع على أحوالهم!!

قال شاعرهم في ذلك :

سُلِّطَ المُوتُ والمنونُ عليهم

فَلَهم في صدى المقابر هامُ

 وإذا كان المرء قدمات بموتَة غير طبيعية كما لو قُتِلَ ـ مثلا ـ فإنَ ذلك الحيوان ينادي باستمرار : « اسقوني اسقوني » اي اسقوني بسفك دم القاتل واراقته ؛ ولا يسكن عن هذا النواح والنداء الخاص الابعد الانتقام والثأر من قاتله.

قال احدهم في ذلك :

فياربّ إنْ أهلَكْ ولم تُروَهامتي

بِلَيلي اَمُتْ لا قَبرَ أَعطَشَ مِن قَبري(١)

من هنا بالضبط تتجلى الحقيقة للقارئ ويعلم جيداً كيف أن تاريخ العرب ما قبل الإسلام وتاريخهم ما بعد الإسلام ما هو الاّ تاريخان على طرفي نقيض :

فذلك تاريخ جاهلية ، ووثنية وإجرام ، وهذا تاريخ علم ووَحدانية وانسانية وايمان ، وشتان ما بين وأد البنات ، وبين رعاية الايتام ، وبين السلب والنهب والاغارة وبين المواساة والايثار ، وبين عبادة الاوثان والاصنام الصماء العمياء

__________________

١ ـ بلوغ الارب : ج ٢ ، ص ٣١١ و ٣١٢.

٥٦

والتقرب إلى اللّه الواحد القادر.

الآداب مرآة آداب الشعوب ونفسياتها :

المخلَّفاتُ الفكرية والثقافية ، وما يتركه أيُ شعب من الشعوب من قصص وحكايات افضل وسيلة للتعرف على خلفياته النفسية والأخلاقية ، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعرُ والقصةُ ، والخطبةُ والحكايةُ ، والمثلُ والكنايةُ مرآة صادقةٌ تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة ، وتعتبرُ خير مقياس لتمدّنها ، وحضاراتها ، وأفكارها ونفسياتها ، تماماً كما تحكي اللوحاتُ الفنيةُ عن حياة عائلة ، أو منظر طبيعي جميل ، أو اجتماعات صاخبة ، أو مشاهدَ قتالية.

إنَ القصائد والأَمثال العَربية الّتي كانت رائجة آنذاك تستطيع ـ قبل كل شيء ـ أن تكشف عن الوجه الحقيقي لتاريخهم ونمط حياتهم وسلوكهم ، ولهذا السبب لا يجوز لأي مؤرخ واقعي يسعى إلى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية والأدبية والثقافية لذلك الشعب سواء أكان شعراً أم نثراً ، أمثالا أم حكماً ، قصصاً أم أساطير.

ومن حسن الحظ أنّ مؤرخي الإسلام اثبتوا وسجلوا باتقان ما اُثِرَ من العرب ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما اُتيحَ لهم ذلك.

وقد كان ابو تمام « حبيب بن اويس » ( المتوفى عام ٢٣١ هجرية ) والّذي يُعتبر من كبار أُدباء الشيعة ، وله قصائد رائعة في مدح آل الرسول ، ممن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية ، حيث جَمع في كتاب واحد طائفة كبيرة جداً من الشعر الجاهلي مفصلة في عشرة أبواب هي :

١ ـ الحماسة.

٢ ـ المراثي.

٣ ـ الادب.

٤ ـ النسيب.

٥ ـ الهجاء.

٥٧

٦ ـ الاضافات.

٧ ـ الصفات.

٨ ـ السير.

٩ ـ المُلَح.

١٠ ـ مذمة النساء.

وقد تناولَ هذا الديوان التاريخيُ القيم عددٌ كبيرٌ من أُدباء المسلمين وعلمائهم بشرح ابياته ، وتفسير غوامضها ، وبيان اغراضها ، ومقاصدها.

كما ترجم أصلُ الديوان إلى لغات اجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب « معجم المطبوعات »(١) .

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية :

إن الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان ، وأقوى دليل على أنها كانت تعيشُ ـ في ظل ذلك العهد ـ في أسوأ الحالات وأشد الظروف واتعسها.

هذا مضافاً إلى أن الآيات القرآنية الّتي تنزلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي ، وقسوتهم على الاُنثى ، هي الاُخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا إليه في هذا المجال.

إن القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله : «وإذا الموؤدة سُئلت »(٢) أي ليسئل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء.

إن القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدث ـ في الحقيقة ـ عن عادة وأدالبنات بمرارة ، ويشجبها بشدة حتّى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر ـ في الآخرة ـ بدون حساب شديد ، وسؤال خاص.

__________________

١ ـ معجم المطبوعات : ص ٢٩٧ ، وقد اشتهر هذا الديوان ببابه الأول : « الحماسة » فسمي ديوان الحماسة.

٢ ـ التكوير : ٨.

٥٨

حقا انه لأمرٌ يكشف عن مدى القسوة الّتي كان عليها قلوبُ الجماعة.

إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير ، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان ، انه لا يعود يسمع معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة ، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى باُم عينيها حفيرتها ، وتحس بيدي والدها القاسي ، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حية!

إنها قسوة تكشف عن أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي ، والتقهقر الإنساني.

وبنو تميم هي أول قبيلة اقدمت على هذه الجريمة النكراء ، وكان السبب أن « بني تميم » أمتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك ، فجرّد اليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً لضرب هذا التمرد ، وانتصر على « بني تميم » في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى منهم الفتيات والنساء ، فوفدت وفود « بني تميم » على النعمان بن المنذر وكلّموه في الذراري والنساء ، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في ذلك إلى النساء ، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه ، فاختلَفْنَ في الخيار ، فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الاهل والاباء ، واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ والدها العجوز « قيس بن عاصم » فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَ بنت تُولَد له. وهكذا سنّ لقومه الوأد ، واخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا يمارسونها اعواماً متمادية(١) .

واليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال :

قيل لماوفد « قيس بن عاصم » على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأله بعض الانصار عما يتحدث به في الموؤدات ، فاخبر انه ما ولدت له بنت إلاّ وأدها ، قال : كنتُ اخاف العار وما رحمتُ منهنَ إلاّ بُنيّة كانت ولدتها اُمها وأنا في سفر ، فدفعتها إلى أخواتها ، وقدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل ، فاُخبِرت أنها

__________________

١ ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٤٢ و ٤٣.

٥٩

ولَدت ولداً ميتاً ، وكتمتْ حالها ، حتّى مضت على ذلك سنونٌ ، وكبرت الصبية ، وينعت ، فزارت اُمها ذات يوم ، فدخلتُ فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً ، والبستها قلادة من جزع فقلت لها : من هذه الصبية؟ وقد اعجبني جمالها فبكت اُمها ، وقالت : هذه ابنتك ، فامسكتُ عنها حتّى غفلتْ اُمها ثم اخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها فيها وهي تقول : يا ابت ما تصنع؟ أخبرني بحقك!! وجعلتُ اُقلّب عليها التراب ، وهي تقول : أنت مغط عليَّ بهذا التراب ، أنت تاركي وحدي ، ومنصرفٌ عني ، وجعلتُ اقذفُ عليها حتّى واريتها ، وانقطع صوتُها ، فتلك حسرتها في قلبي ، فَدَمعتْ عينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : « إن هذه لقسوة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم »(١) .

وقد ذكر ابن الاثير في كتابه « اُسد الغابة » في مادة : قيس : ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية : فاجاب قيسٌ بانه وأد اثنتي عشرة بنتاً له(٢) .

ورُوي عن ابن عباس أنه قال : كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة ، فاذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته(٣) .

المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب :

كانت المرأة عندهم تباع وَتُشترى كالمتاع ، وكانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة والفردية ، حتّى حق الارث.

وقد كان المثقفون من العرب يعُدُّون النساء من الحَيوانات ، ولهذا كانوا يعتبرونهن جزءً من أثاث البيت ويعاملونهن معاملة الرياش والفراش حتى سار

__________________

١ ـ حياة محمَّد : تأليف محمَّد علي سالمين ، ص ٢٤ و ٢٥.

٢ ـ راجعُ اسد الغابة : ج ٤ ، ص ٢٢٠ ، وجاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٤٣ أنه وأد بضع عشرة بنتاً.

٣ ـ بلوغُ الارب : ج ٣ ، ص ٤٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك ).

فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا(١) .

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه ، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة :

قدمَ على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو جهل » في أنديتهم حول الكعبة.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠ و ٣٧١.

٤٦١

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما أرادوا دعاهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.

فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً : خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً(١) .

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا دون وقوع صدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق :

لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش : سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه :

١ ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول ( يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٩٠ و ٣٩٣ وقد نزلت في هذا الشأن الآيات ٥٢ إلى ٥٥ من سورة القصص.

٤٦٢

من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

٢ ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

٢ ـ وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انتظر في ذلك وحياً.(١)

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات ٩ ـ ٢٨ والآيات ٧٣ ـ ٩٣.

وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

٤٦٣

٤٦٤

١٨

الأسلحةُ الصَديئة

والاساليب الفاشلة

نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه ، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين

٤٦٥

وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان « مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة :

١ ـ الاتّهاماتُ الباطلة :

يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ، فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ، ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب

٤٦٦

التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح ( أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص.

فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا.

فقد كانت تفكّر في نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(١) كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢.

٤٦٧

مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة « دار الندوة » وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ، فقال لهم :

يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال : بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا : نقول كاهن.

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا : فنقول : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : ساحر.

فقال : ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين

٤٦٨

كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق(١) .

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا : لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ) قام إلى المسجد و « الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ، واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(٢) .

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى : «ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ. ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : )فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن. كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة »(٣) .

* * *

الإصرار في نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يعتبر إتصاف النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٠.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٦ و ٣٨٧.

٣ ـ المدثر : من ١١ ـ ٥١.

٤٦٩

بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة ، دون تلكؤ ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(١) حتّى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ، واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد إذ يقولون : «أفترى على اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ »(٢) .

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم :

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢ عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش تدعو محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية الامين وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.

٢ ـ سبأ : ٨.

٤٧٠

«كَذلكَ مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ »(١) .

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيحعليه‌السلام عندما وعظ اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟!(٢) .

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة.

لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر » النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ »(٣) .

«وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ »(٤) .

القرآن يرد على جميع الاتهامات :

وربما نسبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن(٥) أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ،

__________________

١ ـ الذاريات : ٥٢ و ٥٣.

٢ ـ انجيل يوحنا : الفصل ١٠ ، الفقرة : ٢٠ ، والفصل ٧ ، الفقرة ٤٨ و ٥٢.

٣ ـ النحل : ١٠٣.

٤ ـ الدخان : ١٣ و ١٤.

٥ ـ الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

٤٧١

وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ(١) .

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم إذ قال تعالى : «وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ »(٢) كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ »(٣) .

وقال تعالى : «وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا مَسْحُوراً »(٤) .

وقال سبحانه متعجباً مِنهم : «قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ »(٥) .

وقال تعالى : «وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ »(٦) .

وقال سبحانه : «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون »(٧) .

وقال عزّ وجلّ : «فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون »(٨) .

وقال تعالى : «قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(٩) .

وقال تعالى : «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثلِه »(١٠) .

وقال سبحانه : «وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »(١١) .

وقال سبحانه : «أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ »(١٢) .

وقال تعالى : «أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُون »(١٣) .

وقال تعالى : «وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقران مُبِيْن »(١٤) .

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ هُوَ شاعرٌ »(١٥) .

__________________

١ ـ راجع : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٢٦٩ باب علم الكهانة والعرافة.

٢ ـ الحاقة : ٤٢.

٣ ـ ص : ٤.

٤ ـ الفرقان : ٨.

٥ ـ الشعراء : ١٥٣.

٦ ـ الحجر : ٦.

٧ ـ التكوير : ٢٢.

٨ ـ الطور : ٢٩.

٩ ـ النحل : ١٠١.

١٠ ـ هود : ١٣.

١١ ـ الفرقان : ٤.

١٢ ـ سبأ : ٨.

١٣ ـ الطور : ٣٠.

١٤ ـ يس : ٦٩.

١٥ ـ الانبياء : ٥.

٤٧٢

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام.

٢ ـ فكرةُ معارضة القرآن :

لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً ، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ، وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه

٤٧٣

إذا قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم » و « اسفنديار » ثم يقول :

بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟(١) .

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر » وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : «وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً »(٢) .

* * *

تحججات صبيانيّة وجاهليّة :

وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها :

أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم : «لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم »(٣) .

ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم : «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٥٨.

٢ ـ الفُرقان : ٥ و ٦.

٣ ـ الزخرف : ٣١.

٤٧٤

رَسُولا »(١) .

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : «وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ »(٢) .

ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه : «وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ »(٣) .

د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد.

قال اللّه عنهم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ هذا لِشَيء عُجابٌ »(٤) .

هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم : «وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي خَلْق جَدِيد »(٥) .

و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم : «فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى »(٦) .

ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.

قال تعالى : «وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٤.

٢ ـ الفرقان : ٧.

٣ ـ المائدة : ١٠٤.

٤ ـ ص : ٤ و ٥.

٥ ـ السجدة : ١٠.

٦ ـ القصص : ٤٨.

٧ ـ الانعام : ٨.

٤٧٥

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة :

وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قومه :

لقد اقترحوا عليه :

١ ـ ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة « الكافرون » : «بِسْم اللّه الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».

٢ ـ تبديل القرآن ، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : «وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ »(١) .

فردّ اللّه عليهم بقوله : «قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم »(٢) .

٣ ـ مطاليب مادية عجيبة!!

__________________

١ و ٢ ـ يونس : ١٥.

٤٧٦

وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : «وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء »(١) .

صبر النبيّ واستقامته وثباته :

ولقد قابل رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد :

١ ـ «فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ »(٢) .

٢ ـ «وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن »(٣) .

٣ ـ «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ »(٤) .

٤ ـ «وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ »(٥) .

٥ ـ «فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوْت »(٦) .

٦ ـ «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلا »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٢ ـ الاحقاف : ٣٥.

٣ ـ يونس : ١٠٩.

٤ ـ النحل : ١٢٧.

٥ ـ الكهف : ٢٨.

٦ ـ القلم : ٤٨.

٧ ـ المزمل : ١٠.

٤٧٧

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن :

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي :

١ ـ شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى : «إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »(١) .

٢ ـ المعراج

ان العروج برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله : «سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ »(٢) .

____________

١ ـ القمر : ١ و ٢.

٢ ـ الاسراء : ١.

٤٧٨

٣ ـ مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من معاجزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : «فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ الْكافِرينَ »(١) .

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

٤ ـ الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : «وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ بُيُوتكُمْ »(٢) .

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

__________________

١ ـ آل عمران : ٦١.

٢ ـ آل عمران : ٤٩ ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى :

«الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون » ( الروم : ١ ـ ٤ ).

واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى :

«تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ... الخ ».

وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه :

«سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : ٤٥ ).

٤٧٩

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ باذن اللّه ».

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق )(١) .

اصرار النبيّ على هداية قريش :

بل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ، والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ « الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية ، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم ١٩٢.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694